في (آب/ أغسطس 1951)، كان أكيرا كوراساوا يفكر في الانتحار؛ فيلمه الذي صدر في العامِ الماضي "Rashomon" لم يحقق قدر النجاح المأمول، وفيلمه الذي كان يعرض حينها "The Idiot" عن رواية "ديستويفسكي" الشهيرة، كان خيبة أمل كبرى على المستوى التجاري والفني.
وفي كتابه "ما يشبه السيرة الذاتية" (الذي صدر عام 1981) يقول "كوراساوا": "خرجت من شركة الإنتاج تائها، ولم يكن بمقدوري حتى أن أستقل القطار، ولم أجد ما أفعله في البيت، أخذت السنارة وذهبت إلى "تاماغافا" لاصطيادِ السمك، وما أن ألقيت بالخطاف حتى علق بشيء ما وانقطع، فعدت أدراجي وأنا أفكر أن كل شيء يسير عكس أحلامي، وأن الحظ غادرني إلى غير رجعة". لذلك فكر حينها في الموت، أو في أقل الأحوال "البحث عن عمل آخر غير صناعة الأفلام". ولكن لحسن الحظ أنه حين عاد في تلك الليلة إلى البيت، احتضنته زوجته وأخبرته أن فيلم "Rashomon" (الذي كان يعرض في نفس الوقت بمهرجان فينيسيا) قد فاز بالأسد الذهبي.
كانت تلك الليلة فارقة في تاريخ السينما، أهم حتى من الليلة اللاحقة التي فاز فيها الفيلم بجائزة شرفية من الأوسكار تكريما لمنجزه، فليلة "فينيسا" تلك جعلت "كوراساوا" يتراجع عن الاعتزال، أو الانتحار، ويستمر في العمل لأربعة عقود تالية كان فيها "المُعلّم" بكل معاني الكلمة، وفي نفس الوقت دَشَّنت شهرة وأهمية فيلم كان ليُنسى، فيلم أثّر بعد ذلك في "فن السرد الدرامي" في كل سينمات العالم، على الرغم من كل المعوقات التي صاحبت إنتاجه وعرضه واستقباله على مدار عامين.
رحلة الفيلم الإنتاجية لم تكن سهلة، يقول "كوراساوا" إن "راشومون لم يكن يناسب المزاج العام في الشركة؛ محتوى الفيلم غامض، العنوان ليس جذابا"، والحقيقة أن الأمر ليس غريبا، ففي تلك اللحظة المبكرة من تاريخ السينما، كانت الأفلام تقدم حكاية واضحة للمشاهد، ذروة المجد الهوليوودي في الأربعينيات كانت بحبكات واضحة متأثرة بالأدب، وحتى الحركات السينمائية الناتجة عن الحرب العالمية الثانية؛ مثل الواقعية الإيطالية الجديدة، كان تجديدها وثوريتها الأساسية مرتبطة بالشكل وطريقة التصوير والتعامل مع الأماكن الحقيقية عوضا عن الأستوديوهات، ولكن "السرد الدرامي" واحتمالاته كانت منطقة لا تزالت بكرا، فكل الأفلام تحكي قصصا مُغلقة وواضحة.
"كوراساوا" في المقابل أتى للشركة بسيناريو مختلف تماما عن أي شيء آخر قبله، يعتمد في جوهرهه على أنه "لا يوجد حكاية واحدة ولا حقيقة نخبر المشاهد بها"، اقتبس قصتين قصيرتين ظلتا في رأسه لسنوات من تأليف الكاتب "ريونسكي أكوتوغافا"، يقول إن الجاذب فيهما بالنسبة له هو "كشف الوجوه المخبأة والخبيثة للروح الإنسانية"، "الطبيعة الإنسانية؛ الإنسان المغلق على نفسه حتى حين يتحدث عن نفسه"(1). ومن القصتين كتب سيناريو "راشومون" والذي يحكي عن جريمة قتل جرت في إحدى الغابات اليابانية؛ قاطع طريق يغتصب زوجة ساموراي، ويتم العثور على جثة الزوج بعدها، وفي المحاكمة يقوم أطراف القصة الثلاثة؛ قاطع الطريق، والزوجة، وروح الساموراي، بسرد نسخ شخصية متباينة مما حدث، قبل أن يختتم "كوراساوا" الفصل الأخير من الفيلم برواية رابعة يرويها الحطّاب الذي كان يسير في الغابة ويفترض أنه رأى كل شيء.
النقطة المركزية التي اعتمد عليها "كوراساوا" في روايته للقصة من من خلال أربع وجهات نظر لم تكن "رغبة كل منهم في إبراء نفسه من القتل"، على العكس تماما، فكل شخصية متورطة في الحكاية تصدر نفسها كجان، ولكن النقطة الأساسية كانت "الصورة التي يرغب كل منهم في تصديرها عن نفسه"؛ صورة "قاطع الطريق" عن نفسه أنه شخص مُهَيمن ذكوريا، لذلك ففي روايته تخبره الزوجة أنها تريد أن ترحل معه، ويتقاتل مع الزوج لمدة طويلة كالفرسان. وصورة "الزوجة" عن نفسها هي أنها الضحية في عالم الرجال، لذلك فروايتها تعتمد على أنها من اغتصبت ومن نظر لها زوجها بعد ذلك كمذنبة فقتلته.
أما رواية الزوج فتعتمد على أنه الشخص الشريف الذي غدرت به زوجته فقرر الانتحار تطهرا وشرفا. حتى "الحطاب" تحمل روايته قدرا كبيرا من الغضب والازدراء لكل شخصيات الحكاية، فيظهرون في روايته جبناء وخائفين. في الصورة الواسعة يمكن دمج القصص الأربعة بالحقائق الثابتة، ولكن الجوهر الأهم هو كيفية إعادة "تشكيل الحقيقة" تبعا للصورة التي نرغب في تصديرها للعالم؟
حمل "كوراساوا" في الفيلم طموحا بصريا كذلك، رغبة قوية في إعادة "روح السينما الصامتة التي نسيناها" كما يصف، ولكن الأهم فعلا كان الجانب السردي؛ الكيفية التي كسَّر بها تماما القوالب التقليدية للحكاية الدرامية في السينما، والذي بسببه نال الفيلم فتورا في عرضه الياباني، وهجوما بأنه "ليس فيلما مفهوما للجمهور"، مما دفع "كوراساوا" للرد حينها بأنكم "تؤكدون أن القصة غير مفهومة، ولكن النفس الإنسانية غير مفهومة أيضا" (2). ولكن مع الوقت، نال الفيلم تكريمه الحقيقي حين أصبح واحدا من أكثر الأفلام تأثيرا في تاريخ السينما.
أثر «راشومون» على مر العقود
في سلسلة تلفزيونية شهيرة(2) يقول المخرج الكبير روبرت ألتمان إن "راشومون هو أكثر الأفلام إثارة للانتباه بالنسبة له، فنحن لم نكن قد شاهدنا شيئا كهذا من قبل"، قبل أن يشرح بأن "في الأفلام، تحديدا في تلك الفترة، حين تصور شجرة أو تصور سيفا فإن تلك هي "الحقيقة" بالنسبة للمشاهد، ثم يأتي كوراساوا ويصدمك أن الحقيقة ليست بالضرورة حقيقة، وأن هناك نسخا أخرى من الأمر، دون أن يخبرك أبدا ما هي الصائبة، فيتحول الأمر إلى شعر". تلك الكلمات تصيب جوهر "الأثر والتأثير" الذي أحدثه الفيلم في أفلام تلك الفترة، لقد كان أشبه بحجر ضخم في بحيرة، وفي حين اعتاد الناس على نظم الحكايات بطريقة واضحة ومغلقة على نفسه، جاء "كوراساوا" وقال إنه من المحتمل والجائز أن يكون الأمر مفتوحا على مصراعيه أمام المشاهد.
وإذا نظرنا من ناحية "ألتمان" تحديدا، فهو يقول إن الفيلم كان له بالغ التأثير على أفلامه وأسلوبه فيما بعد، وإنه جعله يفكر أنك "إذا سألت مجموعة من الأشخاص عن روايتهم لحدث شاركوا فيه فلن تحصل أبدا على نفس الحكاية، وهذا تحديدا هو الفن". وبالنظر إلى أفلام "ألتمان"، سنجد أنها تطابق تماما تلك الجملة المستوحاة من فيلم "كوراساوا"، صحيح أنها أفلام حوارية ولا تقارب "شكليا" عوالم الياباني الكبير، إلا أن جوهرها هو شخصيات عديدة تتفاعل مع الحدث بشكل مختلف، وتراه بمنظور فردي مغاير عن الآخرين، لأن "هذا هو الفن" كما اكتشف "ألتمان" مع "راشومون".
أثر الفيلم يمتد منذ صدوره إلى ما لا نهاية، فحين أخرج سيدني لوميت فيلمه "12 Angry Men" (عام 1957) كان واحدا من استشهاداته مع المنتجين هو "Rashomon"، وأن ما يريد فعله هو "جمع الشخصيات ذات وجهة النظر المختلفة وجعلهم يتناطحون". "وودي آلان" أشار له ذات مرة أنه "أكثر فيلم شاهده في حياته"، وأنه لا يضعه فقط في قائمة أفلامه الخمسة المفضلة، ولكنه يعتبر أحيانا أن أفلامه "هي نسخ عاطفية وهزلية من راشومون"؛ حيث تتجاذب الشخصيات دائما حول العلاقات وما حدث فيها.
عدد كبير من أفلام هوليوود التي تحوّلت لكلاسيكيات في الثلاثين عاما الأخيرة يدين مخرجوها بشكل مباشر إلى "راشومون" كوراساوا، لأن أفلامهم كانت تدور رأسا حول "نسبية الحقيقة" وإعادة السرد من وجهات نظر مختلفة، المخرج برايان سينجر حين يتحدث عن فيلمه (1995) "The Usual Suspects" يقول "إنه قليل مثل راشومون" (3) ويؤكد أن أحد أصدقائه قال له "أشعر أني أشاهد راشومون بالألوان".
واحد من أشهر أفلام آسيا خلال العقود الأخيرة هو فيلم (Hero" (2002" من إخراج الصيني زانج يمو، والذي رشح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي وحقق نجاحا عالميا كبيرا عند عرضه، ويدور الفيلم حول محارب قديم يحضر للملك سيوف معارضيه الثلاثة، ويحكي له عن الكيفية التي تخلص بها منهم، وحين ينتهي يقول له الملك إنه يعتقد أن ما حدث هو شيء آخر، ويسرد حكاية أخرى، قبل أن نعود للمحارب فيسرد له حكاية ثالثة. والتداخل السردي والتأثر بـ"كوراساوا" (ملهم "يمو" الأول كما يصرح دائما) لا يمكن إغفاله.
وصولا للمخرج الإيراني الكبير أصغر فرهدي، الذي فاز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي مرتين عن (2010) "A Separation" و(2016) "The Salesman" عوضا عن نجاحات أخرى في "About Elly" وغيرها، وتبدو أفلامه كلها هي رحلة بحث مضنية عن وجهه النظر الأخرى وصورة الحقيقة بالنسبة لكل شخص، ولا يمكن أبدا عدم ربط ذلك بأن "راشومون" هو فيلمه السينمائي المفضل على الإطلاق(4) والأول على قائمته دائما.
والقائمة تطول لتشمل أفلاما مثل "Gone Girl" (الذي تعتبر مؤلفته أن راشومون من أفلامهاا المفضلة، ويبدو الأثر واضحا في إعادة السرد من وجهه نظر مختلفة) أو "Memento" (الذي يعيد تفكيك مفهوم الحقيقة ويقلبه رأسا على عقب) أو "Courage Under Fire" (الذي يستلهم شكل السرد الراشوموني بشكل مباشر) وغيرها. والقائمة تتصل أيضا بتفاصيل سينمائية دقيقة مثل أن "كوراساوا" هو أول صانع أفلام يجعل أبطال الفيلم يتحدثون للكاميرا/المشاهد مباشرة (حين يجعل القاضي شخصية خفية)، وهو الأمر الذي أثر سرديا بعد ذلك في عشرات المشاهد باستخدامات مختلفة، لعل أشهرها مشهد فيلم "هل تتحدث معي" (Taxi Driver) والذي يقول سكورسيزي إنه تأثر فيه بالمعلم "كوراساوا".
حتى بعيدا عن السينما، ألهم هذا الفيلم بعض المصطلحات والتفاصيل في العلوم الإنسانية الأخرى(5)، ليصبح مصطلح "أثر راشومون" مصطلحا علميا متعارفا عليه في علم النفس، حين تؤثر التجربة الشخصية والمعرفية للشخص في تذكره للتفاصيل وإعادة سرده لما حدث. وهو مصطلح دارج قانونيا أيضا، حيث يشير به القاضي أو المحامي إلى تضارب أقوال الشهود المرتبطين بالقضية، ويستغل "أثر راشومون" في تفكيك التفاصيل. وفي الأدب، أو الفنون عموما، أصبح "راشومون" كلمة دارجة للإشارة إلى كل ما له علاقة بـ"نسبية الحقيقة".
كيف أثر على "كوراساوا" نفسه؟
لحسن الحظ أن "كوراساوا" لم يقرر الانتحار في تلك الليلة البعيدة عام 1951، وأن أعضاء لجنة تحكيم مهرجان "فينيسيا" كانوا في مزاج ملائم لتقدير فيلم كهذا؛ كانت أهم ليلة في حياته. فكما يحكي في ختام "مثل سيرة ذاتية"، أنه رأى على شاشة التلفزيون الرجل الذي رفض إنتاج الفيلم في البداية واعتبره "بدعة خرقاء" يخرج و"يعلن على الملأ أنه افتتح الطريق أمام هذا الفيلم"، ويكمل: "رأيت على الهواء تلك اللعبة التي حاولت كشفها في الفيلم، من الصعب على الناس أن يقولوا الحقيقة عن أنفسهم، وهذا ذكرني مجددا أن للإنسان غريزة مثلى لتقديم نفسه بالإضاءة المناسبة".
قبل أن يختتم كتابه عند تلك النقطة، قائلا إن "راشومون هو البوابة التي خرجت منها إلى العالم السينمائي الفسيح، والآن عندما أصل في مذكراتي إلى هذه البوابة، أجد نفسي لا أرغب في الخروج منها".
(عن ميدان)
المصادر
(1) أكيرا كوراساوا (1981) Something Like an Autobiography
(2) روبرت ألتمان عن راشومون، سلسلة سلسلة Directors Introduction.
(3) The Usual Suspects, DVD Extras.
(4) Asghar Farhadi’s fractured cimema.
(5) محاضرة ديفيد ثوربورن Kurosawa and Rashomon.