أكملت (الكلمة) مع نهاية العام الرديء 2018 الذي انقضى اثنتي عشرة سنة. واصلت طوالها الحفاظ على استقلالها الثقافي والفكري، والإخلاص لشعارها الأول بأن تكون مجلة لحراس الكلمة، وليست لكلاب الحراسة. في زمن يستشري فيه كلاب الحراسة في كل مكان، وتحتوي فيه المؤسسة العربية المستبدة والفاسدة المثقفين أو تعصف بهم في محاولاتها المستميتة لصيانة أنظمتها وتدعيم سلطتها. ويمور فيه العالم العربي بالغليان الكظيم، برغم سيطرة قوى الثورة المضادة فيه في كل مكان. فقد بدأ العام المنصرم بدمدمات الثورة في المغرب وإيران والسودان، وانتهى بغليانها من جديد في تونس التي اندلعت منها شرارتها الأولى، وبحريق صحفي لنفسه هذه المرة بدلا من البوعزيزي، واندلاعها على نطاق واسع في السودان. وبين بداية ذلك العام المنصرم ونهايته انكشفت عورات أنظمة البطش والتفريط في عالمنا العربي، وقد عراها دونالد ترامب على الملأ حينما كشف كيف أن «السعودية»، التي تزعمت الإجهاز على الثورة، لها دور حيوي في الحفاظ على دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين. وكأن هذا العام الرديء يعلن قبل انصرامه أنه برغم كل بطش الثورة المضادة المدعوم من أميركا ودولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين: «لسه الثورة في الميدان!».
ذلك لأن ثورة من ذلك النوع الذي بدأ في تونس أواخر 2010 وتعملق في ثورة 25 يناير 2011 المصرية وامتد إلى اليمن وسوريا لا يمكن أن تموت. قد تخمد جذوتها ولكن حَمَمَها يظل يمور في العقل والوجدان. ويخبرنا لسان العرب أن «يمور مورا أي تحرك وجاء وذهب، كما تتكفأ النخلة العيدانة» ذات السعف. والواقع أن ما يتعهد هذا المور المستمر الذي لن يهدأ قبل أن تحقق الثورة أهدافها في: العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، هو العمل الثقافي المتواصل الذي يرعى القيم الأصيلة: قيم الاستقلال والعدل والحرية التي ينهض عليها كل فعل ثائر.
هنا تجيء أهمية (الكلمة) التي تتعهد هذا المور، وتؤسس الأرضية الفكرية الصلبة التي يحيا فيها وينضج بالتأمل العقلي والنقدي لكل ما يدور. الكلمة بمعناها المجرد الذي انطلقت منه الأديان التوحيدية الثلاثة: في البدء كان الكلمة، وبمعناها المتحقق في تلك (المجلة) الرقمية الرائدة التي تدخل بهذا العدد الجديد عامها الثالث عشر. واستمرار (الكلمة) لهذه المدة الطويلة يرجع بالدرجة الأولى إلى صلابة موقفها، والتفاف القراء حولها، وتفاني أسرة تحريرها؛ وإيمانهم بالدور الذي تلعبه الكلمة الحرة الصادقة في إعلاء قيم الحق والحرية والجمال. وهو في الوقت نفسه أصدق برهان على قيمة الثقافة العربية المستقلة، وعلى قدرتها على الصمود في وجه التردي والهوان الذي هوى فيه العالم العربي إلى حضيض غير مسبوق. حتى أصبح رجل العالم المريض في القرن الحادي والعشرين. خاصة وأن هذا التردي قد أطاح بالكثير من المنابر الثقافية، حتى ما كان منها مدعوما بقدرات مالية ضخمة لا يتوفر لـ(الكلمة) شيئا منها. وهو ما يؤكد أن القيمة الثقافية والأخلاقية أقوى من المال والدعم الاقتصادي المشبوه.
والواقع أن ما بلغه عالمنا العربي من تردٍ وهوان في العام المنصرم، وقد بلغ فيه عصف الأنظمة العربية المستبدة بالرأي الآخر حدا تجاوز أعتى الكوابيس فيما جرى لجمال خاشقجي في قنصلية بلاده في اسطنبول، هو ما بدد ترددي بالتوقف عن الاستمرار في إصدار (الكلمة) مع نهاية العام الماضي؛ برغم ما يضعه استمرارها على كاهل أفراد اسرة تحريرها من أعباء صعبة. فمع مطلع كل عام جديد ينتابني التردد في الاستمرار، وقد تقدم بي العمر، وآن لي أن أستريح من كل عمل يتطلب الاستمرار والانتظام. كما أصبحت مطالب استمرار (الكلمة) كعمل تطوعي، أكثر ثقلا على كاهل أعضاء أسرة تحريرها، في زمن يُحاصر فيه المثقف في لقمة عيشه كل يوم. وتواصل فيه مؤسسة الاستبداد العربية العمل على عرقلة كل عمل ثقافي، ومحو كل أثر تسعى الثقافة لتحقيقه في الواقع وفي الإنسان. لكني وأنا أتابع فصول الاحتفاء بمئوية السادات في مصر، وسيطرة ما يدعوه دونالد ترامب Fake News على العقل المصري وإعلامه، في عام تم فيه تجاهل مئوية جمال عبدالناصر، برغم كل ما لنا عليه من تحفظات، ناهيك عن مئوية الشيخ إمام الذي غنى الرفض وأعلى قيمة العقل النقدي، جعلني أحس بأن توقف (الكلمة) في هذا السياق المختل خذلان لقيمها لن يغفره لها قراءها، ومن آمنوا برسالتها في طرح الحقيقة في مواجهة القوة حسب تعبير إدوار سعيد المشهور.
لذلك تواصل (الكلمة) الصدور في زمن تتم فيه محاربة كل ما هو ثقافي وأدبي، أو بالأحرى كل ما يحث على التفكير العقلي النقدي الحرّ، وعلى التمسك بقيم الحق والعدل والوطنية. وتقوم فيه المؤسسة العربية بانتهاك كل حقوق المواطنين، وإهدار قضايا الأمة العربية الأساسية، وفي مقدمتها قضية فلسطين. فبعدما كانت فلسطين بوصلة الفكر العربي، ومجال الصراع المستمر بين الذات العربية والآخر الصهيوني ومن ورائه الاستعماري الغربي، ها هي المؤسسة العربية تمهد للعصف بها وتصفيتها بشكل جائر فيما يسمى بصفقة القرن. في محاولة لتحويل أعداء الأمة العربية، ورأس حربتهم، دولة الاستيطان الصهيوني بفلسطين، إلى حلفاء ضد عدو متوهم. لم يشكل يوما أي خطر عليهم، اللهم إلا أنه يشكل خطرا على دولة الاستيطان الصهيوني تلك بعدما نجحت في تدمير كل من العراق، ثم سوريا. وها هي تجيش العرب واميركا معا لخدمة مشروعها الخبيث في تدمير إيران. كي تصبح هي القوة العسكرية الكبرى، بل الوحيدة في المنطقة.
في زمن أصبح شعاره هو الأخبار الكاذبة/ المختلقة Fake News كما يقول رئيس أقوى بلدانه المدججة بأقوى أسلحة الدمار في عالمنا، دونالد ترامب. وأصبحت فيه عمليات غسل الأدمغة، والتلاعب بالمشاعر والآراء والمواقف والعقول عبر أدوات الاتصال الجديدة هي المسيطرة على المشهد؛ بل تحولت إلى فن جديد، أو بالأحرى علم من أبرز علوم الثورة المضادة، يتحكم فيه كبار الأغنياء الذين يقل عددهم وتتنامى ثرواتهم بالمليارات مع الزمن، بينما تتسع قاعدة الفقراء حتى في الغرب نفسه، كما جرى في استفتاء بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي، ثم في انتخاب دونالد ترامب. إذا كان هذا كله يدور في الغرب، أي في تلك البلدان التي تتسم بقدر من حرية تدفق المعلومات والحراك الثقافي الحر، والتعبير عن الرأي. فما بالك بما يدور في عالمنا العربي طوال الأعوام الأخيرة من أخبار كاذبة وآراء شائهة. تصر (الكلمة) إزاءها على طرح الحقيقة في مواجهة القوة، مهما كانت غاشمة أو مستبدة.
والواقع أن (الكلمة) تقوم بهذا الدور بإصرارها على هدفها الثقافي كمجلة أدبية وفكرية في المحل الأول. تعلي قيمة الأدب الجاد، والثقافة الملتزمة بقضايا واقعها المحورية، والإبداع الحقيقي في شتى مجالات الفن والفكر في سعيها للارتقاء بالوعي وبالروح معا. فالقيمة الأدبية والفنية الحقة هي القادرة على إرهاف الوعي، وتعزيز القدرة على التفكير العقلي والنقدي. في واقع يستنيم لدعة تلقي الأفكار الجاهزة، والرؤى الخاوية، والأخبار الزائفة. هكذا تشعر (الكلمة) بأنها لعبت دورا في خلق الوعي الذي أنجب الربيع العربي، على امتداد الساحة من تونس وحتى اليمن وسوريا، والذي لاتزال فصول تفتحه تتواصل في السودان أثناء كتابة هذه الافتتاحية، برغم هجمة الثورة المضادة الشرسة عليه، بقيادة المملكة العربية السعودية، الظهير الأول للعدو الصهيوني بالمنطقة كما صرح راعيهما معا، دونالد ترامب.
وها هي (الكلمة) تواصل هذا الدور، وتبث ثقافة الأمل والصمود ورفض التردي والهوان. وتتعهد بذورها وهي تتبرعم في أعمال الأجيال الجديدة إبداعا وتفكيرا، في سياق خانق من الاستبداد وكبت الحريات. ها هي في عامها الثالث عشر تواصل مسيرتها برغم كل الصعاب والمحبطات، باعتمادها، وأكرر، على التفاف قرائها حولها، وإيمان أسرة تحريرها الصغيرة بالدور الذي تلعبه الكلمة: (الكلمة) المجلة، والكلمة القيمة التي تميز الإنسان عن باقي الحيوانات، وتعلي شأنه. ذلك لأن (الكلمة) المجلة تعي أهمية دور المجلة الشهرية في الحفاظ على وحدة الثقافة العربية وحيويتها، وفي بلورة هويتها وصيانة استقلالها وأهدافها الوطنية؛ وإعلاء شأن القيم الإنسانية التي تجعل الحياة جديرة بأن تعاش. رغم كل ما يعانيه عالمنا العربي من تردٍ وقحط ثقافي وانحطاط.