تكشف الباحثة التونسية هنا عن أهمية الوقفة الدورية لشهيدي الثورة التونسية البارزين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، ودورها في التذكير المستمر بأخطار الثورة المضادة وهي تحدق بالمنجز الهشّ للثورة التونسية، وتحاصره بالتجاهل وإخماد الصوت. وتذكر بضرورة هذه الوقفة للتذكير باستمرار الثورة ورفع لوائها.

في أهمية الوقفةُ الدّوريّة للشّهيديْن

'شكري بلعيد' و'محمّد البراهمي'

فوزيّة الشّطّي

 

المقدّمة:

يومَ 2013.02.06 اُغتيل بأربعِ رصاصات السّياسيُّ اليساريُّ والأمينُ العامّ لحزب "الوطنيّين الدّيمقراطيّين الموحَّد" "شكري بلعيد" أمام منزله في جهة "المنزه" مِن العاصمة التّونسيّة. ويومَ 2013.07.25، الموافق لعيد الجمهوريّة التّونسيّة، اُغتيلَ بأربعَ عشرةَ رصاصة السّياسيُّ اليساريُّ القوميُّ المنسّقُ العامّ لحزب "التّيّار الشّعبيّ" والنّائبُ في المجلس التّأسيسيّ "محمّد البراهمي" أمام منزله في "حيّ الغزالة" مِن ولاية أريانة.

اهتزّت البلادُ لهاتيْن الجريمتيْن السّياسيّتيْن اللّتيْن ارتُكِبتا في عهد "التّرويكا" (التّحالف الثّلاثيّ الحاكم بين أحزاب: "النّهضة" و"التّكتّل مِن أجل العمل والحرّيّات" و"المؤتمر مِن أجل الجمهوريّة"): أُعلنَ الحدادُ الوطنيّ، أُقِرّ الإضرابُ العامّ، اندلعتْ عديدُ المظاهرات السّلميّة والعنيفة احتجاجا على الجريمتيْن، نُظّمتْ جنازتان وطنيّان شارك فيهما آلافُ المواطنين، دُفِن الزّعيمان في مربّع الشّهداء مِن "مقبرة الجلاّز".

اِنطلقت "الوقفةُ الدّوريّةُ" مباشرة بعد الجريمة الأولى كلَّ يوم أربعاء عند منتصف النّهار قدّامَ مبنَى وزارة الدّاخليّة الكائن بشارع "الحبيب بورقيبة". وذلك للمطالبةِ بكشفِ حقيقة هذه الاغتيالات وبمعاقبةِ الـجُناة (مَن حرّض، مَن خطّط، مَن موّل، مَن نفّذ) جزائيّا وشعبيّا وسياسيّا. واستمرّتْ رغم أنّ التّحقيقات الأمنيّةَ والقضائيّةَ في ملفِّ الاغتيالات السّياسيّة الّتي حصدتْ العسكريّين والأمنيّين والسّياسيّين على السّواء قد عُطِّلتْ بأيدٍ خفيّة مُنْدسّة أو مُعلَنة سافرة ورغم أنّ الإعلامَ (صوتَنا الّذي لم نُحرّرْه بعد) قد شرع يتجاهل، مُخيَّرا أو مُسيَّرا، الحدثَ الجللَ.

تقديرا منّا لهذه الوقفةِ النّضاليّة السّلميّة الّتي استمرّتْ أكثرَ مِن خمسِ سنوات وشارفتْ على (300) دورة وأضحتْ جزءا لا يتجزّأ مِن معالمِ "شارع الثّورة"، ارتأينا أنْ نُحاورَ ثلاثةَ رفاقٍ مِن أكثر المشاركين وفاءً وحماسةً وانضباطا. وهم: "سعيد عروس" و"النّفطي حولة" و"فتحي أبازة".

المحاورة:

  1. السّيّد سعيد عروس: (عضوُ لجنة مركزيّة بحزب الوطنيّين الدّيمقراطيّين الموحّد).
  • قدّم لنا لمحةً تاريخيّة عن الوقفة الدّوريّة: كيف بدأتْ؟ مَن اقترحها؟ مَن يدعمها؟ ما الأطوارُ الّتي مرّتْ بها؟

بدأت الوقفةُ الدّوريّةُ مباشرةً بعد اغتيال الشّهيد الرّمز شكري بلعيد بقرار مِن مجلس أمناء "الجبهة الشّعبيّة" وبدعمٍ مِن الأحزاب التّقدّميّة والوطنيّة وبعض منظّمات المجتمع المدنيّ. وقد كانتْ في بداياتها جماهيريّةً تحضرُها عديدُ القيادات والوجوه السّياسيّة. لكنّها بدأتْ تفقدُ تدريجيّا إشعاعَها وبريقَها. واقتصر الحضورُ الآن على بعض الأوفياء الّذين لا يتردّدون في المشاركةِ مهما كانت الظّروفُ الخاصّة والعواملُ المناخيّة.

  • لماذا تواظبُ على حضورِ هذه الوقفة أسبوعيّا؟

أواظبُ على حضور الوقفة الاحتجاجيّة الدّوريّة للكشف عن حقيقة اغتيال الشّهيديْن "بلعيد" و"البراهمي". هذا لأنّني عاهدتُ الشّهيدَ يومَ واريْناه التّرابَ على ألاّ نسكتَ عن حقّه وعلى أنْ نحاسبَ كلّ الّذين لهم علاقةٌ بالجريمة حتّى ينالوا ما يستحقّون مِن عقاب. وقد أخذتُ عهدا على نفسي أنْ أُنفّذَ الوقفةَ بِمنْ يحضرُ إلى حين تنجلي الحقائقُ كاملةً: مَن خطّط؟ مَن دبّر؟ مَن حرّض؟ مَن موّل؟ مَن وفّر الدّعمَ والسّلاحَ وصولا إلى الأيادي الجبانة الّتي نفّذت الاغتياليْن.

  • الاغتيالُ السّياسيّ ملفٌّ إرهابيّ غامض ومتشعّب يسمّم الحياةَ السّياسيّة بأسرها. فهل تستطيعُ الوقفةُ الاحتجاجيّة السّلميّة الّتي يتجاهلها الإعلامُ العموميّ والخاصّ أن تُساهمَ في كشفِ الحقيقة المرجوّة؟

صحيحٌ أنّ الاغتيالَ السّياسيّ ملفٌّ إرهابيّ غامض يُسمّم الحياةَ السّياسيّة ويجعلُ عمليّةَ الانتقال الدّيمقراطيّ غيرَ قابلة للاستمرار. لكنْ مهما تجاهل الإعلامُ هذه الوقفةَ فإنّ استمرارَها وإصرارَ الأوفياءِ على فضحِ المتورّطين لا بدَّ أن يساهمَ في كشف الحقيقة مهما طال الزّمنُ ومهما حاولتْ بعضُ الأطراف مِن أصحابِ النّفوذ طمسَ الحقيقة وغلقَ ملفِّ الاغتيالات السّياسيّة.

  1. السّيّد النّفطي حولة: (أستاذ تعليم ثانويّ متقاعد وكاتب صحفيّ وناشط نقابيّ وسياسيّ مستقلّ).
  • ما القيمةُ السّياسيّة والأخلاقيّة والرّمزيّة لهذه الوقفة الدّوريّة؟

لهذه الوقفةِ قيمةٌ وطنيّة أوّلا باعتبارِ علاقتها بشهداء الوطن. ولها قيمةٌ أخلاقيّة ثانيا وهي الوفاءُ للشّهداء الأبرار. أمّا قيمتُها الرّمزيّة فتكمنُ في عدم السّكوتِ عن القتلة الإرهابيّين وفي الإصرار على محاسبتهم بعد الكشفِ عنهم وعمّنْ موّلهم ومَن خطّط لهم ومَن كان راعيا للإرهاب ومَن نفّذَ ومَن هي الجهاتُ السّياسيّة الّتي كانتْ وراء التّنفيذ تسترقُ السّمعَ.

  • وقفةُ الشّهيديْن عملٌ نضاليّ سلميّ. هل يمكن أن تؤثّر، حسْب رأيك، في واقعِنا السّياسيّ المعقّد الملوّث؟

ليس للوقفةِ إلاّ التّأثيرُ الإيجابيّ في دفعِ الحركة السّياسيّة والوطنيّة والتّقدّميّة قُدُما. وعلى الجبهةِ الشّعبيّة أن تستثمرَ فيها سياسيّا لمواجهة قُوى الرّجعيّةِ الدّينيّة الّتي تترأسُها "حركةُ النّهضة" خصوصا والائتلافُ الحاكم عموما.

  • ما السّبلُ الّتي تقترحُها لتطويرِ هذه الوقفة الدّوريّة وجعلِها أكثرَ نجاعةً نضاليّة؟

لا بدَّ مِن تنويعِ أشكال الوقفة بالعملِ الثّقافيّ وبالعملِ الفنّيّ الموسيقيّ أو المسرحيّ وبالعملِ السّياسيّ التّعبويّ التّأطيريّ ذِي العلاقة بالإرهاب وبملفّ الاغتيالات السّياسيّة ... لعلّ مِن الاقتراحات الجديدة فعلا هو أن نتنقّلَ إلى مكان سقوطِ الشّهيديْن في بعض المناسبات وليس بالضّرورة في الذّكرى السّنويّة لاغتيالهما فحسْب. ويمكن أيضا تنظيمُ مسيراتٍ صامتة يحمل فيها المنظِّمون الزّهورَ واللاّفتات النّاطقةَ بالشّعارات المألوفة.

  1. السّيّد فتحي أبازة: (أستاذ تعليم ثانويّ ينتمي إلى حزب العمّال).
  • لماذا تواظبُ على حضورِ هذه الوقفةِ الأسبوعيّة؟

واكبتُ الوقفةَ منذ انطلاقها وعيا منّي بفداحةِ الجريمة الّتي اُرتُكبتْ في حقّ الشّهيديْن "شكري" و"البراهمي" وإصرارا على كشفِ الحقيقة وفضحِ مشاريع الإمبرياليّة وأعوانها الـمَحلّيّين، وهي الّتي تستهدفُ حقَّ الشّعوبِ في الحرّيّة وتقرير المصير. حضوري هو وفاءٌ لدم الشّهداء والتزامٌ بالسّير في دربهم وإعلاءٌ للمشروع الاجتماعيّ والسّياسيّ الّذي ضحُّوا هُمْ مِن أجله. وأرى أنّ الوقفةَ تستمدُّ قوّتَها وألقَها من تواصلها ومِن رمزيّتها المكثّفة.

  • هل أنتَ راضٍ على الوقفة الدّوريّة مِن حيث التّنظيمُ ونسبةُ الحضور والتّغطيةُ الإعلاميّة؟

لا، إطلاقا. في البداية استقطبت الوقفةُ كلَّ نَفَس ديمقراطيّ مُناصر للحرّيّة والتّقدّم. وكانت إطارا تتجمّع فيه أغلبُ القُوى الدّيمقراطيّةِ المعاديةِ للاستبداد الدّينيّ الزّاحف. ثمّ تقلّصتْ لتصيرَ وقفةً للجبهة الشّعبيّة وأنصارها. ويتواصل انحسارُها لتنحصرَ في مناضلي "الوطد" و"التّيّار" نُصرةً لشهيديْهما. والحقيقةُ أنّ الوقفةَ لم تكنْ بمنأى عن التّجاذبات الحزبيّة. فتَواصل النّزيفُ حتّى استقرّت الوقفةُ على مشهدٍ باهت لا يعكسُ حجمَ الجريمة المرتكَبة في حقّ الجبهة وفي حقّ الوطن معا.

  • كيف يمكن استغلالُ هذه الوقفةِ الدّوريّة للمساهمة في نشْر الوعي الجماعيّ لدى عموم التّونسيّين؟

هذه الوقفةُ الدّوريّة مكسبٌ وطنيّ ومربّعٌ نضاليّ رسمه المناضلون بدماء الشّهيديْن "شكري" و"البراهمي". وهي منبرٌ للأحرار والتّقدّميّين وفضاءٌ للتّشهير بالسّياسات اليمينيّة الّتي تمارسُها السّلطةُ والقوى المضادّةُ للثّورة. وعلى جميعِ المناضلين الشّرفاء الانخراطُ الفعليّ حضورا وإسهاما. وذلك للارتقاءِ بالوقفة وتوظيفِها سياسيّا وثقافيّا كي تستقطبَ كلَّ الطّاقات السّياسيّة والنّضاليّة والفنّيّة وحتّى تترسّخَ في ذاكرة النّاس سعْيا إلى مُراكمةِ الوعي.

الخاتمة:
بعيدا عن الإيمانِ العجائزيّ بالحكمة الشّعبيّة القائلة: "يا قاتلَ الرّوح، إلى أين تروح؟!"، تظلُّ العقيدةُ الحقوقيّة بأنّه "ما ضاعَ حقٌّ وراءَه طالبٌ" خيرا لا بدّ منه يَشحذُ العزائمَ رغمَ تواترِ الخيبات ويُـجدّد الطّاقةَ النّضاليّة رغمَ أنفِ الاكتئاب الجماعيّ واليأس المعوْلم. أمّا بيانُ "هيئة الدّفاع عن الشّهيديْن شكري بلعيد ومحمّد البراهمي" الصّادرُ يومَ 2018.10.26 فقد مثّلَ بارقةَ أملٍ لكلِّ وطنيّ متمسِّك بدولة القانون والمؤسّسات وبكيان الجمهوريّة المدنيّة، بقدر ما شكّلَ صفعةً لاذعة لطرفيْن سياسيّيْن على الأقلّ: مَن امتهن الإرهابَ واتّخذه مطيّةً للحكمِ الفاشيّ بها يُصفّي الخصومَ ويُرهب المنافسيِن ويُلجِم الرّعيّةَ، ومَن تواطأ مع "مُـحترفِي الإرهاب" طمعا في اقتسامِ غنيمة السّلطة معهم إلى أجل غير مسمّى. لقد ظنّ القاتلُ أنّ سفْكَ الدّم الحرام كفيلٌ بقطع دابرِ النّضال الجمْعيّ مِن أجل الحرّيّة والكرامة والسّيادة. وحسِب الطّامعُ أنّه، إنْ تفانَى في مداعبة الأفعَى، تنعّمَ بملاسةِ جلدِها وأمِن زُعافَ سمّها.

 

تونس: 2018.12.04