يتناول الناقد المسرحي المغربي هنا استقصاءات ناقد مسرحي مغربي آخر في كتاب حول خطاب التجريب في المسرح العربي، ويحلل ما طرحه الكتاب بدءا من مصطلحاته المعرفية والمنهجية، وصولا إلى تطبيقاته المختلفة على التجارب المسرحية التي شاهدها في المسرح العربي، ويكشف عما في الكتاب من ايجابيات وسلبيات.

أي خطــاب لأي تجريب في المسرح العَـربي؟

نجـيـب طـلال

 

تـصريح خـــارج المعتاد:
فـبكل تلقائية؛ ومن باب الاعتراف الثقافي/ المسرحي؛ أن كتابـة وعطاء؛ الصديق والدكتور: ع الرحمان بن زيدان؛ مورس عليها وفي حقها إجحاف؛ وعَـدم الاهتمام الرصين والفعال؛ كفاعلية عطائه وإنجازاته؛ سواء من لدن من ينتسبون للنقد المسرحي/ الفني/ الأدبي؛ أومن لدن بعض طلبته الذي نالوا شهادات على يديه؛ وتنكروا للمعْـروف؛ ولن أقول للأستاذية؛ لأن الأستاذ: ابن زيدان قبل أن يمارس النقد من بابه الواسع؛ مارس التأليف المسرحي؛ وهناك العديد ممن لا يعـرفون؛ أن له نصوصا مركونة بين رفوف خزانته؛ لأسباب خاصة. وفي هَـذا المضمار؛ تساءلت بحرقة غير معتادة. كـيف للعديد من منجزاته؛ لا تعقبها قراءات متعددة ومتنوعة في الرؤى والمنهجيات؛ ليس مدحا أو تمجيدا بل دعما للمنجز. وبناء على هذا فأغلب مؤلفاته لها قيمتها وحضورها النوعي في النسيج الثقافي/ المسرحي؛ ولكن منجـز- خطاب التجريب في المسرح العربي(1) له خصوصية متميزة في الإنتاج النقدي/ المعْـرفي؛ نظرا أنه تمدد في شرايين النسيج العربي بكل وثوقية وجُـرأة متفـردة؛ محاولا أن يخترق ما هـو خارج حدود النسيج المسرحي القطري؛ ليصبح جوانية الفضاء الواسع بعـيدا عن منظومة الحدود إلى اللاحدودي؛ ليندرج في سياق ما يسمى [التفـرد] من خلال مطارحته بين الواقع المسرحي العَـربي والمقروئية؛ وبين المنجـز ونقده أو دراسته؛ ليفرض التفرد سلطته على المحور الثقافي وهامش الهامـش.

وهُـنا أضع ناقدنا- ع الرحمان بن زيدان- جوانية التصريح؛ وليس المساءلة؛ بحيث مهما كان الاختلاف؛ تجاه منطلقاته ومواقفه؛ لا يمكن القفز عن عطائه ومعطياته النقدية. فهي ذات بصمات خاصة أوعن متابعته الدؤوبة في المجال المسرحي لأنه ذات خصوصية متفردة؛ بحكم أنه الفاعل والمنفعل بهموم وهوس اللذة السيزيفية؛ والتي بصمت جروحها وهمومها على البياض؛ التي أغنت الخزانة المغـْربية/ العَـربية؛ بمؤلفاته ومنتوجاته؛ لكن تلك الفورة المعطاءة تضاءلت [نسبيا] ليس بالنسبة إليه وحده؛ بل هنالك العديد من الفعاليات أمثاله؛ بعض أبحاثهم ودراستهم؛ لم تخرج للمشهد الثقافي. ربما نتيجة ضغط الوقت؛ ودوراته السريعة؛ وتحمل الأعباء اليومية؛ والتيه في متاهات الحياة اليومية بقساوتها وإكراهاتها التي أمست مضنية؛ وكـذا شبه انعـدام الملاحق الثقافية والمجلات المختصة الآن؛ وهذا ربما لم ينتبه إليه من يشكـو أو يدعي أن المتابعة النقدية شبه انعـدمت؛ ومثل هـذا الحكم فيه نوع من التجني؛ لأن هنالك عوامل أخرى ضاغـطة تعـوق ظهور المنتـوجية.

هنا لا أبرر ولا أعمم؛ وإنما ما ألمسـه كمعيقات ناتجة عن شبه انعـدام؛ تلك الحيوية الثقافية بين المنتوج وقراءته؛ أم ربما هنالك عَـوامل نفسية أدت بنوع من التراجع عن نشرها؟ لا أدري؛ فلو كنت أدري؛ لماذا أخط هـذا التصريح خارج المعتاد! والذي لم يتعود عليه أي قارئ أو باحث مفترض؟ وأقحم فيه أستاذنا: ع الرحمان بن زيدان.

المَـسـرح قـضـية :
وبالعودة لمؤلفاته أغلبها تتمركز إشاريا بأن [المسرح] [قضية] في أبعاده ومنطلقاته واشتغاله؛ وكرؤية للعالم بغية بناء التحول والمغايرة، ومن ثمة فـلا مناص من تفكيك وتحليل ميكنزماته المعقدة من أجل المجتمع الذي هُـو شرعية وجود المسرح؛ هكذا يؤمن الباحث – ع الرحمان بن زيدان- وبحكم أن- المسرح - فعل اجتماعي/ حضاري/ محوره الإنسان؛ الذي مهما كانت درجاته المعرفية والسلوكية؛ دائما يحاول أن يدافع عن قضيته؛ وذلك من أجل كسب رهاناتها؛ لكن – ابن زيدان- يعمق [القضية] كإشكالية في سياق مطارحة؛ مسكونـة بهاجس السؤال؛ لكي تكون مركز أغلب المقولات؛ للبحث في الثوابت والمتغَـيرات والمرجعيات؛ لترسيخ فعل المغايرة والاختلاف. مرجعيتها الفعل المسرحي؛ لكي تستقيم وتتبلور جل [القضايا] في سياقها التاريخي والاجتماعي؛ لفهم الظاهرة المسرحية. عبر مسارات – نقد النقد- الذي كان ولازال يلح عليه؛ مثل العـَديد من النقاد؛ باعتباره بحْـث معرفي موضوعه النقد الأدبي، يتقاطع مع جملة من السياقات المتصلة بالبحْـث في ميدان الابداع. ومن بين الأوائل الذين فـسـروه؛ جابر عصفور القـائل: إن نقد النقد قول آخر في النقد يدور حول مراجعة القول النقدي ذاته وفحصه (2) ولكن هذا الطرح أو التعريف؛ يبقى هـذا مجرد مشروع في الثقافة العربية؛ وهكذا يمكن حصره كنشاط فكري نوعي رغم تتعدد أشكاله، وهـذا ما يفـسر غـياب نقد النقد؛ لمنجز د: ع الرحمان بن زيدان؛ رغم أنه يدفع بالحمولات المعْـرفية؛ وتعدد زخمها ونكهتها النقـدية؛ المتجلية في مؤلفاته العديدة؛ تبقى حبيسة التبئير الـذاتي؛ في ما مضى نتيجة الحِـراك السياسي والإيديولوجي الذي كان يطغى وطاغيا على النسيج المسرحي/ الثقافي/ الإبداعي؛ ويتحكم في طبيعته؛ مما تعطلت العديد من المشاريع الثقافية/ الفكرية؛ نتيجة غياب نقد النقد والنقد المضاد؛ بمناهج علمية وعملية ومائزة في نفس الوقت؛ بمنطلقات أبستمولوجيا؛ إذ بانعـدام هاته الشروط بين [الروافد] و[القضية] ظل مشروعه النـقدي في مأزق؛ نتيجة شبه انعدام تفاعل فكري و تكامل كتابي بين ما يُدون في النقد، وهذه إشكالية في الثقافة المغربية والعربية عامة! رغم محاولة تقييم مؤلفاته نفسها بنفسها؛ على أساس القبض عن الخلل بقوله. بدأت شخصية الناقد تغيب كذوق فقط؛ لتحضر السلطة المعرفية كنظـرية ومراجع وشهادات؛ تعتمد على ما هـو بنيوي واجتماعي للفهم والتفسير وتأويل معطيات التحليل؛ وقد تحقق هـذا في الكتب. ولقد استطاعت هـذه الكتابات؛ أن تنقل النقد المسرحي العربي من مستويات التعليقات الصحفية السريعة إلى ميدان الاستقصاء ومحاولة تمثل المفاهيم النقدية والجمع بين الحس التاريخي التطوري وبين المواكبة الميدانية للإبداع المسرحي العربي والعالمي(3) إذن هل تحقق هـذا التقييم في منجز {خطاب التجريب في المسرح العَـربي}؟

بين التجـريب و الخـطاب:
تأكيدا؛ بأن الخطاب مصطلح نقدي؛ ما بعْـد بنيو ي في بعْـده المنهجي والنقدي لعلاقته بحفريات المعرفة حسب رؤية فوكو؛ وبالتالي فالاشتغال النقدي على ضوء الخطاب؛ الذي يتمحور أساسا عما هو أدبي صرف؛ وذلك سعيا منه لاستنطاق النص الميت؛ من خلال أدواته الإجرائية؛ بغية تفكيك شفراته وميكنزماته المتفاعلة بالسياق الاجتماعي/ الثقافي؛ وكذا تفكيك ابعاده الدلالية والأسلوبية وما يحيط به من مكونات النص؛ ليبتدئ نظام الفوضى؛ وجدلية اللغة؛ تخترق حاجز المعنى؛ ولاسيما أن المعنى يتخذ منعطفا آخر؛ حينما يندرج في سياق مسرحي/ درامي؛ لنصبح أمام خطابات في شرنقة الخطاب المسرحي؛ مما تتمظهر إشكالية تحديد (الخطاب) رغم أن الناقد ع الرحمان بن زيدان؛ استحضر ما هـو إجرائي وإبيستمولوجي، لتفكيك آليات اشتغال الخطاب المسرحي في سياق الفعل التجريبي؛ لكن بدوره لم يحاول موضعة إجابة شافية أين يكمن الخطاب؟ بحيث نلاحظ أن الخطاب النقدي؛ بدوره يحايث بشكل سريع [نص العرض] وينزاح بالمطلق إلى فضاء [النص] إذ نجد في الكتاب مصوغات نقدية معلنـة القول بالقول: (مثلا)

* لقد فرضت علينا متابعة الممارسة المسرحية العربية؛ التعامل مع النصوص المقروءة والمرئية الناطقة بإبداعيتها (صفحة 8)

* لقد انبنت هـذه المسرحية على نص قديم ورؤية معاصرة له، فتحول النص الأول عند التقائه بالمتكون الجديد (ص31)

* هناك مجموعة من القضايا التي كشف النقاب عنها خطاب النص ( ص36)

* لقد بقيت مسرحية الباب كنتاج أدبي توفرت فيه كل هــذه المقومات (ص60)

* لأن التواصل في هـذه الأجوبة المنصوصة داخل النصوص المسرحية؛ مدى سلامة بناء النص المسرحي وأسسه الدرامية (ص161)

فـمثل هاته المعطيات زاخرة في أغلب صفحات الكتاب؛ كنوع من الإصرار لإعطاء المكتوب خصوصيات المسرحية؛ مما يفرض على القارئ التباسا بأن المسرح نوع من أنواع الأدبية. وهذا الطرح مصدره المدرسية؛ كما تذهب إليه بالقول – آن أوبرسفليد- وبناء عليه؛ فالنقد المسرحي تتمظهر إنتاجيته من خلال تفكيك وتركيب كيميائية العرض؛ على ضوء مفهوم – رولان بارت في (أساطير) جسد متعدد الأطراف: اللغات؛ إنه نص جماع لأنساق علامية متنوعة: نسق الديكور؛ الملابس؛ الحركات؛ الإضاءة؛ النص الأدبي ... هذا الأخير أحد الخطابات أو بنية خطابية؛ لا تحقق معناها إلا جوانية (نص العرض) فإن كان ''يلمسليف'' يحدد (اللفظة) بأنها وحدة وظيفية ودالة للخطاب؛ فهذا التحديد يؤطرنا بأن ما هـو لغوي جـزء خارج المدار المكـَوناتي للعملية المسرحية؛ فكيف إذن: ستكون وضعية (النص) في حالة غياب المكونات المتعاونة والمتفاعلة؛ وكذا المتحاورة والمتجاورة فيما بينها لخلق تأثير فـكري/ جمالي؟ بداهة إن النص سيبقى رقما بدون حقيقة أو هوية؛ فمهما كانت قيمته؛ فإنه يخضع بشكل جذري لاستعراضيته؛ وبتعبير آخر يتحدد النص المكتوب في حاجة لتفعيل السياق؛ ويشير في كل إلى خضوعه لشروط العرض المادية، ولاسيما إلى جسد الممثل وقدرته على تجسيد الخطاب داخل فضاء المسرح (4) فرغم أن المتن النقدي لم يحاول اختراق [فضاء المسرح] المؤثث بمكونات خطابية؛ متنافرة ومتلاحمة لملأ بيضات الفضاء؛ بقدرما ظل في لأبعد الحدود عند حد (النص) ولو أن الأستاذ – بن زيدان- يدرك جيدا أن النص ليس هو كل شيء؛ وذلك بإشارته الذكية يشير: إن المسرح ليس كتابة أدبية فقط؛ لكنه لقاء الناس بالناس؛ بشكل مخالف لليومي المبتذل.(5) بهذا المعنى؛ نفهم أنه يحاول ترسيخ مفهوم – النصية - كطبيعة إنتاجية حامل للجمالية والإيديولوجية التي تقوم عليها صناعة الفرجة؛ والتي عـرفها ويعيشها الواقع العربي في مجالات متعـددة ومتنوعة؛ إذ الكتاب في مجمله؛ يسعى أن يتيح لـنا فهم أفق سيرورة اشتغال خطاب التجريب في المسرح العربي، وذلك انطلاقا مـن مرتكزين، انطلق منهما الناقد- ع الرحمان بن زيدان

(أ) حضور ثقافة المشاهـدة عند الناقد؛ وحضوره في بعض التظاهرات المسرحـية.

(ب) المرجعية المعرفية؛ المدمجة بهـوس العطاء والإنتاج من مخزون المتابعة والمشاهدة.

من الطبيعي أن يتشكل وعيا جماليا ومرجعية فكرية ناهضة برؤية محمول ثقافة الناقد؛ تتفاعل بين تحقيق المشروع وثقافة السؤال الممهد لوعي الكينونة؛ لخلخلة الخطاب ومحاولة القبض على التجريب في المسرح العربي. باعتباره أكثر المفاهيم التباسا وإبهاما؛ ومن أكثر المصطلحات الحامل لمواقف وأراء متباينة جـدا؛ تصل حد التنافر والتناقض؛ مما كان – ابن زيدان- محتاطا من مغامرة اختراق الفضاء المسرحي؛ كبؤرة للقاء الذي يتشكل فيه التصور/ الاقتصادي/ الثقافي/ التاريخي/ السياسي لكن هـذا نستشفه في الخطاب الأدبي/ النصي؛ الذي هو أساسا فعل مادي؛ وإن كان يحمل حياة هامـدة وخطابا ميتا عبر البياض؛ لكن المنجز- {خطاب التجريب في المسرح العربي} – يمظهر العلائق بنوع من الوثوقية؛ بأن اللقاء يتم أساسا في [المدينة] مما حدا بإدراج "بيان المدينة"(6) لنضال الأشقر/ لبنان؛ علما أن (البيان): عتبة أو مصوغ تنظيري؛ وبالتالي فهل البيان له علاقة بالخطاب المسرحي أو بالتجريب؟ بداهة فالخطاب يرتبط أساسا بالإبداع؛ الذي لايبرز من فراغ؛ بقدرما تتقاطع في إنتاجيته عَـوامل متعددة تفرض سياقه؛ ومن ثمة ف(البيان) نسق خارج عن ذلك؛ ومنفلت عن الإبداع؛ عبر سيرورته التاريخية؛ ولولا وجود(البيان) المفروض بالقوة لما أعلنت موقعته: لغة تنقلنا من جديد إلى عالم أردنـا أن نغيره ففشلنا؛ ولكننا سنظل نحاوره لتغييره.(7)

فإذا كان الفشل هناك (لبنان) ففي (المغرب) الهروب والقطيعة من اللقاء جوانية المدينة. بمعنى: ... حالة الهروب من المظاهر الخادعة لترف المدينة الكاذب (...) قد تقع حالة الصمت في مسرحيات ‘’محمد تيمد’’ بأن عالمه الداخلي معْـزول عما حوله؛ أو مُعادٍ لمحيطه، لحَـد الانسلاخ النهائي عنه(8) إذن؛ فوعي ناقدنا- ع الرحمان بن زيدان- بعَدة مفارقات من حيث مركز اللقاء؛ مما يستلهمنا المنجز أن اللقاء يكون جوانية النصوص الدرامية؛ في حدود الكائن والممكن. وسبب هاته الدعوة ترتبط بعـدة عوامل؛ كانت بشكل أو آخر عائق الانزياح من النص لنص العرض؛ باعتبار أن هذا الأخير: يمتاز بسماكة دلالية أو كثافة أجناسه وانقطاع مستوياته الفضائية والزمانية؛ وهو في نفس الوقت شديد الالتباس؛ ذلك أنه يسمو على التحديد دلاليا في أية لحظة منه ويستحيل تكراره.... ذلك أنه ليس مجرد إعلام في شأن ما أو معلومات معطاة؛ بل إنه حـدث جمالي تجري إبانته كبنية صورية مادية (9)هنا تلك الإنابة تفرض على أي ناقد أن يكون نقده بمثابة إبداع فوق إبداع؛ وهذا يتطلب أدوات لاختراق عوالم ومكونات العرض؛ إضافة لحضور عملية – التذكر- وذلك شرط أساس في العملية النقدية؛ باعتباره عمل – ذهني- مرجعيته العرض المسرحي.

وفي هـذا الباب؛ فالدكتور: ع الرحمان بن زيدان؛ كان شديد الحذر في تعامله مع مسرحية [بقايا ذاكرة] التي ألغت المؤلف؛ ليحضر [جوزيف شاينا] رفقة [ع الفتاح هناء] من خلال ورشة: أقامها مسرح {الهناجر} فهذا العرض[المؤورش] من خلاله حاول المنجز تقديم تصور مسرح [الهناجر] الذي يعد بمثابة (بيان) فني ضمنيا؛ رفقة إشارات عامة تجاه عرض (بقايا ذاكرة) الذي اعتبره عملا خارج سلطة اللغة: إنه رقص وعـذاب جسدي يندفع نحْـو اللامحـدود؛ واللامرئي لتمكين الذاكرة من تقديم الحركات والبنى الأساسية للصور(10) هنا يسعى الاقتراب من مفهوم التجريب بصيغة المختبر/ الورشة؛ كإحدى منطلقات وآلية الاشتغال والبحث عن مسرح تجريبي له من الخصوصية الجمالية والإبداعية؛ لتحقيق التنوع؛ في سياق جدلية الاختلاف والائتلاف؛ ولكن دائما المنجز ينجر للنص؛ وفيه نوع من الإنتقائية؛ بغية ممارسة خطابه المقارباتي/ النقدي؛ وإن كان الباحث حاول ممارسة نفي الانتقائية، بقوله: إن متابعتنا لحركية المسرح العربي؛ لم تكن انتقائية تلغـي البعض لتحضر البعض الآخـر؛ أو أنها كانت قراءة تعطي الأهمية للجزء لتغيب الكل(11) وإن كان هذا قـول التباسي؛ ففي تقديري أن الانتقائية مرتبطة بفعل الاقتضاء الناتج عن حضور سلطة مرجعية؛ تتحكم في الكتاب؛ وذلك محاولة لخلق التميز ونوع من الهيمنة على الساحة العربية؛ التي أمست تتأرجح بالمشاريع (التنظيرية) وهذا حق ثقافي مشروع؛ وإن كانت عليه ملاحظات.

لكن الملاحظة الأهم أن المنجز غيب تجارب مسرحية ليبية/ أردنية/ يمنية؛ وحاول أن يمارس منطق التعـدد الحاصل في النسيج المسرحي عـربيا؛ كاستنتاجات بأن: المسرح العربي مسارح- إن الكتابة فيه وحوله كتابات - إن أسلـوب الإخراج أن لغة هـذا المسرح لغات وعلامات ودلالات أساليب- وبالتالي فالتجريب في هـذا المسرح تجارب (12) فمن الطبيعي أن يكـون المسرح العربي؛ على هاته الشاكـلة؛ نتيجة القطرية والتجزيء السياسي والتفتيت الثقافي؛ وبالتالي أين يكمن خطاب التجريب هل في خطاب النص أم في نص العرض؟ بداهة في نص العرض؛ باعتبارأن التـجْريب المسرحي ضرورَة؛ رُؤية للعالم لخلق المُغايرة في الإبداعية؛ وليس ترفا لذاته؛ حتى لا يسقط في الشكْـلانية. ولكن المنجز في لحظات سرده؛ يذكي قناعته أنه يكمن في [الـنص] والباحث يذهب بنا لمرحلة ماضوية؛ حيث ظهر المسرح في الفضاء العربي؛ متمركزا على [النص الأدبي] وتلك حقيقة لا مِـراء فيها؛ وبالتالي فصديقـنا: ع الرحمان بن زيدان؛ له رؤية صادقة؛ نحو تفعيل القضية [النصية] كمنطلق أساس لتفعيل خطاب التجريب؛ بحيث لم يعلن مباشرة في منجزة؛ أنه ليس هنالك [نص عربي] بل يلمح أن هناك مشروع ل[نص عربي] نظرا أن (النص) في عمقه ينتمي للشرق والغرب، كمرجعية صورية. ولكن عمليا هو نص ثالث؛ تائه بين الهوية والانتماء والاختلاف والغيرية؛ ومحاولة التحرر من ماضويته؛ ومن جدلية عناصره وبنيته العامة؛ المستلهمة للنص الأوروبي/ الاستعماري والثقافة المحلية. وبالتالي فالخطاب النقدي؛ يسعى لخلخلة النص الدرامي؛ منطلق اساس قبل النظر في عملية التجريب عبر مكونات العرض المسرحي؛ وهنا لا يلغي التجريب بالمرة؛ باعتبار أن: التجريب ممارسة إبداعية حركية خلاقة تعتمد على موقف فكري بدون تنظير؛ والتجريب هو الذي يعصف بكل التطبيقات حتى وإن كانت جديدة.(13)

فالناقد – ابن زيدان- يعاكس الرؤية؛ معتمدا على خطاب النص؛ من خلاله يمكن إزاحة سلطة النموذج النصي؛ والابتعاد عن البدايات كنمط؛ وبالتالي يمكن تحقيق مفهوم التجريب؛ أما ما هُـو كائن من محاولات تجريبية؛ ناتج عن قوة المسرح الغربي/ الأوربي فينا. وما جدلية الأنا/ الآخر إلا تأكيدا لذلك. وهو حصيلة سياسة ثقافية من المستحيل فيها على المسرح العربي أن يصير مسرحا موضوعيا وتاريخيا في غياب السؤال المرتكز على الهوية الثقافية العربي. وإن التبعية العمياء للغرب يصادر فعل توفير إمكانية الأنظمة المنافسة للأشكال والانماط الغربية(14) ففي سياق هاته الرؤية؛ موازاة مع المنهج الاستقرائي الذي فرض نفسه على - المنجز- كثيرا ما أغفل الناقد أو تحاشى ذكر السياق التاريخي للعديد من النصوص؛ التي اشتغل عليها مثل نصوص – نعمان عاشور- وخاصة الظروف التاريخية والاجتماعية التي دفعت بكتابة نص (لعبة الزمن2) ونفس العملية تمت تجاه المسرح (الخليجي) إذ نستشف كما هائلا من الأعمال المدرجة في الكتاب؛ ولكن يحْسمها في قول جازم.

وفي سياق التحولات الهامة في تجربة المسرح الخليجي؛ ظهرت تجارب مسرحية دخلت زمن الاشتغال على الفضاء المسرحي(15) مقابل هذا تقدم لنا صورة ذات عمق بالمحيط الخليجي؛ من خلال المسرح كخطاب: في منطقة الخليج يعاني من التجزيء ويقوم أساسا على مجهودات فردية؛ لا يتحقق لها الاستمرارية والتطور، هذا في حين تقابل هذه الأعمال بواقع محبط وجمهور منصرف إلى مشاكله في مجالات شتى، ومن تم فالنقاد لا يواكبون التجارب الجديدة ولا يتابعونها؛ وتغيب بالتالي الحماية المؤسسية التي لا تعبأ بالمبدعين ولا بتجاربهم(16) فالمنجز أغفل هذا نتيجة المنهج الذي تحكم في معطيات الباحث؛ وذلك إيمانا بأنه: يجب أن نعترف بتعَـدد المناهج؛ وبأننا قد نقبل بعضها وقد نرفض البعض الآخر؛ ولكننا حين نفعل، لا ينبغي أن نراعي مطلقاتها الفلسفية؛ وإنما علينا أن نراعي مدى صلاحيتها وطواعِـيتها.(17) ففي هذا الباب؛ لم يفت – الأخ – ابن زيدان- وعيه وإدراكه بما يحيط من إشكاليات وملابسات في المسرح الخليجي؛ بحيث أفـْرد له بابا واسعا امتد من الصفحة (92 إلى 124) وهاته الفسحة النقدية؛ لم ينله التجريب في المسرح اللبناني أو الجزائري أو التونسي. وبالتالي يؤكد بأن: المسرح الخليجي بكل مكوناته في تجاربه- وبكل تجاربه في عملية تأسيس هذه الخصوصية يبقى موزعا بين سلطة اللحظة التي يتحرك فيها؛ وبين الانفلات من هذه اللحظة بكل عنفها وبكل صرامتها وبكل اعتياداتها.

إن تفاوت مستويات فعل التأسيس في النص المسرحي الخليجي، وفي عملية الاخراج دليل على أن هذا التفاوت ينقل في المسرح كل تناقض المسرح في الخليج، ويفصح عنه في تناقض الانتاج الفني الذي هو - في الحقيقة – تناقض الواقع بكل أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.(18) وهاته الفسحة النقدية؛ تكشف عن معطيات متقاربة بالوضع المسرحي العربي؛ مما نلاحظ تقنية مارسها الأستاذ- ع الرحمان بن زيدان – في حق مسرح المثلث التونسي؛ تحليل عناوين المسرحيات؛ باعتبارها شبكة دلالية تحمل عمق محمول الخطاب؛ وفي نفس الوقت يمتلك العنوان قوته وايحاءاته.ولكن قبل هاته الإجرائية؛ طرح سؤالا عريضا في (ص84) مفاده: هل المسرح المثلث يلغي النص الأدبي أم أنه يؤكد عليه في عمله الابداعي؟ فالأساس عنده من السؤال خلخلة ما هو كائن من المنجزات المسرحية؛ ومحاولة، تأطير أين يكمن خطاب التجريب؟ لكي يسهل علينا الحديث جماليا بعد المعرفي عن: خطاب التجريب في المسرح العَـربي. وبالتالي فالإجابة عن سؤاله المحوري تكلل بالنتائج التالية بعد ان فجرت المكبوتات والمقموع في الذات لنقل الواقع من مرجعيته القارة الى الحلم والكرنفال والرقص والتشكيل الضوئي الذي يفتت الكائن ليعيد تركيبه بجمالية بليغة لا تجعل الملفوظ هو المتحكم في التجريب المسرحي، وإنما يصير المرئي هو الذي يملك سلطة المطلقة في فضاء الركح.(19)

هنا نكون أمام تجربة مسرح الصورة ل(صلاح القصب) والذي أفرد له الكتاب بابا من (الصفحة 66 إلى 73) تحت عنوان رائع {تجربة الدهشة في مسرح الصورة من شعرية الحوار الى شعرية الفضاء} ولكن لا أدري لماذا لم يحاول خلق مطابقة أو مقاربة بين (مسرح الصورة/ مسرح المثلث) الذي انزاح عن النص الدرامي إلى نص العرض؛ كبنية فاعلة في خطاب التجريب؛ وهـذا يبدو لنا تناقضا في منهجية التحليل؛ ولكن طبيعة الاستقراء كمنهجية تفرض الإحاطة بشتى جوانب الموضوع المنطرح؛ بَـدْء من الجزء إلى الكل، أو من الخاص إلى العام؛ وهذا ما دفع بالناقد- ع الرحمان بن زيدان- أن يستخلص رؤية للتجريب؛ والتي تكمن جوانية الجماعات/ الأوراش؛ ولقد أشرنا للهناجر؛ وبهذا يشير: إن التجريب المسرحي ضمن معادلة التماهي والتمرد؛ لا يعني سوى تغيير خارطة الإبداع المسرحي العربي داخل مجموعات مسرحية أو جماعات أو ورشات تعرف بالثقافات المسرحية، وتقتحم المسكوت عنه.(20)

طرح له موقعه؛ على شاكلة ورشات أوربية، التي أنتجت تصورات عملية/ إبداعية. ولكن الإشكالية العظمى؛ أن العَـديد من الورشات/ الجماعات/ المحترفات العربية؛ فشلت وانهارت؛ نتيجة واقع عربي يعيش انكسارات تلو أخرى؛ والتي تنعكس سلبا على المجال الإبداعي/ الثقافي؛ ولاسيما أن اغلب التجارب التي تمظهرت في سياق الحركة المسرحية كلها تندرج في الفعل التطوعي، الذي ساهم بدوره في فشل تطوير مفاهيم التجريب المسرحي؛ أو تبقى رهينة بمنتجها ولا تتجاوزه إلى فعاليات أخرى كمسرح الصورة (مثلا) ظل لا يراوح مساحة (صلاح القصب) رغم أن بعض طلبته حاولوا إنتاج أعمال على ضوء (تصوره) منهم من توقف عن ذلك؛ ومنهم من فشل في بداية الاشتغال؛ ولاسيما أنه تصور تجريبي يضاهي تجربة سامي ع الحميد ( أو) محسن العزاوي؛ اللذين ذكرهما المنجز الذي نحن بصدده؛ ربما نتيجة فهم مغلوط للتجريب وماهيته؛ مما نلاحظ نوعا من الهدم وليس التجاور لتجارب سابقة؛ بحيث هذا يلغي ما قبله أو ينفي ما حوله؛ كتجربة (المسرح المثلث) الذي يوظف الصورة التقنية/ السينمائية المخالفة لشاعرية الصورة؛ وذلك استهدافا لإلغاء تجربة (المسرح الجديد/ مسرح فـو) [تونس] لأن ضمان حضور خطاب تجريبي مرتبط بأحقية فعله وتطوره؛ بغية تجاوز السائد وخلق المغايرة.

ولاسيما أن التجريب المسرحي موصول بشروط محيطه. وهاته إشكالية في المسرح العربي؛ ترتبط أساسا بنزعة (الأنا) التي عمقها الفكر الاستعماري فينا؛ وهنا بصيغة عارية يدرجها المنجز بقوله: الغرب حاضر فينا شئنا أم أبينا، حاضر في أشكالنا التعبيرية، وأنه يمارس تأثيره علينا بمختلف الوسائل والطرق؛ وأنه بهـذا الحضور حاضر في الهوية كخطاب فكري أو موجود كنقيض لهذا الخطاب وقد تجلى في الإبداع (21) فمن خلال التأثير الغـَربي على قدراتنا الإبداعية؛ يظل التـجْريب المسرحي ضرورَة؛ رُؤية للعالم لخلق المُغايرة في الإبداعية؛ وليس ترفا لذاته؛ حتى لا يسقط في الشكلانية؛ كما اشرنا سلفا؛ ولكن مما يلاحظ أن التجريب العربي في أغلب إنجازاته يسقط في الشكلانية؛ إما عفويا أو لممارسة الإبهار، أو محاولة لصناعة جرعات لخلق لذة الانتشاء بنص العَـرض.

استـنـتاج عـــام:
فانطلاقا من هاته المسحة المعرفية؛ والجولة النقدية في عدة محطات عربية؛ بين المقروء والمشاهد؛ وإن كانت المعطيات متأججة بالتباينات؛ وهذا طبيعي بحكم الوضع الجيوسياسي/ ثقافي للأقطار العَـربية ومن الصعوبة بمكان الاحاطة بكل مجريات خطاب التجريب في العالم العربي؛ لأن هنالك تجارب ركزت على الإضاءة والسينوغرافيا كمطلقات للتجريب المسرحي وأخرى تمركزت حول الفضاء المفتوح الا من الستائر وجسد الممثل هي أسس الفعل التجريبي؛ وتلك التجارب لا تظهر إلا في المهرجانات واللقاءات؛ ومن الصعوبة؛ أن يكون المهتم/ الناقد في كل التظاهرات: وفي هذا الاطار - تواجهنا مجموعة من الصعوبات التي تقف في وجه كل مقاربة او قراءة تريد الاحاطة بمكونات التجربة النقدية للكشف عن مختلفها ومؤتلفها وعن عناصر الالتقاء فيها أو الافتراق.(22) وبالتالي فأي منجز على شاكلة: خطاب التجـريب في المسرح العربي؛ مشفوع بعطائه؛ وإن كانت هنالك نقائص أو بعض منها؛ أو إغفال لبعض المعطيات المتعلقة بالقضية المسرحية؛ يكفي أنه: التطلع الذي يتفق مع طموح واجتهاد المسرحيين والنقاد العَـرب لتأسيس وتأصيل مسرح عربي؛ تم تجريب بعض المناهج النقدية في مقاربة هـذا المسرح حتى يتم الخروج من هيمنة المتداول؛ السائد. وتوليد رؤى مغايرة بلغة- أوبلغات تفجر القوالب الجامدة؛ وتلغي الاستنساخ الرديء للأنماط المحنطة.(23)

هــذا على المستوى العام؛ عبر أي منتوج نقدي تمظهر في الساحة العربية؛ ولكن في إطار المنجز الذي حاولنا قدر المستطاع تفكيك بعض ما استلهمنا كقراءة على قراءة؛ وإن كان الكتاب يحتاج لصفحات أطول؛ بحكم معطياته التي تغري بإعادة كتابة على كتابة؛ كمسألة التراث التي أغفلناها عمدا؛ لأنها متاهة بين تفكيك (الأنا/ الآخر) ولكن اعيد القول بأن: كتاب خطاب التجريب في المسرح العَـربي، مسحة نقدية وسياحة معْـرفية؛ امتعنا بها الناقد: ع الرحمان بن زيدان؛ وإن كان البعد الحقيقي للمؤلف أنه يريد تواضعا: أن ينتمي إلى الكتابات النقدية العَـربية التي ترسخت بالاجتهاد والوعي بالقِـراءة والكتابة؛ كإبداع فوق إبداع؛ خصوصا منها الكتابة التي أسهمت في ترسيخ خطاب نقدي له أدواته الإجرائية وله مناهجه (...) وذلك بهدف تكوين رؤية شاملة للعـرض المسرحي (24)

 

الإحــالات:
1. خطاب التجريب في المسرح العربي: لعبدالرحمان بن زيدان- ط 1/1997 مطبعة سندي- مكناس – الغلاف للفنان الحــسين موهـوب

  1. قراءة في نقاد نجيب محفوظ - ملاحظات أولية لجابرعصفور- مجلة فصول مجلد1 ع3 1981
  2. خطاب التجريب في المسرح العربي: ص290/291-
  3. سيميـاء المسرح والدراما لكير إيـلام ترجمة رئيف كـرم / ص314- ط1/1992
  4. خطاب التجريب في المسرح العربي /ص160
  5. انظر لبيــان المدينـة من- 79إلى82 - في صفحات خطاب التجريب
  6. نـــفـــســــه ص 81
  7. نــفــســــه ص 273
  8. سيميـاء المسرح والدراما السابق ص 72/73
  9. خطاب التجـــريب : ص49
  10. نـــــــــــــفــســــه : ص9
  11. نـــــــــــفــســــه : ص6
  12. مداخلة : صبري حافظ حول التجريب المسرحي ص119- مجلة المسرح عدد (خاص)47/ 1992
  13. خطاب التجريب : ص 18
  14. نفــــســـه : ص 120/121
  15. مداخلة : فؤاد الشطي: حول التجريب المسرحي ص119- مجلة المسرح عدد( خاص)47/ 1992
  16. خطاب المنهج: لعباس الجراري ص83 - منشورات النادي الجراري ط 2/1995
  17. خطاب التجريب : ص111
  18. نـــفــــســه: ص85
  19. نــفــســه : ص46
  20. نـفــســــه :ص147
  21. نـــفـــســـه : ص 281
  22. نــــفــســـــه :ص 285
  23. نـــفـــــســـه : ص 9