الى أي حد إستطاعت الأفلام الوثائقية الجديدة القادمة من أنحاء العالم، من لبنان وفلسطين ومصر وغيرها، والتي شاهدتها حديثا في مهرجان "الشاشات الوثائقية" 22 في باريس، أن تعكس إتجاهات الفكر المعاصر للسينما الوثائقية، وتعرض لأبرز تياراته "الحداثية" الجديدة، وهي تجدد في "النوع" الوثائقي، وتطوره، وتتقدم به خطوة .. الى الأمام؟
عرض المهرجان من تنظيم جمعية سينمائية صغيرة في ضاحية أركوى كاشان في باريس في دورته 22 أكثر من 60 فيلما وثائقيا، توزعت على عدة محاور في المهرجان. محور المسابقة، بمشاركة 8 أفلام، ومحور"السينما هي وطني" لتكريم بعض السينمائيين الكبار من أمثال الفرنسي "كريس ماركر" أحد أبرز المخرجين التسجيليين في العالم، ومحور "العرض الأول" الذي تعرض فيه بعض الأفلام الوثائقية الجديدة التي لم تخرج بعد للعرض التجاري. وكان من بين تلك الأفلام التي عرضت في المحور الثالث، وأثارت انتباهنا بشكل خاص فيلم أمل AMAL وثائقي طويل 83 دقيقة لمخرج مصري شاب اسمه محمد صيام، ظل يصور فيلمه لفترة تزيد على 7 سنوات.
ويتميز الفيلم بـ "حميميته" الفائقة التي تشكل في رأيي أحد إتجاهات "حداثة Modernity" السينما الوثائقية المعاصرة، والتي تتوزع كما فهمتها وهضمتها من خلال مشاهداتي في العديد من المهرجانات السينمائية الدولية، وبما في ذلك الأفلام التي عرضها المهرجان أيضا .. وتتوزع على 3 محاور أو تيارات: محور أو تيار" الحميمية"، كما أحب أن أطلق عليه، الذي يهتم في السينما الوثائقية الجديدة بالانسان، ويغوص أكثر في سيكولوجيا "الداخل"، فيعرض لما هو أشبه بـ "السيرة الذاتية" لشخص أو مواطن ما، لكن على خلفية سياسية واجتماعية، تجعل من الفيلم، في كليته الشمولية، أكثر من تأمل في ألم شخص، أو أنثي، أو "نوع"، بل تأمل في أكثر من ذلك، تأمل في ألم شعب بأكمله، سرقت منه ثورته، وأطاحت بحلمه في التغيير. ويبرز في هذا المحور الحميمي فيلم "أمل" لمحمد صيام عن جدارة، ويصبح مثيرا للشجن والجدل، وأكثر؛ يصبح "أداة تفكير" تتحقق معه وظيفة السينما الأساسية، لأنه يقدم من خلال الحميمية والألفة، التي تجعلنا نتماهى مع بطلته، يقدم كشف حساب لما حدث في مصر، منذ قيام ثورة 25 يناير 2011 ولحد الآن، والأحداث الكبرى التي عصفت بالبلاد، ويشرح ومن دون أن يقصد كيف أكلت الثورة أولادها، وهويطرح سؤال "الهوية" .. بدقة وأناة وصبر.
أما المحور الثاني، فهو محور "الفيلم كتجربة شعورية وحسية" ويهتم أصحاب هذا التيار بأن يتحول الفيلم كله الى "دفقة شعورية وجمالية كبيرة" تهزنا وتذهب الى ما هو أبعد وأقوي من قصة الفيلم وموضوعه وحبكته. ويبرز في هذا الإطار، ويمثل هذا التيار الحسي هنا ضمن الأفلام التي عرضها المهرجان في دورته 22 فيلم "بوروكو غامض" الرائع للمخرجة اليونانية إيفنجيليا كرانيوتي التي سحرتنا بفيلمها OBSCURO BARROCO الذي يبحث في "هوية" الثقافة البرازيلية المتعددة الاثنيات والأعراق والثقافات، ومدينة ريو دي جانيرو، والغابة الاستوائية الامازونية، ويترك الكلام لفنانة برازيلية مثلية إمراة في جسد رجل تحكي ن علاقتها بجسدها والمدينة البرازيلية العملاقة، ويلتقط امتدادات فن الباروك الذي نشأ في البرتغال وهو يزرعنا في قلب كرنفال ريو دي جانيرو الصاخب. ليكون الفيلم في شموليته الفنية، أشبه مايكون بطقس روحاني، بشريط صوت رائع، يجعلنا نغوص في داخل تلك الثقافة البرازيلية التي تلطشنا فيما وراء القناع الخارجي بعنفوانها وسحرها. وحسنا فعل المهرجان عندما دعا إيفانجيليا للقاء خاص مع الجمهور تحكي فيه عن تجربتها وتعدد مواهبهاالابداعية، حيث تشتغل على عدة فنون في السينما والفيديو والفوتوغرافيا في أن.
أما المحور الثالث فهو محور "دعنا ننسي "الواقع" ونحلم بـ " عالم افتراضي"! دعونا نصور واقعا افتراضيا ونجعله ممكنا. فلسطين بلد من الكلمات في فيلم ماتييس بوب، كيف تتخيل فلسطين التي لم ترها قط من قبل في حياتك؟ ونصور الجنة التي نحلم بها، فماذا لو تحررت فلسطين مثلا، وسُمح لنا نحن سكان معسكر شاتيلا في لبنان من اللاجئين بالعودة الى وطننا، كيف ستكون فلسطين هذه إذن التي لم نرها قط في حياتنا؟ وهذا ما يأتي على لسان الشباب الفلسطيني الذي ولد في الغربة وداخل المعسكر في فيلم "وطننا بلد من كلام Ours Is a Country of Words" للمخرج الفرنسي ماتياس بوب، وهذا التيار هو دعوة لتحرير الخيال في السينما الوثائقية، والتخلص إن صح التعبير صح التعبير من قيود الجاذبية الأرضية.
يبرز فيلم Amal "أمل" على مستوى تيار "الحميمية" ببساطته ومصداقيته، وتميزه الفني، حين يروح يحكي لنا ببراءة، حكاية بنت مصرية غريبة وعفريتة وذكية، ومتمردة وثورية، ولايتعدى عمرها الـ 13 ربيعا، ومع ذلك فهي تتصرف بحريتها، فتدخن مثل الكبار البالغين، وتشارك في الاعتصامات والمظاهرات، وتلعب الكرة مع الصبيان في الشارع، وتتعرض للضرب وشد شعرها، وجرجرتها من قبل الشرطة في قلب المظاهرات، ولا يعلم أحد لماذا تتصرف بحريتها كما لو كانت غلاما أو صبي، هكذا يراها الفكر السلطوي الرجولي المتخلف الذي يريد إخراس الألسنة، حيث لا يليق بفتاة في مثل عمرها، وجنس النساء عموما، أن يتصرفن بحرية، في مجتمعات خلقت أصلا للرجال والهيمنة الذكورية.
لكن أمل تأسرنا بشقاوتها، وخفة دمها، وتوحشها الفطري، وثورتها على أوضاع الخضوع والخنوع، وبمرور الوقت، ونحن نتابع أحدث الفيلم، نرى أمل تكبر حتى تصير شابة عمرها 21 سنة، وتدخل أمل ونحن نتابعها سنة وراء سنة، تدخل في عملية تحول، وتصبح بكيمياء الفن المدهش، وبراعة المخرج محمد صيام، رمزا للحرية، والرغبة في التغيير. تنحاز أمل في الفيلم الى "وصية" الأب الذي يمثل في الفيلم تيار الحرية، حيث يعي الأب أيضا في الفيلم، أن أمل سوف تستفيد مستقبلا من الأفلام التي يصنعها لها الأب في عيد ميلادها، وتبرز هنا "قيمة" السينما في حياتنا، حين تحافظ تلك الأفلام لأمل على تاريخها وذاكرتها، وتحميهما من الضياع والاندثار، وهل يمكن أن يستشرف المرء المستقبل، إلا من خلال بعث الماضي، في كل لحظة، والتعلم من دروسه؟ في حين تمثل أم أمل "في الفيلم" التيار البرجوازي المحافظ الرجعي، الذي يخاف من مشاركة ابنائه في المظاهرات، بل ولايريد، فليس من مصلحته طبقيا تغيير الأوضاع، واعلان التمرد والحرب على الظلم والفساد وجبروت السلطة، وتشجيع الشباب في ثورتهم الشعبية على أوضاع البلد المتردية، بعد أكثر من ثلاثين سنة من حكم الرئيس مبارك البوليسي العسكري الاستبدادي.
فيلم "أمل" يقدم نموذجا وثائقيا متقدما للسينما الوثائقية في علاقتها بالتاريخ والذاكرة، حين يجعل من التحديق في مصير بنت مصرية شابة، فرصة ثمينة، حتى لو لم تكن تخطر على بال صاحب الفيلم، المخرج ذاته، وبوعي منه أو بدون وعي، لتقديم كشف حساب، ربما يجده البعض صادما ومريرا، لثورة 25 يناير المصرية. لكن يقينا هو كشف حساب متأمل وذكي، ولاتنقصه "المصداقية" والتميز والإجادة، كشف حساب يحافظ على ذاكرتنا وتلك الفضائل العظيمة التي يفاخر بها الإنسان من الاندثار والضياع، وآفة حارتنا كما يقول نجيب محفوظ "النسيان"، وهو يقربنا أكثر من إنسانيتنا.
فيلم " أمل " الذي منعت السلطات والرقابة عرضه في بلده مصر، شارك في مهرجان "الشاشات" الوثائقية 22 في الفترة من 7 الى 13 نوفمبر، وحضر مخرج الفيلم محمد صيام المهرجان، قادما من تونس، ليبلغنا بالنبأ السعيد، الا وهو فوز فيلمه بجائزة "التانيت الذهبي" لأحسن فيلم وثائقي في مسابقة مهرجان قرطاج الأخير، والتي استحقها فيلمه عن جدارة. وربما لكل تلك الأسباب التي ذكرناها أنفا، وجعلته في رأيي من أفضل انتاجات السينما الوثائقية في الخمس سنوات الأخيرة في مصر، ويستحق بتميزه الفكري والفني المشاهدة وعن جدارة. فترقبوه.
**
المفكرة السينمائية
تكريم يوسف شاهين في السينماتيك الفرنسي
ينظم السينماتيك الفرنسي "LA CINEMTHEQUE FRANCAISE" أرشيف الأفلام الشهير الذي تأسس على يد هنري لانجلوا عام 1936 والواقع في الدائرة 12 حي بيرسي في العاصمة الفرنسية باريس، ينظم تظاهرة تكريمية احتفالية كبيرة للمخرج المصري والعربي العالمي الكبير يوسف شاهين، الذي أستطاع أن يطبع التراث السينمائي المصري العريق بطابعه، في أكثر من أربعين فيلما وخمسين سنة سينما، وأن يضع عليه بصمته السينمائية العالمية. يشتمل "التكريم" الذي يقام بمناسبة مرور عشر سنوات على وفاة شاهين، وينظم في الفترة من 14 نوفمبر 2018 الى 28 يوليو 2019 ، ويستمر لفترة 9 شهور على عدة محاور، من ضمنها عرض مجموعة كبيرة من أفلامه المرممة حديثا، أكثر من 12 فيلم، من بينها رائعته "باب الحديد"، و"وداعا بونابرت" و "اسكندرية ليه" و"صلاح الدين" و"المصير" و"فجر يوم جديد" وغيرها. كما يشتمل على إقامة معرض لأثاره، من مقتنيات أسرة شاهين الخاصة، وأيضا من مقتنيات أرشيف الفيلم الفرنسي "السينماتيك" ذاته، كان هنري لانجلوا مؤسس السينماتيك، يحتفظ بها عنده، بتكليف من شاهين.
كما تنظم ندوة للحديث عن سينما شاهين والاضافات الفنية والفكرية التي حققها بأفلامه، ليس فقط على مستوى السينما المصرية، بل على مستوى التراث السينمائي العالمي ذاته. فقد كان شاهين كما جاء في النشرة التي أصدرها السينماتيك عنه بمناسبة تكريمه "يقف عند تقاطع الثقافات الشرقية والغربية، وقدم من خلال أفلامه سينما شجاعة وملتزمة، ضمها بعضا من ذكرياته، وحالاته المزاجية، وعوالمه الشخصية، فجعل سينماه تصبح صوتا للشرق والعالم العربي والعالم الثالث، وتحقق معادلة السينما الصعبة، في التوفيق بين متعة "الترفيه" ومتعة التثقيف والفن. شاهين الذي جمع بين كل المتناقضات في حياته وأفلامه، أحب الغرب، لكنه فضح الامبريالية والاستعمار في أفلامه، وهاجم الجماعات الاسلامية المتطرفة، ودافع عن الإسلام.
عارض شاهين تأميمات الزعيم جمال عبد الناصر، وهاجم حكم الرئيس مبارك، وظل طوال الوقت محافظا على روحه السينمائية المقاتلة، ونجح من خلال 40 فيلما و50 سنة سينما، أن يكون صوتا للحب، والتسامح، والدفاع عن الضعفاء. وقد دعت ادارة السينماتيك الفرنسي الذي يترأسه المخرج الفرنسي الكبير كوستا جافراس أسرة شاهين ومجموعة كبيرة من نجوم أفلامه مثل يسرا ولبلبة ومحمود حميدة لحضور حفل تدشين موسم تكريم المخرج العالمي الكبير في أهم وأعظم مؤسسة سينمائية في البلاد، كما يحضر الحفل أيضا، مجموعة كبيرة من نجوم السينما الفرنسية.