يميل النقد المنشغل بالمتن الأدبي العربي إلى الجنس السردي، ويميل من بين أنواعه إلى الرواية أكثر، كما لو أن الجميع بات يسلم الآن "أنها ديوان العرب الحديث" (سعيد يقطين، قضايا الرواية العربية الجديدة). ويستهلك الجهد الأكبر في البحث عما تقوله الرواية، وفي كثير من الأحيان قد يقوّلها ما لا تقول، تحت ذريعة اقتناص المعنى المتفلت أو المتواري.
لاشك أن الرواية تقيم علاقة أو علاقات مع لحظتها التاريخية والواقعية التي تولد في أحضانها، فلا أحد يستطيع أن ينكر علاقة الأدب ببيئته أو بيئاته حتى إذا لم يتمكن له أن يثبتها، وحتى أكثر النظريات تطرفا في إقصاء خارج-النصي لا تنكر وجوده، بل ترفض إقامة دعائم تحليل أو تأويل على أساسه لا أكثر. فالعالم الذي تبنيه الرواية وعلاقته بالواقع المعيش للروائي هو جوهر العمل الروائي، ولكنه ليس معطى جاهزا، بل إنه مبني على أساس العلاقات التي حاكها الكاتب لتسريد معطيات الواقع وحبكها وفق منظوره الخاص، فشكل العلاقات الذي يخلقه الكاتب، ماهو إلا مسلك إلى إنتاج المعنى، فالعلاقة أو العلاقات لولب محوري في دواليب تشكل المعنى الروائي.
ومعلوم أن جوهر العمل الروائي، إشكال طرح على مدى عقود تتالت؛ أهو عمل تخييلي أم خيالي أم انعكاسي أم تجريبي؟ وفي جميع الأحوال، لابد أن نجد للواقع حضورا – رمزيا أو واقعيا أو واقعيا فجا- في العالم الروائي. ومعلوم كذلك "أن مخلوقات الروائي في أي رواية تظل مثل أنصاف الآلهة في الأساطير الإغريقية. نصف منها مرجعي والنصف الآخر متخيل" (محمد أمنصور، خرائط التجريب الروائي). وهنا تكمن قيمة القراءة النقدية؛ إنها تنظر إلى تصرف الروائي لجعله ملائما لمقاس قصديته، فليس المعنى المتحصل نقديا إلا الوجه الثاني لقصدية محيّنة روائيا في النهاية، أو على الأقل هذا ما ينبغي أن تكون عليه.
إن الواقع من هذا المنظور، ليس مجرد مهد حاضن لأحداث وشخصيات. إنه نسق من السجلات المختلفة: الانثروبولوجية، النفسية، الاقتصادية، العرقية، القيمية. وإن منطق العلاقات التي تنظمه ليس ظاهرا للعيان، بل باطن خفي. والرواية لا تكتفي بتقديم العالم كما يظهر في الواقع. فذلك شغل الحرفي، بل إنها تستبطن الباطن وتصعده حتى يعود مرئيا (التشخيص)، لتكشف المنطق الذي من أشغال القراءة النقدية البحث في طبيعته ونظامه.
لذلك ينبغي للقراءة النقدية أن تبحث -عن المعنى- في مستوى تال، في منطق التنظيم العميق الذي تقيمه الرواية لما يبدو سطحيا "وكل عنصر داخل العالم المحسوس هو عنصر داخل ثقافة، وأي استعمال للأشياء وللكائنات هو استعمال ثقافي" (سعيد بنكراد، سميائيات الصورة الإشهارية) يدل من خلال رده الى نص الثقافة الذي ولده، والروائي كالحائك الذي يجمع بين "الفصالة" والخياطة في نفس الآن، إنه يقص ويحدث التمفصلات في الثوب، ثم يقوم بإعادة تركيب القطع وفق تنظيم مغاير، وإلا فسنكون أمام نفس الثوب بنفس الشكل، فما الحاجة إلى الحياكة إذن! فالعلاقات بطبيعة الحال أساس العمل السردي، فما يميز العمل – السردي التخييلي- هو التركيب، أي العلاقات التي يبتدعها المبدع بين شخصياته وأمكنته وأزمنته وأحداثه، فالإجابة عن أسئلة من قبيل؛ كيف نظم الكاتب علاقات مكوناته الروائية داخل الرواية؟ ما هو البرنامج السردي الذي صرف وفقه مقصديته؟ سؤال جوهري في تتبع سيرورة تشكل المعنى وتحصيله.
هكذا، من جهة، فالرواية في استثمارها للواقع إنما تحدث فيه تقطيعا عموديا لكشف بنيته التحتية، ولا تعيد تكريره وإنتاجه، وإلا فستكون حرفة وعملا وليس فنا، ومن تم قدرتها على التحول من بنية بالغة التعقيد والتجريد إلى وجه تشخيصي لها، يكشف حتى القسمات الخفية وغير المرئية لهذه البنية، على شكل معنى "روائي"، وهذا التحويل هو الذي يجب على القراءة النقدية، المنشغلة بالمعنى، تتبع محطاته نحو المعنى الروائي.
ثم من جهة أخرى؛ إن أشكال العلاقات التي يقيمها العالم الروائي بين مختلف مكوناته، وشكل أو أشكال التنظيم العميق التي يتبعها يسهم في بناء المعنى المخصوص. فالمكونات عامة ومشتركة بينما العلائق خاصة، والكاتب يبحث لعمله على الخصوصية والتفرد والأصالة كي لا يكون نسخة لغيره من الأعمال، فالنسخ لا موقع لها لأنها سرعان ما تتلاشى بين باقي النسخ، ووحده الأصيل ما يضمن خلوده، وتنظيم المكونات بشكل معين من العلاقات، هو المسار الذي يلتقط منه المعنى جزءا منه ويذر آخر، في كل محطة، حتى ينتهي إلى ماهو عليه، من خصوصية، في نهاية المسار السردي.
إن الرواية لا تنفصم عن عوامل الواقع الذي تولد فيه، بل تنتقل من المعطى العام (النماذج والخطاطات) وتحوله إلى شكل من أشكال التحقق الخاصة (التشخيص والتمثيل) لإنتاج المعنى والتعرف عليه، "وهو انتقال لا يشير الى قطيعة بين العالمين، بل يؤكد الروابط الوثيقة بينهما، فعناصر العوالم الثانية مستمدة بالضرورة مما يتيحه الواقع لذلك لا يمكن تصور عالم تخييلي يعج بكائنات وأحداث لا نعرف عنها شيئا" (سعيد بنكراد) وإلا لما تمكن للمعنى أن يُتداول ويُتشكل، في سيرورة -متواضع عليها ثقافيا- بين المبدع والنص والمتلقي!
والقارئ الهاوي يلمس ضربا من التناظر بين العالم التخييلي للرواية والعالم الواقعي للروائي. بل يصدر ضربا من الحكم المتيقن أن هاته الرواية أو تلك، تقول الحقيقة، تطابق الواقع، تميط اللثام عن المستور. وما إلى ذلك من الأحكام التي تشف عن إدراكه الحدسي المباشر لمعنى الرواية. ولذلك، فإن الناقد -عكس الهاوي- ينبغي أن يشتغل على طرائق استثمار الرواية للواقع الذي تشكلت في رحمه، لأن الكاتب ينتقي عناصره من فسيفساء الواقع وينظمها بطرائق معينة، وعندما نتحدث عن هذه الطرائق لا نقف عند حدود التوظيف الواعي، بل نتجاوزه إلى دائرة الاستعمال غير الواعي لمعطيات النسق وسننه الثقافي، المساهِمة في تشكل معنى المقروء. وعليه، فاستثمار الواقع الثقافي بكل فسيفسائه في العمل الروائي، يعني تقطيع الواقع الثقافي واجتراح المكونات منه لبناء النص، فالواقعة النصية لا تدل من خلال كليتها إنها تخبئ أسرارها في جزئياتها وتفاصيلها وعلاقاتها غير المرئية، وانتقاء هذه الشخصية بهاته الصفات، وتلك الشخصية بتلك الصفات، وهذا الحي دون ذاك، وفي هاته اللحظة التاريخية دونما سواها. هو ما يبني العالم الروائي ويميزه، وينتج معناه.
وبناء المعنى الروائي، هو طرائق تنظيم هذه العناصر، من خلال طبيعة العلاقات التي يقيمها الكاتب بينها، فالعناصر قد تكون ذاتها في هذه الرواية وتلك، لكن التنظيم الذي يتبعه الروائي والعلاقات التي ينتقيها لشخصياته وأحداثه وفضاءاته هو ما يعد "سمات مميزة" لعمله الروائي أولا، ثم هو ما يبني معناه ثانيا. استنادا إلى ما قيل، فإن قراءة العمل الروائي النقدية، لا ينبغي لها أن تشير على القراء بمعنى يتيم، يأخذ بتلابيبه القارئ بسذاجة، بل يجب أن تحيله على المعابر والمسالك التي درج منها المعنى، وكل محطة ترك فيها عربة من عرباته أو أضاف أخرى، وكل الإجراءات التي خضع لها في طريقه، قبل أن يصعد المنصة أمام الجمهور، أو تسلط عليه الأضواء في منتهى كماله، حتى يستمتع القارئ متعة مزدوجة؛ بالنص الروائي وبنقده، وبالمعنى المتحصل، وسيرورة تشكله وتحصيله.