الناقد السينمائي العراقي علاء المفرجي في كتابه الموسوم “أفلام السيرة الذاتية … تصوير المشاهير من زوايا مختلفة” الصادر عن دار المدى 2017 اختار أن يتناول حقلا مهما في الإنتاج السينمائي كانت هوليوود قد بدأت في استثماره منذ ثلاثينات القرن الماضي. ولأجل تقصي البدايات الأولى مع انطلاق الفن السابع يعود المفرجي إلى الوراء حيث يتوقف عند بواكير الفن السينمائي باحثا بين مئات العناوين التي أنتجت في تاريخ السينما عن نماذج سينمائية تندرج في سياق أفلام السيرة الذاتية، ليصل إلى نتيجة مفادها أنها كانت موجودة منذ الأيام الأولى للسينما الصامتة في أفلام مثل “جان دارك” عام 1899 لصانع الأفلام الفرنسي متعدد المواهب جورج ميليه، وفيلم “جوان المرأة” لسيسيل ب.ديميل، والملحمة الدينية “جوديث البتولية” عام 1914 لغريفث، والفيلم الملحمي الفرنسي “نابليون” الذي كتبه وأنتجه وأخرجه آبل غانس عام 1927 و”جيسي جيمس” عام 1927 لأنغراهام.
أسباب النجاح
وفي سياق بحثه عن الأسباب الواقعية التي كانت تقف وراء استمرار إنتاج أفلام السير الذاتية خلال عمر السينما الذي بدأ مع نهاية القرن التاسع عشر، يتوصل المفرجي إلى أن الاهتمام الواسع لجمهور السينما كان سببا رئيسيا في ذلك، وهنا يؤكد في مقدمة كتابه على نقطة مهمة تتعلق بنمط التفكير الأمريكي البراغماتي إزاء الإنتاج السينمائي يشير فيها إلى أن بداية هذا النوع من الأفلام كانت بمثابة جس نبض لذائقة الجمهور الذي تابعها وأقبل عليها وبالتالي باتت تنافس بقية الأنواع على جوائز السينما.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول، حيث تناول الفصل الأول معنى أفلام السيرة، والسيرة في الأفلام العربية، ونظرة عامة إلى أهم أفلام السيرة التي أنتجتها السينما، والجوائز التي حصلت عليها. أما الفصل الثاني فقد توقف عند نماذج مهمة لأفلام حديثة الإنتاج، تقع ضمن أفلام السيرة، أما الفصل الثالث فقد استعرض أبرز المخرجين الذين كان لهم حضور في تقديم أفلام هذا النوع مثل: الكسندر سوكوروف، ومارتن سكورسيزي، واوليفر ستون، ويوسف شاهين.
شخصيات أكثر حضورا
يؤكد المفرجي بأن شخصية الامبراطور نابليون بونابارت كانت الأكثر حضورا واستعادة على الشاشة، ويستعين المؤلف تعبير الناقد الفرنسي اندريه بازان في معرض تعليقه على الأفلام التي تتناول سير الشخصيات التاريخية حيث يشير فيها إلى أن عظمة البطل تكون “مشيئة” بمعنى أنها ذات صلة بكشف التاريخ. ويرى بازان بأن المنظور المادي الديالكتيكي يدافع عن البعد الإنساني في البطل، بخلاف المثال الرأسمالي المجّسد بأفضل صورة بأسطورة “النجم”. وهنا يختار المفرجي مثالا على ذلك فيلم الممثل والمخرج الأمريكي كلينت ايستوود “جي أدغار” حيث تظهر فيه هذه الشخصية التي أثرت في تاريخ الولايات المتحدة على مدى أربعة عقود بصورة “النجم”. ويضيف موضحا ذلك بأن الفيلم مثلا لم يتطرق بشكل كاف إلى الميول الجنسية المثليّة لهوفر، كما لم يوح بأن امبراطوريته المجسيّة كانت إمارة على الكبت الجنسي، ثمة حياد غريب في الفيلم، وكأن كاتب السيناريو والمخرج صاغا شخصية هوفر من الزاوية التي أعجب كل منهما به، وتأثير هوفر على أمريكا تم تجاهله، وهو الذي عاصر أخطر وأسوأ مرحلة من تاريخها.
يرصد المؤلف في إطار بحثه عن النماذج التي كرستها السينما فيورد أسماء شخصيات أخرى دائما كانت تعود بين فترة وأخرى على الشاشة مثل الرئيس الأمريكي ابراهام لنكولن، المسيح، فلاديمير ايلتش لينين، ادولف هتلر، كيلوباترا، الملكة فكتوريا، هنري الثامن، والملكة اليزابيث. كما يلاحظ أيضا بأن السينما الأمريكية قد وجدت في عدد من الشخصيات الأخرى التي تنتمي إلى طبقات اجتماعية مختلفة، مادة صالحة للتصوير والحضور في الذاكرة السينمائية لأكثر من مرة مثل بوني وكلايد، وليم فريدريك بافالوبيل، بيلي ذي كيد، جيسي جيمس، وايلد بيل هيكوك، والجنرال كاستر. وفي قراءته لموضوعة السيرة الذاتية يجد المفرجي رأيه على توافق مع رأي كريستيان ميتز منظِّر السينما، إذ يقول: “السيرة هي تاريخ، والتاريخ خطاب مقنَّع، يطمس إشارات إيضاحه ويتنكر بشكل قصة”.
السيرة والجوائز
وفي إطار متابعته للمهرجانات السينمائية والجوائز التي تمنحها يتطرق الكتاب إلى الممثلين والممثلات الذين فازوا بجائزة الأوسكار عن أدائهم في أفلام السير الذاتية مثل جيمس كاغني في دور جورج كوهان في فيلم “يانكي دودل داندي” عام 1942 وجورج سكوت عن دور الجنرال باتون في فيلم “باتون” عام 1970 وكاثرين هيبورن في دور الملكة الينور اكويتين زوجة الملك هنري الثاني في فيلم “الأسد في الشتاء” عام 1968 وسيسي سباسيك في دور المغنية الريفية لوريتا لين في فيلم “ابنة عامل منجم الفحم” عام 1980 ودانييل دي لويس في دور ضحية الشلل الدماغي الايرلندية كريستي براون في فيلم “قدمي اليسرى” عام 1989 وبين كنغسلس في دور غاندي، الزعيم الروحي الهندي في فيلم “غاندي” للمخرج ريتشارد ايتنبورو. كما يقدم الكتاب احصائية نسبية تشير إلى ان أفلام السيرالذاتية قد استحوذت على نسبة عالية من جوائز الأوسكار، فمن بين 89 دورة لمسابقة الأوسكار كانت جائزة أفضل ممثل من نصيب 35 فيلما تناولت سيرة شخصية ما، بدءا من فيلم “ديزرائيلي” عام 1929 الذي جسد فيه الممثل جورج ارلس شخصية بنجامين دزرائيلي رئيس وزراء بريطانيا لمرتين، وانتهاء بفيلم “نظرية كل شيء” الذي أنتج عام 2014 والذي جسد فيه الممثل ايدي ريدمان شخصية العالم الفيزيائي الانكليزي ستيفن هوكينغ. وفي موضوعة الجوائز هناك إشارة إلى مفارقة كان بطلها الممثل دانيال دي لويس الذي نال ثلاث جوائز أوسكار كأفضل ممثل كانت جميعها عن تجسيده أدوارا في أفلام تتناول السير الذاتية لشخصيات معروفة، وهذه الأفلام هي: “قدمي اليسرى، سيكون هناك دم، نظرية كل شيء”. وعلى مدى 90 عاما من عمر المسابقة استطاع 34 فيلما تناول السيرة الذاتية من انتزاع جائزة الأوسكار لأفضل فيلم.
نماذج الأفلام
أما عن أفلام السيرة التي اختارها المؤلف لتكون مادة نقدية يلتقط من خلالها القارئ المدى الواسع الذي تتيحه لمخرجيها في التعبير عن أفكارهم وأساليبهم إلا ان جهده قد انحصر في مجموعة من الأفلام التي أنتجت خلال العقد الأخير من القرن الواحد والعشرين، وبهذا الخصوص يوضح المفرجي بأنه لم يتوسع في قراءته ليحيط بكل ما تم إنتاجه من أفلام السيرة الذاتية لأن هذه المهمة تحتاج إلى أكثر من كتاب. وبناء على ذلك جاءت اختياراته نوعية تتوافق مع هذا الشكل الفني، لأن أفلام السيرة وحسب وجهة نظره قد اختلفت في ما بينها بطريقة تناول هذه الشخصية أو تلك، وقد توزعت ما بين السيرة النمطية التقليدية والسيرة التي تقتطع جانبا من التاريخ الشخصي وتنسج عليه حكاية البطل أو الارتكاز على حكاية شخصيات تربطها بالشخصية موضع السيرة علاقة ما.
أساليب التناول
أما عن الجانب الأسلوبي الخاص بكل مخرج عندما يتناول سيرة ذاتية، فمن المؤكد ان التنوع والاختلاف سيكون حاضرا، وبهذا الصدد يقول إنَّ “المخرجين لهم مذاهب شتى في تناولهم السيرة الذاتية، وقد أزالوا التشابك من السمات الأساسية للسيرة، فصاروا يطالبون المؤرخ بحقيقة مطهرة من كل انفعال، لدرجة نعتقد أننا نجد هذه الحقيقة في السمات المتغيرة للشخصية المعقدة، وينبغي ان نمضي في التحري عمَّا إذا كان ممكنا التوفيق بين هذين الطلبين، فالعناية بالحقيقة تستلزم عدة كاملة من الوثائق، أليس ثمة خطر من ان تدفن الشخصية تحت مثل هذا الجبل؟”.
الحديث عن أفلام السيرة ودراستها باعتبارها ظاهرة فنية تملك فعاليتها وحضورها المؤثر لدى جماهير السينما، ويصل المفرجي في مسار سعيه لتحليلها إلى أنها ترتبط للوهلة الأولى بذاكرة العديد من المتلقين بشخصيات عامة، لها حضور مؤثر في ميدان ما، كأن تكون شخصية سياسية أو أدبية أو قائد عسكري أو ملحن أو شخصية دينية، إلاَّ ان الشاشة الكبيرة لم تتوقف عند هذه النماذج ولطالما مررَّت الكثير من الشخصيات الأخرى، منها ما كان لها علاقة بعالم الإجرام، فتناولت سيرتهم كما هو الحال على سبيل المثال مع سيرة دون كورليوني زعيم المافيا الايطالية الشهير في فيلم “العراب” للمخرج فرانسيس فورد كابولا، ويضيف المفرجي موضحا الإطار الفني لمثل هذه الأفلام فيؤكد على أن الكثير منها قد اقتربت من الإحاطة بالأحداث العامة التي كانت تحيط بالشخصية الرئيسية عند صعودها إلى الشهرة أو المجد، وأن المخرجين يفضلون التركيز على مشاهد تبرز العلاقات العاطفية، أما عن نقطة البداية التي ينطلق منها المخرجون في تقديم شخصياتهم، فيشير إلى أن الأمر هنا يختلف من مخرج إلى آخر، فالبعض يبدأ من طفولة الشخصية وآخر ينطلق من انجازاتها بعد بلوغها.
السينما العربية
يستعرض المفرجي أيضا موضوعة أفلام السيرة الذاتية في السينما العربية ويصل إلى نتيجة مفادها بأنها لم تأخذ الحيز الذي تستحق معللا ذلك باصطدامها بالجانب الاجتماعي والسياسي وخضوعها للرقابة، بالوقت نفسه يسجل على الكثير من أفلام السيرة التي تم إنتاجها أنها غالبا ما قدمت الشخصية خارقة للعادة وتقترب من الاسطورة ولا تعاني من أي نقص في سيرتها، وبهذا الجانب يختار المؤلف نماذج من الأفلام التي قدمتها السينما المصرية مثل الفيلم الذي تناول حياة جمال عبد الناصر، وآخر عن حياة السادات وعبد الحليم حافظ، والسمة المشتركة التي يسجلها ضد هذه الأفلام أنها كانت تنحو نحو الكمال في تقديمها للشخصية التي تطرحها وهذا ما يجعلها منافية للسيرة الحقيقية ونقل جوانب أخرى لكنها لا تتلاءم مع نهج صانعيها، فتكون الشخصية بعيدة عن حقيقتها وبالتالي تفسد روح التشويق والمشاهدة.
علاء المفرجي: “أفلام السيرة الذاتية…تصوير المشاهير من زوايا مختلفة”
دار المدى، بغداد 2017
142 صفحة.
جريدة القدس العربي