لا يعدو الأدب منطق الصفقة، التي تجمع اثنين في عقد، قارئ ومتلقٍّ، مبدع ومستمع، شروطها الإمتاع والانسجام والإحساس بالوجع، ويُقاس الشاعر الحقيقي بقدرته على الإيفاء بشروط هذه الصفقة، وحسن تسليم بضاعته الأدبية، مجمِّلًا إياها بالصوت واللون والحركة.
قرأتُ ديوان (مساكين يعملون في البحر) وكان أوَّل ما لفتَني، ولم أكُنْ التقيتُ شاعرنَا وقتها، هو ذلك التناصُّ القرآني الذي استحسنتُه في وصف أناسٍ من لحم ودم، هم طينة مجتمعاتنا، وأعجبني التعبير عنهم بـ(المساكين)، لا الفقراء ولا المعوزين، إذ إنها كلمة تجمع إلى صفات الفقر المادي، الفقرَ المعنوي والتسليم النفسي والمذلة. كما صفَّقتُ طربًا لهذه اللمحة الذكية التي تجعَلُ من مجتمعاتِنا أمواجًا متلاطمةً، لا سيَّما مع متغيراتها، وتحولاتها الكبرى، التي ينعكس أثرها على الإنسان الذي هو المادّة الخام الأولية التي تتشكل منها خلايا هذا الجسد.
إن اختيار العنوان لا يعكس ثقافةً دينيةً قرآنيةً فحسب، ولا هو دلالة على تعمُّقٍ وشاعريةٍ، وإنما هو - بالإضافة إلى النقطتين السابقتين - توطئةٌ للحديثِ المجتمعيِّ عن المهمَّشين والكادحين، وإشارة إلى انبنائه، بادئ ذي بدء، على أرواح الضائعين الغائبين الواقفين على مسافة واحدة يتساوى فيها الموت مع قيمة الحياة.
بل إن المتتبِّع لقصَّة الخضر وموسى في القرآن الكريم، يعرف أن هؤلاء المساكين قد خُرق مركبهم، الوحيد، لكي يبقى عطبه تمييزًا له عن غيره من المراكب، مما حفظه من براثن غاصب، كأن الشاعر يرى من جنايات هؤلاء وبشريَّتهم ثغرة مميزة، وعلامة دالَّة يمكن عن طريق التوسل بها فتح الآفاق لإبداعهم واتحادهم.
قلتُ من قبل وأقولها ثانية:
قرأتُ هذا الديوان قراءةً متأنيةً هادئة، فوجدتُ فيه عددًا من السمات التي يمكن إدراجها تحت عناوين فرعية تتصل جميعها بحقل التجديدِ، ليس ذلك التجديد الذي يضحِّي بالروح الشاعرة مقابل أن يجد متكأ لكي يختطف الريادة الاسمية على شكل أو قالب لا عن مضمون مغاير، ولا هو ذلك التجديد الذي يتباين مع القديم ويدابره، يقاطعه ويدير ظهره إليه، وإنما هو ذلك التجديد الذي يعرف التوازن، والانصياع للروح المبدعة، وتسليم الذات لها، وإن كان تسليمًا مشروطًا يتكئ على جودة المخرجات، وملاءمتها للمقاصد التي أرادها الشاعر من جهة، ويُطرِب بها السامعين من جهة أخرى، إيمانًا بأن القصيدة هي فنٌّ مسموع في البدء.
ويمكن تلخيص هذه السمات في عدد من المتناقضات التي لا تجتمع عادة في نصٍّ شعريٍّ واحد، وإنما استطاع الشاعر أن يجدلها في نصه دون إرباك، وهي:
أولًا: الذاتية العامة
يختلط الذاتي والعام عند الشاعر، بما لا يمكن معه الاطمئنان إلى محاولة الفصل بينهما.. وأعني بتلك الذاتية التي تبدأ عند الشاعر بنفسه ولا تنتهي عند الآخر، ويمكن أن تضمَّ تحت لوائها جميع المشترك الإنساني في لحظة فارقة، يقول عبد الرحمن مقلد:
كلما جَدَّفْتُ في مَاءِ البُحيرةِ
صرتُ أكثرَ خبرةً
وأنا الطبيبُ البيطَرِيُّ
يسيرُ فى طُرُقٍ مَترّبةٍ
ويَحمِلُ قلبَه وحَقيبةً
وأنا الكثيرُ الصمْتِ
يركبُ وحدَه دَراجةً
وأنا الحَزينُ عليَّ
والعَرَّافُ بالحَيوانِ
أفقَهُ ما يُحِسُّ بِهِ
أنامُ الآنَ
ما من مَوضع إلا بِهِ
أثَرٌ لجُرْحٍ أو عَلامةُ رَفْسَةٍ لبَهيمةٍ
إن صديقي الشاعر على حدِّ علمي به تخرَّج في كلية دار العلوم، فماذا يقصِدُ بوصف نفسِه بالطبيب البيطري وبالعرَّاف بالحيوان، سوى أنه لبس جِلْدَ أبيه، واتحد صوتاهما؛ صوت الشاعر المبدع وصوت الأب المتحدث عن نفسه.. عينا الشاعر مع عيني الأب، وقلب الأب في جسد الشاعرِ أمانةً، يعود إلى البيت شاعرًا بأوجاع الحيوانات البكماء.
في موضع آخر يقول الشاعر:
لا يَزَالُ هُنالكَ وَقتٌ
لتكتبَ بَعضَ قَصائدِ حُبٍ أَخيرٍ لنا
لا يَزالُ هُنالك وَقتٌ
لتُرْسِلَ أجْسَادَنا خَارجَ الجَاذِبِيةِ
لا يَزَالُ هُنالِك مَوْتَى ستَرْثِيهمُ
وجُنودٌ تُحاصِرُهم حَدقاتُ نساءٍ
وبَعضُ أمانٍ
وأَزْهَارُ غَارٍ تُزيِّنُ أعْنَاقَهم
لا يَزالُ هنا للحَوادِثِ وَقتٌ فَسِيحٌ
حين نعلِّق سؤالًا حول أين موضع الشاعر في هذه القصيدة، لن يمكننا إلا أن نراه مراقبًا، ضمن زمرة هؤلاء الموصوفين؛ فهو نوع من إسباغ الجميع على الذات، وانعكاس الذوات الشاعرة في ذاته الخاصة. إنه صوته الفردي الممتلئ بصرخات ألم المجموع.
ثانيًا: تأريخ المجهول
لقد درجنا على أن التاريخ معارك وقتال، انتصارات وفتوحات، توسعات ميدانية وثورات، لا نجد أن التاريخ أفرد بين صفحاته حيزًا لبائع البسبوسة في مصر المحروسة، أو زواج فتاة فائقة الجمال في مصر الفرعونية، أو رجل عجوز يسعى على خبز كفافه. إن هذه الصورة أسهمت في تأطير التاريخ وانغلاقه إلى حد كبير، ونقصد بتأريخ المجهول ها هنا إعطاء صفة الرسمية على التصرفات الرئيسية وتهميش ما سواها.
في هذا الديوان انبرى الشاعر لتصحيح هذا الخلل التاريخي، حين جعل من ملاحم المهمشين حكايات هذه القصائد ونار مرجلها التي تغلي فتمد بدن القصيدة بالحُمَّى والحركة، فهي ملحمة من تاريخ غير رسمي، غير مكتوب، يُمكِن مشاهدته في حديث أصحاب المركب دون أن يكون في الخلفية صوت النبي. إنها صرخة من رجال بحجم رحَّالة غرباء، يقولون في نشوتهم:
نَامَ على كَومِ قَشٍ
بحُجرةِ رُوحِى الصَغيرةِ
هذا المُسافرُ والشَّاحِبُ الوَجْهِ
هذا النبيُّ الذي تَستقِرُّ على كَتفَيْهِ العَلاماتُ
والمُعْجِزَاتُ تَشبُّ على قَدمَيْهِ
ويقُعُدُ في مقْعَدٍ بجِواري
كأيِّ غَريبٍ يُسافرُ في الليلِ
يَغفو عَلى كَتفِي ثم يَصْحُو
النبىُّ الذى لم نُعِرْهُ انتباهًا
ونحنُ نَسَافِرُ فى الأَرْضِ..
رَحَّالةٌ فُقراءُ..
نُصَلِّى ليتركَنَا الحَظُّ
حتى نَعودَ لأعَشاشِنا..
ونُدققَ في أَوجهِ الأهلِ..
نحفظَ أسماءَ أبنائِنا جيدًا
إنهم يرون النبي نعم، لكنهم لا يتوقفون عنده، ينظرون إليه كأي غريب مسافر في الليل، بل يعلنا صريحة بأنهم لم يعيروه اهتمامًا، تأكيدًا على أن المطلوب هو النظر لهؤلاء الناس الذين هم على الضفة الأخرى من الحكاية، والاحتفاء بالمشردين الذين جاء الديون ليخاطبهم (مساكين يعملون في البحر)، وأن النبي قد أخذ حيزه في القص القرآني، بما يجعل الأدب الشعبي رديفًا من حيث هو يتخيل حكايات هؤلاء المصاحبين للمعجزة.
إن الصوت ها هنا هو صوت من يرى النبي من الخارج، صوت الطرف الأضعف في حلقة التاريخ، هؤلاء المساكين الذين جاء هذا الديوان ليخاطبهم، ويوجه حديثه إليهم، هؤلاء الذين اكتفوا من النبوة بمشاهدتها، ومن المعجزات بالعيش فيها، ومتابعتها، لا يحفظون سوى أسماء أبنائهم.
ومن ذلك أيضًا:
بَعدُ لن يقلبَ اللهُ أيةَ حافلةٍ
يَتكوَّمُ فيها نبيٌّ ببدْءِ رِسالتِه
ويُسافرُ فى الليلِ
لم نَعرفِ الغيبَ بَعدُ
ليُخرِجَ يُمناه بيضاءَ
من غيرِ سوءٍ
ويَمشى على جَانبِ السورِ
يَستمعُ الوحْيَ
حتى تحينَ نِهايته فندقُّ الصليبَ
ولَكِنه لَاذَ بالصَمتِ
أشْبَه بالببغَاءِ الذى فقدَ السمْعَ
حينًا يَرى الناسَ
عبرَ الشبابيكِ تُعمِلُ أفواهَها
فيقلِّدُها بالشفاهِ
التى لا تدلُّ على أى شيءٍ
لذا لم نُعرْهُ انتباهًا
إنه إصرار على تجاهل سيرة النبي الذي هو معادل نفسي للخيط الرئيسي من خيوط التاريخ، والاتجاه السائد من اتجاهات صيرورة الأحداث، والقفز منه إلى البشر عصاتهم وصالحيهم، حتى من دقوا الصليب للنبي هؤلاء الذين لم يكتفوا بتجاهل المصلحين وإنما مدوا إليهم أيدي الأشر والبطر والكفران والإيذاء، حتى هؤلاء أقول جعل الشاعر منهم أحد تلوُّنات حاضر القصيدة، جعل منهم أرضية خصبة لبناء خيمته.
يذكِّرني هذا اللحن بقصيدة عظيمة لأحمد عبد المعطي حجازي، يقول فيها:
الموت ليس أن توارى في الثرى
ولا الحياة أن تسير فوقه
الزرع يبدأ الحياة في الثرى
ويبدأ الموت إذا ما شقّه
فامنح هواك للذي يحيا ،
وأعط للتراب ما استباحوا خنقه
فلن تموت يا مسيح ! إنما
على الصليب ينتهي من دّقة!
فهو احتفاء ها هنا بمثل احتفاء الشاعر بجانب آخر من التاريخ سيكتب له الحياة.
ثالثًا: تجريبية المتمرِّس
تحت هذا العنوان يمكننا أن نلمح بتتبُّع الديوان العلاقة الوثيقة بين محاولات التجريب التي تكشف عن جانب واعٍ من الشاعر وديوانه، ذلك الملمح الذي يحتفي بالفانتازيا أو العجائبية، في إطار تطويع النص للفكرة، وإنما بدربة محترف، يخلط الموادّ والعناصر ليحصل على مركب جديد، نعم، لكنه ليس خلط العشواء، وإنما هو اختلاط المتجانس، يقول:
ما زِلِتُ أَشهدُ بالمصَادفةِ التى وَقَعتْ
وأسقطتِ احتمالَ بقاءِ جِسمى سَالمًا
فوقعتُ فى فَخِّ اختِبارِ الجاذبيةِ
لا أُصدِّقُ أننى لمّا سَقطْتُ..
سقطتُ من أعلى..
صعَدْتَ..
صعَدْتَ..
إحدى سلّميّاتِ الحقيقةِ أيها التجريبُ..
حينما أُطفئْتُ فى شكلٍ فجائي
هناك أضاءَ حَدسُك شَمعةً لتنيرَ بعضَ الكَهفِ
خُذنا أيها التجريبُ قربانًا
هو سقوط الارتفاع، وسُلَّمِيَّة الحقيقة، والحدس شمعة، وقربان التجريب، مجموعة من الصور والأخيلة والتراكيب التي على جديتها، واجتراح الشاعر لها، بمعنى إنشائها وإبداعها ابتداءً، فإنها مطواعة، يمكن الإحساس بتناسقها، وانسجامها مع محيطها. إنه التجريب القائم على إزاحة المعاني الأصلية مما يسميه النقاد بـ(الانزياح الاستبدالي) لإطلاق طاقات أخرى تنتج عن مزج جديد من كلمتين، لكل منهما معنًى لا يعطيه التركيب في ذاته.
رابعًا: رمزية على جميع المستويات
يمتلئ ديوان الشاعر بالإسقاطات العمودية والأفقية، وما نقصده بالإسقاط العمودي هو الرمز الذي ينسحب على مذكور أو مجهول، أما الإسقاط الأفقي، فهو عنصر الاستبدال أو الانزياح الذي أشرنا إليه؛ فإذا اتجهنا للإسقاط العمودي، فنجد التنوع في الرمز مصاحبًا لإيقاع خطوة الشاعر في نصه، فتارة يكون هادئًا بسيطًا كاشفًا، وحينًا يكون معقَّدًا مركبًا يتطلب إجالة النظر ومتابعة الفكرة من أجل حلحلته، ومن ثم محاولة الإحاطة به وهضمه، يقول الشاعر في رمزية من رمزياته التي يمكن بقليل من التجاوز وصفها بالبسيطة:
كان يَحْكِى لِى أَبي
عن صُورَتى فى المَاءِ تَصعَدُ:
كلما جَدّفتَ أكثَرَ
زِدْتَ تَجربةً وعُمرًا
ثم أوصانَى على نَاسِ البُحيرةِ:
إنهم فُقراءُ
يا وَلدي
وفَلاحُون مِثلي
أقرباءُ لنا
وكُن يا ابنى رَحيمًا بـ "الغلابة"
إنهم أَهلى وأهلُكَ
كلما جَدَّفْتُ فى مَاءِ البُحيرةِ
صرتُ أكثرَ خبرةً
وأنا الطبيبُ البيطَرِيُّ
يسيرُ فى طُرُقٍ مَترّبةٍ
ويَحمِلُ قلبَه وحَقيبةً
وأنا الكثيرُ الصمْتِ
يركبُ وحدَه دَراجةً
وأنا الحَزينُ عليَّ
والعَرَّافُ بالحَيوانِ
أفقَهُ ما يُحِسُّ بِهِ
أنامُ الآنَ
ما من مَوضع إلا بِهِ
أثَرٌ لجُرْحٍ أو عَلامةُ رَفْسَةٍ لبَهيمةٍ
إن هذه البهيمة البكماء، هي صورة المأسور المجروح المتألم، الجالس على أحزانه، مختزن الألم بين ضلوعه، ليس به موضع إلا وفيه عضة مفترس أو رفسة معتدٍ، وهو ما عبر به الشاعر قائلًا:
ما من موضع إلا به
أثر لجرح أو علامة رفسة لبهيمة.
فكأن هؤلاء البسطاء الحالمين، المساكين الذين يعملون في البحر من طينة المتنبي حين يقول:
رماني الدهر بالأرزاء حتى
فُؤادي في غِشاءٍ مِنْ نِبالِ
فصرت إذا أصابتني سهام
تكسَّرت النصال على النصال
هذه الرمزية الواضحة الممتلئة بالزخم، المكثفة على الرغم من إرادتها المعنى بأبسط الصور، ليست إلا أحد نوعي الرمزية اللذين يحتفي الشاعر بهما، ويتخذهما متكأ له، ومرجعًا يعود إليه، فثمة رمزية من نوع آخر، أكبر سطوة، وأغزر تركيبًا، يقول الشاعر:
خَواتِيمُ هَذى الأنَاشيدِ غَيرُ مُلائِمَةٍ
نحنُ لم نَخُضِ الحَرْبَ بعدُ
لنَحزَنَ
لسنا كَذلِكَ أَسْرَى
لنشْعُرَ بالتَوْقِ للأَرْضِ
إن القارئ ليحيِّره كثيرًا محاولة ربط النشيد بأحد المعاني المستنبطة من القصيدة، وهو يقف كثيرًا عند ماهية الارتباط المنطقي بين ملاءمة نهايات القصائد لخوض القتال وشوق الأرض، في أبعاد يُسرج من أجلها الخيال، وتُشحذ الأفكار، دون الوصول إلى دلالة قطعية يمكن الركون إليها والارتياح، ولكنه يشعر بكل حال بتجانس الكلمات، وحركتها المتوازية التي تشكل رابطًا يقرب تباعد الصور.
على ذلك فالشاعر كثيرًا ما يلجأ إلى اللفظ المتداول الرائج، ليعطيه حمولات معنوية يضج بها، فيتلوَّن في فسيفساء تكسب القصيدة بعدًا جماليًّا آخر، من مثل قوله:
لآلهةٍ يَنشرون رَمادَ هَزائِمهم فى الهَواءِ
لهذا الخَرابِ الذى يَملأُ العينَ
للعائدينَ من الحَربِ
والذاهبين إلى الهَذيانِ
لهذا الشُحُوبِ
وللدَمِ هذا الذي ترك الأرض حمراء
والأُكسجين الذى نتنفس
يسقطُ دَمعُ بكائيةٍ بَاهِتُ اللونِ
كان يَوَدُّ التفتح كالصَحْوِ
إن رمز الإله ها هنا يختلف عن المفهوم الديني المتصور لمعنى المعبود، وهو ليس الإله الصوفي المحب الساقي، وليس الإله الشاعري الذي ينتمي لصلاح عبد الصبور الذي قال:
كان لي يومًا إله وملاذي كان بيته
قال لي إن طريق الورد وعر وارتقيته
وتلفت ورائي، وورائي ما وجدته
ثم أصغيت لصوت الريح تبكي فبكيته
الإله عند عبد الرحمن هو ذلك المتسلِّط أبًا كان أو معلمًا، زوجًا أو أخًا أكبر، فهو ذكر للإله على زعم صاحبه في نفسه، وهي رؤية تستبطن بالضرورة عوالم أخرى تقبع فيها هذه الآلهة بين صراعاتها المنهزمة فيها على الدوام؛ فقد تسببوا جميعًا في هذه الحالة من الخراب المدقع وانغلاق العالم على المجهول، وانفتاحه على أخطار تتربص به من كل وجهة.
خامسًا: بين القصة القصيرة والشعر
عند عبد الرحمن تحتل القصة الشعرية مكانة أثيرة، وموضعًا متميزًا، تتراوح بين الومضة الشعرية إن جاز التعبير، ونقصد بها ما يعادل عند النثريين القصة القصيرة جدًّا، من مثل قوله:
وأذَكُرُ أُمي
التى لا تَنامُ
وأبناؤهَا خَارجَ البيتِ
تنتظرُ الآنَ بَاكيةً
أنْ أعودَ إليها
فتغلقَ بابَ خِزَانتِها
ذلك مشهد قصصي شعري لا تخطئه عين، صورة أم لا تنام، بينما أبناؤها لا يزالون في الخارج (أيَّ خارج)، وتبكي بشوق ابنها البعيد، وتنتظره لكي تطوي الجرح وتركن للسلام.
هو مشهد قصير يذكر بتلك القصص التي نقرؤها لبورخيس أو لماركيز.
وليست القصة في هذا الموضع آتية لزيادة في المعنى وترفيله، وإنما الشعور الذي تثيره عند المتلقي (المعني الأول بالقصيدة) هو المراد في ذاته، فهؤلاء الجنود الذين يطئون بأحذيتهم الثقيلة طين الأرض، لهم أمهات تسهر باكية واحدة، تحتضن الغياب، هكذا تتضح الصورة.
وبالجملة، فقد حرص الشاعر على إضفاء لغة متوازنة، وخيال عجائبي غير غرائبي، ومحسنات تشبه العامل الحفّاز في كيمياء الشعر، فهي تسرِّع من التفاعل دون أن تغير نتيجته.. إن الشاعر في ديوان (مهذب شعريًّا) إن جاز لنا التعبير، فلم يسطُ على القارئ أو يتسلط على مخيلته، ولم يوجهه في درب، وإنما جعل من تراكيب الديوان وتعبيراته، وقصائده، لافتة على الطريق، إيذانًا بتمرير الشعلة، والإحاطة بهؤلاء الـ(مساكين) الذين (يعملون في البحر).