تصف الكاتبة الليبية "رزان نعيم المغربي" مدينتها طرابلس في روايتها "نساء الريح"[i] ، وكأنها تشخص الداء، وتكشف عن ذلك العالم المخبوء في جنح العتمة، بأنها مدينتان، وأنها {مدينة مستعارة.. مدينة تصدر الفرح وأخري تخفي الحزن، واحدة تدعي الفضيلة وثانية تسعي وراء الفضيحة، مدينة حقيقية ومدينة مصنوعة جدارها من الوهم}ص122. وكأنها تكشف عن الخطين المتوازيين اللذين تسير عليهما روايتها، وإن كان كلاهما يخفي الحزن والألم علي مدينة تغرق في ضباب المجهول. وكلاهما يعبر عن قلق وخوف علي مصير مجهول، تسير فيها شخوص الرواية، سعيا نحو الخروج من ظلمة الحاضر وبؤسه، متصورين أن النور سيأتي من هناك في البعيد، من الغربة والهجرة، أو إن شئنا الدقة، المنفي، إلي حيث المجهول في البلاد البعيدة. وإلي حيث المصير غير الواضح في رحلة الهجرة التي تغيب عنها الشرعية، وإن لم يغب عنها الأمل في غد أفضل في البلاد البعيدة، بعد أن غاب هو الآخر في أرض المنبت والأهل والأحباب، وعجزت الوسيلة، وشُلت القدرة علي تغيير ما هو قائم ومستقر. وهو ما يرد علي تساؤلات الكاتبة (الضمنية والفعلية) في نهاية روايتها، بعد كل الصعوبات التي تواجه من يضطر للمنفي، حيث تُغلَقُ الطُرق إلاه، فيغيب الخيار، وتتولد روح المغامرة، أيا كانت نتائجها.
نتعرف في "نساء الريح"، علي مجموعة من النساء، وكلهن يسعين نحو البوح. حيث تسكن الكاتبة – والكاتبة هنا إحدي شخوص الرواية - في ذات العمارة، وتتخيل كل منهن أن لديها ما يصلح أن تكتب الكاتبة عنها رواية. فيتجمعن في سكن إحداهن، مجتمعات، أو فرادي، بالكاتبة، لنقرأ حياة كل منهن، وما يكشف عن ما يدور تحت السطح، والكاشف عن، ليس المجتمع الليبي فحسب، وإنما في المجتمع العربي عامة. حيث يتجمعن في عمارة أشبه بعمارة يعقوبيان لعلاء الأسواني، أو ميرامار نجيب محفوظ. حيث تتجمع النماذج أو الشرائح التي تعرض حالة المجتمع، وغالبا، الكشف عن المخبوء تحت السطح، من الفساد، المعبر عن تدهور أخلاقي يحدد معالم المجتمع، والذي غالبا ما تكون المرأة وقوده، تحديدا في بلداننا العربية التي تضع المرأة في صندوق البيت، متصورة أنها في حمي من الخارج المتوحش. مثلما كانت "بنات الرياض" للسعودية رجاء الصانع، والتي أحدثت الكثير من ردود الفعل، جراء ما فضحته من عوالم تحتية للمجتمع، تفور بالرغبة المكبوتة، والساعية للإنطلاق. وهو ما يكشف زيف الاستقرار الظاهري الذي حاولت الأنظمة تسويقه، إزاء فترات حكمهم الطويلة، حيث استمر معمر القذافي في حكم ليبيا نحو إثنين وأربعين عاما. فكان فيها الاستقرار الظاهري، والذي تكشفه رزان المغربي في وضع ليبيا كمصدر إعاشة للعديد من البلدان العربية، مثلما فعلت الكويتية فاطمة يوسف العلي في روايتها "غرف متهاوية"[ii] والتي صورت فيها كيف أن الكويت، قبل اجتياح صدام لها، هي ملاذ العديد من أبناء الوطن العربي كله. وهكذا تفعل رزان الليبية حين تعمد إلي تجنيس شخصياتها من عدة أقطار عربية. فنجد الشخصة الأولي في روايتها "بهيجة" مغربية الأصل، التي أتت إلي ليبيا للعمل في بيت الليبي السيد عبد المجيد. و"يسري" إحدي عناصر المجموعة من سكان العمارة، لأم فلسطينية، كما أنها تزوجت فلسطيني. وأم فرح العرافة عراقية. و"حسنا" سكرتيرة السيد عبد المجيد التي تخلت عن ابنتها ل"بهيجة"، وكذلك جاء سائق سيارة السيد عبد المجيد "جزائري"، والشاب الذي يقود مركب الهجرة "تونسي". فضلا عن "رضا" البواب المصري الذي عاد إلا مصر بعد وفاة ابنه، غير أنه لم يستطع البقاء، فعاد إلي ليبيا من جديد، وليكون رفيق "بهيجة" في رحلة الهجرة غير الشرعية. حتي النادل في مقهي (ماركوس) مصري {يحمل صينينة عليها الطلبات، يهزها يمنة ويسرة متحاشيا أن تنفلت من يده}ص87. علي أننا لابد نلحظ وجود السيد عبد المجيد الليبي، الثري، وصاحب الشركات المتعددة، خلف كل شخصية من شخوص الرواية، كعامل إفساد، مستخدما المال في الوصول إلي ما يرغب. غير ان الحقيقة، والرواية تقول أنهن من كن يسعين إليه، طمعا في المال، بينما لم يتورع هو عن ذلك. وهو ما يشير إلي ذلك الفساد المستشري تحت السطح، والفاضح لتلك الأنظمة الواهمة بأن مجتمعاتهم تعيش الاستقرار. وحيث المرأة في مجتمعاتنا العربية، هي العرض والشرف، فإن فسادها هو فساد المجتمع. والذي سعت رزان المغربي إلي كشفه وفضحة، في شيكة الفساد بين نساء تلك العمارة.
العالم السري للمجتمع ومؤامرات النسوة:
- مجموعة النسوة من هدي، صفاء، الشقراء، يسري، والكاتبة. وتنضم إليهن "بهيجة"، والتي رغم انها خادمة، إلا انها صارت شبه واحدة منهن، حيث لعب الحقد من جانب، والسعي لدرجة أعلي من السلم الاجتماعي من جانب آخر في أن تصبح "بهيجة" أحد اضلاع هذا الفساد، الذي كانت هي أحد ضحاياه، حيث تعلمت بعض فنون الدجل مستغلة معرفتها ببعض أسرار السيد عبد المجيد، وأوهمت زوجته – التي تعمل عندها- بأنها تعرف الغيب وترشدها عن بعض الأشياء التي سمعتها منه قبلا، لتقع السيدة في وهم الاقتناع بمعرفة "بهيجة" للمخبوء وراء الحجب {وادركت أن سلطة امتلاك سر يجعل الأدوار تنقلب فتصبح هي السيدة. في البداية كانت تفعل ذلك لتثبيت نفسها في المكان فلا يتم الاستغناء عن خدماتها، ثم شيئا فشيئا، صارت تشعر أن السيدة التي تسامرها وهي وحيدة معها، تعود سيدة متعجرفة في حضور صديقاتها}ص76. وهي الصورة التي تشير إلي الازدواجية في حياة الشخوص، والتي تتبدي في حياتهن جميعا. حتي "بهيجة" علي الرغم من كونها خادمة، فإنها تسعي لتكون سيدة مثلهن. ولم يكن لديها من وسيلة إلا إستخدم كل ما تعرفه ليصبح سلسلة من المفاتيح تملكها لفتح أي باب مغلق في وجهها، واقتنعت أنها تحولت من خادمة إلي سيدة نفسها.
فما هي قصة بهيجة، التي رسخت في أعماقها رغبة الانتقام؟ .. إنها المغربية التي خدعها حبيبها وفض عذريتها وهرب، فاضطرت – وأسرتها- لقبول عرض الليبي عبد المجيد، علي أن تعمل لديه - في بيته فقط-. إلي أن يتم طردها دون معرفة السبب. الأمر الذي يعني أنها لم تكن بالنسبة له إلا عشيقة، حيث أنها عندما عملت لدي السيدة "حسنا" السكرتيرة لدي السيد عبد المجيد، حيث {بدأت حسنا تغير نمط الحياة الذي تعيش به، اشترت أثاثا جديدا لمنزلها الصغير، ثم سيارة حديثة، وأخذت ترتدي كثيرا من الثياب الجميلة، كانت كريمة معي أيضا. في البداية كانت شكوكي تذهب نحو السيد عبد المجيد وقلت لنفسي: ربما تكون عشيقة جديدة له}ص71. حيث توحي {عشيقة جديدة} بأن هناك من كانت "قديمة". و"حسنا" هذه - هي الأخري - التي حملت سفاحا وطلب منها صاحب الفعلة وربما كان هو نفسه السيد عبد المجيد) أن تسافر لتونس لإجهاضها، غير أنها رفضت وأنجبت سارة التي تركتها مع "بهيجة" حتي تعود من سفرية إلي المغرب، تستمر شهرين، إلا انها لم تعد، (حيث تبين أن والد الطفلة هددها وطلب منها عدم البقاء في ليبيا- وهو ما قد يؤكد أنه هو السيد عبد المجيد) رغم مرور السنوات علي سفرها، ولتتحمل "بهيجة" مسؤلية فتاة لم تُنجبها.
و ها هي واحدة أخري، من اطلقوا عليها "الشقرا" لاختلاف لونها، ومن أطلوا عليها "القطة العامية" والتي لم تكن أبدا كذلك ، فتستدعي الشقرا الكاتبة قائلة { أرجوك.. تعالي هناك أمر مهم جدا، تعلمين أن زوجي مسافر هذه الليلة. قررت أن أفي بوعدي وأقضي ليلة بين أحضان كمال. تحدثت ببساطة شديدة وكأنها تقول لي : سأنام في بيت والدتي}ص47.
بينما تهمس يسري، التي سافر زوجها – أيضا - لزيارة أخته في الكويت، تخمس في أذن الكاتبة قائلة لها: { أريد منك خدمة هذه الليلة، كما ترين الشقرا تريد أن تلتقي صديقها هنا في بيتي. هاهي تبتزني وتجعلني أسمح لرجل غريب أن يأتي إلي بيتي وينفرد بها}ص50.
وبدورها تطلب يسري من الكاتبة سيارتها لتذهب بها إلي "كمال"، لتكشف لنا عن جانب آخر من ذلك العالم السري للمجتمع، والكاشف عن فساده، كالسوس الذي ينخر فيه، غير انها – الكاتبة - ترفض{ لا، لا يمكن يُسري.. سيارتي يعرفها الكثير من الذين لا أعرفهم، ولا تنسي أولاد زوجي، ثم إنني غير موافقة، لا أريد لك هذه المغامرة، من أجل من؟ ولماذا؟ أما وعدت نفسك أن تقطعي علاقتك الغريبة بهذا الرجل؟ .. أنا التي منحت يسري الثقة لتبوح لي بأسرار هذه العلاقة التي لمحت مرارا لغرابتها، وهي مازالت غير مصدقة كيف يفعلا ذلك الجنون معا}ص51. حيث العلاقة الغريبة التي يصلان بها معا حد الإشباع، دون إيلاج، أو حتي إحتضان، فما عليها إلا ان تتعري وتقف بحذائها فوق معدته.
ولتعلن الكاتبة دهشتها{ أستطيع أن أفهم أن من تخون زوجها تفعل ذلك بصمت شديد، توتر، قلق، تخاف، تخطط، تنفذ بنفسها دون أن تُشعِر مَن حولها بما يدور. لماذا تُصر هذه المرأة علي الدراماتيكية لهذا الحد؟ تجرنا معها إلي أجواء لايمكن أن تحدث إلا بين فتيات مراهقات عندما يتفقن علي مغامرة الخروج...}ص53.
ثم تتحدث الساردة(الكاتبة) عنهما معا { هي والشقرا تتبادلان الخدمات العاطفية لتضع كل واحدة الأخري في كفة الخيانة الزوجية، وترجح كفة الإخلاص لصداقتها، وكأن لسان حال الواحدة منهما يقول" لا تعايرني و لا أعايرك، الهم طايلني وطايلك". يُسري تفضح أسرارها و أسرار الجميع، ثم تطلب منهم الصمت وعدم البوح} ص58 ... { كما تتحدث يسري أيضا عن جارتها و صديقتها "سومة" والتي لا تطيقها، فتسألها الكاتبة، بعد أن وجدتها متأففة منها:
{لماذا لا تقطعين علاقتك بها؟ تجيب بأنها لا يمكن أن تمنعها من الدخول، فهي تعرف الكثير عن حياتها وأسرارها وتخشي أنها لو سببت لها إهانة يوما ما أن تخرب بيتها.
- وأنت أيضا تعرفين الكثير عنها
- أعرف فأنا التي رافقتها إلي تونس لترقيع غشاء بكارتها قبل أن تتزوج بأسبوعين، لكنها تعشق ناجي وتحبه وتنتظر أن يتزوجها، لا خوف منها علي زوجي}ص63، 64.
ويتكشف المزيد من شبكة الفساد المستشري ، حين نعلم أن عادل زوج صفاء متزوج أيضا من هدي. وهو الذي اصر علي إقامة الصداقة العائلية، في الوقت الذي تعلم فيه صفاء أن صديقتها هدي علي علاقة برجل آخر، ولا تعلم أن هذا الآخر ليس إلا زوجها "عادل". فصفاء إمراة مهووسة بآخر خطوط الموضة والأزياء، ولا يعنيها في الدنيا غير ذلك. وبعد خمسة عشر عاما من زواجها من عادل، الثري الذي لا يحب ارتكاب الخطايا، عندما أحب "هدي" وأراد الزواج منها، رأي أن القانون يلزمه بإعلام الزوجة الأولي، إلا أن {سلطة المال تجعله أكثر جراة، لهذا اصر علي أن تكون زوجته الأولي، بل حتي أولاده، أصدقاء لهدي وابنها ثم تصبح "هدي الصديقة الوحيدة المقربة من صفاء}ص79.
وتكشف الكاتبة (الفعلية) هنا لمحة إنسانية نسائية، قد لا يستطيع التعبير عنها إلا الأنثي، حيث تسأل الكاتبة "هدي": اتتصورين أنه رغم هذه الصداقة والاختلاط، لا تشعر صفاء بتلك العلاقة. لتجيبها "هدي" بل بالتأكيد هي تعرف، ولكنها تأبي علي نفسها أن تظهر بين الآخريات، وهي ابنه الثرياء ومن كانت لها يد في ما وصل إليه، كيف تظهر أمامهن بأنها الأولي المغدورة؟ كما أنها تفضل أن تظل هكذا، حيث تستخدمها بما هو أقرب للخادمة فيما لا تستطيع عمله من الطعام، ثم تبالغ في تدليل "عادل" أمامها، وكأنها تكيد لها وتُشعل نارها. فهو الغل الأنثوي الكامن.
كما يطال الفساد أيضا "رضا" البواب المصري، الذي تحول من حارس للعقار، إلي حارس لما يدور من أفعال داخل العقار. فها هو يتحصل علي ما يدعوه للصمت، حيث {كان عليه أن يصمت كل صباح وهو يري عادل زوج هدي يتردد علي شقتها، حتي وإن كان نائما في غرفته الصغيرة أسفل العمارة، تعود عادل إبقاظه ثم مد النقود له، يطلب منه تنظيف سيارته وسيارة هدي، فيأخذها بأسارير منفرجة وشكر عميق، النقود أكثر من أن تكون أجرة لغسيل وتنظيف سيارة فيعلم أنها رشوة وثمن السكوت}ص77.
وعند بداية العلاقة بين الكاتبة و"يُسري" التي لم تكن الكاتبة ترتاح للتعامل معها، فتُفاجئ "يسري" الكاتبة قائلة، سأشرب القهوة معك صباحا. ولم تدع لها فرصة التراجع وهي التي تتحفظ علي العلاقة معها، مما سمعته من نساء العمارة، وتجلس معها وكأنها تعرفها من سنين لتفاجأ الكاتبة بأنها – المتزوجة – تحكي لها عن علاقتها ب"كمال" {تجاوزت الصدمة الأولي من هذا البوح الجرئ، لأول مرة ألتقي إمرأة متزوجة تحكي عن علاقة خارج الزواج، وتعتبرها حقا طبيعيا في الحياة ..... اضبط نفسي فجأة بحالة ذهول شديد، لأنني ابنة هذا المجتمع الذي لا يعترف بأي نوع من العلاقة بين إمرأة ورجل دون زواج}ص108.
ولا يتوقف مسلسل الخيانات، أو العالم السري الذي يطارد الجميع علي المرأة فقط، وإنما يطال السيد عبد المجيد، الذي استحضر "بهيجة" من المغرب للعمل ببيته، والذي تم طرها بعد فترة، دون أن تعلم السبب، وإن كنا قد كشفنا عن السبب من قبل. فعندما تذهب "بهيجة" لمساعدة الكاتبة في تنظيف شقتها، تكتشف الكاتبة، وتكشف عن العلاقة التي كانت بينه وبينها، وتتعجب، كيف يجمع بين عشقها، وإن كانت تستطرد لتمنع الغفلة، أو الخداع عن نفسها، بأن تلك العلاقة كانت قبل زواجها، عندما أخبرتني بهيجة عن علاقتها برجل عشقني، كيف يمكن لرجل أن يساوي بيني وبينها؟ كان يدعي أنه صاحب ذوق رفيع في اختياراته بالحياة، وإلا لما تعلقت به في الماضي قبل أن أتزوج..... وفجأة برزت إحدي خياناته حاضرة ومتجلية في ما أكتشفه الآن}ص124. كما تكتشف الكاتبة أيضا انه (السيد عبد المجيد) كان علي علاقة أيضا ب"يسري"، التي تعتبرها الكاتبة، إنسانة تافهة، بل ويتداخل مع جميعهن – تقريبا – {يرتفع حاجبا يسري تعبيرا عن الدهشة، وتمضي ملخصة تلك العلاقة بأنها نفعية، لكنه كان كريما معها عندما دعته إلي بيت "هدي" وأخبرته أنها تحتفل بعيد ميلادها في بيت صديقة} وعندما احتاجت يسري إلي المال منه أرسلت إليه "سومة" للتتساءل الكاتبة:
{- آه سومة أيضا تعرفه إذا؟
تنهدت وأجابت: تعرفت عليه ثم أخذت تتصل به دون علمي، وعندما علمتُ قالت لي: هذا رجل سئ، طلبت منه أن يساعدني في إجراءات الطلاق لكنه ساومني.
- كل هذا حصل منه؟ أقصد منذ متي؟
- منذ سنة تقريبا، أو أكثر بقليل....
ارتاح بال الكاتبة فهي متزوجة منذ خمس سنوات}ص130.
وعندما أرادت "يسري" أن تكتب الكاتبة قصة حياتها، تسألها الكاتبة عن "منير"، ليتكشف خيط جديد من خيوط الفساد { أعتقد أنه ملاكك الحارس؟! ضحكت مثل عادتها بغنج وأجابت:
- منير له دور واحد فقط الآن هو أن يعطيني المال لأشتري به هدايا لكمال}ص137.
وفي الوقت ذاته نري "بهيجة" كاشفة الأسرار تقول عنها{فيما يسري تتصل خلال ليلة واحدة بأكثر من صديق ليرسل لها بطاقات لهاتفها النقال فقط، لتمضي ساعة من الزمن تتحدث فيها إلي كمال}ص138.
هي شبكة من إذن العلاقات المشبوهة، والخارجة عن النظام السوي، فكلهن مجروحات، الأمر الذي دعي الكاتبة، والمفترض أنها تمثل الجانب العقلي بين هاتيك النسوة، علي المستوي الفردي، وصوت النور الكاشف عن الفساد في المجتمع، علي المستوي الجمعي، حيث تقول: { كم هي متينة علاقة الصداقة بينها وبين الشقرا وهدي وبهيجة أيضا، حزمة من العيدان مربوطة بخيط رقيق اسمه الخوف من الفضيحة. ما زلت أغرد خارج السرب حتي وإن كانت يسري علي علم ومعرفة بالسيد عبد المجيد فهذا ماض ونسيته}ص64.
ولتبلور كل هذه الشبكة العنكبوتية في { شبكة من الأسرار لو فضحت ستنهار بيوت كثيرة، ولطالما اشتدت الأزمات النسائية بينهن، إلا انها لم تصل حد فضح سر زواج عادل بهدي، كنت علي يقين من أن هذا التواطؤ الغريب مرده إلي أن تستر إحداهن علي الأخري، هو تستر علي سرها الخاص حيث يسود بينهما مبدأ المعاملة بالمثل}ص62.
الهجرة المكانية
إذا كانت الكاتبة "رزان" قد بينت في البداية أن ليبيا كانت بلدا جاذبا، يلجأ إليها المحتاج من كل البلاد العربية، علي نحو ما رأينا من تنوع العاملين بها. فإن هذا الفساد الذي يبدو في شقه الفردي، يعمل كالسوس الناخر في جسد السرة، والمؤدي لانهيارها، فلا شك أنه في شقه الجمعي، كممثل للمجتمع، قد أدي إلي إنهيار المجتمع، وما تبدي فور الثورة – فيما بعد هذه الرواية- علي القذافي، وما وصل إليه المجتمع الليبي خاصة، والعربي عامة، من تفتت وإحتراب.
ولا شك أن الكاتبة "زران المغربي" قد استقت مادتها من تجربتها الشخصية، حيث عاشت رحا من عمرها في بدايته في دمشق بسوريا، ثم اضطرت للهجرة، أو ارتضت المنفي في هولندا لتقيم فيها وتصبح هي موطنها الحالي، لذا كان تعبيرها عن الهجرة، حيث تحوات ليبيا، كما غيرها من البلدان العربية، إلي بلدان طاردة، واصبحت الهجرة – غير الشرعية – هي الحلم الذي يراود الغالبية من سكان بلاد العرب. فنعيش في "نساء الريح" وكأن رياح الخماسين قد هبت علي البلدان العربية ، وليبيا من بينها، فأطاحت بنسائها، أو بمعني أدق أطاحت بعرضها، وبشرفها. فاضطرت النساء إلي الهجرة غير الشرعية، ليتعرضن فيها لانتهاك حرماتهم .
ففي رحلة الهجرة التي جمعت "بهيجة" المغربية المقيمة في ليبيا، و"رضاط المصري العائد من جديد إلي ليبيا، كما الجزائري والعراقي. تتأمل "بهيجة" بحثا عن السلوي في غمار الخوف والقلق ، اليأس والرجاء، فتغوص في عمق الذكري، وتعوم علي سطح الحاضر وتتحدث عن معاناة الهجرة عبر مركب صغير مكدس بالجنسيات المختلفة، والأعمار المختلفة، لايتجاوز طوله الثلاثون مترا، وعرضه لا يزيد عن الخمسة عشر مترا، ما يدعو للاشمئزاز من مجرد وسيلة الهجرة {تتسرب إلي أنفها روائح كريهة وتسأل نفسها: ألا يمكن للأطفال أو الخائفين الخروج إلي سطح القارب ليقضوا حاجتهم}.
وتبحث عن الشابة المغربية التي تعرفها، ولا تعرف اسمها، لتري ما أشعرها بالحزن { كانت الشابة المغربية متكئة علي جردل بلاستيكي، حزنت بهيجة عليها، كانت تشعر بقدومها قبل أن تراها، تميز رائحة عطرها الثمين وهي تدخل تلك العمارة، ترتدي ثيابا أنيقة ومكشوفة، ها هي تنام علي جردل من الوقود وقد جمعت جسدها كله في اتجاه واحد ووضعت يدها اليسري علي صدرها، كطفل خائف ينام في العراء}. وبالفعل كانت كمن ينام بالعراء، رغم الزحام والظلام، الأمر الذي أدي لمحاولة أحد الأفارقة التحرش بها. ويطمئنها صديقها البواب المصري علي المركب { أنا سمعت عن رحلات تم إغتصاب النساء فيها علي مرأي من أزواجهن، بل هناك من حاول الاعتراض أو الدفاع وكان مصيره الغرق في البحر}ص143.
علي أن تجربة الهجرة ، لم تكن ميسورة، حتي يلجا إليها كل من لم يستطع العيش في بلاده. وإنما تصبح هي الملاذ الأخير، لذا يتكلف المهاجر الكثير من المال والمعاناة، علي الرغم من عدم توافر الأمان الكامل فيها. فها هي "بهيجة" { كان عليها أن تسعي طويلا لتجمع المبلغ، وأن تبحث عن تاجر تبيعه روحها مقابل أربعة آلاف يويو ليقبل بسفرها علي مركبة مع مجموعة من الأفارقة والعرب المهاجرين، أما العراقية أم فرح، التي خاضت التجربة من قبل فقد فشلت زرعت في داخلها بذرة الخوف والشك من النصابين السماسرة في هذا المجال}ص12.
إلا انه رغم هذا الخوف المنزرع بداخلها، وبداخل كل من يفكر في الهجرة، فتعبر الكاتبة (الضمنية) عن هؤلاء الذين يلقون بأنفسهم إلي التهلكة {مرة أراهم يشبهون أولئك الذين يفجرون أنفسهم كل يوم في بغداد وفلسطين، وهم يعتقدون بأن ما ينتظرهم هو الشهادة فقط وليس الموت، ومرة أراهم ذاهبين نحو الموت انتحارا، وأسأل نفسي: باي قدر من الشجاعة والقوة يتحلون؟}.
إلا ان الحديث النظري دائما ما يكون أيسر، أما من عاش المعاناة، فلابد انه مدفوع للهجرة بقناعة تامة، حتي لو كانت النتيجة هي الموت. فهاهما عراقي وجزائري علي مركب رحلة الهجرة، بصحبة "بهيجة" التي تسجل تفصيلات الرحلة علي الذاكرة المعدنية التي منحتها إياها الكاتبة، لتسجل عليها هذه التجربة، ولتكون زادها في كتابة رواية عن الهجرة، او المنفي الاختياري، وكأن الكاتبة تُسقط الحائط الرابع، لنعيش حالة كاتبة وهي تكتب الرواية:
{سمعت صوت الرجلين الذين يجلسان من الجهة الثانية قريبا منها، تحاول قدر الإمكان التقاط أحاديثهما لتسلي نفسها، لهجة أحدهما عراقية أما الثاني فجزائري، اللهجتان تبعدان كثيرا عن بعضهما وهما يتحدثان في تلك اللحظة أحست أنها تبني علاقة إنسانية جديدة مع رفاق آخرين، تقاسمت معهم جزء كبيرا من هذه المغامرة. تابع العراقي حديثا كان قد بدأه مخاطبا رفيقه: ما الذي جعلني أغامر بروحي ودفء عائلتي، لا تسألني عن الندم، فات الآوان، الخيارات المتاحة في العراق أو غيرها جميعها تؤدي إلي الهلاك ولكن هنا يبقي لدي خيار هلاك نصفه أمل، يكفي أنني لم أمت بتفجير انتحاري في أحد أسواق بغداد، أو رصاصة طائشة وربما أصابتني من بندقية صديق أو زميل دراسة قديم... هنا أختار طريقة للموت ربما نراها بهذا الوجه، أقصد الموت الذي بعده حياة، ليس في الآخرة ولكن في هذا العالم}ص143 ، 144.
وتتعجب الكاتبة من تجربة "أم فرح" العراقية {تلك المرأة التي وقعت ضحية عملية نصب ومثلها آلاف من الحالمين بالهجرة، ومع ذلك أعادوا الكرة ثانية وثالثة، ولم يوقفهم إلا الغرق أو الوصول}ص93.
وتوجه – الكاتبة – سؤالها إلي الجانب الآخر:
{ اسأل نفسي بصوت عال: لماذا يصمتون؟ لماذا يخجلون من الانتماء إلي أوطانهم؟
إذا كانوا قادرين علي تكرار الهجرة بعد فشلها، بالرغم من الموت، لماذا لا يكررون خوض تجربة جديدة علي أرض وطنهم إذا ما خذلهم مرة؟
لماذا لا يستحق الوطن أن نعيد معه الكر والفر؟ هل الهروب أسهل من المواجهة؟}ص190.
غير أنها، هي من يجيب أيضان بسوق التجربة التي تعبر عن فقدان الهوية، وفقدان الأمل في ظل حكامنا الآبدين علي كراسي الحكم، حتي لو كان الموت هو النتيجة، وحتي لو كان الذل هو النتيجة، فنحن هنا نقارن ما بين الذل هنا، والذل هناك { نحن المهاجرين نحرق خلفنا تاريخنا الشخصي، ليس لدينا ما يُثبت أن اسمي الأخضر أو الأمين أو المهدي، سم ما شئت نفسك، نحرق ذاكرة وماضيا وتاريخا، ولا تنس المؤهلات، نحرقها ولم نعد نملكها من الآن فصاعدا، ندخل أروربا جثثا أحياء كنا أو أمواتا سيان، نحن مجرد جثث متحركة تتنفس، تأكل، تشرب، وتقوم بأي عمل مقابل الآمان الممنوح لنا في خيام تشبه مخيمات اللاجئين بل هي كذلك! .. علينا أن ننسي لغتنا ونكفر بعاداتنا وتقاليدنا، وإلا لن نكون إلا مشروع إرهابيين جدد بالنسبة لهم}ص145.
الهجرة الزمانية
لم يكن بالطبع ذلك الفساد الأسري ، المُعبر عن الفساد المجتمعي هو وحده الداعي إلي الهروب من ذلك الجو السياسي الخانق، وإنما يضاف غليه ما عبرت عنه "الكاتبة" من غياب الحاضر في كتابات الكتاب الليبين، الهاربين أيضا، لكنه ليس الهروب الجغرافي، علي الرغم من وجوده، بدليل كاتبة الرواية، وإنما الهروب الزمني، بالعودة إلي التاريخ، وكأن الكاتبة تطلق صرختها، التي تنضاف إلي صرخة نهاية الرواية، ان واجهوا ولا تستسلموا في إحدي دور المطبوعات، عثرت الساردة علي مجموعة من الكراتين بها { أرشيفا كاملا من المخطوطات لكُتابٍ كبار وصغار، بقيت مرمية بإهمال علي الأرفف وفي صنادق كرتونية أتلفها تسرب المياه من النوافذ، أحسست وقتها أن من كتب هذه الأعمال لايهتم بها، نشرت أم لم تنشر، ولم يأت أحد منهم ليسأل عنها.. أخذتها وقرأتها، أصابتني دهشة كبيرة لأن كل ما كتب فيها لا يمت إلي الحاضر بصلة، جميعها يغوص في التاريخ، لا أحد يفكر في التاريخ القريب حتي. قلة هم من ذكر طرابلس بعبارة. هذه المدينة المظلومة حتي من كتابها، يضنون عليها، يتناسون قصدا أو عمدا. لا ادري. أعرف فقط أنني لطالما أحببت أن أقرأ لكاتب ليبي يتحدث عني وعن الآخرين الذين أراهم في الشارع، عن أي مقهي يجلس فيه ألئك الكتاب، يتناولون قهوتهم ويثرثرون حول الثقافة والأدب، ينتقدون أو يشتمون بعضهم...}ص86، 87.
لقد أصبحت الهجرة، او المنفي الاختياري، هو الملاذ للكثير من العرب، وللكاتبة الليبية رزان نعيم المغربي علي وجه التحديد، وكأنها تنحت تجربتها، التي تعيشها في هولندا، فكانت روايتها الأولي "الهجرة علي مدار الحمل" (2004)، وكانت مجموعتها القصصية "في عراء المنفي" (2001)، وكانت روايتها هذه "نساء الريح" والتي تكاد فيها أن تقول "أوطان في الريح" لتنضم إلي مجموعة الروايات التي رأيناها تحرض علي الثورات العربية قبل قيام الثورات، في كتابنا "دور الرواية العربية في الربيع العربي"[iii]. ولتظل الرواية هي بالفعل المؤرخ الصادق لحياة البلدان.
Em:shyehia48@gmail.com