تقوم هذه الرواية الأخيرة ( ألْما ـ 2017 ) للروائي الفرنسي جان ماري غوستاف لوكليزيو (جائزة نوبل ، 2008 ) على حكايتين رئيستين ، تنهض بهما شخصيتان أساسيتان تشكلان مدار أحداث الرواية ومحورها ، "تنحدران من الجدّ " أكسل فلسن" الذي نزل بِجزيرة موريس عام 1796 ، وتُكوِّنان شعبتين مختلفتين في المآل من عائلة "فِلْسن" .
حكاية "جيريمي" :
ينحدر "جيريمي" من أسرة غنيّة من آل فلسن ، استحوذت على " ألْما " وهي المِلْكِيّة العتيقة لعائلة فِلْسن بالجزيرة ، يقيم بفرنسا التي نشأ ودرس بها ، يقرّر السفر إلى جزيرة "موريس" بحثا عن آثار أسلافه ، ومعرفة ما تبقّى من أفراد العائلة الكبيرة . يقول في مقدمة الرواية : ( لم أولَد في هذا البلد ، ولم أكْبُر فيه ، وأكاد لا أعرف عنه شيئا ، ومع ذلك أشعر بثِقْل تاريخه بداخلي ، وبقوّة حياته ، عبء ثقيل أنوء به وأحمله على ظهري أينما حلِلْت وارتحلْت..) ص 15 .
يعلن "جيريمي " ، في الظاهر ، أنّ هدفه من هذه الرحلة هو البحث عن طائر نادر يسمّى "دودو" ، يشكلّ رمزا لهذه الجزيرة ، تسبّب الإنسان الأبيض في انقراضه عندما دمّر البيئة التي كانت بمثابة أرضه وملاذه ، وحولّها إلى ضيعات شاسعة لزراعة قصب السّكر..! غير أنّ وراء هذه الرحلة هدفا آخر أسمى وأعمق هو : ( أردتُ، أيضا، إعادة رَتْقِ أجزاء حكاية مُهشّمة ، حكايةِ آل فلسن في الجزيرة ، الذين خمدت نارُهم، مثلما خمدت نار الطائر نفسِه..) ص 335 . صمتُ الأب الذي هاجر من موريس في سنّ الخامسة عشرة ولم يعُد إليها البتّة ، والأسرار الكثيرة التي رحلت معه ، ورفضُ الأمّ للرّواية الرسمية عن موريس ، وعدم اقتناعها بها ، جعلها تحُثُّ ابنها "جيريمي" على القيام بهذه الرحلة إلى أرض الأسلاف بحثا عن تاريخهم الضائع الذي تناثر شظايا في هذا المكان القصِي المنذور للنسيان.. يُنقِّب السارد عن أصول ضائعة في ثنايا الزمن ، وتضاعيف المكان ، أصول مازالت تلوح آثارُها التي كُتِبت بدماء الضياع ، والنزاعات العائلية ، والإقصاء ، والاِستعباد ، والجور ، والاِستغلال.. يقول السارد : ( جئت إلى موريس من أجل بحث آخر ، غيرِ البحث عن الطائر المنقرض ، جئت بغرض السعي إلى تجميع الأجزاء ، ليس من أجل الفهم ، بل لِأنّ من دون هذا لا يُمكن أن يوجد هناءٌ أو وضوحٌ ، إنّ القضية قضيةُ توازنٍ ..) ص 331 .
تطأ قدم "جيريمي" الجزيرة ، هو المثقف المشبع بالمثل الإنسانية التي تنعى على الإنسان الأبيض وحشيته وفظاعاته ، ثم يشرع في وصف التشوهات التي طالت البيئة فيها والإنسان على السواء.. يبحث عن جمال الطبيعة في عذريتها الأولى..في أصلها الأول قبل نزول البيض بها ، واجتثاتهم لأشجارها ونباتاتها البريّة وبراريها الشاسعة وطيورها النادرة لتشييد معامل الرأسمال المتوحش..يُدوّن في مفكرته هذه النّدوب التي وشمت جسد الجزيرة إذ صارت قِبلة للسياحة الجنسية واستغلال فتيات محليات صغيرات : ( نموذج الفتاة الزنجية كريستال ،" لوليتا أخرى " ، التي يقيم الطيار الأبيض معها علاقة جنسية وهو في عمر والدها..! وما تتعرض له من عنف وسجن..! ) ، كما يستحضر تاريخ الاسترقاق في الجزيرة ، وما كابده السود من جور وعذاب لا يُنسى.. يقول "جيريمي" في مقدمة الرواية : ( هنا ، على هذه الجزيرة ، امتزجت الأزمنةُ ، والدّماء، والحيواتُ ، والأساطير ، والمغامرات الأشدّ شهرة ، واللحظات الأكثر تجاهلا ، البحارة ، والجنود ، وسَراة القوم ، وأيضا الكادحون ، والعمّال ، والخدَم ، وشُذّاذ الآفاق...هذه هي الأسماء التي أودّ الحديث عنها ، ولن يكون إلاّ حديثا لمرّة واحدة ، من أجل المناداة عليها ، من أجل تَذْكارِها ، ثمّ من أجل نسيانها..) ص 12 .
ويُقرّ السارد بموقفه الإنساني المنحاز لهؤلاء المعذبين في الأرض ، هؤلاء السّود الذين جلبهم البيض بقوّة السلاسل والنّار ، يقول : ( من جميع هذه الأسماء ، ومن جميع هذه الحيوات ، فإنّ المنسيين هم الذين يهُمُّونًنِي أكثر ، هؤلاء الرّجال ، وهؤلاء النساء الذين اغتصبتهم البواخر من ضفة المحيط الأخرى ، الذين ألْقِي بهم على الشواطئ ، و تمّ التّخلّي عنهم عند الأسواق الزّلِقة لٍأحواض السُّفُن ، ثم تُرِكُوا في لهيب الشمس ولَسَعات السِّياط..) ص . 14 .
في محاولته لكتابة تاريخ للجزيرة بما هي مكان للبراءة ، والنقاء ، قبل مجيء المحتلّ الأبيض يسعى لوكليزيو في هذا العمل الروائي الجديد إلى طرْق موضوعة جديدة في أعماله ، هي الدفاع عن البيئة ، وحمايتها من شطط الإنسان ونهمه الذي لا يُشْبَع في استغلالها واكتساحها وتدميرها ، ويتجسّد هذا في رواية " أَلْما " من خلال شخصية " أديتي " المرأة التي تسهر على رعاية المجال الغابوي وحماية أشجاره ونباتاته ، وتتخذه مأوى لها ، وتُصِرّ أن تضع فيه مولودها وحيدة ، من دون مساعدة ، ذات فجر مفعم بالضياء..! بعيدا من مشافي الجزيرة.. لعلّ هذه الولادة أنْ تكونَ ولادةً رمزيةً لانبعاث الطبيعة وإحياء البيئة على أًسس سليمة.. تُمثِّل " أديتي" الإنسان في صفائه الأول ، وفي نقاوته الأصلية ، الإنسان الذي يؤمن بقيم البيئة في مقابل من يدمرها.. أديتي شعاعُ ضوءٍ نحيلٍ يسعى جاهدا لتبديد حلكة هذا الليل الكابي..
إنّ رواية " ألْما" نشيد جنائزيّ ، نشيدٌ لموت البيئة على يد الإنسان الأبيض الهمجيّ ، نشيدٌ لإيقاظ الضمائر من أجل القيام بخُطوة مّا لإيقاف هذا الخراب..هذا التدمير المُمَنْهَج..
حكاية دومينيك :
ينتمي إلى الطرف "الوضيع" من أسرة آل فلسن ، يقيم بمنزل بائس أشبه بكوخ يُخفيه سِتار من الأشجار. يُلقّب ب "دودو" ، كناية عن الطائر الذي انقرض ، رمزِ الجزيرة . اِفترس مرض الجذام وجهه ، قرض حاجبيه وأنفه ، فأضحى منظره باعثا على الرّعب والشفقة ، يسبّب له الكثير من الألم والحرج ، يؤذيه بعض الناس وينهالون عليه ضربا وشتما ، عاش غريبا داخل جزيرته بعد أن صارت عائلته إلى الخراب ، مشرّد لا ينام ، يتردّد كثيرا على المقبرة التي يحرص فيها على قبور أسلافه.. لأنه يُدرك أنّه كائن ٌ من أجل الموت ..ذهبت عائلته وبقي فردا..لا أهل.. ولا وطن..ولا سكن..! إنه كالطائر "دودو" ، سيتلاشى ذات يوم في سديم الوقت..ولا يبقى منه شيء..
إذا كان " جيريمي" قد قدم من فرنسا إلى جزيرة موريس قصد لمّ أشتات حكاية الأسلاف ، فإن " دودو" سيهاجر في الاتجاه المعاكس ، يرحل من موريس إلى فرنسا حيث الحياة ، هناك ، أكثر قسوة ، يحيا فيها حياة تشرد وتسكع آخر.. يسير مشيا على الأقدام من باريس حتى نيس ، مدينة "جيريمي" ولوكليزيو ، التي سيقضي فيها نحبه..!
العلاقة بين الحكايتين :
ما الذي يجمع بين حكاية " دودو" المتسكع والمنبوذ الذي شوّه الدّاء هيئته ، الذي يختار النفي عن الأصل ، والابتعاد عن الحضن ، وهو يدرك أنّ المنفى لا يختلف عن الوطن في تباريح العيش ، و"جيريمي" المثقف والباحث الذي يسعى إلى كتابة حكاية الأسلاف والرحلة إلى المكان الذي ثووا به..؟
يبدو، ظاهريا ، أن الحكايتين تسيران في خطين متوازيين من دون أن تتقاطعا..لكن ، في العمق ، هما وجهان لعملة واحدة ، إنهما صورتان لشخصية المؤلِّف ، أو بديلان مختلفان لذات واحدة معلومة ، هي ذات الكاتب لوكليزيو ، إذ تُوحدهما الرغبة في اكتشاف جذورهما ، هذه الرغبة التي تقود الفرنسي "جيريمي" إلى موريس ، وتدفع الموريسي "دودو" إلى فرنسا..إنهما ( بطلان يسيران بين الحياة والموت ، "جيريمي" يمشي مثل طيف ، ويراقب الأشباح ، و"دودو" ذو الوجه المنخور مثل جثّة ، يتواصل مع الموتى.. ) مارين لاندرو..
بروايته هذه ( ألْما ) يختتم الكاتب الدائرة الموريسية التي بدأها ب ( رحلة إلى رودريغيز ) ثم ( الباحث عن الذهب ) فهل يستطيع لوكليزيو بعد هذه الأعمال الثلاثة أن يتحرّر من عبء الأسلاف الثقيل الذي يحمله في وجدانه ؟ وما الخلاصة النهائية التي يخلص إليها بعد هذا التحرّي الطويل والمرير لِلَمْلمة هذه الأشتات..؟ يقول الكاتب في حوار حديث معه يستعيد فيه قولا للشاعر الموريسي الكبير جان فانشيت : ( أنا هنا ، بيْد أنني لستُ من هنا..) !
تذكرني هذه الرواية في موضوعتها الأساس ( البحث عن الأصول ) بعمل سردي كبير ( أصول ) للروائي اللبناني أمين معلوف ، فكلاهما يسعى إلى تدوين حكاية الأسلاف والرحلة إلى الأماكن التي شهدت آثارها ، مع مراعاة الفارق بين الأثرين الأدبيين انطلاقا من تحديد ميثاق القراءة والتعاقد الذي أقامه المؤلفان مع قرائهما ، فألما رواية تقوم على المتخيّل الذي يمتلئ بآثار الواقع.. بينما ( أصول ) هي كتابة واقعية وحقيقية لسيرة عائلة أمين معلوف من جهة الجدّ بطرس وأخيه جبرائيل الذي هاجر إلى كوبا...
نعثر في هذه الرواية على الموضوعات الأثيرة عند لوكليزيو كالاِنتصار للعدالة والحق ، وشجب ظاهرة الاِسترقاق ( شخصية ساكلفو ) ، والبغاء (دعارة الأطفال: شخصية كريستال ) ، وحياة المنفى ( دودو ) ، ونقد شراهة الأغنياء للمال وما ينجم عنها من فقر تجسده شخوص اقتلعت من أراضيها، وتسكن في أكواخ تعدم شروط العيش الكريم ( ولم تعد تملك سوى ذكرياتِها ) كأرتيميسيا وإيميلين وتوبي..
نجح لوكليزيو في بناء رواية كبيرة ، رواية قاسية ، مفعمة بالخيبات والمرارات ، رواية الضياع والفقد والدمار ( دمارِ الإنسان والطبيعة ) ، ومساءلة التاريخ ، رواية تضم شخوصا جذابة إشكالية ، وفضاءات ساحرة ، وسردا عذبا ، ومضامين إنسانية عميقة تُغني القارئ بمعارفها الثّرّة ، ولغة فرنسية كلاسيكية صقيلة ، لغة تقتفي آثار المحو والزوال ، وتروم تشييد زمن تنبعث فيه الجذور وتحيا..تُضيء بنثرها الوهاج كالذهب ليل الإنسان.
"ضفة ثالثة"