ابتداءً، تقدر لجنة المسرح بالمجلس الأعلى للثقافة وتثمن عاليا أي أنشطة أو فعاليات أو برامج تستهدف تفعيل التعاون الثقافي بين مصر ومحيطها العربي والإقليمي، وتسعى إلى تحاور الأشكال والتجارب والتصورات، وإلى لقاء المبدعين والباحثين والنقاد وخاصة في مجال المسرح باعتباره تجربة مركزية في الثقافة العربية على مدار تاريخها الممتد والمركب، ومن هنا تود اللجنة أن تعبر عن تقديرها لما تقوم به الهيئة العربية للمسرح من فعل وجهد متميزين في المشهد المسرحي الراهن، غير أن اللجنة مع تقديرها الذي أشرنا إليه، تود التوقف أمام ما تراه ابتسارا لتاريخ المسرح المصري واختزالا لحركته وامتداده الزمني وإرثه الإبداعي والنقدي المتعدد، وهو ما دفع اللجنة إلى وضع هذا الموضوع بندا أول في جدول أعمالها، وإصدار هذا البيان لتوضيح موقفها للرأي العام الثقافي وليس فقط المسرحى، وإعلان رفضها واعتراضها القاطعين على وضع تاريخ زائف وترسيخه في الوعي النقدي العام.
لقد أقامت الهيئة مؤتمرها الفكري تحت عنوان "نقد التجربة، همزة وصل، المسرح المصري (1905–1952)، وشكلت لجنة علمية وضعت البرنامج وتابعت تفاصيله، وحرصا من لجنة المسرح على استجلاء الموضوع من جوانبه المتعددة، فقد استدعت إلى جلستها المنعقدة بتاريخ 12/2/2019 مقرر اللجنة العلمية للمؤتمر الدكتور/ سيد علي إسماعيل، الذي تفضل متكرما بالحضور، وقدم تفسيرات متعددة للأسباب التي جعلت اللجنة العلمية تختار هذا الإطار التاريخي ليكون محورا للأبحاث والأوراق المقدمة، وقد جرت بين مقرر اللجنة العلمية وأعضاء لجنة المسرح حوارات متسعة ومستفيضة تبين من خلالها بجلاء الاختلاف الجذري بين لجنة المسرح وما قدمه الدكتور من تفسيرات وأسباب.
ويمكن بشكل مجمل تلخيص ما أورده مقرر اللجنة العلمية من توضيحات في نقطتين، الأولى: هي أن المؤتمر الفكري لم يستهدف التأريخ للمسرح المصري، وأن اختيار المرحلة الزمنية المنحصرة ما بين (1905-1952)، جاء لأنها وفق تعبيره مرحلة معتمة لم تشهد استقصاءات نقدية أو بحثية لتجاربها وتحولاتها ومساراتها، وإنها وفق تعبيره أيضا المرحلة التي شهدت التجارب الراسخة في المسرح المصري."في تلك النقطة تناقض منهجي واضح، وذلك لأن احتواء الفترة على تجارب راسخة هو حكم قيمة يترتب على وجود الدراسات والأبحاث وليس غيابها، فضلا عن أن ثنائية الراسخ والمهمش تجاوزتها المناهج النقدية الحديثة، كما أن الباحث هو من يحدد الراسخ والمهمش فى التجارب وفق منهجه ورؤيته"
النقطة الثانية في إيضاحاته هي أن المؤتمر الفكري الذي أقيم في إطار المهرجان يشكل حلقة أولى تتلوها حلقتان أخريان، وأن تلك الحلقة الأولى ذاتها ليست مغلقة على ما قُدم بها من أبحاث وإنما مفتوحة لتلقي أبحاث أخرى ممن يريد من الباحثين حتى ولو كانوا غير مشاركين في المؤتمر الفكري، رغم أن ذلك لم يرد مطلقا في التقرير الختامي الذي أعدته الهيئة عن مهرجانها في القاهرة ونشرته على موقعها الرسمي، حيث اكتفى التقرير بالإشارة إلى إعطاء مهلة قدرها شهران لكافة المشاركين لضبط وتنقيح أوراقهم قبل النشر.
في هذا السياق، تود اللجنة أن ترصد عددا من النقاط المجملة، تتمثل الأولى منها فيما أشرنا إليه سابقا من خطأ اختزال المسرح المصري في مرحلة، واختيار نقطة بدء زمنية قاطعة وفاصلة واعتبارها قوس البداية الفعلي مع ما يترتب على ذلك بالضرورة مع اقتطاع المسرح من حركته الزمنية وابتساره في مرحلة، مما يكون في مجملة تزييفا للتاريخ واجتزاء له، وذلك لأن المسرح المصري يمتد طويلا وعميقا، متفاعلا ومتشابكا، إلى ما قبل تلك المرحلة بعقود متصلة، وهذا لا يعني مصادرة على أي باحث يتوصل عبر دراسات منهجية واستدلالات علمية موثقة إلى تواريخ أخرى سابقة أو لاحقة. غير أن ذلك يظل اجتهادا علميا فرديا قابلا للحوار والاختلاف دون أن يشكل إطارا ملزما لمؤتمر فكري، بمعنى أن التواريخ المرتبطة بتأسيس الظواهر الثقافية وتطورها قابلة قطعا لمراجعات ومساءلات دائمة، ولكنها لا تشكل حقائق ملزمة تبدو –وقد غدت عنوانا كليا للمؤتمر– وكأنها واقع ينضوى الباحثون في إطاره، هذا هو الخطأ الذي يكاد أن يكون خطيئة، اجتهاد لدى باحث او لجنة قُدم وكأنه حقيقة علمية، وافتراض نقدي صار عنوانا كليا للمؤتمر، وهذا خلط فكري واضطراب علمي والتباس في الرؤية.
لا يغير من ذلك ما أوضحه مقرر اللجنة العلمية من أن تلك حلقة أولى تعقبها حلقتان، وأنها غير منتهية أو مغلقة وإنما مفتوحة لأبحاث أخرى، وذلك لأن أي مؤتمر هو عنوانه العام وما قُدم به من أبحاث لا ما سوف يُضاف إليه من أبحاث أو أوراق وحلقات.
هنا، وبشكل مجمل، وفي سياق التأريخ للمسرح، تكتفي اللجنة بالإشارة إلى اتجاهين أساسيين، الأول يرى المسرح نتاجا للاتصال مع الغرب، أي من خلال الحوار مع الآخر، وذلك انطلاقا من اعتقاده أن المسرح جنس فني لم يعرفه العرب قبل الاحتكاك بالغرب في القرن التاسع عشر، بينما الاتجاه الثاني يرى تاريخ المسرح مرتبطا بإشكالية الهوية، أي من خلال الحوار مع الذات أو التراث انطلاقا من تصور يرى وجود مظاهر مسرحية وشبه مسرحية عربية قديمة، استنادا إلى الاتجاه الأول، فإن تاريخ المسرح المصري يمتد إلى القرن التاسع عشر، متصلا بتجارب فاعلة ومتعددة ليس المجال هنا قابلا لاستعراضها بالقطع، بينما الاتجاه الثاني يمتد بتاريخ المسرح إلى أبعد من ذلك كثيرا وعميقا، ويراه متناسجا ومتشابكا مع بنية الثقافة المصرية وجزءا أساسيا من علاماتها المتحولة، ويمكن هنا إضافة تيار ثالث يتنامى الآن عبر اكتشافات ودراسات لافتة، يرى أن المسرح في مصر القديمة هو الذي يشكل الجذور الأولى والممتدة لتجربة المسرح المصري وتاريخه. وهكذا، وفق تلك التيارات الثلاثة، لا يمكن بأي منهجية علمية اعتبار عام 1905 نقطة ابتداء، وإنما هي جزء من سياق يشمل الظواهر والأنساق والتحولات.
النقطة الثانية والمجملة التي ترصدها لجنة المسرح متعلقة بتلك الثنائية الشائهة التي جاءت تبريرا لاختيار تلك المرحلة (1905-1952) لتكون محورالمؤتمر، ونعني ما أطلق عليه مقرر اللجنة العلمية المسرح المصري تمييزا له عما اعتبره المسرح في مصر، استنادا إلى أن عام 1905 هو الذي شهد تأسيس سلامة حجازى لفرقته المسرحية.
وهنا تلاحظ اللجنة –أولا– أن مهرجانات الهيئة السابقة في البلاد العربية لم يرد فيها مطلقا أي تحديد زمني أو إطار تاريخي ملزم، بل اكتفت بعنوان عام هو التجارب الراسخة تاركة للباحثين والنقاد اختيار ما يرونه راسخا وفاعلا لديهم، وفقط لا غير هذه الدورة المنعقدة في القاهرة هي ما التزمت بتاريخ فاصل وقاطع، وهو ما يثير سؤالا شائكا ومؤجلا.
ثانيا، ترى اللجنة أن هذه الثنائية: المسرح في مصر والمسرح المصري، لا يمكن وصفها أو التعامل معها إلا باعتبارها خفة نقدية وتبسيطا فكريا لا يرقى إلى أي مستوى من الحوار الجاد، وذلك لأن تأسيس الظواهر الفنية والتجارب الثقافية لا يمكن أن يُرد إلى جنسية صانعيها، وإنما هو –أي تأسيس الظواهر– سياق ثقافي مركب وجدل اجتماعي ومعرفي وحركة متداخلة ومتشابكة، ولعل المسرح، تأسيسا وحراكا وتفاعلا، هو من أكثر الظواهر دلالة على ذلك.
فالمسرح المصري، ونقصد هنا المسرح المتصل بالقوالب الغربية ونماذجها وأشكالها، هو نتاج الجدل الاجتماعي والفكري مع الغرب والتراث معا، هذه المنهجية في تأريخ الظواهر والتحولات أصبحت الآن من المسلمات أو البديهيات العلمية التي لم نكن نتصور أننا بحاجة إلى توضيحها أو تأكيدها.
إن منظمي المؤتمر استندوا في تلك الثنائية على جنسية صانعي المسرح، واعتبروا أن مسرح القرن التاسع عشر كان في مجمله نتاجا لمبدعين غير مصريين، وقاموا بالتالي باستبعاد تجارب يعقوب صنوع وعبد الله النديم وغيرهما، تأكيدا لما يريدون إقراره وإثباته، فضلا عن أن ثنائية "مصرى وغير مصرى" لم تشكل أبدا مدخلا لرؤية الظواهر الثقافية، تاريخا وحركة وتفاعلا.
لقد تميز النسيج الاجتماعي والثقافي لمصر على مدار تاريخها بتعدد الأصول وتداخل الجنسيات والأعراق وتمازجها في بنية كلية متصلة، وهو ما أعطى لمصر تفردها التاريخي وتنوعها الخلاق، وإذا اتخذنا من تلك الثنائية الشائهة مدخلا لرؤية الفنون والنتاجات الإبداعية، فسوف نقصي جزءا أساسيا وكبيرا من تاريخ السينما والصحافة والشعر والنقد من التاريخ الثقافي المصري، ولهذا ترى لجنة المسرح أن المؤتمر الفكري لمهرجان الهيئة العربية للمسرح بثنائياته وعنوانه الكلي واجتزائه للتجارب وابتساره للتاريخ ومنهجه الإقصائي يمكن أن يشكل خطيئة معرفية وإجرائية معا.