لا يُعرف بالضبط نسبة المغتربين العرب، الذين يعيشون في بلدان المهجر، كما لا يُعرف كم من بينهم هي نسبة النساء والشباب والشيوخ، الذين يعانون الكثير من التحديات منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وما تلاها من أحداث وصراعات سياسية واجتماعية؛ سيما بعد إنتهاء الحرب الباردة وسقوط المعسكر الإشتراكي ونتيجة لما يُعرف بـ "الفوضى الخلاقة" التي أدت إلى إنهيار الإستقرار في منطقتنا العربية. كما أن الأحوال الاجتماعية والقوانين المشددة التي تتعارض مع حقوق الإنسان وكرامته في العديد من البلدان العربية، بالإضافة إلى سوء الأوضاع الإقتصادية وإرتفاع نسبة البطالة والحد من تحقيق طموحات الشباب وحرمانهم من كامل حقوقهم؛ كلها أدت إلى إتساع فك إرتباط الانسان العربي بموطنه الأصلي، وترك آلاف المواطنين مسقط رأسهم والتوجه إلى الهجرة والرحيل مغامرين بحياتهم لاجل الحرية في بلدان شتى وبشكل خاص الدول الصناعية.
وعلى قدر أهمية توحيد جهود مؤسسات المجتمع المدني العربية لتيسير شؤون الجالية والدفاع عن مصالحها، إذ لم نقل المصالح الوطنية والقومية على أقل تقدير. فقد باءت جميع المحاولات الفردية بهذا الإتجاه بالفشل سابقاً، بسبب التناقضات العامة وغياب الظروف الموضوعية. فالفكرة من ناحية المبدأ لا بأس بها، انما واقع التجربة في هذا المجال كما يعلم الكثيرون، كان ولا يزال مريراً وشاقاً للغاية، على الرغم من وجود منظمات مجتمع عربية لا تعد ولا تحصى، ومن كل قطر كذا تجمع، يتنافس داخلها كل من موقعه، على منصب قيادي محسوباً بـ"المثقال". قطعاً جميعها، سواء على مستوى الجمعيات أو "الكومونات" أو الأفراد، لم تستطع تحقيق مشروع كهذا ولا أبسط منه بسبب الولاءات السياسية والحزبية الضيقة والانتماء العرقي والعقائدي ومحاربة البعض للبعض الآخر. وإن وقع في قمقام من الأمر، كما يقال، وإنتقلنا من المحسوس الى المعقول بعيداً عن التمنيات والعواطف، سيبقى "الهدف" بؤرة للتوتر وسيكون عرضة للانتهاك والتمرد لأجل السيطرة والاستحواذ، كما جرت العادة داخل الكثير من التجمعات. ويشتد الصراع ويميل طرف لهذا الصوب وآخر إلى ذاك. ويتخندق أصحاب المحسوبيات بإتجاه البعثات الدبلوماسية "العربية" ومكافأتها بالتعاون. ويعرف القاصي والداني أن هذه البعثات لم تقدم شيئاً يذكر لمواطنيها، وهي من ساهم بسبب إهمالهم على تراخي مفهوم الانتماء للوطن لدى العديد من أبناء الجاليات المغتربة. وان رمزية هذه البعثات بالمجمل تتلخص بخدمة أنظمة متسلطة فاسدة، هي سبب مغادرة العديد من المواطنين أوطانهم، بما في ذلك العقول العلمية والثقافية وأصحاب الخبرة. نعتقد بأن المعرفة تقود إلى الحقيقة، التي يبلغ فيها منسوب المنطق مستواه للفصل بين المتناقضات وكشف المستور دون مجاملة على حساب المبدأ.
ففي ظاهرة جديدة غير مطمئنة يحيطها الكثير من الكتمان وملاباسات واوهام، يجري على "الواتساب" مؤخراً تبادل رسائل حول فكرة تأسيس مركز للجالية، يحلم البعض أن يكون نواة "لوبي عربي" في برلين. تحت مسميات مختلفة، تفتقر للعديد من المباديء والأسس والشروط. ولا يسمح بإبداء الرأي والنقد أو المساءلة كما هو متعارف عليه في البلدان المتحضرة وتكفله النظم السائدة قانونياً. وما لا يجوز عرفاً، ما يقوم به القائمون على الترويج من نشر أرقام هواتف ممن تكرموا بالكتابة من باب الفضول دون إذن منهم، ويحظر من تتعارض أراؤه وتصعب الاجابة على تساؤلاته على أهميتها. مما إضطر الكثيرين إلى إيقاف التواصل دون التمكن تقنياً من حذف أرقام هواتفهم الشخصية. السؤال: إن كان ثمة اعتقاد بأن هناك حقاً رغبة جامعة بإتجاه هكذا مشروع خيالي. فكيف لنا أن نتعاطى معه بهذه الطريقة، ومنشأ الاستحواذ بات واضحاَ، يشكل الفصل الأول من مسرحية غير مكشوفة معالمها الحقيقية والنوايا التي تقف وراءها؟.
وإن كان البحث عن إطار جديد يتناسب مع حل مشكلة تشتت أبناء الجالية العربية مجتمعياً، هدفاً بحد ذاته. فيقتضي ذلك أولا، إدراك أهمية الحفاظ على التنوع الحضاري، ووضع خطط إنمائية للتجانس بين الثقافة والفكر لنقل المغترب إلى موقع أفضل تجاه مشروع كهذا. إذ أن "الكومونة المجتمعية العربية" من وجهة نظري لا تجد نفسها معنية بما يدور حولها قطعاً، سيما فيما يتعلق بـ"الاندماج الثقافي ـ الاجتماعي" الذي يفهم في أغلب الأحيان بشكل خاطيء. كما أنها منفصلة تماماً عن جوهر قضاياها الموضوعية، المجتمعية والوطنية. وثمة حقيقة تم إغفالها: أن المجتمعات العربية بما في ذلك الوسط الثقافي في المهجر، منفصلة عن بعضها البعض، وكل يبحث عن أبناء ملته منفرداً، بعيداً عن أي مشاركة في الشأن العام كنصرة شعب فلسطين واليمن مثلاً. ومن لا يعلم، أن أي دعوة لفعالية ثقافية أو وطنية متميّزة لا تحظى بإهتمام كبير من قبل أبناء الجالية العربية، فيما يتقاتلون لشراء بطاقة باهظة الثمن لحفل تافه.
ومن المؤسف لم يستوعب الوافدون الجدد من أبناء الجاليات العربية أهمية المفاهيم المتأصلة بعالم غير العالم الذي عاشوا واعتادوا عليه، كالإندماج ومد جسور التبادل المعرفي والثقافي والتفاعل المجتمعي، التي من شأنها إن تكون مصدراً مكتسباً، للتقارب ومد الجسور بين الحضارات والمجتمعات المختلفة الثقافات، لمواجهة التحديات والتكيّف مع الواقع الجديد والدفع به نحو منظومتنا الثقافية والاجتماعية بأساليب إبداعية خلاقة. وهي في واقع الحال آفاق إعتبارية قيمة تتفاعل مع مرور الزمن بشكل طبيعي عند الأجيال، سيكولوجياً ووجدانياً، تنمي ذائقة المغترب نحو جمالية التنوع ومعنى الثقة بنفسه وقدرته على التكيف وجودياً ومجتمعياً وسياسياً، الأمر الذي ييسر عملية تغيير البنية الجماعية بشكل مميّز.
كما إن طبيعة العلاقة بين مؤسسات المجتمع العربية من جهة، وبينها وبين أبناء الجاليات العربية ومنهم المهاجرون الجدد الى بلاد الإغتراب، لم تنضج. ولا يزال ما كان يتطلب عمله، تأسيس "مجلس تنسيق بين الجمعيات" بعيداً، ودور الجاليات على المستوى العام لم يُفعل. ولم يفكر أحد قطعاً بأهمية صناعة التواصل "المتبادل" بين الأجيال، سيما في المجال الثقافي والاجتماعي والسياسي. أيضاً "التكامل المجتمعي" داخل المنظومة العربية، الذي سيقوّم إرادتها ويؤثر إيجاباً على المسلك السياسي لها في العلاقات الثقافية والعامة داخل المجتمع الجديد. أن ما تقدم من ملاحظات وآراء، هي لسان حال تجارب وعينات بينية امتدت لسنوات طويلة على الصعيد السياسي والاجتماعي والثقافي والطلابي والنقابي، وعلاقات غير قصيرة بين أوساط الجالية العربية والمجتمع الألماني. أصبح تشخيص الخلل والتحريض لمواجهته، مسألة جدلية، تجعل تحريك الكفاءات العربية على المستوى الثقافي والسياسي، أمراً مطلوباً. كما يشكل مصدر قوة للبحث عن حلول أفضل وبطريقة عقلانية، بعيداً عن أهواء إرتجالية مبنية على تصورات ساذجة لا تمتلك من المواصفات والنضج.
أتساءل: هل بإستطاعة "فلسفة الرغبة" غير محسوبة النتائج أن تغيّر الواقع وتحقق ما يطمح إليه حقاً أبناء الجالية وفي مقدمها الدفاع عن مصالحهم في بلاد المهجر، ومواجهة الحدث الذي ينال من مصالح الوطن العربي وحقوق شعوبه في اي محفل على الساحة؟ وهل حقاً، "المصالح العامة والوطنية" لها قداستها وموضع إهتمام المغترب العربي؟ الحقيقة بالمطلق لا!
إنني أشك بأن هناك قوى فاعلة تمتلك مقومات موضوعية، مؤسسات مجتمع مدني أو كومونات جماعية معنية بموضوع كهذا؟ لكن السؤال المهم، ما الهدف أصلاً من وراء ذلك وفي هذا الظرف تحديداً؟. إذ ليس من المعلوم مَن مِن "النشامى" يقف وراء هكذا مشروع عديم الفائدة، يفتقر للعنصر البشري ويلاقى الاستهجان الواسع. بيد أن هناك بالملموس "لوبيات أجنبية" استطاعت أن تحقق ما تطمح، أثر علاقات سياسية وثقافية ومادية متراكمة، ووجود جهد إعلامي وبحثي ومجتمعي يدعمها، إلى جانب ـ وهو المهم ـ إلتزام أبنائها بمبدأ التكامل الاجتماعي والتمسك بقيم التضامن والانتماء. في الوقت الذي تفتقر الجالية ومؤسسات المجتمع العربية إلى هذه الإمكانيات، ولم تتمكن على قدر تنوعها وتعددها الكمي من تحقيق ما تطمح إليه على مدى أجيال، قضى منهم من قضى، ولم يحصد شيئاً لا هنا ولا هناك على الطرف الآخر من ضفاف الوطن.
إن الإرتباط بالأوطان قضية حساسة، تشكل للجيل الأول من المهاجرين العرب الذين يسميهم أفنان القاسم "بالغرباء" في سياق وصف دراماتيكي دقيق، إلتزاماً أخلاقياً ووطنياً لا جدال فيه: [مقاه شاحبة منعزلة عفنة، يتلاقى فيها غرباء مسافرون أو منفيون فيما بينهم، إنهم ليسوا مشردين ولا مهاجرين؛ بل هم مستلبون ميتافيزيقيون، صاروا غرباء عن أنفسهم من فرط ما انتظروا اللحظة غير المحتملة التي يمكنهم فيها العودة إلى بلدهم]. وصف القاسم تحريض للإنتقال من التقوقع والجمود للوصول إلى صيّغ جديدة من الأنماط في حياة الجالية العربية. وهذا التحدي بالذات يقترن بأي جيل نتحدث عنه بالنسبة لأبناء المهاجرين من الجيل الأول. وعلينا أن نعترف، إن الهجرة والتهجير قسراً نحو الخارج هي مسألة سياسية بإمتياز، ولم يكن الإختيار طواعية، بل نتيجة الصراع الطبقي وقهر الإنسان اقتصادياً وإجتماعياً وملاحقته سياسياً. أيضاً الحروب والاحتلال وفقدان الأمن وإنتزاع الهوية وإقتلاع الشعور بالإنتماء للوطن والتربة من جذورها، اضطرت الكثيرين للهجرة إلى عوالم ومجتمعات بديلة، تحملوا المشاق إلى أن استقر بهم الأمر أو كاد.
لقد لعب الفكر المعاصر في الغرب، دوراً فلسفياً إيجابياً في مجال التقارب الثقافي والفكري بين الحضارات، لكنه أخفق في أغلب الأحيان إذا ما تناول ذلك من زاوية سياسية بحتة، حيث يغلب طابع الإنحياز حداً مفصلياً على حساب مبدأ الحوار بين الثقافات والتعايش المجتمعي. وإذا كان دور المستشرقين والمستغربين "العلمي لا الأيديولوجي" من حيث النشأة، هاماً ومتنامياً في مجال توأمة التبادل الحضاري ـ الثقافي لا السياسي، إذا جاز القول، فالصورة عندما نتحدث عن مسائل الإندماج والإنتماء أو الهجرة والإغتراب، لاتزال ملتبسة في عقولنا شكلاً ومضموناً حد بتر الشرق عن الغرب حضارياً وتاريخياً. ولا نستطيع على ما يبدو أن نضعها في سياقها المادي والمعنوي، فيما يؤثر على ترسيخ إرادتنا في مجتمعات جديدة علينا. نستوعبها كما نستعد لمواجهة تحدياتها، وليس الهرولة وراء من دأب على المغالاة في الإندماج الكامل دون الربط بين كينونيتنا وتراثنا الحضاري والثقافي كأي شعب وأمة.
لكنني أرى من حيث إتساع ظاهرة الولاءات الطائفية والعرقية والسياسية والإنحياز الأعمى للتعصب الديني وغياب الوعي عن مواجهته، ومن حيث تحوّل التباين الفكري إلى صراع أيديولوجي من أجل المصالح الخاصة والفئوية. أيضاً، التباين الجنسي بين الذكور والإناث وعبودية الرجل للمرأة داخل منظومتنا الاجتماعية وإنتقالها من الداخل إلى المهجر. ويؤسفني التأكيد على أن هذه الظاهرة قد أصبحت مورثاً في غاية من الإحاطة والكتمان داخل العديد من المجتمعات العربية في بلاد الإغتراب، وتقف حائلاً أمام الإندماج المجتمعي بين أبناء الوطن الواحد والمنظومة المجتمعية العربية أيضاً. أقول علينا تقع مسؤولية كبيرة لمواجهة هذه التحديات وتأثيرها مستقبلاً على الأجيال القادمة. وعلى الأطراف المعنية إن رغبت في تغيير هذا الواقع المرير، عليها أن تتجه بعناية فائقة من خلال حوار موضوعي مشترك، إلى إيجاد آليات متكافئة قابلة للتحقيق دون كلفة باهظة لا تستطيع تحملها، مادياً وتقنياً وبشرياً. كما يتطلب حسب تقديري التدرج في البناء، أفقياً وعمودياً، وفق معايير واقعية أساسية تتوفر فيها الضمانات اللازمة وأهمها الصدق والمسؤولية والكفاءة والخبرة والتنوع الفكري والبشري. إذ هي المدخل الأساس الذي نستطيع على أساسها رسم المحاور التي ينبغي أن نركن لمعالجتها على أرض الواقع، ننسج ونبني طبيعة العلاقة فيما بيننا دون شروط وإملاءات لنرتقي بمستوى صناعة الحدث الذي نعتقد بأنه جوهر القضية التي يدور في فلكها كل الجماعات والمنظمات.
ما يعنيني موضوعياً في هذا المضمار البحث عن صياغات جديدة، تساعد على إيقاظ الأصالة ومبدأ المسؤولية لدى أبناء الجالية في المهجر وجعلهم أشد تعلقاً بإنتمائهم الوطني وأكثر إنجذاباً إلى المنشأ والتاريخ والثقافة واللغة والأعراف والمعتقدات والتقاليد، إذ كلها تشكل موروثاً حضارياً نعتز به، ونسعى إلى التفاعل به مع الموروث الحضاري الذي إقتربنا منه حديثاً في مجتمعات جديدة علينا بشكل جذاب. لا البحث عن مجالس وهمية كي نزيد رقماً لما هو قائم من تجمعات فيها من الإشكاليات التي اعتاد عليها أبناء الجالية العربية على كافة الأصعدة والمجالات.