يتقصى الباحث هنا إشكاليات المشروعات الإسلاموية المختلفة في تصورها للدولة الإسلامية وعلاقتها بنموذجها الأوّلي وشروطه المختلفة، ويخلص إلى أن هذه الأطروحات تحتاج إلى برهنة عملية على مصداقية مضامينها وقابليتها الواقعية للتحقق وحل أزمة الدولة في العالم العربي والاسلامي، وهو الأمر الذي يبدو أنه لن يتحقق.

إشكالية الدولة الإسلامية

رشـدي بويـبـري

 

المدخل:
1.
تنصب اهتمامات جل المفكرين الإسلاميين على محاولة تشييد واقع دنيوي جديد يتماهى فيه الديني والدنيوي. فمشروعهم بلغة العصر ثوري تجديدي. وفي نطاق هذا المسعى يأتي انتقادهم للموروث النقلي الذي خلفه الفقهاء القدامى. ففئة معتبرة من الإسلاميين يعتقدون أن كثيرا من أولئك الفقهاء أخضعوا اجتهاداتهم السياسية للتقلبات الأهوائية للأنظمة الحاكمة التي سادت في عهودهم حرصا منهم على بيضة الإسلام ألاّ تُكسر. ومن هنا أساس اختلافهم في تعريف السياسة الشرعية وأبعادها وضوابطها وشروطها ومجالات اختصاصها، وفقا لنمط الدولة التي عاصروها. وفي غالب الأحيان أبعدت تلك الاجتهادات النصوص المقدسة، القرآن والسنة، من الاعتبار الاجتهادي أو تم إخضاعها لاتجاه الحكم المطلوب من قبل الحاكم. بناء عليه يسعى الإسلاميون إلى تأسيس اجتهادات تنطلق من آليات للشرعية الدينية لا تتأثر بالتقلبات السطحية للواقع السياسي. غير أن التفكير في مثل هذه الأمور والقضايا الإستراتيجية يقسم المفكرين الإسلاميين إلى ثلاث فئات:

1 ـ مجموعة من المفكرين يجترون أفكار وتصورات من سبقهم ويتعصبون لها في حدود ضيقة ولا يقبلون بإخضاعها للنقد والتمحيص بدعوى أن المجتهدين السابقين لم يتركوا للاحقين أي مجال للاجتهاد إلا في نطاق التقليد والإبداع في تطبيق أفكار من سلف. وهؤلاء مشروعهم محكوم عليه بالفشل الذريع منذ أول تصد لواقع الأمة المائج بالهموم والمشاكل التي تتطور يوما بعد آخر.

2 ـ فئة تتطرق في أبحاثها ودراساتها لمواضيع بعيدة عن حاضر الواقع الإسلامي لا يمكن الحسم فيها إلا في حينها.[1]

3 ـ قلة تتناول الواقع الحالي للدولة والمجتمع وسبل تحريرهما بمنهج شرعي واقعي وعقلاني وبنفس تجديدي.

بشكل عام يمكن القول أن البديل الإسلامي ما زال لم يتجاوز بعد عقدة العمومية في الخطاب والتناول التجزيئي للهموم المصيرية التي تشغل بال عموم الأمة. يضاف إلى ذلك كون الفقه السياسي الإسلامي لازال مطروحا، في الغالب، على شكل مُزَع أي اجتهادات متفرقة ينقصها المنهج الجامع الذي يشمل على التوالي النظرة التاريخية المتفحصة والناقدة واتساع الأفق الاستراتيجي للمستقبل دون تغييب الفهم العميق لمشاكل الحاضر ومتطلباته.

2. "إن الإسلام الذي كان يجد في عصوره الأخيرة تعبيره في سلطنات بدون شعوب واعية لدورها التاريخي، هو اليوم شعوب وتجارب بدون دولة معبرة عن تطلعات ذات معنى"[2]. إن فكرة الدولة الإسلامية، التي تتبنى الدعوة إليها فئات عريضة من الحركة الإسلامية المعاصرة، ليست بِنْتَ حينها، كلاّ وليست فقط وليدة ظروف تأزم وانحسار وفشل الدولة القومية في الأقطار الإسلامية. بل يعتبرها دعاتها امتدادا شرعيا للدولة النبوية ومرتبطة على الدوام بوجود الأمة الإسلامية في أرض الواقع. فلا مناص إذن للباحث الذي يتوخى سبر غور تصور هؤلاء الإسلاميين للدولة من الرجوع إلى التاريخ وما شهده من أحداث ووقائع أثرت وما تزال في نفوسهم وبالتالي في تفكيرهم ونظرتهم للحاضر والمستقبل.

إن مشروع الحركة الإسلامية يسعى، في أفقه الاستراتيجي، إلى سحب مشروعية الوجود والفاعلية من الدولة القومية القطرية وإقامة دولة إسلامية على أنقاضها بعدما ضعفت أجهزتها وأخفقت سياساتها في تحقيق وحدة الأمة وتنفيذ مشاريع النهضة والتنمية الاقتصادية والتحديث الاجتماعي والانفتاح السياسي على الداخل، تلك المشاريع التي طالما وُعِدت بها الشعوب من طرف الحكام في الأقطار الإسلامية.

3. منذ انتصار الثورة الإيرانية ارتفعت الأصوات في المجتمعات العربية والإسلامية تنادي بضرورة إقامة الدولة الإسلامية. وقد برزت هذه الأصوات بشكل واضح إبّان الربيع العربي الذي لازالت رياحه القوية تعصف بالأنظمة المستبدة في العالم العربي الواحد تلو الآخر. وقد تبنت هذه المناداة تيارات إسلامية اتخذت أشكالا تنظيمية اختلفت تبعا لكل تجربة ولكل قطر. وعلى الرغم من كون فكرة الدولة الإسلامية موجودة في أذهان وتنظيرات الإسلاميين منذ صدمة انهيار الدول العثمانية، التي كانت تعد آخر صرح سياسي حافظ على شوكة الإسلام الخارجية وهيبته بين الأمم، إلا أن ما يثير الانتباه هو الزخم الذي يصاحب مطلب إقامتها في الشارع العربي عموما، وفي دول الربيع العربي خصوصا. يضاف إليه الانتفاضة غير المسبوقة لمعارضي هذه الدعوات والمتخوفين من نتائجها وإفرازاتها.

وفي نطاق الحيز التحليلي المتاح يظهر موضوع الدولة الإسلامية حساسا وغامضا. حساس لأن طرحه يثير الكثير من الجدل بين متبني الفكرة وخصومها وأعدائها على السواء. ثم هو غامض لأنه مازال يطرق من بابين:

ـ أولا باب التناول العام، عند معظم الإسلاميين، حيث لم تَرْتق تنظيراتهم من مستوى الفكرة إلى مستوى المشروع المتكامل المخطط له بدقة.

ـ ثانيا باب التناول المغرض من قبل معارضي الفكرة، خصوما كانوا أم أعداء، حيث يقع هؤلاء في أخطاء منهجية سلبية النتائج تقوم بناء عليها المعارك والمواجهات.

فموضوع الدولة الإسلامية إذن يتسم بمستوى عال من الجدل بين أصحاب الفكرة فيما بينهم من جهة وبينهم وبين من يناوؤها من جهة أخرى.

4. إن جِماع ما كتب عن الدولة الإسلامية من كل الأطراف، دعاة أو معارضين، يصنف في نطاق البحث في شرعية هذه الدولة ومشروعيتها. فكتاب "علي عبد الرازق" المعنون بـ"الإسلام وأصول الحكم" ـ الذي أسال مدادا كثيرا لعقودـ كان في حقيقة مضامينه يهدف إلى إثبات عدم شرعية فكرة الدولة الإسلامية في المجال الحضاري الإسلامي. وفي نفس المسار مضت الكتابات التي ردت عليه أطروحته، حيث سعت إلى تقديم الأدلة على وجود شرعية دينية ومشروعية واقعية للفكرة وذلك بالتنصيص على كونها وُجِدت في الممارسة النبوية والراشدة ـ نسبة للخلفاء الراشدين ـ للحكم. أما على مستوى المشروعية، فإن خصوم الفكرة حاولوا البرهنة على عدم إمكانية قيام هذا النموذج من الحكم بسبب استحالة التوفيق بين الفترة الزمنية التي تستمد منها فكرة الدولة الإسلامية مرجعيتها الإيديولوجية ومضامينها وبين التطور الهائل الذي حصل في الواقع البشري اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وعلميا. في حين يرى الإسلاميون المتحمسون للفكرة أن وضع الدولة المعاصرة في البلدان الإسلامية وضع متأزم نظرا لافتقادها لشرعية الوجود ومشروعية الاستمرار، ومبررات موقفهم هذا متعددة ومتنوعة. فلا بديل عندهم إذن إلا الدولة الإسلامية لأنها الحل الشامل والوحيد لمعضلة الحكم في المجتمعات المسلمة. من هنا تلح معالجة الموضوع من زاوية النقاش حول الشرعية والمشروعية لاستكناه غموضه وتجلية حقيقته. فما هي أسس شرعية فكرة الدولة الإسلامية؟ وما مبررات قيامها في الواقع المعاصر؟

I ـ مقاربة اصطلاحية
1. مقولة في التأصيل:
كثيرا ما يرتكب الدارسون للحركات الإسلامية، وللقضايا التي ترتبط بها، أخطاء منهجية في الفهم والتحليل والاستنتاج، مما يُؤثِّر بقوة في دراساتهم وعلى النتائج التي تفضي إليها، إذ عادة ما تكون تلك النتائج غير دقيقة ولا موضوعية. ولعل من أبرز أسباب سيادة هذا الوضع، التفكير من خلال أطر مرجعية وأنساق قياسية بُنِيت على مفاهيم نبتت وترعرعت في بيئة غير تلك التي ظهرت فيها تلك القضايا موضوع الدرس والبحث. فمعظم الباحثين في المواضيع الإسلامية، من غير الإسلاميين خصوصا، يوظفون مناهج مستوردة من الغرب عامة، ويستعملون نفس المصطلحات التي استخدمت لدراسة ووصف الحركات الدينية والاجتماعية والسياسية التي ظهرت في الواقع الغربي. ولا يخفى ما في هذا الخلط من خطورة كبيرة على البحث العلمي عامة والسسيولوجي خاصة. "فالمصطلحات التي تستعملها حضارة ما لا يمكن أن تكون لها نفس الدلالة اللغوية في حضارة أخرى. حتى لو كان التعبير بنفس اللفظ بحيث تكون الوظيفة الدلالية التي يؤديها في نسق فكري معين مخالفا بل وقد يكون متعارضا تماما مع نسق فكري مغاير"[3]. فاللغة، وبالتحديد المصطلحات، هي الحضن الحامل للمفاهيم التي تمثل في كل حضارة دور المعبر الرسمي عن أفكار هذه الأخيرة وتصوراتها ومعتقداتها، والحافظ لخصوصية أنظمتها وأنساقها المعرفية.

ولقد قام في الغرب مفكرون يُنادون بضرورة مراجعة التصورات والمفاهيم التي راكمتها الدراسات الغربية لباقي الأنماط الحضارية الأخرى، وعدم الاقتصار على تعميم المصطلحات وضرورة مراعاة الفروق الجوهرية بينها. وفي هذا الصدد يقول برتراند بادي: "إن التفكير النظري غدا يتأسس شيئا فشيئاً تبعا لإبستملوجية جديدة تسعى إلى التوفيق بين التحليل السوسيولوجي والنقد الشديد لعالمية المفاهيم وبناء الأنماط .. فالسوسيولوجيا، أخيرا، لم يعد في إمكانها نفي الوجود القوي للتاريخ في المجال الاجتماعي. لذا فإن إعادة اكتشاف التنوع والنسبية الثقافية يعتبر مكسبا ثمينا للنقد السوسيولوجي المعاصر."[4]

ولم يسلم موضوع الدولة الإسلامية من ذلك الخلط المنهجي الذي تعرضت له سائر المواضيع التي تهم المجال الإسلامي والذي كان مصدره العديد من البَحّاثَة. فمن "أهم أسباب اضطراب الصورة التي تسود اليوم الأذهان عن الدولة الإسلامية هو أن المنادين بضرورة قيامها والمخاصمين لها على حد سواء يخطئون في استعمال المصطلحات السياسية الغربية للدلالة على فكرة تختلف في حقيقتها عن فكرة الدولة الإسلامية. إنه من التضليل المؤذي إلى أبعد الحدود أن يحاول الناس تطبيق المصطلحات التي لا صلة لها بالإسلام على الأفكار والأنظمة الإسلامية. إن للفكرة الإسلامية نظاما اجتماعيا متميزا خاصا بها وحدها، يختلف من عدة وجوه عن الأنظمة السائدة في الغرب، ولا يمكن لهذا النظام أن يدرس أو يفهم إلّا في حدود مفاهيمه ومصطلحاته الخاصة. وإن أي شذوذ عن هذا المبدأ سوف يؤدي حتما إلى الغموض والالتباس بدلا من الوضوح والجلاء حول موقف الشرع الإسلامي تجاه كثير من القضايا السياسية والاجتماعية التي تشغل الأذهان في الوقت الحاضر"[5].

إجمالا يمكن القول إنه صار من الضروري على كل باحث أن يُؤصِّل المصطلحات التي يوظفها في بحثه مع مراعاة المجال العلمي الذي يشتغل فيه والإطار المرجعي الذي يحكمه.

2. الإشكالية الاصطلاحية:
إن أهم ما تمخضت عنه الثورات السياسية في المجتمعات الغربية هو ميلاد الدولة بصيغتها الحديثة باعتبارها كيانا سياسيا يستوعب السلطة ويخضعها لتقسيمات وظيفية وسياسية مراعيا في ذلك المجتمع السياسي وتطوره وحدوده. ولقد صار مفهوم الدولة يحتل موقعا هاما ومصيريا في الفكر والواقع السياسيين في العالم المعاصر. "فالمكانة التي تحتلها الدولة في حياتنا اليومية هي من الأهمية بحيث لا يمكن سحبها دون أن تتعرض فرصنا للحياة لخطر الانقراض"[6]. وعلى قدر أهمية هذا المصطلح في الاجتماع السياسي المعاصر، فإن إعطائه تعريفا قارّاً يبدو "مهمة شبه مستحيلة إذ أنه يصطدم بثلاثة أنواع من الصعوبات:

1. إنه يجمع بشكل اعتباطي بين وجهة النظر المعيارية ووجهة النظر الوصفية.

2. يمكن أن تعني الدولة شكلا سياسيا محددا من الناحية التاريخية.

3. يثير تعريف الدولة مشكلة تتعلق ببيان أجهزتها والأشكال التي تتمظهر فيه هذه الأجهزة: هل ينبغي أن نعني بالدولة الحكومة وحسب؟ أم يقتضي أن ندرج في تعريفها كذلك البيروقراطية والعدالة؟ وما هي العلاقة التي تقوم بين هذه الأجهزة المتخصصة؟ وما العلاقة التي تعنيها مع المجتمع المدني؟"[7].

وبالرغم من هذا التعقيد فإنه لامناص لنا من أن نحاول مقاربة دلالة هذا المفهوم واضعين في اعتبارنا "أن الأشكال المختلفة للدولة الحديثة تستمد من أصولها المتطابقة تناغما قبليا وآلية مشتركة"[8]. يعتبر برتراند دو جوفنيل أن الدولة هي ما يحكمنا مطلقا وما نضطر للاندماج فيه. ويتكامل هذا التعريف مع ما أورده جورج بيردو حيث وصف الدولة بأنها: "شكل من أشكال السلطة التي تجعل الطاعة نبيلة. فغاية وجودها الأولى تتحدد في أن تهب العقل تمثلا لقاعدة السلطة التي تبيح تشييد مفارقة بين الحكام والمحكومين على قاعدة أخرى غير ارتباطات القوة"[9].

حين ننتقل إلى مجال الفقه السياسي الإسلامي تزداد محاولة إعطاء تعريف للدولة الإسلامية تعقيدا. ذلك لأن الأصل في التجربة السياسية الإسلامية الأولى وجود تَماهٍ في المفاهيم السياسية بشكل متكامل ومنسجم. هكذا فمفاهيم الجماعة والدولة والأمة كانت غير متمايزة في العهد النبوي والخلافة الراشدة عما هي عليه اليوم. ويجد الواقع الحالي تفسيرا له في أحداث التاريخ الإسلامي. فتطور الممارسة السياسية في المجال الإسلامي، خلال التاريخ، اتخذ منحى الابتعاد عن المثال الذي جسدته مرحلة النبوة والخلافة الراشدة. وهو ما جعل نظام الحكم ينغمس في تجارب سياسية ذات منظومات مرجعية أخرى. وهذا ما ولَّد واقعا تزايلت فيه المفاهيم. فالدولة بقدر تميزها عن الجماعة والأمة خلقت ذاتها وأفرزت آلياتها التحكمية بوضوح. بل أصبحت هي ذاتها مَرجِعَ قِيَمِها مما أدى إلى تضخمها وتمددها وظيفيا على حساب وظائف كان من المفروض أن تتخصص فيها الجماعة. أمّا الجماعة نفسها فقد ألجأتها التجربة التاريخية مع الدولة إلى الانفصام الداخلي والتفتت. فالدولة السلطانية، القائمة على نمط الحكم الوراثي، لم تجد بُدًّا، إن أرادت الاستمرار في التحكم، من القضاء على قوة وتماسك الجماعة وذاكرتها المحتفظة بالارتباط الوجداني مع العهد النبوي والراشدي. وفي هذا السياق توجهت خطابات المشروعية السياسية، ولتحقيق ذلك الهدف عُبِّأت الجهود السياسية وما يرتبط بها من تصرفات الحُكم.

لتعريف الدولة الإسلامية لا مناص إذن من الوقوف على دلالات مفهومي الأمة والجماعة في الفكر والواقع الإسلاميين. لقد أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، المسلمين بلزوم الجماعة والحفاظ عليها، واعتبر الخارج عنها أو عليها كافرا "من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"[10]. في سياق هذا الحديث ورد مفهوم الجماعة بدلالة عقدية صرفة. فجماعة المسلمين هي ذلك الإطار العقدي الذي ينتظم فيه المسلمون بحيث تكون رابطة القرابة فيه هي العقيدة الإسلامية كما يتأسس السلوك الجماعي على مبدأ الأخوة في الله. وكل من شذَّ عن الإطار اعتبر كافرا ابتداءً لأنه ارتد عن الجماعة وبالتالي عن العقيدة. بناء عليه فلا إمكان لدخول عناصر غريبة عن العقيدة الإسلامية إلى الجماعة واندماجها فيها دون أن يثير ذلك خللا عظيما في تركيبتها ولحمة القرابة فيها. بل إن مثل هذا الاختراق قد يؤدي إلى نسف الجماعة من داخلها كما حدث خلال مراحل تاريخ المسلمين.

لم يَرِدْ في القرآن الكريم لفظ "الجماعة"، لكن الذي ذكر هو كلمة "الأُمّة" حيث جاءت في آيات كثيرة وبصيغ مختلفة، فتارة وردت بدلالة التعميم وأخرى بالتخصيص. فقد وصف القرآن الكريم المسلمين بأنهم "أُمّة"، بل خير أمّة قال الله تعالى "كنتم خير أمة أخرجت للناس"[11]. في هذا الوصف اتخذ مفهوم الأمة دلالتين متداخلتين بالرغم من تميزهما عن بعضهما. فأمة المسلمين ذكرت مَرّة بمعنى "جماعة المسلمين" المنصهرة عناصرها عقديا في مقابل باقي الجماعات العقدية، اليهود والنصارى وسائر الملل الأخرى، كما ذكر مرة أخرى بصيغة التعميم للدلالة على الأمة الإطار الذي يضم "جماعة المسلمين" بالإضافة إلى باقي الجماعات التي تربطها بالأولى عهود ومواثيق تنظم التعايش المشترك. وقد جسّد هذا المعنى بصورة جَليّة ميثاق المدينة الذي نص فيه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى العام للأمة: "وإنه من تبعنا من يهود فإن لها النصر والأسوة. وإن سلم المؤمنين واحدة. وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم"[12]. يقرر هذا النص أن الدلالة العامة لمفهوم الأمة تعبر عن ما هو سياسي تشريعي عام. ولا تتعارض هذه الدلالة العامة لمفهوم الأمة مع وحدتها الدينية وحيويتها الاجتماعية. فالأمة الإسلامية مأمورة بنص القرآن الكريم أن تكون في مستوى الرسالة التي كُلّفت بها من حيث الفاعلية وبناء النموذج الحضاري. لذلك فهي مطالبة بتطوير آليات فعلها باستمرار لتواكب الواقع البشري، المتحول والمتطور على الدوام، ولتتمكن من أداء رسالتها الإنسانية التي يجسدها مجتمع العمران الأخوي." ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"[13].

بعد تحديد دلالات مفهومي الجماعة والأمة، في المجال الإسلامي، نقارب مفهوم الدولة الإسلامية. لقد أجمع "كلٌّ من الفقيه والمتكلم والفيلسوف. من يمثلون أقطاب التفكير والتنظير للدولة الإسلامية في تاريخها الطويل ـ كلٌّ حسب منهجه ووفقا لطبيعة الحقل المعرفي الذي تخصص فيه ـ اتفقوا على أن الدولة الإسلامية ليست واجبة لذاتها وإنما هي واجبة لغيرها، أي أنها وسيلة وليست غاية"[14]. فالدولة الإسلامية هي ذلك التكتل التنظيمي الذي يستوعب كل إمكانات السلطة التي تقدمها لها الأمة. وتنبثق عن هذه العملية معظم مؤسسات الدولة وآليات حركيتها. ونخلص من هذا إلى أن الدولة في الإسلام هي الإطار التنفيذي لمقتضيات الأمة التشريعية. فالتماهي المفترض بين الأمة والجماعة والدولة يتجلى في تضافر جهودها لإنزال المشروع الديني الإلهي إلى واقع الممارسة الدنيوية البشرية. فأهم ما جاءت به النبوة المحمدية هو أن "الدين أصبح هو المؤسس للاجتماع السياسي بقدر ما أصبح الاشتراك في العقيدة أساس هذا الاجتماع. وأصبحت غاية هذا الاجتماع السعادة المستمدة من الخضوع لله والقيم السماوية كعقيدة وشريعة وبهذا تكون الدولة نفسها في خدمة الأمة وتجسد تنوعها ومصالحها"[15].

II ـ في شرعية أطروحة الدولة الإسلامية:
1 ـ تحديدات منهاجية:
إن أية مقاربة لتصور الإسلاميين للدولة ومحاولة تحديد آليات شرعيتها عندهم، لا يمكن أن تدرك أهدافها دون الرجوع إلى التاريخ الإسلامي ذاته بقصد إخضاعه للدراسة المخبرية الدقيقة، عسى أن تتضح للباحث مواقع الخلل ومكامن الزلل الذي، بموجب حدوثه، سَوَّغ الإسلاميون لأنفسهم المطالبة بإقامة الدولة الإسلامية.

تكاد تجمع مختلف التصورات التي تتشكل منها الحركة الإسلامية المعاصرة على كون تاريخ المسلمين سجل أخطاء وهنات كثيرة منذ نكسة الخلافة الراشدة[16]. فقد كان أول خلل وقع هو انحراف الدولة عن مسار الممارسة النبوية والراشدة للحكم والإدارة. ثم تلا ذلك ضياع المعارضة الإستراتيجية المتمثلة في العلماء المناهضين لجبروت السلطة. "فالعلماء هم أهل الحل والعقد الذين يوثقون البيعة للإمام بحيث تتولد عن البيعة العامة التي تعني إجماع الأمة".[17] فتقلص دور العلماء في معارضة الحكم المستبد مكّن الدولة من توسيع مجال نفوذها، على حساب مُقدّس الأمة وإجماعها، باعتماد منطق القوة كآلية أساسية للشرعية. فلقد كان "العلماء مستعدين ـ لأجل وحدة الأمة ـ للاعتراف بالسلطان المتغلب"[18] ولو على حساب الشرعية الدينية. كما أن خوفهم من الفوضى اضطرهم إلى إعطاء تنازلات كبيرة رغم علمهم بأنها لم تكن "تتوافق في كثير من الأحيان مع روح الشريعة. ولكن ينبغي ألاّ يغيب عن البال أن الفقهاء كانت لهم أهدافهم المتمثلة في الدفاع عن وحدة الأمة والدولة والبقاء في نطاق الشرعية الإسلامية العامة وإن اقتضى ذلك المضي بعيدا في التأويل والتنازل للأمر الواقع".[19] وهذا ما حدث فعلا. فقد وجد الفقهاء أنفسهم بين واقعين متناقضين، واقع السلطان المتغلب بالسيف والسلطان الشرعي مما تطلب منهم اتخاذ مواقف راعوا فيها الضرورة الزمنية الواقعية على الشرعية الدينية. ولقد واكب هذا التقهقر على مستوى وجود وفاعلية المعارضة الشرعية، تقلص دور الأمة والجماعة وضعف حركيتها مما جعلها تدور في فلك الدولة التي احتوتها وأعادت صياغتها وفقا لغاياتها الايديلوجية ومراميها السياسية. يقول الأستاذ برهان غليون في هذا الصدد: "وبشكل عام كان فساد السلطة المرتبطة بالدولة، والسلطة عموما، يتفاقم مع خفوت جذوة الإيمان وتراجعه بمرور الوقت، وتطور الحضارة المادية. ومع هذا التراجع العام، كانت سلطة العلماء وسلطة الأمراء تتقاربان في الشكل والمضمون وتتحولان إلى سلطة شكلية واحدة وهذا ما أدى إلى تكوين دولة القوة التي تصبح روح المجتمع ومبدأ وجوده وتجعل الجماعة والأمة آلة في يدها"[20]. و"ما استطاع أنصار السلطة الدفاع عنها إلا بالقول أن زوال الدولة يعني العودة للحرب الأهلية."[21] ولهذا سادت في تلك الحقبة مقولات وظفتها الدولة لتزكية سلوكاتها ومواقفها ومنها القول المأثور المنسوب لعمرو بن العاص المذكور في "تاريخ اليعقوبي" في فصله عن تاريخ خلافة معاوية: "سلطان غشوم خير من فتنة تدوم".

إن التفكير في شرعية الدولة الإسلامية أمر يكتسي أهمية بالغة. فالسبب الأساس الذي جعل فاعلية الأمة وحركيتها السياسية تنكمش وتتقلص ـ لفترات طويلة ـ هو عدم تركيز المعارضة، العلماء الملتزمون أساسا، على الشرعية السياسية للدولة التي حكمت الأمة في عهودهم. وما يزال المفكرون المسلمون، فريق منهم على الأقل، لم ينتبهوا إلى مركزية الاعتبار الشرعي في الإدارة والحكم. وقد يعزى هذا النقص في الفهم إلى كونهم لم يطوروا نظرتهم للتاريخ الاسلامي وللأحداث والمشاهد التي سجلت فيه. هذا النقص نتج عنه خلل في التنظير لمستقبل الأمة ودولتها. وحري بكل باحث يتوخى الايجابية في بحثه أن يتسائل: ما هي أسس الشرعية في المجال الاسلامي؟ وما محدداتها؟

قبل الوصول إلى تعريف محدد لمبدأ الشرعية، لابد من توضيح بعض الأولويات:

1ـ هناك فرق جوهري في المجال الاسلامي بين الدولة التي تؤسس دعائمها على الشرعية الدينية وبين الدولة التي توظف مقولات الشرعية الدينية لتزكية وجودها وإضفاء طابع الاعتبار الشرعي على وجودها ومختلف أوجه فعلها.

2ـ إن الذي يحكم حنين فريق كبير من الاسلاميين إلى الدولة الاسلامية هو اشتياقهم إلى فترة العزة والغلبة والسيادة الحضارية التي شهدها تاريخهم، دون مراعاة من طرفهم للخلل الذي تردت إليه الدولة عقب انتكاسة الخلافة الراشدة. وهذا الموقف يزايل بين تصورين مختلفين في الحقل الاسلامي:

أ ـ تصور فئة من الاسلاميين ترى أفق التغيير في العودة إلى نمط معين من الدولة والحكم عرفه التاريخ الاسلامي واستنساخه هو الذي سيعطي الشرعية الدينية والسياسية للدولة التي يتطلعون إليها.

ب ـ فئة أخرى تطمح إلى إبداع إطار جديد يلتقي مع القديم في أصل الشرعية الدينية ويستفيد من الزخم الذي تولد عن تجربته التاريخية لكن يختلف عنه في المنهج والواقع والتنفيذ. وهنا يظهر الاختلاف بين مشاريع الاسلاميين حيث تطرح العديد من الأسئلة حول تصوراتهم لمفهوم الشرعية:ـ هل الشرعية التي يحرصون على إضفائها على فكرتهم حول الدولة هي شرعية الشكل أم الوظائف والقيم؟ ـ إلى أي حد يمكن القول بأن الاسلام، باعتباره منهج حياة، أتاح للمسلمين فرصة تشييد أنماط سياسية مناسبة لظروفهم وما يستجد فيها من تحولات؟

مما سبق يظهر أن سؤال الشرعية يطرح على مستويين: "مستوى النظرية والتاريخ ومستوى النظرية والحاضر"[22]. إن أول ما نلاحظه حين نتحدث عن الشرعية في المجال السوسيو سياسي، هو أن جل المفكرين يستعملون هذا المفهوم بدلالته القانونية التي تجد لها أصلا في كتابات ماكس فيبر. هذا الأخير حدد ثلاثة أنماط من الشرعية، الشرعية الكاريزمية والشرعية التقليدية والشرعية العقلانية[23] أما على المستوى العام فيتحدد مفهوم الشرعية في التزام الأفراد والجماعات بعدم الخروج عن المجال التفاعلي الذي يحدده لها أصلها المرجعي الذي احتكمت إليه وارتضته قَبْلا. أما في السياق الاسلامي فمعنى الشرعية الدينية فيتحدد في الالتزام بأحكام وقواعد الأصول الثابتة للشريعة الاسلامية. أي أنه لتكون ممارسة سياسية ما شرعية فإنه من الضروري "أن يكون هذا الفعل داخلا تحت الأدلة الكلية والقواعد العامة لا مصادما لها"[24] وإلا اعتبر سلوكا غير شرعي أي أنه لا يتحقق بالشرعية الدينية.

2 ـ الشرعية التقليدية:

اختلف علماء المسلمين ومفكروهم، من قبل، في أصل شرعية الدولة وضرورتها. فقال بعضهم بأن هذا الأصل يستند إلى العقل في حين رأى آخرون أنه الشرع أو ما تعارف عليه بالنقل أي ما ورد في القرآن والسنة. أما الاسلاميون المعاصرون فيعتبر أغلبهم أن النقل والعقل كلاهما مجتمعين يعتبران مصدرين للشرعية.

أ ـ شرعية نقلية: يؤسس الاسلاميون تصوراتهم ومشاريعهم التغييرية معتمدين على آليات للشرعية الدينية اكتسابا وتوظيفا. وقاعدة هذه الآليات هي النصوص المقدسة باعتبارها الأصلين الأساسيين من أصول التشريع الاسلامي، القرآن والسنة النبوية. وبهذا الصدد تلح على الباحث في موضوع "الدولة الاسلامية" تساؤلات حول مدى شرعية هذه الفكرة في الدين الاسلامي ذاته. "فهل الاسلام في أصل تعاليمه ومتطلباته يقتضي من المسلمين، يقتضي من المؤمنين به إقامة دولة على أساسه؟"[25] وهل هذا المطلب محدود بفترة زمنية معينة أم حاضر في كل زمن خبت فيه جذوة الدين من مواقع التدافع الأرضي؟

لمقاربة هذه الاشكالية يقترح الإسلاميون الرجوع لاستقراء نصوص القرآن والسنة والبحث فيها عن ما يجيب عن تلك التساؤلات. فالقرآن ينص صراحة على أن الدولة تكتسب شرعيتها من الشريعة التي لا حياة لها من دونها. ومن الآيات التي تؤكد هذا المبدأ قول الله تعالى:" إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله"[26] وقوله تعالى:" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"[27]. وإنزال حكم الله إلى ميدان التفاعل الانساني لا يتم إلا من خلال الإطار المحتضن لهذا الحكم ألا وهو الدولة الاسلامية. و"فسر الإسلاميون حكم الله بأنه عموم الشريعة والعقيدة مندمجتين في نسق ديني متكامل .. فالقرآن يتضمن أحكاما لا يتصور تنفيذها دون وجود حكم ودولة تأخذ بها وتعمل على تطبيقها"[28]. وهذه الأحكام مجتمعة تشكل الأسس التنظيمية والقانونية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمع الاسلامي.

كما أن في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله "ما يدل دلالة صريحة واضحة على أن الحكم والدولة من تعاليم الاسلام التي بلغها للناس"[29]. بل إن المفكرين المسلمين يكادون يتفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من أسس دولة وأقام حكما في التاريخ الاسلامي. فقد مارس الدعوة والدولة معا، بما تشمله الدولة من طرائق التنظيم والانتظام السياسي طيلة الفترة المدينية من حياته.

غير أنه لابد من الاشارة إلى كون استقراءات الاسلاميين للنصوص الشرعية والتجربة النبوية، قصد صياغة نظرية سياسية متكاملة وشرعية يمكن أن تصمد في منازل التدافع الفكري والواقعي الحالي، خطوة ما تزال تفتقد للكثير على مستوى ضبط المنطلق وإحكام الصياغة والفهم للواقع التصارعي بين الأمم. فما يزال الاسلاميون عاجزين عن بناء نظرية نموذجية للدولة والحكم قابلة للتحقق عيانا والتدافع مع نظيراتها من الدول[30].

ب: شرعية عقلية: من ذا يجادل في أن "الدولة ضرورة اجتماعية لا يمكن الاستغناء عنها في جميع الأحوال وذلك لأن المجتمع الانساني بحاجة نفيسة للكائن البشري. فمن البداهة بمكان أن الفرد لا يمكن أن ينعتق من هذه الغريزة، غريزة المجتمع. وإذا وجد المجتمع الانساني وجدت العلاقات الاجتماعية المعقدة ووجد النشاط الاجتماعي المتعدد الوجوه في شتى الميادين. وفي هذه الحالة لا بد أن يوجد إشراف ما على المجتمع ينظم علاقاته تنظيما يحول بينه وبين التفكك بفعل تصادم المصالح بين الأفراد والجماعات وينظم النشاط الاجتماعي في ميادينه المختلفة ويشرع من القوانين ما يصون به حقوق الأفراد على المجتمع وواجباتهم نحوه. والمجتمع الاسلامي ليس شذوذا خارجا عن هذه الفطرة وعن هذه الضرورة."[31]

إن قابلية "المجتمع للتعاون وفق مبادئ الاسلام لتحقيق غاياته سوف يظل استعدادا نظريا ما لم تكن هناك سلطة زمنية مسؤولة عن تطبيق الشريعة الاسلامية ومنع الخروج عليها. ومثل هذه المهمة لا بد أن توسد إلى مرجع له سلطة زمنية تتيح له الأمر والنهي.. وذلك المرجع هو الدولة.. ومن ذلك يتضح أن إقامة دولة إسلامية لا غنى عنه للحياة الاسلامية في صورتها العامة"[32] . هكذا نستنتج أن شرعية الدولة الاسلامية تكتسب عقلا من سيرورتها الزمنية وحرصها على تطبيق تعاليم وشرائع الدين في حياة المسلمين فهي إذن مطلب ملح للشريعة الاسلامية وليست فقط جزءا منها. فتشريع "الدولة والنظام والحكومة ليس جزءا من التشريع الاسلامي انضم إلى أجزاء، إنما هو- بالإضافة إلى ذلك – نتيجة طبيعية وضرورية للعقيدة والشريعة. إنه ينبثق من طبيعة تكوين العقيدة والشريعة، إنه التعبير الطبيعي عنها. ولو ألغيناه للزم إلغاء جانب كبير من التشريع الاسلامي"[33].

ج: شرعية تأسيسة: إن من أهم المحركات التي تدفع الاسلاميين نحو التفكير في تأسيس الدولة الإسلامية هو تلك القوة الإلزامية التي يكتسيها الوعد الإلاهي لهم بالاستخلاف والتمكين. فقد قال تعالى: "وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا".[34] يقول أبو الأعلى المودودي في تفسير هذه الآية: "هذا وعد من الله تعالى للمسلمين بأنه سيجعلهم خلفاء الأرض، أي أئمة الناس وقادتهم. والقرآن يستعمل كلمة الخلافة: ـ فمعناها الأول: حمل أمانة السلطة والصلاحيات، وبهذا المعنى فذرية آدم كلها خليفة الله في الارض.

ـ ومعناه الثاني: ممارسات صلاحيات تحت أمر الله التشريعي، لا تحت أمره التكويني فقط، مع التسليم بحاكميته العليا. وبهذا المعنى إنما المومن الصالح فقط هو خليفة الله في الارض لأنه هو الذي يؤدي حق الخلافة.

ـ ومعناها الثالث: قيام أمة جديدة مقام أمة غالبة في عصر من العصور بعد انقراضها. المعنيان الأولان مأخوذان من الخلافة بمعنى البقاء والقيام مقام الغير، وهذان المعنيان معروفان في لغة العرب.. وهذا الوعد شامل للمسلمين في جميع الأزمان"[35].

مثل هذه الآية وأخواتها تمثل لدى الاسلاميين ذلك الحادي النفسي الذي يصحبهم في كل مراحل مشروعهم التغييري، ويستلهمون منه الاطمئنان على مشروعية مطالبهم وصدق مساعيهم. غير أن هذا الشعور لا يتطور إلى فهم عميق لمغزى ذلك الوعد وأبعاده الرسالية. فمعظم تيارات الحركة الاسلامية لما يتلقون كلام الله الذي يعدهم بالظهور والاستخلاف والتمكين، لا يدركون أن حقيقة هذا الوعد تكمن في كونه آلية مهمة من آليات الشرعية الدينية التي يتأسس عليها مشروعهم البديل ويستمد منها أهدافه وطرائقه. لذلك يتعدى هذا الوعد المستوى النفسي إلى المجال التنفيذي العملي لأنه تكليف ومسؤولية. لقد وعد الله المومنين، إذن، بإظهار دينهم والتمكين لدعوتهم, وعلى هذا الأساس فإن من واجب من يؤمن بهذا الوعد ويثق فيه أن يسعى عمليا لتوفير شروط تحققه. ومن جوامع هذه الشروط مطلبان:

أ ـ أولهما التكيف العلمي: فالقرآن والسنة النبوية يعتبران المنبعين الأصليين للفكر الاسلامي والمرجع الأساس لتصورات الاسلاميين ومواقفهم العملية. وتصديهم للتحديات المختلفة التي يطرحها واقعهم تستوجب منهم فهما متجددا لهذه النصوص الشرعية برؤية واقعية ونظرة مستقبلية. ولكي يتأسس هذا الفهم على قواعد متينة فلا مناص من الانفتاح على التراث الفقهي والاجتهادات التي تراكمت على مدار تاريخ الاسلام، فهما ونقدا منهاجيا لاستخلاص المناسب منه للواقع الراهن وكذا مستقبله. كما أنه لا مندوحة للإسلاميين من التعامل الايجابي مع التجارب الحضارية البشرية الاخرى لضمان التموقع الحضاري الايجابي على مستوى الحضارات والأمم.

ب ـ ثانيهما إنشاء الإطار المنظم الذي يضمن تحقق المشروع السياسي ويسعى لتفعيله وأجرأة غاياته وفي مقدمتها بناء الدولة الاسلامية القوية الآمرة بوازعي القرآن السلطان.

هكذا نجد أن مركزية الوعد بتمكين الدين في النسق الفكري الإسلامي تجعل "إقامة الدولة الاسلامية فرضا واجبا على كل المسلمين أي على كل مسلم ومسلمة ولا يسقط هذا الفرض عن أي أحد حتى تقوم هذه الدولة"[36]. فالدولة الاسلامية هي "القوة الحامية للمبادئ الصالحة وأهدافها الكبرى هي نشر مبادئ الاسلام وتعليمها وإقامة العدل بين الناس على التوازن وإعطاء الحقوق من كل ناحية وجهة سواء أكان ذلك بين الأفراد أو بين الجماعات أو بين جوانب الحياة المعنوية والمادية"[37].

III ـ إشكالية المشروعية:
1ـ مبدأ المشروعية:
على المستوى العام، تتحدد مشروعية الدولة في تطابق ركائزها الأيديولوجية ومنطلقاتها النظرية مع" العواطف والأفكار العامة المنتشرة في جماعة معينة"[38]. أما في المجال الاسلامي فإن اكتساب أهداف الحركة الاسلامية مشروعيتها يتوقف على أمرين:ـ مدى قدرة البديل الاسلامي على تقويض دعائم الدولة القطرية القائمة التي تعاني أزمة مشروعية عميقة. وـ مدى أهلية المشروع الاسلامي للدولة لملء الفراغ الذي سيترتب على سقوط تلك الدولة وإعطاء نموذج مخالف لها في الحكم وتسيير الشأن العام.

إن هناك "سؤالين يجب على كل مجتمع أن يجيب عنهما، الأول يتعلق بوجوده في دولة هل يوجد أم لا؟ والسؤال الثاني يتعلق بكيفية وجوده. أي بأسلوب عمله السياسي والاجتماعي والاقتصادي"[39]. لأجل ذلك تتطلب مشروعية الدولة الاسلامية توفر عنصرين بنيويين أساسيين:

ـ أولهما موافقتها للأصول المرجعية للإسلام أي اكتسابها للشرعية الدينية.

ـ ثانيهما أهليتها الواقعية لتنفيذ المشروع الاسلامي ببناء مجتمع الأخوة والتكافل على مستوى بنيتها وفاعلية مؤسساتها وقدرتها على دمج الأمة في المجتمع الواحد ومعالجة المشاكل المزمنة التي يعاني منها في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية وغيرها. فتركيز الاسلاميين على مشروعية أطروحاتهم حول الدولة يعني سعيهم لسحب بساط المشروعية من الدولة العربية القطرية المعاصرة وإقامة نموذجهم للدولة على أنقاضها. فما هي مسوغات هذا الطرح؟

يسجل الاسلاميون على الدولة المعاصرة في الأقطار الاسلامية فشلها في تحقيق عدة أمور أساسية منها، أولا، الاندماج بين المجتمع بسائر مكوناته وبين الدولة كإطار خادم بين يديه.[40] يضاف إليه ثانيا عدم القدرة على تعميق التواصل الاجتماعي والفكري بين النخب التي تتالت على المسرح السياسي وبين القاعدة العريضة من الجماهير المسلمة، ثم إخفاقها في إنجاز التنمية الاقتصادية التي تنتج الثروة وتقضي على الفوارق الاجتماعية. أما التحديث الاجتماعي الذي لا يتناقض وثوابت الأمة فقد كان مجرد سراب، مضافا إليه الانفتاح السياسي على المشاركة الشعبية الواعية والجادة، بعيدا عن التوظيف البراغماتي لها ولقوتها، الذي تحول حلما بعيد المنال وتتلاشى الثقة بتحققه يوما بعد آخر. ويظل أهم محدد لمعاداة الاسلاميين للدولة المعاصرة هو الطابع اللائكي/ العلماني، الغير رسمي، الذي اصطبغت به منذ نشأتها وسعت إلى إسقاطه على المجتمع من خلال مشاريع العصرنة والتحديث الثقافي والاجتماعي والسياسي[41]. يضاف إلى هذه السمة اللائكية، الممارسة الاستبدادية للسلطة التي انعكست على بنية المؤسسات ونوعية وظائفها وطرق القيام بها، وكذا العلاقات التي تربطها بعموم المواطنين في المجتمعات العربية الاسلامية. في تقدير غالبية الاسلاميين تحولت الدولة إلى عدو للداخل، تستقوي عليه بالعدو الخارجي، مما جعلها تعيش حالة انفصام عن المجتمع وقواه الحية. إن مبدأي اللائكية والاستبداد، اللذان يمثلان أهم ركائز الدولة العربية المعاصرة هما العاملان الأساسيان الذين تتأسس عليهما مشروعية رفض الاسلاميين لها ومناداتهم بتغييرها.

2 ـ أزمة الدولة العربية المعاصرة:
إن أهم ما تعانيه الدولة في الإطار العربي الاسلامي نابع، على المستوى العام، من خلل في نشأتها وأزمة في بنيتها وانحسار في وظائفها. فهي، على اختلاف أنظمة الحكم فيها، تشترك مع أنماط باقي الدول في العالم المتخلف من حيث النشأة لكونها جميعا إفرازات للفترة المباشرة لما بعد الاستعمار الكولونيالي[42] الذي اصطلت بناره شعوب هذا العالم لعقود طويلة من تاريخها. " فالدولة في العالم الثالث، إذن، هي دولة جديدة بالمعنى الحرفي للكلمة نشأت بفعل "التوازن الخارجي" الذي فرض نفسه قسرا على "التوازن الداخلي" وأزاح دولة وأقام مكانها دولة من خلال تطاحن عسكري وتدافع حضاري انتهى إلى غلبة دولية في السياسة والمال والقوة"[43]. إن خارجية الانتماء الحضاري للدولة العربية المعاصرة هو العامل المحدد لسطحيتها وعدم تجذر مشروعيتها وسط المجتمع العربي الاسلامي.

إن الدولة في الغرب ـ خاصة في أوربا ـ "نشأت وتطورت في نسق تاريخي وصراعات اجتماعية مركبة أعيد صوغها في حقبة"[44]. ولم تستطع تلك الدولة أن تتطور إلا بالثورة على العلاقات والقيم الاجتماعية والسياسية التي كانت تنتجها المؤسسة الثيوقراطية المتزمتة وتفرضها بعنف السلطان المطلق على عموم مكونات المجتمع. فقد تحالفت الكنيسة، محتكرة السلطان الرمزي الذي يمثله الذين وموظفة له، مع الدولة الاستبدادية صاحبة الحكم السياسي المطلق[45] بغرض إذلال المجتمع الأوربي وإخضاعه للعبودية والتحجر الفكري والاجتماعي. لأجل ذلك كانت خطوة فصل الدين عن السياسة عملية مصيرية لولادة الدولة والمجتمع المدني في الغرب وضمان سيرورة سليمة لتطورهما. أما في العالم الاسلامي فعلى" أنقاض الدولة السلطانية قامت الدولة الوطنية، ذات الجذور اللغوية بشكل أساسي والتي لا تملتك غير النموذج الغربي للدولة"[46]، ومع ذلك سعت أحيانا لتوظيف التراث الاسلامي لإضفاء المشروعية على وجودها، إلا أنها في أصل المشروعية " قامت على أسس لغوية وإثنية وجغرافية"[47]. وقد انعكس هذا الخلل في النشأة على بنية الدولة في الأقطار العربية والإسلامية، فالمؤسسات والمصالح والسياسات والقوانين، بل حتى العلاقات الاجتماعية والعامة طبعت بالطابع التحديثي تقليدا للنموذج الغربي. وإذا كانت تركيبة الدولة ـ وفقا لهذا النموذج ـ وهياكلها تتماشى مع الأطر المرجعية، الفلسفية والإيدلوجية الغربية، وتستمد منها آليات وطرائق عملها، فإن واقع الشعوب العربية والاسلامية مغاير لواقع ذلك النموذج. ونظرا لعدم مراعاة تلك الفروق وقعت النخب، التي تتلمذت على يد الأستاذ الغربي، وسعت لتغيير مجتمعاتها وفق نمطه، في مطب تاريخي حصدت منه الفشل والهزائم*[48].

إن نمط الدولة الحديثة في العالم الاسلامي بني على الطراز الغربي مما جعله "يحمل السمات التالية:

1ـ تضخم أجهزة الدولة وتشعبها حيث وصلت إلى حد الهيمنة على مختلف أنشطة الحياة في المجتمع.

2ـ تشكل قطاع اجتماعي واسع من موظفي الدولة والمعتاشين من العمل مع أحد أجهزتها حتى أصبح ضخما عددا وقدرة وسلطة وصلاحيات. فلم تعد الادارة وسيلة لتصريف أمور الدولة والمجتمع ووسيلة لخدمة مصالح الشعب، إنما أصبحت شيئا قائما بذاته وأصبح حالة تقتضي الخروج على المجتمع بكافة فئاته والتحكم بالدستور والقوانين.

3ـ ينزع الواقع الموضوعي والنفسي لأجهزة الدولة وأفرادها، من القمة حتى القاعدة، إلى التضخم بصورة مضاعفة وزيادة السلطة والصلاحيات والارتفاع فوق المجتمع وإخضاعه. ويتفاقم هذا الأمر بصورة مضاعفة إذا امتلكت الدولة أدوات الإنتاج وأصبحت قيمة على تسيير اقتصاد الأمة وفق خططها وإشرافها"[49].

لقد أصبحت الدولة، في المجال العربي والاسلامي، تقدم ذاتها للفرد كخاصية له من نفسه. فعلى قدر تعقد مشاكله تطورت آلياتها وتدخلاتها. لقد ورثت النخب العربية والإسلامية ـ التي خلفها الاستعمار الكولنيالي على سدة الدولة والحكم في المجتمعات العربية والإسلامية ـ جماعة مفككة الأواصر في كل قطر مع غياب الدولة المركزية. وتطلب منها هذا الواقع العمل على بناء الدولة وتشييد المجتمع المدني على أنقاض الجماعة التقليدية المنحلة. غير أن هذا النخب أخفقت في مهمتها لأنها عملت على إسقاط نموذج الأجنبي، المستعمر سلفا، للدولة والمجتمع على واقع أقطارها، الأمر الذي أركسها في سيرورة من الاخفاقات على كل المستويات، وهذا ما يفسر انكفاءها على العنف والاستبداد ولجوؤها إليه كأساس للحكم. فقد تقلصت مشروعية الدولة العربية المعاصرة ونخبها ولم يعد لها من وسيلة لضمان استمرار وجودها وفاعليتها إلا التوظيف الاستبدادي العنيف للسلطان المادي. وفي هذا الصدد يقول الأستاذ سليم حداد:" لقد ظلت الدولة وطيلة زمانها العربي النهضوي صورة مشوهة لهياكل المركز (الاستعمار) ولم تتمكن النخبة المثقفة من إرساء أنماط معيارية وسياسية تسهل عملية الاندماج والتلاقي بين الدولة والمجتمع، إلا بما كان يعبر عن عملية استنساخ لجملة مقولات قانونية ذات ميراث استعماري. ولم تعمل هذه النخبة على توفير العناصر الواقعية والاجتماعية حتى تكون هذه الدولة التي حضرت قانونيا حقيقة فعلية. لقد كن منشأ الدولة الحديثة داخل العالم العربي نطفة استعمارية في جوهرها، أو هي عملية تطوير لتجربة التنظيمات ذات طابع سلطاني مستبد. وهذا ما جعل ممارسة العنف المشروع واللامشروع للدولة تسبق ممارسات الشرعية ... فالدولة، وإن كانت في طبيعتها السيطرة على وسائل القهر وممارسة السلطة والاكراه، فإن أجهزة القمع أي الوجه المادي للدولة كان حاضرا وبكثافة قبل الأدلوجة أو الوجه المعنوية للدولة. لقد ابتلعت الدولة المجتمع فأصبحت هي كل شيء، وأخذت تخلق طبقتها ضدا على المجتمع الذي قامت بتفكيكه وإفراغه من مضامينه الاجتماعية والثقافية والرمزية، ثم سيطرت على كل ثناياه وأنحائه معيدة صياغته وفق تصوراتها الكليانية والشمولية"[50].

3 ـ البديل الإسلامي:
يستند مشروع الاسلاميين لإقامة الدولة، من حيث المشروعية، إلى كونه ينطلق من الاسلام باعتباره مقدس الأمة، ويهدف إلى نصرته بتحقيق مطالبه ومن جملتها بناء الدولة القادرة على ضمان السيرورة الطبيعية للاجتماع البشري وفقا لنمط العيش الاسلامي في أفق التحقق بمبادئه وتطبيق شريعته. ثم يتميز هذا المشروع كذلك بكونه يتفادى الوقوع في نفس الأخطاء البنيوية والوظيفية التي ارتكست فيها غريمته الدولة القطرية. إن الدولة الاسلامية هي إطار صادر عن طريق الولادة الطبيعية من رحم الجماعة المسلمة. ولكي تتحقق بالمشروعية فإنه من اللازم قبولها بشرطين بنيويين رئيسيين[51]:

  • إقامتها للشريعة الاسلامية على مستوى النسيج الاجتماعي كله وفي كل المجالات الحياتية.
  • قبولها بمبدأ تداول السلطة مما ينفي عنها صفة القدسية أو الدولة الثيوقراطية، وبالتالي ضرورة مراعاتها لرضى عامة المسلمين عنها وقبول بها. "ولاشك في أن ضرورة الحصول على رضى الشعب تفترض سلفا أن تأتي الحكومة إلى الوجود على أساس الاختيار الحق من قبله وأن تمثله تمثيلا صحيحا"[52].

لقد اجمعت كل التعاريف التي أطلقت على الدولة الاسلامية، سواء تلك التي أصدرها الفقهاء السابقون أو منظرو الحركة الاسلامية المعاصرة على كون أهم وظيفة تتكلف بها هذه الدولة هي تسييد العدل في جميع مواقع المجتمع وبين كل مكوناته، أي تصريف الأحوال والأموال في الصالح العام لجماعة المسلمين. وبهذا الصدد يرى "البنا أن الدولة الاسلامية تقوم على ثلاثة مبادئ أساسية تشكل في مجموعها محور وجودها السياسي وهذه المبادئ هي، العدالة والحرية والجهاد"[53]. ومن منظور هذه المبادئ فإن ممارسة الجور والاستبداد من قبل الدولة يعني حتما التخلي عن الشريعة بما هي قانون ضامن لتلك الأسس. فمسؤولية الحكومة أمام الله لا ينفي مسؤوليتها أمام الأمة والجماعة بالمحاسبة الدقيقة والمتابعة المستمرة.

لكن لابد من الإشارة إلى أن هذه المقولات خضعت لتأويلات شوهت مضامينها وغيبت مصداقية أصلها ومرجعها. فقد كان سلوك الدولة، طيلة فترة ممتدة من تاريخ المسلمين، مطبوعا بالجنوح القوي إلى السيطرة على المجتمع. وقد أفضت العلاقة التجاذبية التصارعية بينهما إلى غلبة الدولة على المجتمع وتطويعه وفق نمطها من الممارسة السياسية. وهذا ما أركس الدولة في سيرورة من الممارسات والسلوكات الاستبدادية حيث أعيد تشكيل المجتمع بكل بنياته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وتسخيره لخدمة مطالبها وتغذية جورها وطغيانها. وفي حاضر المسلمين اجتمع لدى الدولة التوظيف الأيديولوجي للسلطان الرمزي المشروع، والتمثل المادي المؤسساتي لقوته وسلطته، مما قوى من هيمنتها على المجتمع وأدى إلى تهميشه والحد من فاعليته.

فما هي يا ترى الضمانات، الشرعية والسياسية والاجتماعية، التي يقدمها البديل الاسلامي لتخطي هذه الأزمة المترسخة وضمان عدم إعادة إنتاج تلك الصورة الشوهاء للدولة الاسلامية؟

أولا، لا مناص من التأكيد على أن المقصود بالبديل الاسلامي المطروح في المجال السياسي الاسلامي خصوصا، ليس بناء نظريا متماسكا بشكل نسقي بل هو مجموعة من تناولات مجزأة للمشكلات التي يطرحها تفاعل الدولة مع المجتمع في كتابات بعض المفكرين الاسلاميين ورواد الحركة الاسلامية المعاصرة على شاكلة ما يطرحه الأستاذ منير شفيق يقول: "إن الاسلام لم يكتف بتغيير الأساس الذي قامت عليه الدولة وحكومتها وأجهزتها من حيث علاقاتها بالناس، وإنما حدد أيضا، عدة خطوط عريضة للحيلولة دون وقوع الدولة الاسلامية بحاكمها وحكومتها وأجهزتها في براثين نزعة السيطرة على المجتمع والارتفاع فوق الشرع. فكان أن كلف الفقهاء والعلماء واهل الحل والعقد (ومنهم أعضاء مجلس الشورى) والمسلمين عموما بالشورى والارشاد والمراقبة والنصح والتصويب، حتى خلع البيعة أو نزع الثقة إذا اضطروا إلى ذلك، وكانت الظروف مناسبة. وجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا على كل مسلم. ولم يترك ذلك للعفوية وإنما عمد إلى توسيع استقلالية الفرد والجماعة والمسجد في المجالات العلمية والثقافية والاقتصادية. ولم يسمح للدولة باحتكار حق الاجتهاد أو إصدار القوانين دون رقابة العلماء المجتهدين، ولم يسمح لها باحتكار أرزاق الناس من خلال السيطرة عليها أو امتلاك الأرض والمصنع والتجارة الخارجية والسوق المحلي. ولم يجعل حتى حمل السلاح حكرا على جيش الدولة المحترف"[54] وفي تحديده لمعالم البديل الاسلامي في هذا السياق يقول : "يكون الحل الاسلامي لتلك المعادلة الصعبة، الدولة والمجتمع، يتجه إلى تقويته من خلال تقوية أفراده ومؤسساته وجماعاته. فإلى جانب تقويتهم من خلال العقيدة والايمان وتقويتهم بحق الشورى وإعطاء البيعة وسحبها، تقويتهم بجعل العلماء مرجعهم في إدارة شؤون حياتهم. ثم تقويتهم من خلال عدم حرمانهم من حق التصرف في الأرض ومن حقوق الملكية الخاصة، ومن خلال الملكيات العامة التي تعود لعموم المسلمين أو لجماعات محددة منهم القرية والقبيلة والمدينة والحرفة. ومن تم يوجب على الدولة ألا تسلبهم هذه الميزات"[55].

ويمكن تلخيص أهم الاقتراحات التي يتضمنها البديل الاسلامي في جملة من الأفكار هي:

1- ضرورة بقاء الدعوة ومؤسساتها مستقلة ومهيمنة على الدولة بل يجب أن تفرض ذاتها مرجعا أعلى للممارسة السياسية وكذلك مؤسسة للرقابة الشرعية العليا على تصرفات الدولة في مختلف الميادين.

2- التنشئة السوسيوسياسية لكل افراد الأمة وفقا للمنهج الاسلامي في بناء الشخصية الفردية والجماعية وفتح المجال الواسع للمشاركة الجماهيرية في صنع القرار السياسي وفي المساهمة في البناء العام للأمة والمجتمع.

3- ضبط تركيبة الدولة وبنية مؤسساتها وفقا للوظائف التي يفترض أن تكلف بها ولحرص على تتبع خطوات تطورها وتقويمها دائما خاصة حين يحصل انحراف في مسار حركيتها وفاعليتها. ويعني هذا حصر المجال الذاتي والموضوعي لتفاعل الدولة مع المجتمع بشكل يحافظ على التوازن الوظيفي بينهما بشكل لا يطغي أحدهما على الآخر.

غير أن هذه الأطروحات تحتاج إلى برهنة عملية على مصداقية مضامينها وقابليتها الواقعية للتحقق وحل أزمة الدولة في العالم العربي والاسلامي وعدم تحولها إلى يوتوبيا يدغدغ بها أصحابه مشاعر الجماهير المسلمة المتعطشة إلى التحرر من كابوس الدولة الاستبدادية التي تجثم على أنفاسها وتحد من فاعليتها وتجمد قدراتها الابداعية على المستوى الحضاري العام.

ببليوغرافيا البحث:
I ـ المراجع باللغة العربية:
1 ـ خالد زيادة: "الإسلام السياسي وإشكالية الدولة"، مجلة الاجتهاد عدد 14 صيف 1992.

2 ـ مجلة المنعطف العدد ¾.

3 ـ محمد أسد: "منهاج الإسلام في الحكم"، ترجمة محمد منصور ماضي ـ ط6 ـ دار العلم للملايين ـ 1983

4 ـ وليد نويهض: " إشكالية الدولة العربية المعاصرة، الانفصال عن المجتمع" مجلة الاجتهاد، عدد 41 صيف 1992

5 ـ محمد ظريف: " النسق السياسي المغربي المعاصر"، ط1 دار أفريقيا الشرق ، 1990 .

6 ـ الفضل شلق: " أفكار حول الامة والجماعة والدولة"، مجلة الاجتهاد ع 12 صيف 1990

7 ـ محمد المبارك: " نظام الاسلام، الحكم والدولة"، دار الفكر ط1 1973

8 ـ محمد اسماعيل محمد: " الفكر الاسلامي"، مكتبة الوحي بيروت صدر سنة 1985

9 ـ محمد مهدي شمس الدين: " في الاجتماع السياسي الاسلامي"، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، ط1

10 ـ سعيد حوى: "الأساس في التفسير"، ط1، ،1987 مؤسسة الرسالة، ج5 .

11 ـ مجلة الاجتهاد ع13 ، مقدمة العدد :"مسألة الدولة وصراع الصور التاريخية" خريف 1991.

12 ـ يوسف القرضاوي: "شريعة الاسلام" ـ المكتب الاسلامي ـ ط 3، بيروت 1983

13 ـ Irwin rozental : "the state in islam" مجلة الاجتهاد ع12 صيف 1991

14 ـ ريمون بون و ف ـ بوريكو. ترجمة سليم حداد: "المعجم النقدي لعلم الاجتماع" ـ. المؤسسة الجامعية

للدراسات والنشر ط1 1986

15 ـ ابن هشام: "سيرة ابن هشام" ج2 .

16 ـ إبراهيم البيومي غانم: "مفهوم الدولة في فكر حسن البنا" ، مجلة الاجتهاد ع 14 صيف 1992.

17 ـ برهان غليون " نقد السياسة: الدولة والدين". 1991 ط1.

18 ـ منير شفيق:" الاسلام ومواجهة الدولة الحديثة" ، دار البراق ط1. 1988.

19 ـ سليم الحداد:" مأزق الدولة العربية"، جريدة العلم المغربية عدد 7-9-1992.

20 ـ خالد زيادة :" الاسلام السياسي وإشكالية الدولة المعاصرة"، مجلة الاجتهاد عدد 14 صيف 1992.

 

II – المراجع باللغة الفرنسية:
1 - Alvin toffler ; le choc du futur ; ed ghouthier de noël 1981

2 - Alain Peyrefitte; le mal français ; collection de poche tome1; ed 1976

3 – Bertrand badi; Les deux Etats : Pouvoir et société en occident et en terre d'islam ;

Edition PUF 1986 p9/ 10 .

4 - Bertrand de Jouvenel; Du pouvoir. Ed Pluriel/ 1977 P166 .

5 – Hannah Arendt; l’impérialisme ; ed point- politique ; 1984

6 - George Burdeau; "L’ Etat" ed point – politique.

6 - P. berimbaum ; "sociologie de l’Etat". Edition grasset 1979

 

[1] ـ بعض التنظيرات للدولة الإسلامية كانت تتطرق للتفصيلات الوظيفية للدولة في المستقبل، والحال أن الشروط الأولية لقيام هذه الدولة لم تتحقق بعد على مستوى استيعاب النقل وتفاعل العقل بشكل أعمق وأدق. ينظر على سبيل المثال كتاب" الدولة الإسلامية" للشيخ أبو بكر الجزائري.

[2] ـ خالد زيادة:"الإسلام السياسي وإشكالية الدولة"، مجلة الاجتهاد عدد 14 صيف 1992 صفحة 238.

ـ " الفوارق الدلالية للألفاظ الاجتماعية بين المفاهيمية الإسلامية والايديلوجيات الوضعية" مجلة المنعطف العدد ¾ صفحة 56.[3]

[4]ـ Bertrand badie : Les deux Etats : Pouvoir et société en occident et en terre d islam ; edition PUF 1986 p9/ 10 .

ـ "منهاج الإسلام في الحكم"ـ محمد أسد ـ ترجمة محمد منصور ماضي ـ ط6 ـ دار العلم للملايين ـ 1983 ص 45/ 46.[5]

[6] - George Burdeau : "L’ Etat" ed point - politique p13.

[7] ـ "المعجم النقدي لعلم الاجتماع" ـ ريمون بون و ف ـ بوريكو. ترجمة سليم حداد. المؤسسة الجامعية للدراسات و للنشر ط1 1986. ص301.

[8] - Bertrand de Jouvenel : Du pouvoir. Ed Pluriel/ 1977 P166 .

[9] - G Burdeau : L Etat . op cit p15/

[10] ـ حديث رواه أبو داوود عن أبي ذر الغفاري.

[11] ـ سورة آل عمران الآية 110.

ـ سيرة ابن هشام ج2 ص501/ 502 وانظر أيضا كتاب الأقوال لبي القاسم بن سلام ص290..[12]

[13] ـ سورة آل عمران الآية104.

[14] ـ " مفهوم الدولة في فكر حسن البنا" ـ إبراهيم البيومي غانم ـ مجلة الاجتهاد ع 14 صيف 1992 ص 149.

[15] ـ برهان غليون " نقد السياسة: الدولة والدين". 1991 ط1.

[16] ـ يراجع في هذا الصدد كتاب :"الخلافة و الملك" لأبي الأعلى المودودي وأيضا كتاب "نظرات في الفقه والتاريخ" لعبد السلام ياسين.

Irwin rozental :the state in islsm ـ مجلة الاجتهاد ع12 صيف 1991 ص48: [17]

ـ روين روزنتال نفس المرجع السابق ص 54.[18]

[19] ـ روين روزنتال نفسه.

[20] ـ برهان غليون "نقد السياسة" م.س. ص :127/128.

[21] ـ مجلة الاجتهاد ع13 ، مقدمة العدد :"مسألة الدولة وصراع الصور التاريخية" خريف 1991 ص 3

[22] ـ محمد مهدي شمس الدين:" نظام الكم والادارة في الاسلام" مرجع سبق ذكره ص:

[23]ـ voir P. berimbaum : "sociologie de l’Etat" ; edition grasset 1979 .

[24] ـ يوسف القرضاوي: "شريعة الاسلام" ـ المكتب الاسلامي ـ ط 3، بيروت 1983.

[25] ـ محمد المبارك:" نظام الاسلام" مرجع سبق ذكره، ص 11.

[26] ـ سورة النساء الآية 105.

[27] ـ سورة آل عمران الآية 44.

[28] ـ محمد المبارك: " نظام الاسلام" مرجع سبق ذكره، ص 12.

[29] ـ " نظام الاسلام" مرجع سبق ذكره، ص 14

30 ـ ولعل هذا ما حدى بالبعض إلى وصف الدولة الاسلامية بالمستحيلة إشارة منه إلى تعذر تحققها في الواقع حتى لو افترض امتلاك القدرة على بناءها نظريا. أنظر وائل الحلاق:" الدولة المستحيلة.." منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الدوحة 2013.

[31] ـ محمد مهدي شمس الدين:" نظام الكم والادارة في الاسلام" مرجع سبق ذكره ص: 79

[32] ـ محمد أسد: نظام الحكم في الاسلام ، مرجع سبق ذكره ص:48.

[33] ـ محمد مهدي " في الاجتماع السياسي الاسلامي" المؤسسة الدولية للدراسات والنشر ط1 ص: 69.

[34] ـ القرآن الكريم سورة النور الآية 55.

[35] ـ نقلا عن سعيد حوى: الأساس في التفسير ط1 1987 مؤسسة الرسالة ج5 ص: 3806.

[36] ـ محمد اسماعيل محمد:" الفكر الاسلامي" مكتبة الوحي بيروت صدر سنة 1985 ص 15.

[37] ـ محمد المبارك:" نظام الاسلام، الحكم والدولة" دار الفكر ط1 1973 ص20.

[38] ـ محمد ظريف:" النسق السياسي المغربي المعاصر" ط1 دار أفريقيا الشرق ، 1990 ص 23.

[39] ـ الفضل شلق:" أفكار حول الامة والجماعة والدولة" مجلة الاجتهاد ع 12 صيف 1990 ص12.

40 ـ هذا الأمر لا يقتصر على الدولة العربية بل يمتد إلى الدولة في المجتمعات الغربية إذ يقول إلفين توفلر في كتابه صدمة المستقبل:" لقد اكتشفت أنه تعوزنا نظرية ملائمة للاندماج، والتي أشك في أننا نتمكن مستقبلا من التوفر عليها" Alvin toffler ; le choc du futur ; ed ghouthier de noël 1981 p 150 .

[41] ـ لا ينفي هذا الطرح سعي الأنظمة السياسية، العربية خاصة، إلى توظيف الدين الاسلامي في الخطاب السياسي لأجل إكساب مواقفها ومشاريعها شرعية دينية و مشروعية شعبية.

[42] ـ يراجع في هذا الصدد: Alain Peyrefitte : le mal francais ; collection de poche tome1 ed 1976 ; de p339 a 356

[43] ـ وليد نويهض:" إشكالية الدولة العربية المعاصرة، الانفصال عن المجتمع" مجلة الاجتهاد، عدد 14 صيف 1992 ص206.

[44] ـ وليد نويهض، نفس المرجع السابق.

[45] ـ A voir : Hannah arendt : l’impérialisme ; ed point- politique ; 1984 ; p 13 et de la page 239 a 298 .

[46] ـ خالد زيادة :" الاسلام السياسي وإشكالية الدولة المعاصرة" مجلة الاجتهاد عدد 14 ص218.

[47] ـ خالد زيادة، مرجع سابق نفس الصفحة.

[48]* ـ الإشارة هنا إلى فشل المخططات التنموية والسياسية خاصة الوحدوية ، يضاف إليه الإخفاق في مواجهة العدو الاستراتيجي للأمة ـ إسرائيل ـ والتبعية الصارخة للدول الغربية المهيمنة في سياساتها التفكيكية لقدرات الأمة وإضعافها.

[49] ـ منير شفيق:" الاسلام ومواجهة الدولة الحديثة" ، دار البراق ط1. 1988 ص7و8.

[50] ـ سليم الحداد:" مأزق الدولة العربية" جريدة العلم المغربية عدد 7-9-1992، ص12.

[51] ـ يمكن التوسع في الموضوع بالرجوع كتاب:" في السياسة الشرعية". للدكتور عبد الله النفيسي ، دار الدعوة ط1 الكويت 1984 ص233و243.

[52] ـ محمد أسد:" منهاج الاسلام في الحكم" ترجمة محمد منصور ماني، ط دار العلم،

[53] ـ إبراهيم البيومي غانم:" مفهوم الدولة الاسلامية المعاصرة في فكر حسن البنا". مجلة الاجتهاد عدد 14 شتاء عام 1992. ص149

[54] ـ منير شفيق، مرجع سبق ذكره ص27.

[55] ـ منير شفيق نفس المرجع.