الآن، وبعد رحيل شاعرتنا الكبيرة فدوى طوقان، أشهر شاعرة فلسطينية في القرن الماضي، وأعلى قمة إبداعية نسوية في تاريخ الفلسطينيين الحديث، وإحدى مشاهير الشاعرات العربيات، حيث ساهمت في معمار القصيدة العربية الحديثة وأصّلت لها وقعّدتها ودفعت بها إلى بقاع أخرى وولجت بها مناطق معتمة ووعرة، آن لنا أن نؤرخ لها وبها، وأن نحفر في إبداعها، وأن نقدمها للأجيال، ذاتاً قوية صلبة، حمت نفسها من الموت والاندثار والصمت، ومبدعة شاركت في صنع الهوية وتأصيل الثقافة، وأسهمت في بلورة الموقف الوجداني لشعب تعرض وما يزال لأبشع حالات الاستهداف والتغييب.
الشاعرة الكبيرة الراحلة، وعلى مدى سنوات عمرها الست والثمانين، شاهدت ورافقت وعبّرت فيها عن هذا الشعب، فيما تعرض له من قمع ومن مؤامرة، ومن خديعة وهزيمة وذل، وما تصاعد من مقاومة، وما تشرذم من مواقف، وما تآكل من مبادئ، وما حدث من تاريخ ومن فانتازيا، كانت شاعرتنا في كل ذلك على حد السكين، تخلط ما بين هزائمها الشخصية وهزائمها البرّانية، وما بين تشوقها للحب والحياة الهانئة، وبين ما تشاهد من فظاظة وقسوة عصية على الفهم. بكت كالثكالى، وغنت للمسحوقين والمهجرين والفقراء، كأنها أحدهم، وغضبت من أعمق أعماقها، إلى درجة أسمتها الصحافة الإسرائيلية ذات يوم "أنها آكلة أكباد الجنود" أو "الشاعرة التي تخلق قصيدتها عشرة فدائيين"، قمعت إلى درجة أنها شارفت على الموت، وانطلقت إلى العالم حتى سمع باسمها الجميع، أحبت حتى الثمالة، وتجرعت الخيبة حتى الثمالة أيضاً، غنت للعطاء وعاشت في أضيق الحدود، عرفت الزعماء الكبار ولم تجد سعادتها إلا بصحبة الأطفال والأزهار. وعندما كشفت عن أسرارها لم تستطع أو لم تجسر على قول كل شيء.
هذه هي فدوى طوقان، شاعرة محكومة بسقوف لم تستطع تجاوزها، ولم تستطع اختراقها حتى عندما كتبت سيرتها الذاتية، إذ أنها لم تفعل أكثر من إعلانها أنها حققت ذاتها شاعرة مبدعة، ولكنها صمتت عن كل ما عدا ذلك. كانت سيرتها التي عنونتها برحلة جبلية رحلة صعبة، سيرة متحفظة، غامضة، ناقصة، المحذوف منها أهم من المكتوب والمعلن فيها. ظلت فدوى حتى وهي تعترف، متحفظة، أرستقراطية، لا تستطيع البوح ولا الكلام، ظلت شاعرتنا محفوفة بشفرتين قاسيتين لا ترحمان، فهي شاعرة ذات أحاسيس قوية وعنيفة وعميقة، ولكنها في الوقت ذاته تنتمي لعالم لا تستطيع تحطيمه بالكامل، وإذا استطاعت، فإنها لا تستطيع أن تبوح بذلك.
وعليه، فإنني أدعي أن فدوى طوقان، أحاطت نفسها بنوع من الغموض على المستوى الحياتي وعلى المستوى الإبداعي، أما الحياتي، فهي لم تذكر شيئاً في سيرتها عن تفاصيل حياتها، وعلاقاتها، وأفكارها، وأولوياتها، ودوافعها، وعن النقاشات والجدل الذي خاضته، لم نر شيئا في سيرتها سوى صمودها وإصرارها على الحياة، دون أن نلاحظ أثر الآخرين عليها، وقد وضعت فدوى ستاراً حديدياً بيننا وبين أعماقها، إذ أنها لم تضئ شيئاً من دواخلها ومشاعرها ونوازعها. ظلت أرستقراطية، تجيد الابتسام وتبث الهدوء، دون أن تفصح عما بداخلها. وأدعي أن ذلك انعكس على إبداعها الشعري أيضاً، فقصيدتها ناعمة، رخوة، طويلة، هادئة، وتميل إلى النثرية، رغم أن أعماقها تمور بالغضب والرفض والتمرد.
الأصل الأرستقراطي الذي تنتمي إليه فدوى، جعلها اقرب للتكتم والغموض والتحفظ، ودفعها إلى السكوت الكثير عن كثير. والأصل الأرستقراطي الذي دفعها لأن تتعرف على زعماء كبار أوقعها في دائرة تأثيرهم على الرغم من أنها ترفض مسالكهم وتوجهاتهم، والأصل الأرستقراطي دفعها لأن تعيش حياتين مختلفتين؛ حياة شاعرة لشعب مسحوق ومُذل ومُهان، وحياة إنسانة تستفيد مما تمنحه تلك الطبقة من مزايا وانطلاق. فدوى طوقان لم تقل كثيراً، ولم تنشغل بالقضايا الفكرية الكبرى، قدر انشغالها بعالمها الصغير الذي كبر رغما عنها، إذ أن العالم خارجها كان من الظلم والفظاظة إلى الدرجة التي اقتحم عليها عزلتها وأجبرها على التعامل معه، ولهذا، حولها من شاعرة تريد إثبات نفسها على المستوى العائلي والشخصي، إلى شاعرة مضطرة إلى إثبات هوية شعبها ووضعه على الخريطة، كان عليها هي بالذات أن تعبر عن هزيمة شعب كامل، وقمع بلد بحاله، وكان أن رأت ما تعرضت له من تهميش وإهمال يشابه تماماً ما يتعرض له شعبها كله، ولكنها، ومن منطلق ما تعرضت له من تربية وقوانين وثوابت لم تر في تلك الهزيمة سوى البكاء والتفجع، وهو سلوك أقرب إلى روحها والى ما تعودت عليه منذ صغرها، والبكاء سلوك سلبي ولو كان شفقة ورحمة، والبكاء موقف فردي ولو كان من دوافع نبيلة، وقد وقفت فدوى طويلاً في هذه الحالة ليدل ذلك على انعدام رؤية سياسية عميقة وشاملة لديها، على الرغم من مشاركتها الهامشية في الحياة السياسية التي شهدتها فلسطين في الخمسينيات من القرن الماضي.
وهي على عكس شقيقها الراحل الكبير إبراهيم، لم تستطع أن ترى الصورة كاملة، ولا المشهد شاملاً، فظلت عند حدود معينة لا تتعداها. وفي الوقت الذي استطاع فيه إبراهيم أن يتجاوز حدود طبقته، وأن يتعدى قوانينها وأن يعتمد على نفسه، وأن يذهب بعيداً في الحياة والإبداع؛ نجد أن فدوى خشيت كل ذلك، أو أبقته طي الكتمان. وربما كان لذلك أسبابه الوجيهة والمفهومة، فهي في نهاية الأمر امرأة في مجتمع محافظ لا يرضى ولا يقبل ولا يهضم التمرد عليه، وفدوى - وعلى الرغم من كل ثورتها الهادئة على وضع المرأة في المجتمع الفلسطيني - إلا أنها حافظت على كل ما لا يسيء لهذا المجتمع. انصياع شاعرتنا الكبيرة للسقوف والجدران التي حولها والتي بنتها لنفسها، أيضاً، دفعتها لأن تصمت كثيراً وأن تُجامل كثيراً وأن تحذف كثيراً، أيضاً.
ميلها الواضح للمجاملة والمصالحة والمهادنة جعلها تميل إلى الغموض حتى في عرضها لمسائل ذات جدل كبير في الشارع الفلسطيني والعربي أيضاً، وربما كان ذلك يعود إلى أن الشاعرة نفسها لم تُرد لنفسها أن تُشغل موقعاً غير الموقع الذي ترغب به، بمعنى أنها كانت تميل إلى العزلة والوحدة والاقتصار على صديق أو صديقين، وربما أنها لم تكن مؤهلة لذلك؛ الجدل القاسي والصعب خاصة مثل الذي كان يدور في الشارع الفلسطيني. هل كانت تريد أن تثبّت لنفسها إطاراً واحداً تضع فيه صورة واحدة في أذهان الناس؟! صورة الشاعرة المتأملة، المنعزلة، المترفعة، التي لا تدخل في التفاصيل؟! هل كانت تتجنب الخوض في حياتها الخاصة باعتبارها كنزاً تستدفئ به في وحدتها الطويلة؟! هل كانت ذات طبيعتين تخفي إحداهما لأن ليس من حق أحد أن يطلع عليها سواها؟! هل كانت مثل شقيقها الراحل الكبير إبراهيم طوقان الذي ملأ الدنيا وشغل الناس!!
كائنةً ما كانت الأجوبة، إلا أنه يمكن القول إن تربية فدوى وبيئتها الأولى والقوانين التي تشربتها والجرح العميق الغائر في قلبها، علمتها الكتمان والسكوت والمجاملة، وعلمتها أن لا تُخيب الظن، وأن لا (ترتكب) ما من شأنه أن يشين العائلة أو الطبقة أو المستوى. وأعتقد في هذا الصدد أنه في الوقت الذي تعرضت فيه الشاعرة للقمع والاضطهاد فإنها - وفي الوقت ذاته والقوة ذاتها - عمدت إلى قمع ذاتها هي أيضاً، من خلال ذلك الاستسلام الهادئ للتقلبات والظروف والشخصيات التي أحاطت بها. نخلص من هذا كله إلى أننا أمام شاعرة انتصرت على ظروفها ولكنها لم تنتصر على "تابوهات" تلك الظروف، شاعرة حققت إبداعاً ولكنها لم تحقق مواقف، عبّرت عن وجدانها ولكنها لم تعبر حدوداً أو تخترق سقوفاً. وهي لم تكن ولم تشبه شقيقها، حيث لم تنسلخ عن طبقتها ولم تخترقها ولم تخنها أيضاً. ومن هنا، لم تتخذ مواقف واضحة أو حتى ثابتة من قضايا كبيرة ومنعطفات حادة مرت بها المنطقة. ونحن هنا لا نطالب بما لا تطيق وبما لا تريد وبما لا ترغب، ولكننا بصدد سيرة شاعرة كبيرة لم تعد سيرتها شخصية إلى حد كبير.
ولهذا أيضاً، فإننا إذا حاولنا رسم صورة اجتماعية ثقافية للروافد الأولى لشاعرتنا فيمكن القول إن فدوى التي تفتحت على قديم يتداعى وجديد يتناهض، وطبقة تنهار وطبقة تقوم، ودولة تذهب ودولة محتلة تستبد، ومجتمع يتهدد، وآخر ينبت بشكل مفاجئ، قد تشربت مبادئ الثقافة الواردة الحديثة الليبرالية، وهي الثقافة الأقرب لطبقتها، ما يعني أن شاعرة مثقفة ومتقدة الإحساس مثلها، لا بد لها أن تنغمس إلى أذنيها في ذلك السياق الفكري الاجتماعي، ولكن هذا لم يحوّلها إلى ثائرة ومتمردة كتقليد شباب تلك المرحلة، حيث شهد ذلك الزمان تعدد الحركات والثورات والجماعات والجمعيات. إن حماسة تلك الأيام ووهجها، أيضاً، لم يورطها في الالتحاق بإحدى القوى أو الجبهات، بل ظلت على الهامش، كما تحب هي أن تعيش.. شاعرة فقط .. شاعرة تستمتع بتأوهاتها وتفجعها وبكائها. هذا الاستمتاع بالألم، والاستمتاع بالانتصار الشخصي، جعلها تتورط في علاقات عاطفية لم تكن موفقة في معظمها، الأمر الذي زاد من مرارتها وخيبات أملها، ويمكن فهم هذا الشعور في قصيدتها المشهورة بعد العام (1967) عندما زارت حيفا، وقالت قصيدتها تلك، حيث لم تجد في قلبها سوى التفجع والبكاء ولم تر ملامح القوة وإشارات الصمود.
إن شاعرة بهذه الخلفية النفسية والاجتماعية، وتعيش هذا الواقع الصعب والمعقد، كان عليها أن تكون بمستويين ولغتين وحياتين وسيرتين أيضاً. وحتى لا نظلم شاعرتنا الكبيرة، نقول إن الشاعر لا يمكن له أن يتخطى واقعه وزمانه أيضاً، فسنوات الخمسينيات والستينيات كانت سنوات الأفكار والرؤى والثورة، سنوات الشباب والهيجان وثورات الجسد وثورات الشعوب، وانقسام العالم إلى أبيض وأسود، أو إن شئت طيّب وشرير، كان "الطيّب" يقدم نفسه فقيراً، ولكنه إنساني، فيما يقدم الشرير نفسه على أنه غني ومتعدد، أما منطقتنا فقد وقعت تحت تأثير الطيّب والشرير على السواء، وكان على مثقفنا العربي أن ينحاز أو أن يناقش ويجادل، وأن ينفعل وان يكتب.
وكانت الوجودية إحدى نتاجات الشرير المتعدد والغني، وربما كانت توفر للمثقف العربي حينذاك ما يحتاجه من حرية وانطلاق وما يحتاجه من شعور بالالتزام والمسؤولية، وبالتالي يجمع ما بين أفضل ما في الماركسية وأفضل ما تتمتع به الليبرالية الغربية، وربما - وهذا محض ادعاء - يعود ذلك إلى انتشار تأثير الوجودية في منطقتنا العربية في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الوجودية كتيار فلسفي وجد دعما له في صورة مؤلفات عظيمة لأسماء كبيرة وهامة، فإن ذلك كله شكل بريقاً لا يمكن أن يقاوم، نقول ذلك كله للوصول إلى تأثير هذا التيار على معظم نتاجات تلك العقود، ومنها شاعرتنا العظيمة، التي تجد في دواوينها الأولى أثر الفكر الفلسفي الوجودي وتلك "الثيمات" التي تتردد في أدبيات ذلك التيار.
إن الاحتماء بـ"الذات" وتعظيمها وتضخيمها مع ميل ما للترفع أو الانزواء من منطلق الإحساس بالعظمة وليس الدونية أو قلة الحيلة، كان ما يميز شعر تلك المرحلة، حيث لا نجد سوى ذلك الاستمتاع بالوحدة والعزلة وتقليب الأفكار والذكريات، مع ملاحظة هامة هي الإحساس بالقوة والمنعة والتمركز حول الذات، بمعنى آخر، هناك استمتاع بالوحدة، ولكنه استمتاع القوة، هو أشبه بمصادقة الذات والاستمتاع بكون الشخص هو نفسه. أنّى لشاعرتنا أن تقرأ للوجوديين؟! ومن أين لها أن تتأثر بأفكارهم!! تقول شاعرتنا إن مجموعات المثقفين في نابلس والقدس - وبينهم الثوريين والأكاديميين - كانوا يتناقشون بكل شيء ويتبادلون الكتب المترجمة وغيرها، وهذا ما قالته الشاعرة في مذكراتها، وقالت، أيضاً، إنها كانت تنخرط في الجدل الفلسفي بشكل لافت، وقد كانت شاعرتنا متحفظة في الإشارة إلى طبيعة تلك المناقشات، فإذا عرفنا أن فدوى لم تتحصل على تعليم أكاديمي منتظم وكاف، فإننا سندرك مدى "الانبهار" الذي ستشعر به أمام كل أفكار جديدة تدعو إلى الالتفات إلى الذات من منطلق الحرية المسؤولة - ونجد أنفسنا مدفوعين حقاً إلى اقتراح هذا المدخل لفهم سيرة الشاعرة ونتاجها الإبداعي كله - فالذات الحرة المسؤولة هي التي أنتجت ذلك الإبداع القائم في منطقة الوسط من كل شيء، شكل القصيدة القديم والجديد، والصورة الشعرية الكلاسيكية والحديثة، والذات والآخر، وعبادة القديم ومقاربة الجديد. أما حياتها، فهي، أيضاً، في الوسط من كل شيء، الثقافة والطبقة، أولو الأمر والحياة العادية المتقشفة، الوضوح والغموض، المجاملة والصراحة، الحب والزواج، العزلة والعائلة.
نحن أمام شخصية إرباكها يصدر عن تلك الحياة الرتيبة في ظاهرها، والغائرة في باطنها، ويصدر عن ذلك الشاعر الهادئ الرخو في جملته، المضطرم في معانيه ومراميه. ولكن متى لم يكن الشاعر مربكاً أصلاً ؟! الشاعر مربك حقاً، إنه يفاجئنا دائماً، وهو بحق مفاجأة واقعة، و"خبر" أهله. وما كان لنا أن نعرف شيئاً يمتلك كل هذا القدر من الصدق والحساسية والتصوير لولا فدوى طوقان؛ المرأة الفلسطينية التي عانت في العشرينيات، وتعلمت في الخمسينيات، وشعرت وكتبت وتفاعلت، لتعطينا كل هذه الحياة وكل هذا الشعر. هل يمكن القول إن الشاعر "زلزال" عصره ؟!
بمعنى من المعاني.. الجواب نعم! ذلك أن الشعر هو الجماعة (رغم أن ذلك قد يزعج كثيراً من المنظرين والنقاد). حتى عندما يكتب الشاعر عن ذاته، فإن ذاته هذه هي مجموع أوامر ونواهي وذائقة الجماعة التي ينتمي إليها، ناهيك عن اللغة التي يكتب بها وهي ما تعلّمه من جماعته، حتى التركيب والصورة والموسيقى، كل ذلك قواسم مشتركة مع الجماعة، وبهذا فالشِّعر هو الجماعة، وهو أكثر الأدوات إغراءً بالجماعية والإحساس بها. ومن هنا بكت فدوى طوقان مع الباكين، وناحت مع الثكالى واللاجئين، كانوا صورتها الخارجية، وكانوا صوتها الذي فقدته في الواقع، وكانوا مشاعرها الأقوى، تلك المشاعر التي تعوّدت على قمعها. ومن هنا كان غناؤها للحب بشكله الأصفى والأنقى والأكثر رقة وعذوبة، أو لنقل الحب بصورته الأكثر صمتاً وحياءً وعفة.
الكلام عن الحب، محرج وثقيل في واقع لم يتعوّد أفراده الكلام عن الحب، باعتباره "العيب" أو "الخيار" الذي لا يمكن الكلام عليه، فهو سبب المهالك أو الفضائح أو مقارفة الذنب. شاعرتنا الكبيرة، تكلمت عن الحب، بالكلمة الأنعم والألطف والأكثر صمتاً، كان تلويحاً بالحب لا مقاربة له، كان استشرافاً للمشاعر وسبرها واستطعامها، كان شيئاً شبيهاً بالكلام عن الألم والعذاب. (تستعذب شاعرتنا الكلام عن الألم). كان الحب مفاجأتها الأخرى، كان ذاتها الأخرى أيضاً، ومن عجب أن شاعرتنا الكبيرة ظلت متحفظة طيلة الوقت، كانت لا تصرح ولا تلمح، تكتمت على حبها وجعلته كنزها الذي لا تبوح به أبداً. هل هي غريزة العاشقة التي تعمد إلى إخفاء اسم معشوقها خوفاً عليه من الأخريات؟! هل هي التربية والطبقة؟! هل هي نزعة أصيلة في الشاعرة التي تميل عادة إلى "الصمت والبكاء"؟!
ولكن حبها كان مثلها، أيضاً، بكاءً صامتاً، ينفعل ولا يفعل، يتهيأ ولا يغوص، يكتفي بالإشارة عن العبارة. وكان ذلك جديداً في تاريخ القصيدة الفلسطينية؛ جديداً ومفاجئاً وجميلاً، وقد تقبلته الأوساط الأدبية العربية بالترحاب والقبول. ولكن قصيدة الحب التي كتبتها فدوى كانت قصيدة مترفعة، كتومة، مغلقة، صامتة، ليس فيها من الألوان والروائح الشعبية شيء، وليس فيها من الحس الشيء الكثير، وكان ذلك من الأسباب التي جعلت من تلك القصائد أقل انتشاراً بين الناس، ظلت قصائد خاصة تعبّر عن حالة خاصة لشاعرة خاصة، لا تبوح وتحذف أكثر مما تقول.
نعم، هي تحذف أكثر مما تقول! هي تقف وسط كل شيء، بين الإشارة والعبارة !
قصيدة الحب التي كتبتها فدوى طوقان لا تشبه قصائد أخيها إبراهيم (الذي لم يكتب في الحب وإنما في الغزل، والغزل فيه شهوة والحب فيه عفة، الغزل فيه شبق والحب فيه عبادة). قصيدة فدوى - ولا نبالغ إذا قلنا - تتحدث عن حب معقّد، فيه إشارات وفيه ألغاز وفيه أعماق لا يتشاطر القارئ العادي معها، فإذا أضفنا إلى ذلك ما تتميز به قصائد الشاعرة من الهدوء وتلك "الرخاوة" أو ذلك "الفتور"، فإن تلك القصيدة - قصيدة الحب - لم تتحول إلى ما يمكن اعتباره شعر لافتة في الحب، فهي قصيدة الصوت الخفيض والهامس والحييّ، وهي قصيدة المعنى وليس الصورة التي تزدحم باللون والحركة والصوت، وهي قصيدة الشهوات المهذبة والرغبات المقموعة والتربية الخاصة.
ثورة الحب هذه، أو مفاجأته، كانت مقدمة لثورة أخرى في نفس وإبداع الشاعرة، تمثلت في الغناء للثورة والمقاومة ولرموزها ورجالها، كانت سنة (1967) انقلاباً كبيراً في حياة الفرد العربي والأمة العربية. في ذلك العام سقطت كل الأشياء والمعاني والمقدسات، كان سقوط القدس العام (1967) يشبه، إن لم نقل إنه كان أخطر من سقوط بغداد أمام المغول أو سقوط بغداد أمام المغول الجدد، مرة أخرى! في ذلك العام، استيقظ الحالمون والافتراضيون والشعاراتيون والمغتربون والمستعربون والسلفيون والحداثيون.. استيقظ الجميع على هزيمة لا تشبه الهزائم، وعلى انكسار لا يشبه الانكسارات.
كانت هزيمة مخجلة بكل المعاني وبكل المقاييس، لأنها لم تكن متوقعة، وانبرى البعض للتجميل وانبرى البعض الآخر للتبرير، ولكن الهزيمة هزيمة.. سوءة قبيحة لا يسترها شيء! وفي تلك السنة، أيضاً، عرفت شاعرتنا الكبيرة أن الظلم والطغيان حقيقة واقعة في الكون، حقيقة ممضة وفظة، وهي التي اكتوت به داخل جدران بيتها وداخل جدران وعيها، هذه المرة، كان الطغيان يشمل الكون كله، كان البكاء لا يكفي وكان النواح والندب لا يكفي، أيضاً. هذا طغيان مختلف، هذا ظلم يطال كل شيء، الفرد والجماعة، الماضي والحاضر والمستقبل. هذا ظلم يصادر كل شيء، ويُميت كل شيء، هذا ظلم لا يطاق ولا تمكن الحياة معه أو تحت ظله. وكعادتها، فقد أحست شاعرتنا بهذا الظلم من زاويتها الخاصة، ومن ذائقتها الخاصة أيضاً، ولكنها هذه المرة، تقدمت أكثر، كانت واضحة وصريحة ومباشرة، وربما يمكن القول إنها كانت حادة في التعبير عن نفسها، ربما لأول مرة يكون ذلك.
الاحتلال اعتدى على حياتها بالكامل، وهدد خصوصيتها وهدوءها ورتابة حياتها وتنقلاتها ورحلاتها وصداقاتها وبريدها وأزهارها. فغنّت للمقاومة وغنّت لجبل النار، وغنّت لنابلس التي كانت وما تزال تقدم النموذج الساطع في المقاومة والتصدي. غنّت للرجال والسواعد والدماء الزكية، غنّت للوطن ولأهل الوطن، وأفرغت الشاعرة حبها ووجدها لما يحدث أمامها من أعمال مقاومة مجيدة. ومرة أخرى، تتربع الشاعرة على قمة السبق والالتقاط والتصوير والمعايشة، لم تكن شاعرة مقاومة، ولكنها غنّت للمقاومة، لم تكن شاعرة موقف ولكنها كانت شاعرة الوجدان. كانت بشعرها أشبه بالأم التي تدعو لأولادها أن لا يصابوا وأن يحفظهم الله من كل شر أو سوء.
شِعرُها، في تلك المرحلة، لم يكن يحمل ذلك الغضب ولم يتميز بتلك المراجل القوية التي تبث القوة في العروق والأوردة، ولكنه كان أشبه بالتميمة التي تُعلّق في العنق. كان شعراً يصدر عن أُمّ وسع حبها كل شيء حتى عدوها، لولا غباؤه وحقده وعنصريته، ومن هنا لم يفهم العدو قصائدها بل اتهمها بأنها آكلة أكباد الجنود، وما درى هذا العدو أنه غير بعيد عن حب تلك الشاعرة لولا كراهيته لكل شيء. وفي هذا، تقف الشاعرة موقفا إنسانياً فريداً من نوعه، ذلك انها لم تتميز بالتطرف أو التعصب أو الانغلاق، بل تميزت بنظرة إنسانية عميقة وسعت كل الاتجاهات والأعراق والأجناس. ولا نكاد نلمس في شعرها كله أي نوع من أنواع الاتهامات أو التعصب لفكرة أو لشخص أو لعقيدة.
شاعرتنا الكبيرة فدوى طوقان، ظلت طيلة حياتها تمسك العصا من الوسط ، قادرة على القول وقادرة على الحذف، قادرة على التلميح دون التصريح، قادرة على الابتسام الجميل رغم اضطرام داخلها بالنيران. هل يمكن القول إنها لم تستنفذ طاقاتها كلها بسبب الظرف ! أم إن الإنسان بعامة والمبدع بخاصة يُجهَض حين كان يجب أن ينهض ! وهل كان داخل فدوى شاعرة أخرى لم تخرج أبدا؟!