يؤاخي الشاعرفي رؤياه، وفي ابتهالاته وإشراقاته الجوانية، بين الجحيم والفردوس، ويقيم نوعاً من التناغم المجازي، بينه وبين طاغور الشاعر والفيلسوف والحكيم الهندي، حتى يصل إلى دواخله مستبطناً إياه، في شروق فردوسي ساع إلى النعيم والتيه النوري.

«الهائم في البرية» روح تبحث عن المجهول والغامض

هاشم شفيق

 

غوص الشاعر المصري عبد المنعم رمضان في عوالم الما وراء، باحثاً عن المتواري والمستتر والمبهم في هذا الكون الواسع. إنه في الحقيقة مسعى عرفاني، طويل، مسعى نحو معالم الصمت والهدأة والبكورية الأولى، حيث النشور والتخليق الأول للكائنات، نحو فجر الخليقة حيث النشوء والصعود باتجاه معارج النور، والتكوين البدئي المترع بالفيوضات الضوئية. بين كل هذه الانثيالات النورية يبحث الشاعر عن ذاته وتشكلاتها الأولى، ويبحث في الوقت عينه عن كنه المخلوقات والكائنات، فضلاً عن تساؤله الفلسفي عن كنه الوجود وماهيته.

هكذا يبدو عبد المنعم رمضان في جديده الشعري “الهائم في البرية”، وهو الإصدار العاشر في سياق مسيرته الشعرية الطويلة، تلك التي بدأها في أواسط السبعينيات، وظلت في دفق إبداعي وجمالي متواصل حتى هذه اللحظة، وهو الإصدار الذي يأتي بعد صدور أعماله الشعرية في مجلدين. إنها مسيرة مكللة بالسطوع الشعري، وناحية إلى الكمال الفني الذي لا يكتمل، إلا بالبناء التعبيري المستمر، والتشييد الفني الذي يسعى إلى الاستكمال المعماري الشعري الدائم، ذلكم البناء القائم على أفق التخييل والرؤيا والسير باتجاه النبوءات الغائمة، حيث السديم والبياض المطلق، والهيمان في عالم بعيد، صوب البراري، صوب المهاوي والظلام، حيث العزلة البرية، والاستئناس بالخلاء، والبعد كل البعد، عن العالم الأنسي الملوث بالنوايا والهواجس والأفعال، غير الأنسية والأنيسة، أو الأليفة. فالألفة التي ينشدها الشاعر الحالم والهائم في البرية، لا يجدها بين البشر، بل في الصحارى والأمداء الوسيعة والآفاق المفتوحة على اللا معلوم، فهناك سيتوغل الشاعر الرائي في محنته الوجودية، ذاهباً عميقاً في برية نفسه، حالماً بالتكاوين التي يبتغيها وسابحاً في أكوان أخرى، تجترحها نفسه، ويبتكرها مخياله الشقي، ذلك العارف بالمكابدات والتهجدات والتراجيع الروحية.

لم يكن عبد المنعم رمضان صوفياً بالمعنى المتعارف عليه، ولا بهلولاً يتوسل ظلال الله في مسعاه اليومي، بل هو هنا هائم في برية روحه، في خلاء نفسه، يستبصر المخفي في العتمة، والخبيء في أدغال الظلمة، ولكونه مستبصراً يرتدي الرؤيا كرداء، يقيه مطبات الحاضر الواقعي، الحاضر المأزوم والمنتكس، والمتشظي زمنياً، فهو هنا يلعب ويحلم، ويُثير غبار الضوء في مسيره، وفي معراجه وصعوده نحو الخلوة الذاتية، نحو العرش الشخصي للنفس، وهي تتوج مسارها بالصمت والبحث المضني عن الضوء، وسط الظلام المهيمن والدامس، ذلك الظلام المُعيق للروح البشرية، المُعيق لرؤيتها داخل تفاصيل حياتها اليومية، حتى ظلام الموت يراه في خلوته هذه، يراه على أنه النهاية، وعلى أنه العدم والغياب والتلاشي .

” أيها الموت الذي أراه كل ليلة

أخافُ أن تكونَ أنتَ حارسَ البستانِ

مثلما يُشيعُ عنك الرب

أن تكونَ حارس النسيانِ

مثلما يشيع الناسُ في بيوتهم،

أخافُ أنْ أكونَ صيدكَ القادمَ،

قبل أن تنام على نوافذ الأيام

والأحلام دون مهنة” .

يؤاخي عبد المنعم رمضان في رؤياه، وفي ابتهالاته وإشراقاته الجوانية، بين الجحيم والفردوس، ويقيم نوعاً من التناغم المجازي، بينه وبين طاغور الشاعر والفيلسوف والحكيم الهندي، حتى يصل إلى دواخله مستبطناً إياه، في شروق فردوسي ساع إلى النعيم والتيه النوري، والبهجة العليا، غير الأرضية. إن رمضان في هذه الأشعار شاعر غير أرضي، وعلى حد تعبيره حين يُحب شاعراً ما بعينه يصفه بأنه” شاعر مسكون”، فهو هنا، أي رمضان، شاعر مسكون من طراز رفيع، والمسكون هي دلالة سيميائية، فيها الكثير من الشرود والتوهان والبهلولية، فهي صيغة نبوئية للذي فيه مس من الجن، ألم يقل الشاعر القديم: “تخبرني الجن أشعارها”، وها هو يقابل طاغور في رؤياه المُتحولة إلى قصيدة “فر الجميع من أمام النور”.

ليقول فيها:

“أوراق الخريف ظلت تحط على نافذتي وترتعش

فأخفيتُ تحت جلدي جيتنجالي طاغور

أخفيت طيوره الشاردة في اتجاهي

وأخفيت السحبَ النازلة من جلبابه الواسع

وأظهرتُ فقط فانوسه الذي يحمله وراء ظهره

ليُلقي بظله أمامه” .

يُحسن الشاعر عبد المنعم رمضان التعامل مع مقامات العشق والعاشق، كونه الأقرب إلى العوالم العرفانية، وإلى التيه الشخصي، حين يحط العشق على شخص ما، يحوله إلى كائن من نور، من تبتل وتهدج، ومن مكابد، كادح في سوح الجمال والبريق المشع للمحبوب، فكل نأمة تند عنه تتحول إلى حقل دمع وإلى طيور وفراشات، وإلى فضاء من النور والدموع واللوعة، فضاء يركض فيه العاشق دون تحسب للمهاوي والعوائق والكمائن، حيث تكثر مطبات السقوط، فهو حين يسعى إلى المحبوب، لا يفكر إلا بالصعود، والذوبان في النشيد الملائكي للحبيب الذي يسعى اليه لكنه لا يلتقيه، ولذا يبتعد صوب معارج النور، وها هو ذا يكتب إلى شيرين:

” كأنك الأرض التي يسيرُ فوقها الحمامْ

كأنك الظلامْ

كأنك الرياح تمشي وحدها

من الوراءِ هكذا إلى الأمامْ

كأنكِ استضافتي للنجوم والملائكة

كأنكِ الملائكة

رأيتُ فوق فمكِ المفتوحِ نجمتينْ”.

قصائد عبد المنعم رمضان في هذا الديوان، مختلفة، مغايرة لمساره الشعري، ومتجاوزة لما قدمه في الدواوين السابقة، فهو هنا يغترف من فيوض اللاوعي، ينصت للدواخل، ويستدرج الخفي إليه، في رحلته مع العدم والتلاشي في الميتافيزيقي، نابذاً صلته بالواقع العيني، المخترق والمُهلهل، والمليء بالرجال الجوف، بتعبير تي ـ أس ـ إليوت الشاعر الإنكلوساكسوني، ذلك أن واقعه يشي بذلك، ويرشح بالكوابيس، ومن هنا يلوذ الشاعر بالبرية، فهي تلوح له كمخلص، لكي تنتشله من واقعه الدميم إلى واقع الحلم، واقع التصورات غير العينية، حيث الواقعية الفجة التي تأتي دائماً بالرجال الجوف، العائمين فوق سطح الواقع المر والدامي، واقع يُهزَم فيه صوتُ الانسان الأرضي، وصوتُ الشاعر الحق، صوت الفنان الحالم، ليحل محله الانزياح الدلالي المتمثل بوجود الكوابيس، تلك التي يصنعها هذا الواقع المراوغ، المفعم بالتحايل والمؤامرات والتدابير البرانية .

إلى ذلك، يحمل الديوان ثلاث قصائد عن الكابوس، وهي “تحذير من الكابوس” و”تحذير آخر من الكابوس” و”الكابوس”، وهنا الكابوس يأتي كاستعارة لتعبير رمزي، يحمل مراميه وأبعاده وتصوراته الدلالية، هذه التي ينطوي عليها مفهوم الكابوس، بصيغته “الإكلنيكية” ذات المحمولات النفسية، حيث انشطار الذات أمام الواقع، وهو واقع متهاو وآيل إلى السقوط بالأساس، يبتعد قدر الإمكان عن الزمن بصيغته الراهنة، لكي يلتفت إلى الماضي، الماضي المنطوي والمنزوي في أقاصي الدهر، دون أن يمس طرَف من هذا الواقع الأيام الآتية، بغية الالتحاق بعربة المستقبل، تلك العربة السائرة بعيداً عن راهن الشاعر وزمنه المعاصر، وها هو ذا الشاعر الهارب إلى البرية، نراه يلجأ إلى الهدأة والسكون تفادياً للواقع الحالي، وتفادياً لوقْع الكوابيس التي تحاصره في ليله الخاص:

“هذه ليست بلادي

الرجالُ الجوفُ

والعسكرُ

والأطفالُ مثل حقائب الأحزان

والشمسُ التي تذبلُ بعد الفجر،

والصمتُ المريضْ

هذه ليست بلادي

ليس هذا ما أريد “. من قصيدة “كابوس” .

عبد المنعم رمضان: “الهائم في البرية”

 

دار العين، الإسكندرية 2018

156صفحة.

القدس العربي