صدر هذا الكتاب في يوليوز 2017، وهو في الحجم المتوسط، يتكون من 130 صفحة. بعد الإهداء والمقدمة نقف على إحدى عشرة قراءة في الكتابات الشذرية للشعراء والكتاب: محمد الصباغ، أحمد بركات، عبدالحميد بن داوود، عبدالدين حمروش، محمد الصالحي، خاليد سليكي، أسعد البازي، عبدالسلام الطويل، أحمد لوغليمي، أحمد الدمناتي، إيمان الخطابي ومصطفى قشنيني. ولقد كان الباحث محمد المسعودي واضحا وصريحا مع قارئ كتابه إذ حدد منذ السطور الأولى الخطوط العريضة والمفاصل الكبرى لمنهجه في القراءة النقدية للنصوص الشذرية المغربية، يقول في مستهل كتابه:« تنطلق هذه القراءة في الكتابة الشذرية المغربية من بعد أساس يتمثل في الكشف عن السمات الجمالية والتيمات المحورية في هذه الكتابة. وتسعى هذه القراءة إلى البحث عن المتجانس في هذه الأعمال الأدبية التي تشتغل بها لأنها تجسد نوعا من التماسك بين النصوص الشذرية عند المبدع الواحد داخل العمل المفرد أو أكثر من عمل، وتبرز نوعا من الصلات الخفية بين سماتها الفنية ودلالاتها المترامية الأبعاد، هذا من جهة، ومن جهة ثانية تكشف هذه الأعمال جميعا عن تشابه في السمات والتيمات التي يوظفها المبدعون على الرغم من وجود رؤى مختلفة بين كل مبدع وآخر ووجود أشكال متباينة في التصوير والتعبير داخل أعمالهم.»[1].
إن ما جاء بعد ذلك في ثنايا الكتاب وأعطافه لم يخرج عن هذه الاستراتيجية في القراءة والتي تم الإعلان عنها منذ مفتتح الكتاب، فكل القراءات الإحدى عشرة التي يتشكل منها الكتاب تغوص في البحث عن السمات الجمالية التي تزدان بها شذرات هذا الأديب أو ذاك كما تعمل قراءة الناقد على استكشاف التيمات المحورية التي ينشغل بها كل شاعر والتي تشكل مدار عوالمه الإبداعية.
ولقد كان محمد المسعودي دقيقا وواضحا في تحديد مرجعياته النقدية، وبخاصة فيما يتعلق بالشطر الثاني من قراءاته النقدية، الشطر الذي يهتم بالتيمات المحورية، نجد ذلك في مقدمة الكتاب بالنص الصريح، يقول:« فقد كان الهاجس الأساس لهذه القراءة هو " البحث عن الهوية الموجودة بين الشذرات ذاتها" كما يرى جورج بولي على اعتبار أن الموضوع يعد بؤرة النص الشذري. فالموضوع حسب جان بيير ريشار:" مبدأ ملموس في التنظيم، تصور أو شيئ ثابت قد يتشكل حول عالم ما ويمتد»[2]. ومعروف، عند المهتمين، أن جان بيير ريشار من رواد النقد الموضوعاتي ( التيماتي ) ومقولات هذا النقد معروفة متداولة، عمل ريشار على بلورتها في أكثر من كتاب. بيد أن السؤال هنا يبقى عالقا بشأن المرجعية الأخرى التي استند إليها محمد المسعودي، والمتعلقة باهتمامه بالسمات الجمالية، فهو لم يعمل على إيضاح الخلفية النظرية النقدية لهذه المرجعية ولم يشر إليها في المقدمة المذكورة كما فعل مع " التيمات المحورية"، وإن كان الناقد يشير بما يعرف بالاستدلال بالخلف إلى ناقد جمالي هو ألان مونطاندون صاحب كتاب ( الأشكال الوجيزة ° ( LES FORMES BREVES ) الصادر عن دار هاشيت عام 1992.
إن أي قراءة نقدية إن لم تكن مدعمة بالروافد المرجعية النظرية النقدية لا تحقق فاعليتها الإجرائية في استكشاف النصوص واستجلاء أبعادها المختلفة الفنية والدلالية. بيد أن الناقد محمد المسعودي، وإن عول في الغالب الأعم على ذائقته القرائية وتجربته الفردية في التحليل والتأويل، أبان في كل ذلك عن وعي عميق بأهمية الذات القارئة في استكشاف النصوص الشذرية وفي استلهام عمقها الفكري-الدلالي الذي يبني التصور للحياة والنظرة إلى العالم. ففي القراءات الإحدى عشرة التي يتكون منها كتاب ( الكتابة الشذرية..) يعمل محمد المسعودي على تشييد القراءات في سياق نسق عام يشدها إلى بعضها، ويلحم كل واحدة منها بالأخرى وهو ما يحقق للكتاب تماسكه وانسجامه النقدي العام. ففي كل هذه القراءات تتردد مقولات ( السمات الجمالية) و( التيمات المحورية) وهذين مفهومين نقديين بانيين لكل هذه القراءات ومؤسسين للتحليل والتأويل في الكتاب كله من أوله إلى آخره. لقد حضر في هذا الكتاب الناقد محمد المسعودي القارئ الحصيف والمتأمل العميق، والمحلل الدقيق، وبكل ذلك منح لعمله أفقا في الرؤية النقدية قوامه التأويل الذاتي المتبصر المتأمل. وهذه هي ميزة الكتابة النقدية عند محمد المسعودي في هذا الكتاب.
تقوم القراءات النقدية للنصوص الشذرية التي يعالجها الناقد محمد المسعودي على إواليات في القراءات تنبني في أفق التدرج من ( الإشارة ) إلى ( الشرح ) ثم إلى ( التحليل ) فالتأويل، وأخيرا ( التركيب ) الذي يجمع كل ماسبق في استنتاجات تنحو في الغالب إلى تبيان المبادئ العامة التي تحكم خصوصية الكتابة الشذرية عند هذا المبدع أو ذاك أو تلك ( الخصوصية البارزة ) التي تميز الكتابة الشذرية في جوهرها الناظم لكل كتابة شذرية عند أي كان من كتابها. على أن هناك ميزة أخرى تميز القراءة النقدية للشذرات عند محمد المسعودي، وهي ميزة ( طرح الأسئلة ) لإيجاد أجوبة من داخل الشذرات. فالسؤال بهذا المعنى إوالية نقدية تحدد إشكال القراءة ومسالك دروبها في الوصول إلى الأجوبة، وهذه الأجوبة، عادة ما تكون تحليلا يشبع السؤال بالمتابعات النقدية، وهي متابعات تروم الظفر ب( المحاور الناظمة ) التي تحكم الكتابة الشذرية في جوهرها وروحها، وبذلك تصل القراءة في نهاية المطاف إلى ( الخلاصات العامة ) هذه الخلاصات التي تنطوي ضمن ماتنطوي عليه، على تجليات المقولات النقدية الموظفة في القراءة والتي تتجمع في كليتها حول ( السمات الجمالية ) و (التيمات المحورية ). والحال أن هاتين المقولتين النقديتين الجامعتين لكل القراءات لا تنفي وجود خصوصية كل قراءة من القراءات الإحدى عشرة التي يتشكل منها الكتاب، فكل قراءة تبحث بذكاء عما يميز الكتابة الشذرية عند هذا الشاعر أو ذاك، وإن كانت القراءات كلها تتضام لتشكل بالنسبة إلينا، كتابا واحدا عنوانه ( الكتابة الشذريةفي الأدب المغربي الحديث – نماذج ومشارب). وهي دراسة نقدية قيمة تنضاف إلى القراءات النقدية الأخرى لصاحبها الناقد محمد المسعودي.