يرى الكاتب المصري المرموق أن السرد في فيلم «ورد مسموم»، تشكيلي محايد لا يدين أحدا، والكاميرا تألف المكان وتحب الناس، فتكاد تشم رائحة مياه تغرق الشوارع ويتفاداها المشاة بألواح خشبية، بل يتأكد لك أن الفقر ليس قرين الجريمة، وأن الفقراء يبحثون عن حلول فردية ولو أودت بحياتهم.

«ورد مسموم» متوالية تشكيلية في قصيدة سينمائية

سعد القرش

 

من أجمل اكتشافاتي، عام 2010، المخرج أحمد فوزي صالح الذي قابلته في مهرجان أبوظبي السينمائي، وهو يحمل فيلمه الوثائقي «جلد حي» بيمينه، لم يكن يقلد أحدا، ولا تعثر على بصمة مخرج آخر على أي مشهد في فيلم يغوص في منطقة دباغة الجلود، في حي مصر القديمة بالقاهرة.

عرفته مخرجا يختار الأصعب، ويجعل من المكان القاسي والمهنة الشاقة الخطرة جمالا متقشفا، ولا يتنازل عن الفني من أجل المعيش الرسالي، حتى أن أصدقاء عربا سألوني: هل هذا المكان حقا في القاهرة؟ وكان عيبا أن أوجّه السؤال نفسه إلى مخرج قفز سور مجرى العيون بالكاميرا، وأثبت أن بالقاهرة طبقات من المدن لا مجرد أحياء متجاورة، وأن عين المحب الحانية لن تشفق، وتستدعي الميلودراما، وإنما تكتشف البهجة، وتبصر قدرة ذوي الأيدي الخشنة على عشق الحياة.

وفاز الفيلم حينها بجائزة أفضل عمل وثائقي لمخرج جديد من العالم العربي، وحفّزته الجائزة وقيمتها 25 ألف دولار على إنجاز فيلمه الروائي «ورد مسموم». بعد الجائزة زارني أحمد فوزي صالح والروائي أحمد زغلول الشيطي، للاتفاق على تحويل رواية «ورود سامة لصقر» إلى فيلم، وقّعا العقد، وشهدتُ عليه، واشترط المؤلف ألاّ يُخرج الفيلم إلاّ أحمد فوزي.

زيارة مفاجئة لم تتح لي إحضار نسخ اشتريتها للشيطي من روايته الصادرة عام 1993 وهو في دمياط، ثم وزعت النسخ على أصدقاء انتقلت إليهم عدوى حماستي للرواية التي تدور أحداثها في أغسطس 1984، وتنتهي بموت بطلها صقر عبدالواحد وهو لا يتصل بنسب إلى صقر فيلم «ورد مسموم» إلاّ بالاسم، ويمكن أن يكون الثاني ابنا للأول، ولكليهما قضية مختلفة، ولا يشتركان إلاّ في وجود “تحية”، الأخت التي احتفظ بها الفيلم.

مخرج «ورد مسموم» كتب سيناريو فيلم ينتصر للسينما، ويرتفع بجماليات الصورة ويستسلم لأسْر فتنتها، ولكنه نجا من غواية الأدب الذي هزمت بعض نصوصه الكبرى أفلاما مأخوذة منها، وجعلتنا نتأرجح في المقارنة بين النص والفيلم، ونتوقع المشاهد والجمل الحوارية المنقولة من الرواية إلى الشاشة، باستثناءات قليلة منها «الكيت كات» بتصرف جسور يحسب لداود عبدالسيد في تغييره لعلاقات أبطال رواية «مالك الحزين» لإبراهيم أصلان.

لا دراما تقليدية في فيلم «ورد مسموم» ولا أحداث يمكن الاستدلال عليها من الرواية، فالفيلم قصيدة بصرية من عدة مقاطع، وربما يتشابه مشهد مع آخر لدرجة تبدو تطابقا، فلا اختلاف إلاّ في شبح انفعال، وحوارات شحيحة مقتضبة، وظلال ترتمي في الحارات الضيقة فتزيد مياهها الجارية دكنة، والمياه طينية كيمياوية ناتجة عن مراحل الدباغة وتختلط بمياه الصرف الصحي، كما تختلط المشاعر المكبوتة المشوّشة بين تحية (الممثلة كوكي) وأخيها صقر (الممثل إبراهيم النجاري).

تحية عاملة تنظّف دورات المياه في متجر كبير أو فندق، عمل ثابت تتفرغ بعده لإعداد الطعام، لكي تذهب به ساخنا إلى صقر الذي يمارس عملا موسميا في دباغة الجلود.

صقر دائما متبرّم، لا يبتسم لأخت لا تنشغل إلاّ به، ولا يشعر نحوها بأي امتنان، ويبخل بكلمة شكر، حتى بعد أن فاجأته بحذاء “أبّهة”، كما قالت لإسكافي أعطته مقاس قدم صقر الذي يريد خوض مغامرة الهجرة السرية، وهي لا تحتمل فكرة بعاده، أو التفكير في حب فتاة، وتتلصّص على هاتفه وتتصل بفتاة قال إنه يحبها، وتطلب تحية رؤيتها.

في لقطات كبيرة ومتوسطة تميل الكاميرا إلى تحية، شغفا بملامحها الحادة الصارمة، واهتماما يعوّض لامبالاة أخيها، وتحاول إحباط سعيه، فتلجأ إلى مشعوذ غامض (محمود حميدة) ينصحها بتعويذة لا تفيد، وتتشاجر مع أمها، لأنها تتواطأ مع صقر في اقتراض أموال تمكنه من السفر، ثم تبلّغ عنه الشرطة بحجة أن وجوده في السجن أفضل من استقبال جثته بعد مغامرة فاشلة للهجرة.

سرد تشكيلي غامض ومحايد لا يدين أحدا، والكاميرا تألف المكان وتحب الناس، وتنقل هذه المحبة، فتكاد تشم رائحة مياه تغرق الشوارع ويتفاداها المشاة بألواح خشبية، ورذاذ آلات الدباغة يصيب ثيابك، ولكنك لن تأنف وتأفف، بل يتأكد لك أن الفقر ليس قرين الجريمة، وأن الفقراء غير الضائقين بأحوالهم يبحثون عن حلول فردية ولو أودت بحياتهم.