تقدم الكلمة كتاب الأديب المصري الطريف والمختلف بحكاياته العلمية الشيقة والتي تلعب فيها الصور دورا مهما، حيث يسعى الكتاب لأشاعة نهج علمي في التفكير. ورأينا لكثرتها أن نبرمج النص في صورة بي دي إف إضافي تظهر فيها كل الصور التي يصعب برمجتها جميعا في متن النص هنا.

كتاب العدد

خمسون حكاية علمية قصيرة

رجب سعد السيّد

 

إهداء ..

إلى حفيديَّ: مالك ومراد .

اجتهدَ جدُّكما ليكون نافعاً لزمنه .. فلعل زمنكما يكونُ جديراً بكما!

جدو رجب

 

تقديم
صــديقــي القــارئ

أوصيـك بالاهتـمـــام بالثقافـة العلميــة .. إنها ثقافـة العصــر، وقد غابــت طويــلاً عن أجندة اهتماماتنـا الثقافيـة .. ولعل هذا الغياب لا يطول أكثر، حتى لا يستمر الإنســان العربي (غير مشارك) في متابعة الدوران المتســـــارع لعجلات العلوم والتكنولوجيـا، فـي عالــم تتغيــر ملامحـه كـل صبــاح !

والثقافة العلمية، كما نعرف، غير تلقي العلوم في قاعات الدرس التقليدية؛ فهي سعي فردي للمعرفة العلمية، من أجل اكتساب شخصية يشكل التفكير العلمي مجمل سلوكياتها، فتنبذ الخرافات، وتنأى عن الشعوذة والمشعوذين الذين تسربوا، في غياب الثقافة العلمية، إلى (جيوب) في عديد من جوانب حياتنا. كما أن الشخصية المصقولة بالثقافة العلمية تكون هي الأقدر على مواجهة المواقف والتعامل مع المتغيرات؛ ولا تنقصها الشجاعة في ذلك، فهي تمتلك رؤية متسعة المجال متعددة الأبعاد، وتعرف حقائق الأمور وطبيعة الأشياء، وتمتلك معيارها الخاص الذي يعينها على أن تعطي مختلف المسائل حق قدرها، بلا تهوين أو تهويل. كما أنها شخصية قادرة على الاستجابة للتبدلات والتحولات الطارئة .. استجابة لا تعني تقديم التنازلات المجانية، ولكن التفهم والتقدير والتصرف بمرونة تحقق الهدف بأقل الأضرار وأعظم الفوائد.

وليت من يهيمنون على إداراتنا الثقافية يدركون هذه الحقائق؛ فماذا نريد لوطننا أكثر من مواطنين بهذه الصفـات؟! ليتهم يدركون، ويجعلهم إدراكهم ينشطون إلى الدفع بالثقافة العلمية لتأخذ مكانها اللائق في قائمة أولويات العمل الثقافي.

 

1

نحن نأكلُ مياهاً .. إفتراضية!
أدهشتني فكرة كتاب أقرأه الآن، عنوانه (المياه الافتراضية)، وأحب أن أنقل لكم بعض ما أدهشني فيه، لعله يدهشكم أنتم أيضاً...

إنه يقول، ببساطة، أننا نحن البشر غير مدركين للقيمة الحقيقية للماء، ونجهل الكثير عن علاقتنا بالموارد المائية الطبيعية (أنهار- أمطار- مياه جوفية)، فأفرطنا في استهلاكها، وأسأنا إدارتَها، فلحقت بها آثارٌ خطيرة.

وكمثال لعدم إدراكنا لقيمة الماء أن معظمنا لا يعرف ما تشتمل عليه حياتنا اليومية من استهلاك لكميات هائلة من المياه.

ولا يعرف الكثيرون من الناس عن مشكلة ندرة المياه إلا ما يطالعونه من صور لصحراء قاحلة، وتربة شققها الجفاف، ومسطحات من مياه ملوثة. ولا يمكنهم تصوُّرُ احتمال غياب المياه النقية، التي تصل إليهم في منازلهم بمجرد أن يلفوا الصنبور أو يفتحوا غطاء زجاجة معبأة بها.

لقد اعتدنا أن نجد المياه إن احتجنا إليها لمختلف الأغراض، ولا يتوقف الناس ليسألوا أنفسهم عن أسلوب استخدامهم لها. والحقيقة هي أننا نفرط في استهلاك المياه، بل لعلنا صرنا دون أن ندري مدمني إفراطٍ في استهلاك الماء.

ما رأيكم في أن نلقي نظرةً من قريب على مكونات طعام الإفطار المألوف، وإن كان باذخاً نوعاً ما، في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، إذ يشتمل على كوب من الشاي أو القهوة، وشريحةٍ أو اثنتين من الخبز المُحمَّص، وربما شريحة من لحم، وبيض، إضافةً إلى كوب من الحليب، وقد يتضمن شيئاً من الفاكهة.

فهل نترجم ذلك إلى مياه؟.

لنبدأ بالقهوة. إن فنجاناً صغيراً منها يساوي 140 لتراً من الماء. نعم .. مائة وأربعون لتراً.. لا يوجد خطأ في طباعة الرقم، فهذه الكمية هي المياه التي استخدمت في زراعة وإنتاج وتعبئة وشحن الحبوب التي تتحول إلى القهوة، فكأنها مياه (مُدمجة) في القهوة، ويُطلق عليها (المياه الافتراضية).

ولكل شيئ مما نأكله أو نرتديه أو نستعمله في شتى الأغراض كلفة من المياه الافتراضية. فهل نعود إلى مائدة إفطار الشخص الأوربي أو الأمريكي العادي؟.

إن تكلفة الشريحة الواحدة من الخبز المحمص (التوست) أربعين لترا من الماء، تذهب في عمليات إنتاجه ونقله ثم تحميصه في نهاية الأمر.

 

1 - 1 - شريحة الخبز = 80 لتر ماء

 

 

1 - 2 - شريحة اللحم = 480 لتر ماء

وتكلفة التفاحة الواحدة من المياه الافتراضية سبعون لتراً، والبيض 120 لتراً.

وإن شرب شخصٌ كوباً مملوءاً بالحليب فكأنه ملأه بمائتين وأربعين لتراً، أما القطعة الواحدة من اللحم فكلفتها المائية 480 لتراً.

 

1 - 3 - كوب الحليب = 240 لتر ماء

ليصل إجمالي (فاتورة) هذا الإفطار إلى نحو 1100 لتراً، أي ما يزيد قليلاً عن المتر المكعب من الماء، ولكي نيسر لك تصور هذا الحجم، فتذكر حوض استحمامك (البانيو) ممتلئاً، وتخيَّلْ ثلاثةً منه وقد تجاورتْ، لتكون هذه هي الكلفة مُقدَّرَةً بحجم المياه التي يسهل جداً أن نتخيل أو نفترض استهلاكها في كافة عمليات إنتاج وإعداد مكونات أطعمة هذه الوجبة الصباحية.

وتخيل بيتاً جميلاً مكوناً من ثلاث طوابق، بكل منها ثلاث غُرفٍ فسيحة، مساحة كل منها 10x10 أمتار، واملأ كل الغرف والممرات بالمياه، فلا تترك فيها أدنى فراغ. ذلك هو تجسيدٌ لكمية المياه التي يستخدمها الفرد في الدول المتقدمة بالعام الواحد.

 

2

سيناءُ الحبيبةُ الغنيَّة !
سيناء شبه جزيرة، تشغل جبال ووديان جنوبها ما يقرب من ثلث كامل مساحتها؛ وواسطةُ العِقدِ فيها محمية جبل سانت كاترين، وفيها أعلى قمم جبلية بمصر، وأعلاها – إطلاقاً – جبل كاترين، ويبلغ ارتفاعه 2641 متراً. ويتخلل سلسلة الجبال أوديةٌ، تمتد لتنتهي في خليج العقبة، جهة الشرق، أو غرباً إلى خليج السويس. وبالرغم من أن متوسط معدل الهطول بالمنطقة لا يتعدى 62 مم في السنة، إلا أنه يقفز ليتجاوز 300 مم، على قمم الجبال العالية، التي تسقط عليها الأمطار بهيئة الثلوج؛ وهي الموقع الوحيد بمصر الذي تنزل فيه الثلوج شتاءً، حيث تنخفض درجة الحرارة حتى (– 10) درجات مئوية.

 

 

2 - 1 - سلاسل جبال جنوب سيناء

وقد عمل توفُّرُ الأمطار في جنوب سيناء، نسبياً، ووجود عدد من الينابيع بالمنطقة، على إغنائها بتنوع في الأحياء النباتية والحيوانية، يشتمل على أكثر من نصف إجمالي عدد الأنواع النباتية مصرية النشأة.

 

2 - 2 - نباتات برية في الودين وسفوح الجبال السيناوية

ومن طيور المنطقة، العصفور الوردي السيناوي، الذي قد يوحي اسمه بأنه أصيل في سيناء، غير أن منطقة انتشاره الأساسية في وسط آسيا؛ أما طائر (الشحرورة)، أو (السوادية)، فلا يوجد بمصر إلا في هذه المنطقة، فقط. ويعرفُ هواةُ مراقبةِ الطيور نوعاً نادراً من البوم يتميز به هذا الإقليم، هو (بومة بتلر) المعروفة بشراستها في الدفاع عن حماها ومناطق نفوذها بقوة، حتى أنه يقال أنها هاجمت جهاز تسجيل يذيع أصوات أفراد غيرها من البوم!.

وثمة نوعان من الزواحف، تربط بينهما صلة قرابة، أولهما (الضبُّ السينائي المزركش)، الذي يتميز بزخرفة الذيل، وهو الأصغر حجماً والأكثر تلويناً من الزاحف الآخر، (الضب المصري)، الذي يعيش في الوديان والسهول الرملية. ولسوء طالع هذا الحيوان الزاحف، صغير الحجم، شوكي الذيل، أن ألوانه البرَّاقة اجتذبت إليه هواة اقتناء الحيوانات الأليفة، في جميع أنحاء العالم؛ وقد شجع هؤلاء الهواة سهولة رعايته، فهو يأكل النباتات. ونتيجة لذلك، يتزايد نشاط صيد هذا الضب، مما جعله يدخل قائمة الكائنات المهددة بخطر الانقراض.

 

2 - 3- ضب سيناء المزركش

ومن الثعابين ذات النشأة الأصيلة في سيناء، (أبو مريرة)، وهو ثعبان مخطط الجلد؛ بالإضافة إلى (ثعبان هوجســـترول)، والثعبان المعروف باسم (حفَّـــار سيناء)، وهو في غاية الخطورة، يسكن الوديان الصخرية المعشوشبة، ويمكنه تسلق الأشجار؛ وهو متغير الألوان، مع ثبات في التشكيل.

ومن حيوانات المنطقة، (ثعلب بلانفورد)، وهو ثعلب جميل الشكل، صغير الحجم، كثيف شعر الذيل، ولم يكن موجوداً في سيناء قبل الثمانينيات من القرن العشرين؛ وهو قادم من الشرق، إذ أنه معروف في باكستان وإيران. ومن أغرب قوارض جنوب سيناء حيوان (الوبر) وهو عشبي، صغير الحجم، نهاري النشاط، يُصـــاد ليؤكل.

ومن أهم معالم وسط سيناء جبلُ العجمة، الذي يبلغ ارتفاعُه 1620 متراً؛ وتمثل هضبته الحد الجنوبي لهضبة التيه، المنحدرة باتجاه الشمال؛ وتنتهي الحدود الشمالية للهضبة الأخيرة بسلسلة من المرتفعات، تتراوح أطوالها بين 370 و 109 أمتار. وينشق من الهضبة، في الاتجاه إلى الشمال، عديد من الأودية المتشعبة، تمتد للمناطق المنخفضة في سيناء الشمالية، وإلى وادي العريش العظيم، الذي يمتد حتى السهل الساحلي.

إن هذه الأودية هي الموطن لحياة نباتية غنية ومتنوعة؛ ومن النباتات الشائعة هناك، (حبق الراعي)، ويستخدمه البدو لإكساب الشاي نكهة خاصة، ولعلاج متاعب المعدة. ومن الزواحف النمطية المميزة للهضبة، (حردون سيناء)، و(الحية المقرنة الكاذبة)، وإن كان وجودها نادراً. أما الخفاش المعروف باسمه العلمي بارباستيللا بارباستيلاس، وهو خفــاش صغير الحجم، فإنه لا يوجد بمصر كلها إلا في هذه المنطقة.

وفي الانقلابين (أي فصلي الربيع والخريف)، يستقبل الشريط الساحلي الصحراوي من سيناء تجمعات ضخمة من الطيور المهاجرة من أوطانها بالمناطق المحيطة بالقطب الشمالي. ومن أشهر طيور المنطقة (صياد السمك)، أو (رفراف)، وهو واحد من أكثر أنواع طيور المنطقة تلويناً، وهو مهاجر، أوربي المنشأ، ويشيع وجوده قرب القنوات والمسطحات المائية؛ ويميل للحالة الفردية. وعندما يصطاد فرائسه من الأسماك، ينطلق من مجثمه، منقضاً فوق الماء، مداهماً الفريسة، ويختطفها. وهو يطير في هيئة أقرب لشكل السيجار، بجسمه البدين، وذيله القصير.

وتُعدُّ منطقة وسط وشمال سيناء الملاذ الأخير للسلحفاة المصرية، التي أصبحت شديدة الندرة، حتى أنها أُدرجت في القائمة الحمراء، التي أصدرها الاتحاد العالمي لصون الطبيعة، عام 2000، المحتوية على الكائنات المهددة بخطر الانقراض؛ وثمة مشروع لحماية هذه السلحفاة، يجري تنفيذه في محمية الزرانيق، التي تقع بهذه المنطقة. كما يرتاد المنطقة بصورة متقطعة إناث نوعين من السلاحف البحرية، هما (الخضراء)، و (الغبية، أو كبيرة الرأس)، لوضع البيض في أعشاش رملية على شاطئ البحر المتوسط.

ومن الزواحف المنتشرة في الشريط الصحراوي الساحلي فأشهرها العظاءة المعروفة باسم (قاضي الجبل) ولا توجد إلا في شمال سيناء وجنوب فلسطين. وهي نهارية النشاط، ومهيَّــأة للحياة في بيئة الرمال، وتستطيع تسلق الشجيرات الصحراوية؛ وألوانها باهتة في عموم جسمها، إلا منطقة الزور الزرقاء، وأجنابها البنفسجية.

وتشغل بحيرة (البردويل) نسبة كبيرة من طول الساحل؛ ومياهها عالية الملوحة، ويفصلها عن البحر حاجز رملي قليل الارتفاع. والبحيرة ضحلة نسبياً، فعمقها بين نصف المتر وثلاثة أمتار، وقاعها رملي، و بها عدد من الجزر. وللبحيرة أهمية خاصة، إذ يتجاوز إنتاجها السمكي 2500 طن في السنة؛ ومعظمه من الأسماك عالية القيمة الاقتصادية.

 

3

موسيقى من النمل ..!

 

3 - 1 - موسيقى من النمل

كنَّا نجلس نحتسي الشاي في حديقة خارج القاعة التي تشهد فعاليات المؤتمر العلمي الذي نشارك به؛ والتفتنا – معاً – إلي صف من النمل يسعى حثيثاً تحت أرجلنا.

أخذنا العجب، لا من وجود النمل، فهو حشرة واسعة الانتشار، يمكنك أن تلتقي بأي من أنواعه العديدة في أي مكان، وفي أي وقت غير أوقات سكونها وبياتها. ولكن عجبنا جاء من أننا كنا قد سمعنا – منذ ساعات قليلة – بحثاً عن المردود البيئي لأنشطة بعض أنواع النمل؛ إذ كان مؤتمرنا حول البيئة والتنوٌّع الحيوي وهاهو صف من النمل يمرٌّ تحت مائدتنا، في هذا المكان النظيف الأنيق بأحد الفنادق (عديدة النجوم)، كأنما ليثبت حضوره في المؤتمر!

وفي حركة عصبية، مدَّ رفيق الشاي ساقه، وداهم طابور النمل فسحقه تحت قدمه. أصابني الضيق من هذا السلوك لزميل المؤتمر – وهو أعجمي – وحاولت أن ألفت نظره، في غير غلظة، إلي تأثري بما فعل؛ فضحك بدوره، متسائلاً: عجباً.. هل لا زلت تحب النمل بعد كل ما سمعناه عن نشاطه المدمِّر؟!

قلت: ليست المسألة حباً أو كرها؛ ولكن هذه الحشرة لا تؤذينا في بلادنا؛ وعلي أي حال، وبصفتك من علماء البيئة، فإن وجودها ضروري لتحقيق التوازن البيئي الذي خلق الله عليه الكون؛ ثم إن لهذه الحشرة صلة عاطفية طيبة بنا نحن المسلمين، فقد ذٌكرت في بعض الآيات في (القرآن)؛ وثمة سورة كاملة تحمل اسمها

وحاولت أن أترجم له – في لغته – معاني بعض الآيات من سورة النمل.

قال: أنا أعرف النبي سليمان، وهذه قصة طريفة حقاً!

قلت: هذه ليست مجرد قصة، فهي حقيقة إيمانية، وتاريخية؛ أم تراك لا تؤمن بمعجزات الرسل والأنبياء؟

قال: دعنا لا نختلف حول هذا، ولنكتفي بالتوقف أمام حديث النمل.. أنا لا أحاول أن أشكك، ولكني – فقط – أتسأل: كيف سمع سليمان حديث النملة.. هل سمعها بأذنه؟!

ابتسمت، وقد أدركت أنه يحاول أن يجرني إلي فخ؛ ورحت أوضح له أنني أعرف أن المستقر لدينا، منذ زمن طويل، أن النمل يتناقل المعلومات ويحقق الاتصال، عبر وسيلة كيماوية؛ فهو يتبادل إفراز مواد كيماوية هي (الفيرمونات)، ويترجم إحساسه بها – شمَّاً – إلي معلومات. وأظنك تريد، الآن، أن تسألني: كيف تيسر لسليمان أن يستمع إلي حديث بهذه اللغة غير المنطوقة؟!. وأنا أصدقك القول: لقد سألت نفسي ذات السؤال حين قرأت هذه الآيات بعد أن علمت بالحقائق عن حياة وسلوك النمل؛ ولكن ذلك لم ينل من صدق إيماني بالقصة؛ فهي – أولاً – وردت في القرآن؛ ثم إننا نتحدث عن معجزات و خوارق؛ وهذه لها قوانينها الخاصة التي لا تصلح لمواصفاتنا ومقاييسنا البشرية العادية والمحدودة. كانت تلك قناعتي الحقيقية: أن ذلك النبي الكريم – سيدنا سليمان – هيأ الله له قدرات خاصة تمكنه من الإنصات لحديث النمل، ولن يقلل من شأن هذه القدرات، أو يزيدها، إن كانت أصوات النمل ترددات مسموعة، أو كيماويات لها رائحة متميزة متغيرة الدلالات فنحن لا نعرف كنه هذه القدرات، المتعددة، التي كانت تجعله يفهم حديث الطير، ويبادله الكلام، ويتعامل مع الجان. والقاعدة، أن لا تجزئة للمعجزة، إما أن تقبلها كلها أو ترفضها كلها. وعلي أي حال، فإن الإيمان بالمعجزات التي تحققت بين الرسل والأنبياء ملمح مشترك بين كل الأديان.

وانتهي المؤتمر، ونسيت ذلك الحوار؛ حتى وقع في يدي عدد قديم نسبياً من مجلة (ديسكفر) الأمريكية، صادر منذ سنوات قليلة، وبه مختصر لحدث علمي مهم متصل بالنمل؛ فقد أعلن أحد الباحثين بجامعة الميسيسيبي بالبرازيل أن للنمل وسيلة اتصال أخرى عاجلة، يلجأ إليها في الملمات، ويمكن تشبيهها بالخط الساخن أو صفارة الإنذار ففي حالات الحرج، وعند الضرورة القصوى، تصدر النملة ترددات صوتية واهنة، ناتجة عن احتكاك أحد أرجلها البطنية بخطوط بارزة علي ظهر النملة، فكأنها تضرب علي أوتار!

 

 

3 - 2 - الخطوط البارزة التي تستخدمها نملة النار في إصدار الاصوات

وقد استطاع ذلك الباحث أن يسجل تلك الأصوات الضعيفة أكثر من مرة، خلال تعامله مع النوع المعروف باسم (نملة النار)؛ في برنامج بحثي يهدف إلي إيجاد وسائل للسيطرة علي هذه الحشرة التي تتسم بالشراسة، ومقاومتها، بعد أن تزايدت حشودها بشكل لافت للنظر في دول أمريكا الجنوبية. وكانت المرة الأولي عندما حاول الباحث، خارج نطاق البرنامج البحثي، وبدافع من حب الاستطلاع، أن يستمع إلي ما تقوله هذه الحشرة المزعجة، فدسَّ لاقط صوت حساساً داخل أحد الاستحكامات الترابية التي تبنيها جيوش نمل النار؛ وراح ينصت، فجاءته أصوات يصفها بأنها لا يمكن أن تكون صادرة عن الهرولة الدائمة للنمل، وإنما أصوات ندت عنها نتيجة الاضطراب الذي أوقعه بمساكنها إقحام لاقط الصوت؛ وهي تشبه الصرير، كأنها – في تلاحقها ولهفتها – أجراس إنذار؛ أعقبها هجوم ضار علي لاقط الصوت!

واستهوي الأمر الباحث، فرتَّب لتجربة وضع فيها بعضاً من نمل النار في صندوق من البلاستيك مزوَّد بلواقط صوت في قاعه، وموصَّل بأجهزة قياس حساسة؛ مع تصوير سلوكيات النمل من أعلي الصندوق بآلة تصوير (فيديو). وبقيت النملات تروح وتجيئ في (صمت) تام؛ حتى ألقي إليها، في محبسها، دودة، فأخذت تحك ظهورها بحماس شديد، لتسجل الأجهزة موجات صوتية ذات تردد منخفض، شبيهة بتلك التي صاحبت الهجوم علي لاقط الصوت، وانتهت بهجوم منظم علي الدودة!

***

فكرت، للحظات، أن أنقل ما قرأت – عبر البريد – إلي ذلك المتشكك؛ فهاهو دليل من النوع (المادي) الذي لا يصدِّق إلاَّ به، يؤكد أن ثمة موجات صوتية تصدر عن النمل، ويمكن سماعها بالأذن، بعيداً عن (الفيرمونات) التي لا (تٌسمع) بغير الشم!.

ولكن – عدت أسأل نفسي – هلي تراه يقتنع؟

وتخيلته يبتسم، يحاول أن يجرني إلي فخ جديد، ويتساءل: وكيف يستجيب النمل لهذه الترددات الصوتية التي يصنعها عند الخطر المداهم، كما تقول ويقول ذلك البحث، مع أن النملة ليس لها أذن؟ مع أن ذلك السؤال ليس له صلة بقضيتنا الأساسية التي أثبتها البحث، وهي أن للنملة أصواتاً مادية يمكن أن تسمعها آذان البشر، عن طريق أجهزة تكبير الصوت وتنقيته – كما حدث مع ذلك الباحث البرازيلي قوي الملاحظة – أو، بقدرات تفوق قدرات البشر العاديين، ولا تتوفر إلا لأصحاب المعجزات والخوارق من الرسل والأنبياء، عليهم جميعاً صلوات الله وتسليماته وعلي أي حال، لقد توقف الباحث البرازيلي أمام نفس السؤال، ومعه سؤال آخر هو: وهل يفرز النمل، مع صيحات الإنذار المسموعة، فيرمونات الاتصالات التقليدية؟

لقد استدعت الإجابة علي هذين السؤالين أن ينشأ برنامج بحثي آخر، مواز لبرنامج الأبحاث الخاص بمقاومة نمل النار المزعج؛ فقد تفيد نتائج البرنامج المستجد في تعميق مسار أبحاث البرنامج الأصلي، بالإضافة إلي احتمالات للكشف عن جوانب لا تزال مبهمة في أسلوب حياة وقدرات هذه الحشرة العجيبة.

 

4

أطيــانٌ وضِيَـــاعٌ قمرية !
من كلاسيكيات السينما الكوميدية المصرية شريط (المجانين في نعيم)، الذي أخرجه "حسن الصيفي" عام 1963، عن قصة شارك في كتابتها وإعدادها للسينما كل من "أبو السعود الإبياري" و "لوسيان لامبير"، وشارك في بطولته "إسماعيل ياسين"، ويقوم بدور إنسان بسيط، لم يتقبله المجتمع بعد خروجه من مستشفى للأمراض العقلية، ويقابل محتالاً، قام بدوره الممثل "توفيق الدقن"، يدير شركة وهمية، هي (شركة الفضاء الخارجي)، تبيع للغافلين أراض في القمر وكواكب المجموعة الشمسية؛ ويمر بمواقف أخرى تؤكد له أن الحياة في المستشفى أكثر (عقلانية) من الحياة خارجه، فيقرر العودة إلى نعيم المستشفى.

لا يبتعد تاريخُ إنتاج هذا الشريط كثيرا عن بداية سلسلة من قصص الخيال العلمي قامت على فكرة بيع وتمليك مسطحات وضياعٍ في الكواكب الأخرى، تاتي في مقدمتها رواية "روبرت أ. هينلين"، الصادرة عام 1950، وعنوانها (الرجل الذي باع القمر)، وفيها يضع بطلُها "ديلوس هاريمان" يـدَه على القمر الطبيعي للأرض، مستمداً نفوذه، حسب اعتقاده، من السماء! وفي عام 1958، دعا "إسحاق عظيموف" سكان الأرض، في روايته (صفقة المُشـــتَرَى) لأن يشتروا أرضاً في كوكب المشترى؛ وعاد "هينلين" بالعام 1961 فنشر رواية عنوانها (غريب في بلاد الغربة)، تحكي عن حكم للمحكمة العليا يفصلُ في قضية نزاع بين (مجموعة الأشغال الذرية العامة) و(شركة لاركين وشركاؤه)، ويقضي بأن تؤولَ ملكية القمر إلى الأفراد الفعليين الذين ثابروا على سكناه، عملاً بالمبدأ القانوني (العينُ لمن يشغلها). وفي السياق ذاته، جاءت في عام 1964 رواية (انسلاخ الزمن المريخي) لـ "فيليب ديك"، وهي تدورُ حول قضية التملك على سطح المريخ، مثلها في ذلك مثل رواية (العودة إلى المريخ) لـ "بن بوفا"، التي ظهرت عام 1999، وفيها تضع دولة (نافاجو) يدها على أصقاع المريخ، وتعلن ملكيتها لها. غير أن أغرب الأفكار التي تمخضت عنها مخيلةُ كُتَّــاب الخيال العلمي، فكرة عن ما يمكن تسميته (الحسابات الديموغرافية الفضائية)، توصل إليها في عام 1968 كاتب الخيال العلمي العملاق "آرثر كلارك"، والمخرج العالمي "ستانلي كوبريك"، صاحبا الرواية والفيلم (2001 – أوديسا الفضاء)، وملخصُها أن عدد البشر الذين داست أقدامُهم سطح الأرص، منذ بدء الخليقة، يقدر بنحو مائة بليون إنسان، ويتصادف مع ذلك – ويا للغرابة – أن يبلغ عدد نجوم مجرتنا المسماة (درب اللبانة) مائة بليون نجم؛ وعلى ذلك فإن لكل إنسان عاش في أي وقت على سطح الأرض نجماً متلألئاً بما يدور حوله من كواكب !.

هذا ما كان من أمر أحلام كتاب قصص الخيال العلمي الخاصة بالملكية في الفضاء الخارجي، وقد تحولت تلك الأحلام على أرض الواقع إلى سعي حقيقي لعدد متزايد من الناس، ومطالبات بالحق في ملكية مساحات من (الأرض) في عوالم أخرى، بعيدة عن كوكبنا؛ بل لقد نشأت سوقٌ عقارية للملكية الفضائية، تباع وتشترى من خلالها أراضي الكواكب، بغير سند قانوني.

على أي حال، شكرا لكلارك وكوبريك اللذين قاما بتوزيع شموس المجرة على كل البشر، ليحظى كلٌّ منهم، منفرداً، بملكية شمس كاملة، أو نجم بكل توابعه من كواكب وأقمار. لكن أحداً لم يتيسر له أن يهنأ طويلاً بهذا (اللغو) الذي يبدو كأنه الحقيقة، إذ جاءت شركة، في أبريل 1992، وادعت أنها هي المالكة الحقيقية لكل ما قام بتوزيعه كاتبُ ومخرجُ الخيال العلمي العظيمان، فقد تقدمت تلك الشركة، واسمها (رواد الفضاء)، ومقرها مدينة إنديانابوليس الأمريكية، بإفادة عامة جاء بها: "إننا نعلنُ الآن ملكيتنا لكل الكواكب الدوارة في مجرة درب اللبانة؛ وهذا إخطارٌ عام نضعه أمام أي شخص، وكل شخص، على سطح كوكب الأرض، وهو مُضَـبَّــرٌ ومحفوظ في إنديانابوليس بولاية إنديانا، لحين إنشاء دائرة قضائية تختص بهذه الأمور؛ وبموجبه تصبح كل تلك الكواكب أملاكاً غير منقولة، آلت إلينا ملكيتُها؛ وسيكون لوكالة أبحاث الفضاء والطيران الأمريكية (ناسا) حقوق مطلقة في النزول على كل الكواكب" !.

 

4 - 1 - بيت الأحلام في ضيعة على سطح القمر

ولم تكتف شركة رواد الفضاء بذلك، فقد بدأت بالفعل تبيعُ سندات ملكية لمساحات من أطيان المريخ، بموجب وثيقة وضع يد، رقمها (920047584)، مسجلة في مكتب السجل المدني لمقاطعة ماريون التابعة لولاية إنديانا الأمريكية، وقد تحدد لسند ملكية الأكر الواحد (الأكر=4047 م2) ثمن 29.95 دولار أمريكي.

ولم تكن شركة رواد الفضاء هي اللاعب الوحيد في ساحة ادعاءات ملكية (الأطيان العلوية)، فقد سبقتها مزاعمُ وادعاءات، منها الادعاء بأن القمر هو في حقيقة أمره (إقطاعية) لأسرة "جورجينز" الألمانية، منحها الأمبراطور البروسي "فريدريك الأكبر" في 15 يوليو عام 1756 لمؤسس تلك العائلة "آول جورجينز" كنوع من التقدير الرمزي لخدماته الجليلة التي أسداها للامبراطورية، مع مرسوم بقانون امبراطوري يقضي بتوريثها لأصغر أبنائه. والحمد لله، فإن العائلة الجورجينزية لم تفكر في بيع إقطاعيتها أو أجزاء منها، واكتفت بالقيمة المعنوية لهدية الامبراطور البروسي، وربما كان ذلك نتيجة عدم خبرتها بالنواحي التجارية والسوق العقارية، وهي الخبرة التي توفرت لآخرين من مدعي ملكية القمر، من أمثال الأمريكي "روبرت كلوز"، الذي كان يدير قبة سماوية في نيويورك، ويبدو أنه عايش عروض قبته السماوية طويلاً حتى تأثر بها، فألف بالعام 1955 شركة، وبدأ يبيع مساحات من الأطيان القمرية، بسعر دولار واحد للأكر. ولما سُــئلَ عن مستندات ملكيته للقمر قال إن القمر لا مالك له، فليس ثمة من يطالب بملكيته، فليكن هو المالك !.

وقد حدث في سنة 1962، وقبيل أن تطلق الولايات المتحدة الأمريكية مختبرَها القمري (رينجر-3) في السادس والعشرين من يناير، أن أرسل شخصٌ من سكان منطقة خاضعة للتاج البريطاني برقية إلى الرئيس الأمريكي "أيزنهاور" يحيطه علماً بأنه قد قام بتسجيل ملكيته لمنطقة محددة من سطح القمر، وينذره بأنه يحمل الولايات المتحدة الأمريكية المسئولية عن أي ضرر أو تدمير يلحق بممتلكاته، قد تتسبب فيه المركبة القمرية الأمريكية. ولم تكتمل فصول تلك القصة الطريفة، لأن الرينجر-3 ضلت طريقها إلى القمر، وابتعدت عنه بمسافة 36793 كيلومترا !.

وامتد الهوسُ بالتملك في الفضاء الخارجي إلى البرازيل، حيث ضبطت الجهات الأمنية، في أعقاب رحلة أبوللو-11 عام 1969، رجلاً يبيعُ تقسيمات من أرض القمر بسعر 25 دولاراً للقطعة؛ وفي معرض الدفاع عن نفسه قال إنه قد باع بالفعل أول مساحات من تقسيماته القمرية لرائدي أبوللو-11 "أرمسترونج" و"ألدرين"، وأن الهدف غير المعلن من رحلتهما إلى القمر على متن أبوللو-11 لم يكن إلا لمعاينة المساحات التي اشترياها منه !

وتأسست في (كاب كنيدي) بولاية فلوريدا الأمريكية، عام 1970، شركة اسمها (بساتين السماء)، قامت بطرح وبيع مساحات من سطح القمر، حددت مواقعها على خرائط للقمر حصلت عليها من الجيش الأمريكي، وكان من بين عملائها سيدة إيطالية اسمها "فيرناندا أليساندريني"، اشترت قطعتي أرض لإبنيها، مقابل مائة دولار، وقامت بتسجيلهما – حسب قولها – في ما أطلقت عليه اسم (مكتب التسجيل القمري والتنموي العالمي) !

 

4 - 2 - خريطة لسطح القمر موزعة عليها (تقاسيم) الأراضي لمختلف أنواع الملكية

ويتحدث كاتبٌ في مقال منشور بأحد مواقع الإنترنت، عنوانه (كيف السبيلُ إلى امتلاك نجم أُطلِـقُ عليه اسم زوجتي وأُهديه لها في عيد زواجنا ؟!)، عن جمعية خيرية قامت في سبعينيات القرن الماضي بتوزيع مساحات من أرض عطارد، أصغر الكواكب السيارة، في مقابل (تبرعات) تنفقها على أنشطتها الخيرية، وحددت قيمة هذه التبرعات بخمسة وعشرين دولارا للأكر الواحد، كحد أدنى !.

أما وكالة التمليك في الفضاء الخارجي التي لفتت الأنظار بشدة، واستحوذت على أكبر اهتمام من الرأي العام الأمريكي، فقد كانت تحمل اسماً ذا دلالة، هو (ســـفارة القمــر)، وتأسست عام 1980 في مدينة (ريوفيستا) بولاية كاليفورنيا، لصاحبها "دينيس هــوب"، الذي عرف عنه افتقاده للثقافة، ولم يكن على دراية بما سبقه من أنشطة في المجال ذاته، فتهيأ له أن القمر مشاع، وأنه هو الســـبَّاق إلى الادعاء بملكيته، وأقنع نفسه، أو أقنعه آخرون، بأن البند الوارد في اتفاقية الفضاء الخارجي، المصادق عليها بالعام 1967، والذي يحظر الحيازة القومية في الفضاء الخارجي، لا ينسحبُ على الأفراد وإنما هو قاصرٌ على الأمم؛ وبناءً عليه، بادر "هوب" بأن سجل في المكتب الفيدرالي للمقاطعة التي يعيش بها إعلاماً بوضع اليد على القمر، كما أرسل إشعاراً بذلك للحكومتين السوفيتية والأمريكية وللأمم المتحدة. ولم يحفل أحدٌ بالرد عليه، إلا أن ذلك لم يفتّ في عضده، إذ كان على ثقة كبيرة بموقفه القانوني، حتى أنه قام بتقسيم الجانب المضيئ من القمر إلى ثلاثة ملايين قطعة، وراح يعرضها للبيع في المحلات التجارية الكبرى، غير أن بضاعته بارت لسنوات، ثم عادت فحققت بعض الرواج بدءاً من عام 1996، عن طريق الإعلانات المنشورة في البرامج التلفازية والإنترنت؛ بل إن مؤسس سفارة القمر توسع في أعماله لتشمل كواكب أخرى، كالمريخ والزهرة والمشترى، مع التأكيد على أن القمر (يوروبا) التابع للمشترى غير معروض للبيع، امتثالاً لأمر مخلوقات فضائية، على نحو ما ورد ذكرُه في رواية "آرثر كلارك" (2001- أوديسا الفضاء)، ونصه: (كل الأكوان لك، عدا يوروبا، فلا تقترب منه)!. كما كان "هوب" كريماً جداً، إذ ابتعد بنشاطه عن المواقع التي تهبط فيها مركبات الفضاء، والأماكن على سطح المريخ التي يقال إن بها أهراماً، بالإضافة إلى الفوهات البركانية القمرية، التي يُظنُّ أن بها ماءً مُختَـزَناً؛ وقد اعتبرت (سفارة القمر) كل هذه الأماكن ملكية عامة يجبُ أن تُحترم !.

وتعطي شركة سفارة القمر لنفسها صلاحية الاعتراف بحقوق أطرافٍ أخرى في العلاقة بين البائع (الشركة) والمشتري لأجزاء من سطح الكوكب في استخدام هذه الأجزاء كمهبط، وفي أعمال الاستكشاف؛ فإن زاد الأمرُ على ذلك، كأن يريد شخصٌ ما أن يستغل هذه الأجزاء المباعة في البناء أو في أعمال التعدين، إختلف الحالُ، وذلك لأن الشركة قد باعت بالفعل سند ملكية بعدد 1777 أكراً من سطح القمر، مشتملاً على حق القيام بأنشطة تعدين، وأُضيفَ إلى السعر الأساسي للأكر الواحد – وهو 15.99 دولاراً – ضريبة قمرية مقدارُها 1.16 دولاراً، وعشرة دولارات كمصاريف بريدية، فسفارة القمر ترسلُ لكل مشتري خريطة قمرية محدد عليها موقع الملكية، ونسخة من (دستور القمر والبيان الرسمي بالحقوق القمرية الأساسية)، بالإضافة إلى نسخة من قصة قصيرة عنوانها (ماذا امتلكت ؟). وتفتق ذهنُ صاحب السفارة القمرية عن فكرة عجيبة؛ فما دمنا نتحدثُ عن (سفارة)، فطبيعي أن يكون لها سفير، بل سفراء، قام "هوب" بتعيينهم، وأوفدهم إلى بعض الدول !.

 

4 - 3 - عقد ملكية ضيعة قمرية موثق من سفارة القمر

ولم تلبث شركات أخرى أن اتبعت خطوات سفارة القمر، وقلدتها تقليداً أعمى، وبلغ عددُها في نهاية عام 1997 ســـت شركات، منها (المجتمع القمري العالمي)، التي تخصصت في بيع قطع من الأراضي المحيطة بفوهة البركان القمري التي تحمل اسم عالم الفلك البولندي "نيقولاس كوبرنيكوس"، الذي قال بأن الشمس، لا الأرض، هي محورُ المجموعة الشمسية. وحملت شركةٌ أخرى اسم (القنصلية المريخية)، وقد نحت تلك القنصلية منحىً مختلفاً عن مثيلاتها، فقد بدأت بإعلانها أنها لا تدعي ملكية المريخ، ولا تبيع ضياعاً مريخية، وإنما جعلت من نفسها الجهة التي تيسر للزاعمين بملكية أراض في الفضاء تسجيل ملكياتهم التي اشتروها من شركات أخرى، وتحتفظ بسجلات الملكية في أحد البنوك السويسرية؛ ويمكن للزاعمين أو أبنائهم وأحفادهم التقدم بما يفيد تسجيل ملكياتهم بالقنصلية المريخية، ليتم تخصيص ضياعهم المريخية، عندما يصبح الكوكب الأحمر – المريخ – مأهولاً، وتكون له حكومة مريخية !.

وقد تمخض تعدد الكيانات المادية المتنازعة على ملكية نفس المساحات من القمر والكواكب عن معارك حقيقية، على نحو ما حدث بالعام 1996، عندما تعرض ادعاءُ "هوب" ملكيته للقمر للتشكيك؛ فقد وجه "مارتن جورجينز" إلى صاحب سفارة القمر خطاباً دبلوماسياً لا يخلو من ثبات عزم، يطالبه فيه بتوقيف نشاطه، والتمسَ من الحكومة الألمانية أن تبذل مساعيها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأمريكية للاهتمام بهذا الأمر. وبالطبع، فإن شيئاً مما دعا إليه لم يتم. كما دخلت السيدة الإيطالية "فيرناندا أليساندريني" دائرة النزاع مع "هوب" مستعينة بعدد من المستشارين القانونيين، بعد أن اكتشفت في سنة 1990 أن شركته سفارة القمر قد باعت لشخص آخر نفس الأرض التي كانت هي قد اشترتها عام 1970 من شركة أمريكية أخرى هي (بساتين السماء)؛ وعادت الإيطالية "فيرناندا" فالتمست من البيت الأبيض والأمم المتحدة التدخل لإنصافها، كما أقامت دعوى قضائية ضد سفارة القمر التي أسقطت حقها في تملك ضيعتها القمرية.

وأخيراً، كان للعرب حظهم من هذا العبث الصبياني، فقد شهدت إحدى المحاكم اليمنية في صنعاء وقائع دعوى أقامها في عام 1997 كلٌّ من "آدم إسماعيل" و"مصطفى خليل" و"عبد الله العمري"، ضد وكالة أبحاث الطيران والفضاء الأمريكية (ناســــــا)، يطالبونها بالوقف الفوري لجميع عمليات (السابور) أو (الباثفايندار) على سطح المريخ، حتى تفصل المحكمة في ادعاءاتهم بأن المريخ كان في حوزة أجدادهم منذ ثلاثة آلاف سنة، وهم الورثة الشرعيون له. واشتملت دعواهم على اتهام لناسا بتجاهلهم، وهم المالكون التاريخيون للمريخ، وبأنها تسللت إلى أملاكهم المريخية بغير موافقتهم، ومن ثم فإن عليها أن توقف مهامها على الكوكب الأحمر. بل لقد ذهبوا في مطالبهم إلى حد أن تمنع المحكمة الناسا من أن تكشف عن أي معلومات متعلقة بالمريخ يتوصل إليها علماؤها، قبل أن تحصل الوكالة الأمريكية منهم على موافقة رسمية، أو إلى حين تتوصل المحكمة إلى قرار. غير أن اليمنيين الثلاثة سرعان ما تراجعوا وسحبوا دعواهم فور أن هدد المدعي العام اليمني "محمد البادي" بتوقيفهم. وقد تبين فيما بعد أن آدم ومصطفى وعبد الله كانوا متأثرين للغاية بأساطير عن حضارات (حِمْيَـــر) و (ســــبأ)، التي سادت المنطقة قبل الميلاد بعدة آلاف من السنين. ويبدو أن تأثير الأساطير عليهم كان قوياً، إذ عاودهم الحنينُ إلى دعواهم بعد سنة من ابتعادهم عن ساحة القضاء، وراحوا يعلنون عن بيع أراضي المريخ بسعر دولارين للمتر المربع، ويغرون المشترين بإصدار سندات ملكية تضمن لهم حيازتهم للأرض.

الغريب في الأمر أن الرأي العام الغربي التزم الصمت تجاه أنشطة شركة سفارة القمر، لكنه استهجن ادعاءات اليمنيين الثلاثة، الذين وصف المسئول الإعلامي في ناسا "برايان وولش" مطالبهم بأنها (مثيرة للسخرية)، كما قال المدعي العام اليمني أنهم ملتاثين، وقد تبين من فحصهم أنهم ليسوا أكثر من ساعين للشهرة. كما أن المؤسسات الأكاديمية لم تهتم بهذه الادعاءات في مجملها، واكتفى معهد قانون الجو والفضاء، في جامعة كولونيا، بالتعليق على قضية "جورجينز" بانعدام الحق القانوني للجهات السيادية البروسية في منح ممتلكات فضائية.

ولم تقتصر قائمة ضحايا أحلام امتلاك (أطيان) في الفضاء الخارجي على السذج وحسني النية من العامة، وإنما شملت شركات لها وزنُها؛ فبحلول عام 2001، كانت السفارة القمرية وحدها قد باعت لأكثر من 300 ألف فرد أراض فضائية، وأعطتهم سندات تثبت حقوق ملكيتهم لها؛ وضمت قائمة الضحايا بعض المشاهير والشخصيات العامة، مثل نجمي السينما توم كروز وهاريسون فورد، وثمة إشارات غير مؤكدة إلى أن اثنين من الرؤساء الأمريكيين السابقين، هما رونالد ريجان وجيمي كارتر، كانا من بين المشترين !. كما شملت القائمة عدداً من الشركات، قامت بشراء قطع كبيرة من الأراضي القمريةن لتقوم بدورها ببيعها لعملائها، مثل شركة اسمها (التجفيف البيئي بالتفريغ) التي بلغت قيمة ما اشترته من أراضي القمر 40 ألف دولار؛ وكانت تلك الشركة قد عرضت على "هوب"، مالك السفارة القمرية، أن تأخذ منه القمر كله مقابل 50 مليون دولار، إلا أنه رفض !. وتمكنت سلسلة المتاجر الإنجليزية الشهيرة (سيف واي)، في أعياد الميلاد عام 2000، من أن تبيع عملاءها عدداً كبيراً من تقسيمات الأراضي القمرية، مما دعا عالم الفلك البريطاني "باتريك مور" للتعبير عن حنقه على هؤلاء الحمقى الذين ألقوا بنقودهم في الفضاء، والذين يصدق فيهم قولُ إسحاق عظيموف: (لا تفلح مغالبةُ الآلهةِ أنفسهم للغباء !).

هذا هو الجانبُ الهزلي، أو ما يبدو هزلياً، في مسألة تملك القمر وكواكب المجموعة الشمسية؛ غير أن للمسألة أبعاداً أخرى تتسمُ بقدر عال من الجدية. والمعروفُ أن ثمة اتفاقية أُبرمت عام 1979، تحمل اسم (اتفاقية القمر)، تحظر المادة 11-3 منها على أي دولة أو منظمة حكومية دولية أو هيئة غير حكومية، أو أي شخص طبيعي، الاستيلاء على سطح وما تحت سطح أرض القمر. غير أن هذه الاتفاقية وُلدتْ واهنة، إذ لم يصدق عليها إلا عدد قليل من الدول، وليست الولايات المتحدة الأمريكية طرفاً فيها؛ وقد كان ذلك مصدر قوة لدينيس هوب، الذي صرح في أكثر من مناسبة أن احكام هذه الاتفاقية لا تنطبق عليه. من ناحية أخرى فقد صادقت الولايات المتحدة الأمريكية، وعدد كبير من الدول، على معاهدة الفضاء الخارجي، التي أبرمت عام 1967، والتي تنصُّ مادتُها الثانية على تحريم فرض الحيازة بادعاء السيادة، أو عن طريق الاحتلال، أو بغير ذلك من وسائل، فيما يخص الفضاء الخارجي، بما في ذلك القمر والأجرام السماوية. وقد واجه دينيس هوب هذه المعاهدة أيضاً، وأعلن أنها تنطبقُ على الدول ذات السيادة، ولم تنص صراحةً على حظر تملك الكيانات الخاصة لأراضٍ في الفضاء الخارجي. ورد عليه فقهاءٌ قانونيون بأن التحريم الذي ينطبق على الدول ينسحبُ على رعاياها، وعلاوة على ذلك فإن حقوق الأملاك غير المنقولة لا يتحقق وجودُها إلا بحماية كيان ذي سيادة، هو الدولة. ثم إن دعم الدولة للحيازات الخاصة ليس في حقيقة الأمر سوى شكل من أشكال الحيازة الوطنية.

وقد استشعر المجتمعُ الدولي خطورة سكوت الإدارة الأمريكية على أنشطة تمليك أراضي القمر والكواكب، وربما تعاطفها مع هذه الأنشطة؛ وفي مؤتمر للمحامين الألمان المتخصصين في قضايا الفضاء، عُقد بالعام 1999، قال المحامي الألماني "فرانز فون ديردانك": إن الولايات المتحدة الأمريكية تنتهكُ الأحكام المتصلة بمعاهدة الفضاء الخارجي بتغاضيها عن اتخاذ أي إجراءٍ ضد مواطنيها الذين يبيعون قطعاً من أراضي القمر احتيالاً !.

وحقيقة الأمر أن ادعاءات "هوب"، حسب بيان أصدرته شركة سفارة القمر، متوافقة مع قانون أمريكي قديم، يدعى (قانون هومستيد)، صدر بالعام 1862، ويمكن في ضوئه تكييف المسألة على هذا النحو:

"لما كان رواد الفضاء الأمريكيون هم أول من وطأت أقدامهم سطح القمر، وغرسوا العلم الأمريكي، فمن ثم يصحُّ الزعمُ بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي الأحق بالقمر من أي أمة أخرى" !

ولحسن الحظ، فإن معاهدة الفضاء الخارجي منصوصٌ فيها على عدم جواز خضوع مسائل الفضاء الخارجي للقوانين المحلية من صنف "هومستيد".

 

5

أربعون سنة على اندلاع حرب النجوم!
كان اندلاعُها قد بدأ في 25 من شهر مايو عام 1977، في دور السينما فقط، ولم تضع أوزارها حتى الآن!

لقد دخلت بنا هذه السلسلة من الأفلام والمسلسلات التلفازية إلى عوالم فضائية أسطورية، لنرى امبراطورية شريرة تصنع سلاحاً يُفني كوكباً، وجحافلاً من الآليين منعدمي العاطفة (الدرويدز)، تتجاوز درجة ذكائهم ذكاءَ مالكيهم؛ إضافة إلى شخصيات ذات بريق خاص، هم (فرسان الجيداي) الذين ابتكرهم "جورج لوكاس" مؤلف سلسلة حرب النجوم، التي تعدت كونها سلسلة أفلام، فأُنتِجت كتباً ومسلسلات تلفزيونية وألعاب كمبيوتر وفيديو وكتب مصورة. لقد أنشأت حرب النجوم نشاطاً اقتصادياً ضخماً، قدَّرت مجلة (فوربس) حجم التعاملات فيه، منذ نشأته حتى عام 2005 بنحو 20 مليار دولار أمريكي. كان هؤلاء الفرسان، لأكثر من ألف جيل، حراس السلام، وقضاة الجمهورية القديمة قبل صعود الإمبراطورية المَجَرِّيَّة (نسبةً إلى المجرّات). والجدير بالذكر أن ثمة مدارساً في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية، الآن، لتخريج فرسان الجيداي، تدرب المنتسبين إليها على كيفية استخدام السيوف الضوئية، وسائر الحيل التي تقوم بها شخصيات حرب النجوم. ويقول أحد المتدربين: لقد زرعت شرائط حرب النجوم في كثير من الناس الشغف بفرسان الجيداي، وإنه لشعور جميل عندما تحمل سيفك الضوئي وتتحول فجأة إلى فارس جيداي؛ فإن تحولت فعلاً، فستظل كذلك إلى الأبد!.

 

5 - 1 - حرب النجوم

فكيف تحقق كل هذا النجاح لهذه السلسلة؟.

لقد ارتبطتْ باسم الأمريكي "جورج لوكاس" الذي يجمع بين وظائف: منتج، ومخرج، وجامع تحف، ومونتير، وممثل صوت، ومصور سينمائي، وكاتب سيناريو، وممثل، وكاتب، وكاتب خيال علمي، وروائي. لا عجب، إذن، أن تحرز السلسلة هذا النجاح الضخم. لقد توخى لوكاس سرعة الحركة وتسارع الأحداث للاستحواز على انتباه المشاهدين منذ الثواني الأولى من شرائطه.

وقد تحقق هذا النجاح لحرب النجوم في وجود سابقتها، سلسلة (رحلات إلى النجوم – Star Trek)، وربما كان السبب في ذلك هو أن صانعيها حرصوا على أن تكون مختلفة، فرحلات إلى النجوم ذات طابع تنبؤي، ترسم تصورات لمستقبل الإنسان في الفضاء الخارجي، أما حرب النجوم فتدور أحداثها في مجرة أخرى، وفي زمن بعيد. وتُصنَّفُ المسلسلتان في باب الخيال العلمي. كما اتسمت سلسلة حرب النجوم، منذ أول أفلامها، بالوقع فائق السرعة لأحداث المعارك الدائرة بين المركبات الفضائية.

 

5 - 2 - بوستر لأحد أفلام حرب النجوم

وقد اجتذبت أفلام ومسلسلات حرب النجوم ملايين المولعين بها، ومن بينهم ملياردير أمريكي مخترع ورجل أعمال، هو "إيلون ماسك"، الرئيس التنفيذي لشركة تيسلا لصناعة السيارات الكهربائية وشركة سبيس إكس للصواريخ، الذي يعترف بأنه لم تكن له أدنى علاقة بالسينما قبل حرب النجوم، التي سلبته لبَّه بعد أن شاهد أول أفلامها، وصار مهووساً بأفكار الارتحال إلى الفضاء الخارجي، واستولت عليه فكرة أن يتحول الإنسان من حضارة الكوكب الواحد إلى حضارة كواكب عديدة. وقد تمخض جنون الملياردير ماسك بأفلام حرب النجوم عن تأسيسه لمؤسسة تعمل في مجالات تكنولوجيات استكشاف الفضاء، بدأت نشاطها عام 2002، وأصبحت تُعرف باسم (فضاء-إكس)، واستهدفت الحصول على مركبة فضائية تتسع لمئات الركاب، تقوم برحلات منتظمة إلى ومن المريخ. وسار على خُطى "ماسك" ملياردير أمريكي آخر، إسمه "جيف بيزوس"، فأسس في العام 2000 شركةً لإنتاج صواريخ وسفن الفضاء، أسماها (السلالة الزرقاء)، هي التي صنعت الصاروخ (شيبرد)، أول صاروخ يُطلق إلى الفضاء ويعود إلى الأرض، ليُطلق في مهمة فضائية جديدة.

ومن مردودات حرب النجوم أيضاً ما يمكن تسميته بالمُسْـرِعات، وهي مركبة تشبه السيارة التي نعرفها، ويمتلكها (لوك سكاي ووكر)، الشخصية التي إبتكرها جورج لوكاس لتضطلع ببطولة ثلاثيته الفيلمية، وقد باعها ليتمكن من المشاركة في رحلة إلى كوكب (الديران)، وهي تشبه الحوَّامات أو المروحيات إلى حدٍّ ما، وإن كانت الأخيرة تُصدر ضوضاء شديدة وتثير سحابة كثيفة من الغبار عند إقلاعها وهبوطها، وهو أمر لا يستقيم وطبيعة صحراوات حرب النجوم، فكانت المسرعات. ثم ظهرت الدراجة فائقة السرعة في أفلام لاحقة من سلسلة حرب النجوم، التي داعبت خيال المهندسين فحاولوا تصميم وإنتاج دراجة أرضية شبيهة، فكانت الحوامة النفاثة التي تنطلق بسرعة كبيرة على سطح الماء، ويستخدمها هواة رياضة التزلج.

 

6

الماءُ يتحركُ !
تستقبل الأرضُ كل عام، وبلا انقطاع، نحو 110 ألف كيلومتر مكعب من مياه الأمطار، وهو ما يمكن تشبيهه بغطاء من الماء سُمكُه مترٌ واحدٌ، يحيط الكوكب بأسره.

  • يضيع نصف هذه الثروة العالمية من المياه العذبة عن طريقين: التبخرُ، والنَـتْـحُ (عن طريق النباتات)؛ ويذهبُ 36% منها إلى جداولنا وأنهارنا وبحيراتنا، ومنها – في نهاية المطاف – إلى المحيطات.
  • أي أن ما يتيسر لنا نحن البشر أن نستفيد به من مياه الأمطار ليس أكثر من ستة ونصف بالمائة !.
  • إننا نرى الأمطارَ تهطلُ، والأنهارَ تفيضُ، والأمواجَ تُزبِدُ، ولا نجدُ غرابةً في أن يصلَ الماءُ إلى صنابيرنا، ولا نفكرُ إلا لِماماً في كيفية وصول الماء من الغيمة إلى الكوب في يدنا!.
  • ولم يكن لدينا ما نعرفه عن الماء، حتى زمن بداية العصر الصناعي، سوى أربعة أمور مهمة: هطول الأمطار، وتدفق الجداول والأنهار، وأن زراعة المحاصيل تعتمد على المحتوى الموسمي من الرطوبة في التربة، وأن مياه المحيطات مالحة وغير صالحة للشرب. ولم يلبث أن تقدم شغفنا الذهني بالمعرفة، فتعلمنا عن الماء ما هو أكثر من ذلك.
  • عرفنا العلاقة بين قوة الجاذبية الأرضية والماء؛ إذ يظل بخار الماء يتكثف في الغلاف الجوي إلى أن تتمكن منه براثنُ قوة الجاذبية المهيمنة، فيهطل.
  • ولا يقتصر عمل الجاذبية على ذلك، فهي التي تسحبُ الماءَ ليتخللَ التربة، فإن كان ثمة المزيد منه، هبطت به إلى باطن الأرض، ليُضافَ إلى المخزون من المياه الجوفية العذبة تحت سطح الأرض.
  • وعرفنا أيضاً أن الماء يعمل – أحياناً - ضد قوة الجاذبية الأرضية، فنراه ينبثقُ متفجراً من العيون الطبيعية والآبار.
  • غير أن الماء، بصفة عامة، شغوفٌ بالارتقاء، ويرغبُ على الدوام في الصعود.
  • جرِّبْ أن تصُبَّ لنفسك كوباً من الماء، وانظر إليه من خلال عدسة مكبرة، ليكون بمقدورك أن ترى مستوى سطح الماء في الكوب، عند ملامسته جدارها الزجاجي، يرتفع قليلاً، كما لو كان يحاول تسلق الجدار، خارجاً. إنه يفعل ذلك في الواقع، ويكون هذا الميل للارتفاع أعظم شأناً في حالة التربة غير المفككة، ويُعرف بالخاصية الشِعرية. وبمقدور الماء أن يتحرك عمودياً، متخللاً بعض أنواع التربة، صاعداً لمسافة تتجاوزُ المترَ؛ إلاَّ أن ذلك لا يُذكر، مقارنةً بأقوى مضخة في العالم.

 

6 - 1 - الخاصية الشعرية - يرتفع الماء في الأنبوبة الضيقة أعلى منه في المتسعة، ويكون سطحه مقعراً قليلاً

  • فماذا تكون أنجع مضخة عرفها العالم؟. إنك قد تكون الآن جالساً على مقربة من العديد من هذه المضخات القوية، تحتضنها الطبيعة في كل مكان. إنها الأشجار!.
  • وبعض أنواع الأشجار مؤهَّلٌ لأن يبذل جهداً يكفي لضخ الماء إلى ارتفاع يتجاوز مائتي متر. وإن جازت لنا المقارنة في هذا المجال، فلم تتمكن قدرات البشر التكنولوجية من القيام بالضخ بقوة توازي جزءاً ذا قيمة من قوة الضخ التي تبذلها أشجارٌ مجتمعة في غابة. وبمقدور أنظمة نباتية طبيعية أن تحول مسارات أحجام كبيرة من الماء وتحركها لمسافات لا يملك المهندسون حيالها إلا مراقبتها ذاهلين!.

 

7

الأرنب يحصل على ترقية ‍!
أُجرى استقصاءٌ للرأي بين مجموعات من الأطفال، عن أحب الحيوانات إليهم، فاحتل الأرنب مكاناً متقدماً في قائمة الحيوانات المحببة لديهم. وربما كان ذلك بسبب أن الأرنب حيوان وديع، لا يؤذى، ويمكن للصغار الاقتراب منه ومداعبة فرائه الناعم الجميل، دون خوف. أضف إلى ذلك، أن الأرنب يسعد الصغار عندما يفاجأون به يخرج من قبعة الساحر فى السيرك!.. وإذا سألت من تذوقوا لحم الأرانب، يقولون لك أنه لذيذ؛ وهو مفيد، وغنى بالعديد من عناصر الغذاء الضرورية لصحة الجسم. ويعرف من لديهم خبرة بتربية الأرانب أنها تتكاثر بسرعة، وتلد (الأرنبة) الواحدة أعداداً كبيرة .. لذلك، فإن مشروعاً تجارياً لإدارة مزرعة للأرانب يدر ربحاً وفيراً على صاحبه، إن أحسن رعاية ضيوفه، من الأرانب.

والأرنب حيوان يلد، ويرضع صغاره .. فهو – إذن - من طائفة الحيوانات التي يسميها علماء الحيوان بالثدييات، أي التي لها غدد بالصدر تفرز اللبن؛ وتسمى -أيضاً- بالحيوانات اللبونة، أو اللبونيات، أي التي تنتج إناثها اللبن لترضع الصغار. والثدييات -أو الحيوانات اللبونة- طائفة متسعة، تشتمل على أنواع عديدة من الحيوانات، بينها اختلافات شديدة، فهى تضم: الإنسان- القرد- الفيل- القط- الجرذان- الحيتان- الدلافين- عروس البحر- الغوريللا- والأرنب؛ وأنواعــاً حيوانية أخرى. ولكي يوفر العلماء مزيداً من التحديد للمجموعات الحيوانية التي يتشابه أفراد أو أنواع كل منها في كثير من الصفات، كان من الضروري إعادة تجميع الثدييات المتشابهة لتضمها مجموعات أصغر .. وعلى سبيل المثال، تم تجميع الإنسان والغوريللات والقردة الكبيرة في مجموعة واحدة تسمى (الرئيسات)، وهى تحتل قمة عالم الحيوان أو المملكة الحيوانية؛ وقد يدهشك أن النمور والقطط تنتمي، معاً، لمجموعة واحدة تسمى بمجموعة القطط؛ ثم تجيئ الأرانب والجرذان وبعض الحيوانات المشابهة في مجموعة (القوارض).

وبانتهائك من قراءة السطور السابقة، تكون قد حصلت على فكرة لا بأس بها عن أحد العلوم الأساسية، التي يدرسها طلاب كلية العلوم، هو (علم التصنيف)؛ ومهمته تصنيف جميع أنواع الكائنات الحية المعروفة، وإعطاؤها أسماء لاتينية مشتقة من صفاتها، وذلك لتسهيل دراسة علاقات هذه الكائنات ببعضها. وقد بدأ ذلك العلم - في صورة متقدمة نسبياً - منذ حوالي مائتي سنة؛ وكان أشهر المشتغلين به عالم اسمه (لينياس) .. و(لينياس) هذا هو الذي وضع الأرانب في مجموعة القوارض؛ وهى مجموعة أدنى من مجموعة القمة: (الرئيـسات) .. لقد رآها لينياس تمتلك قواطع كبيرة الحجم، هي أسنانها الأمامية، وتتسلى - طول الوقت - بقرض كل ما يصلح للقرض، فأعطاها اسمها المشتق من الفعل (قرض).

وعاشت الأرانب، قرنين من الزمان، مستقرة، مطمئنة إلى مركزها الثابت فى تصنيف المملكة الحيوانية. وأعتقد أن الأرانب نفسها سوف تندهش إذا قرأت معنا هذا الكلام وعلمت أنه يجب عليها الآن أن تراجع الدوائر الرسمية لتغيير (صفتها) المثبتة فى هويتها !!

 

7 - 1 - حصلا على ترقية ...

لقد اكتشف أحد علماء الوراثة – حديثاً - أن لينياس (أبو علم التصنيف) كان على خطأ عندما ضم الأرانب إلى القوارض؛ وأن من حق الأرانب أن تحصل على ترقية كبيرة! يقول ذلك العالم، إن (لينياس) ومعاصريه من علماء التصنيف كانوا يعتمدون على الصفات الخارجية للجسم، وعلى بعض السلوكيات الظاهرة في تصنيفهم للكائنات الحية؛ أما الآن، فإن لدينا من أجهزة التحليل الكيمائي، ومن وسائل البحث في مجال الهندسة الوراثية، ما يجعلنا نعود إلى تصنيف الكائنات الحية على أسس أكثر دقة. الخطير في الأمر، أن الترقية التي يطالب بها ذلك العالم للأرنب، تعد قفزة كبيرة – وهو، على أية حال، مشهور بقفزاته السريعة الطويلة - فهي تنقله إلى قمة المملكة الحيوانية، وتنسبه إلى طائفة الرئيسـات، التي تتربع على تلك القمة، والتي يحتل الإنسان ذروتها .. وهكذا، أصبحت الأرانب – علميـــاً - من أقربائنا!!

لقد أجرى ذلك الباحث بعض التجارب والاختبارات، فوجد أن التركيب الكيميائي لبعض أنواع البروتين في الأرنب، يشبه تركيب نفس البروتينات في كائنات من طائفة الرئيســات، أكثر مما يشبه تركيب نفس البروتينات في القوارض الأخرى. وهو يقول إن هذا الأساس الكيميائي للتصنيف أقوى من اسلوب التصنيف القديم؛ فالتركيب الكيميائي للبروتينات مسجل في الصفات الوراثية للكائن الحي، مما يعنى ثباته على مر الأزمنة، ويؤكد حق الأرنب في الحصول على هذه الترقية الكبيرة!

 

8

الطوقـان .. منقارٌ له طائر!
ماذا يفعل هذا الطائر بكل هذا المنقار، الذي يبلغ طوله ثلاثة أضعاف طول الرأس؟ لا أحد يستطيع إخفاء دهشته عند رؤية هذا المنقار الضخم؛ ولا يلبث التساؤل أن يلي الدهشة: كيف يستطيع الطائر المسكين أن يطير ويحلق، حاملاً كل هذا المنقار ذا الحجم غير الاعتيادي ؟!؛ ما فائدته ؟؛ وهل له عيوب ؟.

 

8 - 1 - لايعوقه المنقار الضخم في الطيران ولا يقلل من سرعته

إن رؤية طائر فرد تثير الدهشة، فما بالك برؤية ســرب من هذا النوع من الطيور، المسمى بالطوقان، أو (الطائر اللـــوَّاء)؟ إنها تتجمع فوق شجرة، تتعرف على بعضها من خلال البقع اللونية المنتشرة على المنقار والجلد والريش؛ فكأن كل فرد منها يحمل نسخة من (راية) موحدة، يحركها في الهواء لينضم إليه بقية الرفاق، كلٌّ برايته؛ وقد يحلو للبعض، أو للجميع، المشاركة في "أنشودة"، تعزفها أصواتهم .. وهي – للأسف – أنغام قد لا تســرُّ الأذن البشرية، فأصوات التوكان أقرب إلى نقيق الضفادع !

إن الطيور اللوَّاءة ليست نوعاً واحداً، هو هذا الذي تراه في الصور، وهو الأضخم حجماً بينها، فعدد أنواعها يبلغ الأربعين؛ وبينها أنواع لا يزيد حجم الطائر مكتمل النمو عن حجم عصفور، ومنقاره يساوي حجم جسمه !.

إن منقـــار الطــائر اللـــوَّاء يبدو لنا ضخمـــــاً، فيوحي بثقل الوزن؛ حتى أنك لتتعجب: كيف يتحمل الطائر ثقل وزن منقاره؟، بل كيف للطوقان أن يرفع رأسه تحت ثقل هذا المنقار الفريد؟ والحقيقة، أن المنقار الكبير ليس ثقيلاً إلى هذه الدرجة؛ فهو مجـوَّف، ومملـــــوء بالهواء، ولولا هذا ما استطاع الطائر أن يطير به. وبالرغم من أنه مجوف، فهو قـــــوي، تدعمه شبكة من العظام الرفيعة المتقاطعة.

وقائمة طعام اللـــوَّاء عامرة متنوعة، تشتمل على مجموعة كبيرة من ثمار نباتات وأشجار الغابة؛ ومن الحيوانات صغيرة الحجم يفضِّـل الطوقان الحشرات، والضفادع، ولكنه لا يمانع في أن يجرب طعم أي كائنات أخرى، دقيقة الحجم، تقع تحت طائلة منقاره، الذي يستطيع الوصول إليها، مهما كانت قدرتها على الاختباء.

وعلى المائدة، يقلقنا المنقار مرة أخرى، إذ نحسبه عقبة تحول دون ابتلاع الطعام بسهولة. ربما كان ذلك حقيقياً في أول الأمر – منذ عشرات الملايين من السنين - عندما وجد الطوقان منقاره يتضخم إلى هذه الدرجة. وبمرور الوقت، عرف الطائر كيف يأكل، بالرغم من ضخامة منقاره، وتباعد المسافة بين مدخل الطعام والزور. إن الطوقان يبدأ بالقبض على وحدات غذائه بمقدمة المنقار المدببة، ثم يدفع برأسه للوراء، دفعاً خفيفاً، وبالقدر الذي يجعل الطعام يتحرك داخلاً إلى الفم، ليتم الابتلاع. وفي كثير من الأحيان، يبتلع الطوقان طعامه دون تكسير أو مضغ؛ ولكنه – في حالات بعينها – يجد أنه من الضروري تكسير وحدات الطعام قبل بلعها، كالحال عند توفر بيض الطيور الأخرى، أو الزواحف، على مائدة الطعام !

ويتخذ الطوقان من فجوات وتجاويف أشجار الغابة مسكناً واستراحة؛ وهو يحصل عليها دون جهد، من بين (المساكن) التي تصنعها طيور (نقَّــار الخشـــب) لنفسها ثم تهجرها. وكان الأولى بطائر يمتلك مثل هذا المنقار الهائل، الذي لا يتوفر لنقار الخشب – بنَّـــاء الغابة – أن (ينحــت) أعشاشه بنفسه في جذوع الأشجار؛ غير أن تكوين المنقار لا يجعله مهيَّــأ لنقر الخشب، كما تنقصه الحدة والقوة المطلوبتين لمثل هذه الوظيفة.

إن الطوقان، في وقت الشدة، لا يجد أمامه سوى هذا المنقار، بخصائصه غير المشجعة، ليكون سلاحه في ساحة النزال؛ وهو – بالرغم من كل شيئ – سلاح فعَّــال – بشـــرط أن يكون في مواجهة منقار طوقان آخر !؛ فهو لا يصمد أمام مناقير أقوى وأحد، لطيور أخرى في البرية. فإذا تنافس تطوقانان على زوجة – مثلاً – أو على عش يصلح لاستقبال البيض ورعايته في موسم التزاوج، فإن هدف كل من الغريمين يكون ضـرب منقار الآخر، وإنزال أكبر قدر من الإصابات به. وتتفاوت هذه الإصابات من شدخ إلى ثقب، وقد تصل في أفدح الحالات إلى كســر طرف المنقار؛ ويكون في ذلك نهاية للقتال، فينسحب الطوقان مكسور المنقار خائباً مهزوماً !. أما المنتصر، فإنه يتجه إلى الزوجة التي فاز بها، فيتبادلان الدقَّ على منقاريهما، ولكن برِقَّــــة !.

ولا يزيد عدد البيض الذي تضعه أنثى الطائر اللواء عن أربعة، تفقس بعد فترة الحضانة، لتعطي أفراخاً، يتعهدها الأبوان بالتغذية، فيدخلان الطعام بمنقاريهما إلى مناقير الصغار المسطحة الخالية من البقع اللونية. ويهدر الصغار جزءاً من الطعام، وهم يحاولون ابتلاعه، ولكنهم لا يلبثوا أن يتعلموا أسلوب الأبوين في تناول الطعام. ثم إنهم يبدأون في اكتساب مهارة الطيران، فيأخذون في التنقل من شجرة العش إلى شجرة قريبة، وبالعكس؛ وفي خلال شهور قليلة، يكتمل نمو الريش بالأجنحة، فتصير قوية قادرة على الانطلاق بالطائر كبير المنقار إلى حيث يريد؛ كما تستطيل مناقير الصغار المسطحة، وتتخذ هيأة وألوان مناقير الطيور اللواءة مكتملة النمو.

الجدير بالذكر، أن الموطن الأصلي لطيور الطوقان هو أمريكا الوسطى، وشمال ووسط القارة الأمريكية الجنوبية؛ حيث يعيش في غابات المناطق معتدلة المناخ، والغابات الاستوائية المطيرة. ولســـوء حظ الطوقان، فإن الغابات في موطنه يجري استغلالها على غير أساس من إدارة حكيمة تراعي الاعتبارات البيئية، فيتم تعرية مساحات ضخمة من أشجارها، لاستغلال الأرض في الزراعة، ولصـالح صناعة الأخشـــاب. وهذه الأنشطة المسيئة للبيئة تكدر صفو، وتهدد وجود، كائنات حية عديدة، تتخذ من أشجار الغابات وطناً لهـا، وبينها طائر الطوقان. وإذا استمر الحال على ما هو عليه من جور على الغابات التي يعيش فيها الطوقان، فإننا قد نفقد – إلى الأبد – هذا الطائر الذي لا يخلو من جمـــال.

 

9

هل تحققت الحياةُ الصناعية؟!
في أواخر أغسطس 2007، أبرزت وكالة أنباء الأسوشياتيد برس خبرا مفاده أن العلماء على مبعدة عشر سنوات فقط من تخليق حياة صناعية، وقد يتحقق ذلك – إن هبت الرياح كما تشتهي السفن - في مدة أقل، لا تزيد عن ثلاث سنوات. فما حقيقة ذلك؟

 

9 - 1 - كيف ستبدوا المخلوقات الصناعية؟

لقد خطا العلماء خطوات هائلة في مجال فك الشفرة الوراثية للبشر والحيوانات، وفي تخليق الحمض الوراثي النووي (دنا)، وفي استنساخ الكائنات البشرية؛ وبالرغم من ذلك فإن تخليق كائنات اصطناعية ذات قدرات حيوية أمر يفوق كل هذه المنجزات ويتجاوزها ويبدو بعيدا عن التصديق، مع أن الشركات والباحثين المشاركين في هذه (المغامرة) العلمية يقولون إن هذا المدى الزمني القصير – عقد واحد من الزمن – كفيل بالتوصل إلى إيجاد كائن اصطناعي، أو كما يفضلون أن يصفوه (حياة صناعية طرية) !. وهم يذكروننا بالنجاح الذي تحقق في صنع الفيروسات، وهي صورة من صور الحياة على الأرض؛ ويقولون إن هذه الحياة المصنّعة ستغير مفاهيمنا عن علوم الحياة بشكل جذري، وسيكون لها تأثيرها العميق على وضعنا كأحياء في هذا الكون. على جانب آخر، يتشكك بعض العلماء في صحة وحقيقة هذه المغامرة التي يدعي مناصروها أنها وشيكة، وإن كان التشكك ينصب، في كثير من الأحيان، وكما هو الحال عند البروفيسور فرانسيس كولينز، رئيس مشروع الجينوم البشري، على المدة التي ستنقضي قبل أن يخلّق البشر حياة اصطناعية، حيث يقول كولينز عن العلماء الذين يدعون بذلك، إنهم طموحون بدرجة مغالىً بها.

 

9 - 2 - هل اقترب موعدنا مع البشر المصطنعين؟

وتجتذب هذه القضية عددا كبيرا من علماء الحياة؛ وإذا أبعدناها عما يمكن أن يحيط بها من ملابسات أخلاقية ودينية، فإنها تثير الدهشة، وحالها في ذلك حال الاكتشافات التي تمثل محطات فارقة في مسيرة العلم، على طول تاريخ الحضارة البشرية الحديثة. إنها –إن حدثت ونجحت – ستكون انعطافة كونية حادة خطيرة؛ فهذه (الحياة الصناعية الطرية) لن تكون – كما قد يتصور البعض – مجرد كائن مخلق من كائن أو كائنات أخرى باستخدام تقانيات الهندسة الوراثية، بل كائن مخلّق، بكامل هيئته، اصطناعياً، أي أن أعضاءه المختلفة لم تكن موجودة من قبل. فهل سيتمكن القائمون على هذا المشروع العلمي الخطير أن يوفروا لكائنهم الاصطناعي المتطلبات التي تعطي له صفات الكائن الحي؟. ثمة قائمة تضم عددا من هذه المتطلبات صعبة المنال، وقد يراها البعض مستحيلة؛ أولها، الحاجة لشفرة وراثية، أو حامض نووي يحمل الصفات الوراثية المحددة لماهية الكائن، الذي ينبغي أن تتوفر له – أيضاً – قدرة على التوالد ونقل هذه الصفات لخلفائه. وقبل ذلك، فإن هذه الشفرة الوراثية لن توضع في أي مكان، فهي بحاجة لوعاء ذي مواصفات خاصة يحتويها، هي الخلية الحية؛ وهذه بدورها لا تكتسب صفة الحياة، ولا تتمكن من أداء وظائفها المختلفة، وليس فقط حفظ المادة الوراثية، إلا إن توفرت لجدارها قدراته العبقرية على صون محتويات الخلية الحية، وبالوقت ذاته يسمح بأن تتم عبره عمليات حيوية عديدة؛ كما أنه – جدار الخلية – ينبغي أن تكون له نفاذية تخيرية، فيسمح للخلية بامتصاص الأملاح والمواد المغذية، وبالوقت ذاته يمنع عنها المواد والعناصر الممرضة. وإذا افترضنا نجاح مجموعة العاملين في مشروع (الحياة الصناعية الطرية) في (تجميع) الأجزاء أو الأعضاء الأساسية للكائن الاصطناعي المترقّـب، يبرز أمامهم وجه آخر للتحدي، وهو توفير المقدرة الذاتية على الإعاشة لهذا الكائن، فعليه أن يأكل وأن يهضم طعامه ويتمثله ليستفيد بعناصره الأساسية والطاقة المتحررة منه في مختلف الوظائف الحيوية، وأهمها تعويض ما يفقد منه من خلايا وأنسجة، والنمو. فهل يقدرون على هذه التحديات ؟. لقد أعلن أحد علماء جامعة هارفارد عن قرب التوصل إلى تصنيع جدار أو غشاء خلوي بالمواصفات المطلوبة. ويعتقد بعض العلماء أن لديهم طريقة لتخليق الحمض النووي (دنا) من وحداته الأساسية المسماة (نيوكليوتايدز)، بوضع هذه الوحدات بين جدران الخلية، فلا تلبث أن تتجمع وتتراكب مكونة حاملات الصفات الوراثية، غير أنهم لا يوضحون كيف سيوفرون الإنزيمات الضرورية لنجاح هذه العملية. وهذه نقطة ضعف كفيلة بتقويض المشروع من أساسه.

ومن الطبيعي أن يؤدي هذا (التطاول على الخالق)، كما سيذهب كثيرون، إلى ارتفاع الأصوات المعارضة والمنددة، التي ينبغي عليها أن تدرك حقيقة أن تقدم العلوم مؤسس بالدرجة الأولى على الرغبة الإنسانية في الاكتشاف والمضي قدماً، وأنه إذا كانت مسيرة العلم في كل ما مضى من تاريخ الحضارة البشرية على الأرض كانت تمضي في (خطوات)، الواحدة تلو الأخرى، فإنها – من الآن فصاعدا – تقفز قفزاً، وتترك المتابعين يلهثون وراءها من شدة تسارع قفزاتها. كما ينبغي ألا يغيب عن إدراكنا أن مثل هذه الأبحاث، بجسارتها وطموحها اللامحدود، توسع آفاق المعرفة الإنسانية بالحياة والأحياء، فتأتي بحقائق جديدة تنتهي إلى مردود أساسي، هو خدمة الحياة البشرية، في صحتها وفي مرضها.

 

10

سلوكيات الضباع .. وسياسات البشر!
ذهبت الدكتورة كاي هولكامب، الأستاذة والباحثة الأميركية في علم الحيوان، إلى كينيا وفي حسبانها أنها ستقضي بضع سنوات لإجراء مشروعها البحثي حول الضباع الرقطاء، تنتهي بعدها من دراستها لتنتقل إلى دراسة حيوانات أخرى في موقع آخر. ولم تكن تدري أنها ستقع في "غرام" هذه الحيوانات التي أسرتها بطبيعتها الغريبة المعقدة. كما لم يدر بخلدها أن هذه الضباع يمكن أن توفر منظومة نموذجية لدراسة ظواهر مهمة، مثل وظيفة الجهاز المناعي ومورفولوجية الجمجمة وتكوين الشبكات الاجتماعية وتطور الذكاء.

 

10 - 1 - سيدة الضباع

تقول كاي في مقابلة معها نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" مؤخَّراً: يمكننا مقارنة الضباع بغيرها من الحيوانات كما الشطرنج بالنسبة لورق اللعب، إذ تكتنفها سلسلة من الألغاز تستعصي على الحل. فهي، على سبيل المثال، تبدو في الهيئة أقرب إلى الكلاب، غير أنها أقرب في الصلة إلى القطط، وأقرب الحيوانات إليها تصنيفياً النمس.

ومن غرائب سلوكيات الضباع أن الإناث أكثر تطوراً من الذكور، حتى أنهن يعملن على إزاحتهم، فهن أشد شراسة ولهن الهيمنة الاجتماعية. ومع ذلك، فهن ضعيفات عاطفياً تجاه أشبالهن، يهتممن بها ويقضين وقتاً طويلاً في رعايتها، أكثر من أي أم أخرى من الحيوانات اللاحمة.

وإلى جانب النوع الأرقط من الضباع، وهو محل اهتمام الدكتورة هولكامب، هناك المخطط والبني، وهما بطبيعتيهما كسولان، لا طاقة لهما بأعمال الصيد، على عكس الضبع الأرقط، فهو قناص قدير ويمكنه افتراس ظبي يفوقه في الحجم ثلاث مرات. وتوازي الضباع الرقطاء الأُسود في مراتب المفترسات، وتختلف عنها في طبيعتها الميالة إلى العيش في تجمعات محكمة. وهي تشبه القردة في هذا السلوك الاجتماعي، إلا أنها عندما تخرج للصيد تقوم به منفردة، فهي لا تعرف الصيد الجماعي.

وتجري هولكامب دراسات إضافية حول تأثير النشاط الرعوي المتزايد في أحد أقاليم كينيا على النمو الاجتماعي والمعرفي لأشبال الضبع الأرقط. ووجدت أن زيادة هذا النشاط تؤثر على هورمونات الإجهاد لدى الأشبال.

تصبّ أبحاث الدكتورة كاي هولكامب في مجال دراسات ما يسمى بالسياسة العصبية، التي تبحث في العلاقة بين الدماغ والسياسة، كدراسة كيف يتخذ الأشخاص المواقف السياسية، وكيف يقيّمون المرشحين السياسيين، وكيف يتفاعلون في الائتلافات السياسية. وقد تبين للعلماء أن أدمغة شعبة الرئيسيات غير البشرية، مثل الشمبانزيات، تمكنّها من الانخراط في التعاطي الاستراتيجي مع الآخرين، فضلاً عن وجود علاقة بين حجم القشرة في أدمغتها وحجم المجموعة الاجتماعية التي يمكنها إدارتها بنجاح. وساهمت أبحاث هولكامب مع دراسات أخرى لديناميكيات الائتلاف عند الضبع في التوصل إلى أن مجموعات الضباع لديها القدرة على أن تتشكل وتنحل على أساس منتظم. ويرجح أن مردَّ ذلك هو تمتع الضباع، والمرقطة منها على نحو خاص، بقشرة دماغية أكبر من تلك الموجودة لدى أنواع أخرى ذات تركيبات اجتماعية أبسط.

ومن خلال دراسة العلاقات بين التشريح العصبي والقدرات العقلية والديناميكيات السياسية في الأنواع الأخرى، ربما نفهم السياسات التي ينتهجها البشر والدور الذي تلعبه أدمغتنا في ما نمارسه من سياسات.

 

11

خمس حقائق عن الأشجار
تناقض !
تقذفنا الآلات التي تستهلك الوقود الأحفوري بكميَّـات متزايدة من غاز ثاني أكسيد الكربون، أحد أهـم المكونات الغازية لظاهرة (الدفيئـة)؛ وهي الظاهرة التي تسبب ما يتخوَّف من علماء المناخ، من ارتفاع درجة حرارة الغلاف الجوي للأرض، بما يتبعه من عواقب، لا يعلم حجمها وتأثيرها إلاَّ الله. وفي نفس الوقت ويا للتناقض تتعرَّض غابات عالمنــا لأنشــطة غير مســـئولة، تؤدي إلى تقلُّـص مساحاتها. وقد نتج عن اتحاد هذين العاملين أن ارتفع مســـتوى غاز ثاني أكســـيد الكربـون في غلافنا الجوي.

ضــاع النصـــف!
هل تعرف، عزيزي القارئ، كم دمرنا نحن البشر من ثرواتنا التي وهبها الله لنا من الغابات ؟

نصــف مساحاتها! ولكي أقرِّب لك حجم الدمــار، يكفي أن تعلم أن ما تم تدميره يوازي مساحة دولتين كبيرتين، هما إندونيســيا والمكســيك. الأكثر من ذلك كما تقول إحصائيات وتقديرات البنك الدولــي أن ثلاثة أرباع المتبقِّــي من غابات المناطق المعتدلة والغابات الاستوائية، واقع تحت التهديد بالزوال؛ لأن أعمال تدمير الأشــجار وتعرية أراضــي الغابات لا تزال مستمرة، برغم كل شــيئ !

 

11 - 1 - مساحة من غابة معرَّاة من الأشجار

كم تستهلك الشجرة الواحدة من ثاني أكسيد الكربون؟
إن الأشــجار تخلصنا من غاز ثاني أكسيد الكربون؛ وهي لا تفعل ذلك بطريقة سالبة، كأن تعيده إلى التربة، مثلاً؛ ولكنها تأخذه لتصنع منه مواداً كربوهيدراتية (نشويات) تختزنها في أنسجتها. وتختلف الكمية التي تمتصها الأشــجار من ذلك الغاز المسبب لظاهرة الدفيئـة، تبعاً لنوع الشــجرة وعمرها. وبصــفة عامة، فإن متوسط ما تستهلكه الشجرة الواحدة من ثاني أكسيد الكربون، لتبني رطلاً واحداً من أنسجتها الحية، يصــل إلى رطل ونصف الرطل.

الأشــجار: محطة رئيسية في حركة دوران الماء!
الأشــجار تعرق. نعم.. إنها تتخلَّص من الماء، في هيئته البخارية، فيما يعرف بعملية (النتـح)؛ فيخرج بخار الماء من خلال ثقوب مجهرية منتشرة على أسطح الأوراق. صحــيح أن كل ورقة (تنتــح) بضع نقاط من الماء في اليوم الواحد، ولكن مجمل ما تنتحه أشــجار الأرض ونباتاتها من بخار الماء يتجمَّـع في الغلاف الجوِّي، ويمثل جزءاً هاماً من المحتوى المائي للأرض، ويدخل في الدورة التي تتحرَّك بها الميــاه على سطح الكرة الأرضيَّــة، وتنتقل من موقع لآخــر، ومن هيئــة لأخــرى.

والجدير بالذكر، أن شـــجرةً واحدة، طولها مائة قدم، يمكنها أن تسحب من التربة، في موســم نمــوٍّ واحــد، مقداره (11) ألف جالــون من المـــاء، تستهلكها في عملياتها الحيوية، على مدار الموســم. إن الماء يتحلل في ذلك المصنع النباتي فائق الكفاءة (الأوراق النباتية)، ضمن خطوات عملية التمثيل الضوئي، فيعطي غازين: الهيدروجين، الذي هو الأساس لبناء جزيئات المادة النشوية؛ والغاز الثاني هو الأكســجين، الذي تطلقه الأوراق، عبر ثغــورها، ليســهم في إنعاش كافة صــور الحيــاة على ســطح الأرض. وبالإضــافة إلى ذلك، تنتج عملية التمثيل الضوئي كميات كبيرة من بخار الماء، تتخلَّـص منها الورقة من خلال ثغورها، لتعــود فتدور مع رصيد الأرض من الميــاه.

الأشــجار دروع لنــا!
إن منافع الأشــجار، كما نرى، متعــددة .. إنها (رئات) لكل كائنات الأرض الحية؛ وهي المصنع الرئيس للمركبات النشوية، أساس الهرم الغذائي على سطح أرضنا؛ وهي أيضاً الملجأ الظليل الذي يحمينا من حرارة الشمس اللاهبــة؛ وهي أحد العوامل المنظِّمــة والعاملة على استقرار أحوال المناخ الأرضــي. وأخيــراً، وليس آخــراً، هــي مكــوِّن جمالــي لا ينكــره أحد من سكان الأرض.

هــل نســينا شـــيئاً ؟

نعــم .. ســل المزارعين عن فائدة إضــافية للأشــجار، يخبروك أنها درعهم ضــد نشــاط الرياح؛ فهي تصــدُّ الرياح، فتحمي محاصيلهم، فلا تقتلعها أو تطمرها الرياح العاصفة؛ كما أن جذورها الضاربة في باطن الأرض، لعدة أمتار، تعمــل على تثبيـت التربة، فلا تجرفها الرياح الزاحفة فوقها. إن سياجاً محكماً من الأشــجار، يحيط بمزرعتك، يمكن أن يقلل سرعة الرياح - وبالتالي طاقتها التدميرية - بنسبة تتراوح بين 25 و 75 بالمائة.

 

12

الروبوت عازف الفلوت

12 - 1 - فلوت الروبوت

يقام في ولاية أريزونا الأمريكية معرضٌ سنوي متخصص في الآلات الذكية (الروبوتات)؛ وقد فاجأ زائريه، في نهاية أكتوبر الماضي، بنموذج لروبوت يمكنه النفخَ في آلة الفلوت الموسيقية، كما أن لديه القدرة على تعليم المبتدئين أسسَ العزف عليها. وهو أحدثُ نسخة في سلسلة من الروبوتات الزمّارة ركّزت عليها أبحاث وتجارب العلماء والفنيين في جامعة واسيدا اليابانية، منذ تسعينيات القرن الماضي.

وتتميز النسخة الجديدة بزيادة درجة حرية جسم الروبوت بمقدار 40 درجة عن النسخ السابقة، لتمكينه من العزف على الفلوت بأسلوب يقترب كثيراً من الأسلوب الآدمي. ونسخة هذا العام من الروبوت عازف الفلوت هي ثمرةُ أبحاث أجراها دكتور جورج سوليس وفريق من الباحثين في جامعة واسيدا، طوروا خلالها (الجهاز التنفسي) للروبوت، وتتميز فيه رئةٌ هي عبارة عن وسادة هوائية، يدخل إليها الهواءُ ويخرج منها عبر لسان يتحكم في شدة تدفقه، ليسهل الانتقال من نغمة إلى أخرى في السلم الموسيقي؛ وتؤثر شدة تدفق الهواء في (حنجرة) خاصة للروبوت، بها أحبال صوتية تعطي ذبذبات مختلفة، وفقاً للتغير في شدة الهواء. ويدخل الهواء إلى الرئة أو الوسادة من خلال شفتين مرنتين، تتحركان كشفتي عازف الفلوت الآدمي، لتتحكما في مساحة النغمة وحدتها.

والحقيقة هي أن روبوت واسيدا عازف الفلوت يتجاوز كونه مجرد أداة لمحاكاة فعل آدمي، حتى وإن كان فعلاً معقداً كالعزف على آلة نفخ تستدعي أن يتوفر البشر على دراستها زمنا غير قصير في المعاهد الموسيقية ليكتسبوا مهارة العزف عليها؛ فهذا الروبوت هو وسيلة ليدرس من خلالها الباحثون بجامعة واسيدا إمكانات ومدى التفاعل بين الروبوت والإنسان. من هؤلاء الباحثين، كلاوس بيترسون، طالب الدكتوراه الذي وضع برنامجا حاسوبيا خاصا لتشغيل آلة تصوير ملحقة بالروبوت، تعينه في رصد ومتابعة حركات أيادي وإيماءات زملائه العازفين البشريين، ليتوافق أداؤه على الفلوت مع أدائهم على غيره من الآلات الموسيقية.

فهل يقبل الموسيقيون الآدميون أن يصاحبهم الروبوت عازفاً على آلة ذات طبيعة خاصة، كالفلوت؟ إن لم يقبلوا – يقول كلاوس بيترسون – فإن العازفين المهرة من الروبوتات يمكنهم القيام بكل العمل، وتكوين فريق خالص منهم، يقدم للمستمعين معزوفات لا تخلو من متعة !

 

13

البامبو
مورد طبيعي غير تقليدي

ليس "جوليس جانسين" من علماء النبات، فهو مهندس مدني، ويعمل باحثاً بمختبر لمواد البناء، تابع لجامعة (إيندهوفين) الهولندية، المتخصصة بالتكنولوجيا. ويبدو جانسين غريباً بين زملائه بالمختبر؛ فبينما تنصب اهتماماتهم في الخرسانة والحجارة والحديد، ينفرد هو بدراسة خواص (البامبـــو) كمادة إنشــائية. وقد انتهت أبحاث جانســين حول أقصاب البامبو إلى نتائج مشجعة؛ غير أن أهم نتيجة، كما يقول، هي أنه تحول إلى عاشق لهذه الأقصـــاب.

 

13 - 1 - أقصاب متنوعة من البامبو

ولا يملُّ جانسين، الذي قضي قرابة نصف القرن يدرس خواص البامبو، من الحديث عنه، ليس فقط بدافع من حماسه الشديد لمادة بنــاء جديدة، ولكن لأنه - أيضاً - لا يفوت أي فرصة تتهيأ له لينقل للآخـرين بعض حماسه .. إنه يعرض على ضيوفه بالمختبر قطعة من قصبة بامبو، ويأخذ في التغزل بجمالها الذي يراه في القوام الرشيق متكامل النسب، والقشرة الصفراء الصقيلة، التي لا تحتاج إلى طلاءات كيميائية؛ فالبامبو مادة من الطبيعة، مكتفية بذاتها، لا تحتاج لأي إضافات تفسد صفاتها المتوافقة تماماً مع البيئة الطبيعية. وإذا زرت جانسين بمختبره، يمكنك أن تشهد بنفسك تجربة لقياس جهد التحميل، يجريها الرجل على قطعة من البامبو، لتري العداد يشير إلى أن البامبو يمكنه أن يتحمل قوة ضاغطة تصل إلى 78 نيوتن على الملليمتر المربع. ويقــرِّب جانسين قوة تحمل البامبو، لمن لا صلة لهم بأجهزة ووحدات القياس، فيقول إن قصبة مستقيمة من البامبو، بمساحة سطح عشرة سنتيمترات مربعة، يمكنها أن تتحمل ثقل فيل وزنه 11 ألف رطل !.

والمعروف في عالم البناء والتشييد، أن لكل مادة بناء (كود)، أو رقم اصطلاحي، يعرفه خبراء الإنشاءات والمقاولون، يترجم خواص المادة ومدى صلاحيتها للاستخدام في مختلف أغراض البنـاء. وكان جانسين حريصاً، منذ بدأت علاقته بالبامبو، على أن يدخله في قائمة مواد البناء المتعارف عليها عالمياً، فيكون له (كوده) الخاص، فيطمئن إليه المهندسون والمقاولون، ويقبلون على استخدامه كمادة إنشائية، فيتحقق له الانتشــار؛ وبدون هذا الكود، يظل البامبو مجهولاً، بل ينظر إليه كمادة محظور استخدامها في إقامة البنايات، ويتعرض من يستخدمه للمساءلة القانونية.

ليس معنى هذا أن البامبو - قبل أن يتبنى جانسين قضيته - لم يكن معروفاً كمادة بناء؛ فالثابت تاريخياً أن الصينيين القدماء كانوا يعرفونه، واستخدموه كوحدة زخرفية في رسوماتهم الزيتية التقليدية؛ كما أن نبات البامبو كان يزرع على جانبي الممرات في الأديرة والمعابد البوذية. وكان البامبو معروفاً، منذ زمن طويل، في مجتمعات كثيرة، متباينة جغرافياً وحضارياً، في غينيا الجديدة، وكولومبيا، وبنجلاديش، وتايلاند، حيث استخدم في بناء وحدات سكنية تقليدية، تختلف أشكالها تبعاً للطابع المحلي. أما الاستخدامات المعاصرة للبامبو، فلا تزال محدودة، ولا تزيد عن (حالات) قليلة، بأماكن متفرقة من العالم؛ وإذا طُـرح البامبو كفكـرة جديدة في المشروعات الإسكانية التي تضطلع بتنفيذها الحكومات، قوبل بالتردد والتشكك في قيمته كمادة للبنــاء.

 

13 - 2 - سقف وجدران وأرضية وديكور داخلي وأثاث - كله من البامبو

ويبدو أن دفاع جانسين عن البامبو قد أثمر، إذ جرت مؤخراً اتصالات بين بعض الإدارات الحكومية في بلدان آسيوية، وجامعة إيندهوفين، للاستفادة بخبراتها في مجال إنشاءات البامبو؛ وتم إعداد برنامج للتعاون بين الطرفين، للتدريب على زراعة البامبو واستخدامه كمادة للبناء. ويتحمل جانسين مسؤولية الإشراف على هذا البرنامج. كما أشرف الرجل على مشروع قومي للبناء بالبامبو، تبنته حكومة كوستاريكا، بدأ العمل به في العام 1987، لزراعة 700 هكتار بأقصاب البامبو، وتدريب عمال البناء على معالجة البامبو وإعداده، وأسلوب البناء به. وقد حقق المشروع أهدافه، وأنشأ 700 منزل منخفض التكاليف. وشجع النجاح حكومة كوستاريكا، فقررت، في العام 1994، التوسع في المشروع، ووضعت خططاً لإنشاء ألف من بيوت البامبو، كل سنة.

نعود إلى الحقائق العلمية، التي تقول بأن البامبو يفوق الخشب والقرميد والخرسانة في كثير من الخواص؛ فإلى جانب تفوقه في اختبارات التحميل، يضيف البامبو إلى ميزاته قلة تكلفة الإنشاء، التي تأتي من قلة تكلفة إنتاج مادة البناء الأساسية، الأقصاب. فمقارنةً بالخشب، فإن الطاقة اللازمة لإنتاج كمية من أقصاب البامبو، تساوي نصف الطاقة الضرورية لإنتاج أشجار تعطي نفس الكمية من الأخشاب؛ بالإضافة إلى أن البامبــــــو ينمو أسرع من أشجار الخشب؛ كمـــا يمكنك أن (تحصد) الأقصاب بعد شهور قليلة، أما الخشب، فلن تحصل عليه إلا مرة واحدة، بعد سنوات طويلة. كما أن عملية حصاد البامبو أقل تكلفة، وتتميز بالسهولة، فهي لا تحتاج إلا لسكين حاد يجتث الأقصاب، أما إنتاج الخشب، فيســتلزم آلات وقدرات ميكانيكية كبيرة، تضيف تلفتها أعباءً على التكلفة الإجمالية لإنتاج الخشب.

فإذا قورن البامبو بالخرسانة، فإن إنتاج كتلة من الخرسانة لها قدرة تحمل معينة، يلزمه كمية من الطاقة تعادل ثمانية أضعاف الطاقة المطلوبة لإنتـاج قطعـة من البامبو لها نفس قدرة التحمل. وتزيد النسبة، في حالة المقارنة بالصلب، لتصل إلى (1: 50)، وذلك لأن عملية إنتاج الصلب تتضمن خطوات متعددة، عالية التكاليف، من صهر وصـب وطرْق وسبك.

ويمكننا، كمهتمين بشـــؤون البيئة، أن نضيف في كفَّـة البامبو، ولصالح تميزه، أنه مادة متوافقة مع البيئة، فلا يتضمن استخدامه شبهة ضغط على الموارد الطبيعية، كما في حالة الأخشاب، التي تنتج على حساب أشجار الغابات، رئات العالم؛ كما أن عملية تصنيعه لا تمثل عبئاً إضافياً على البيئة، كما هو الحال بالنسبة لحديد البناء، الذي يتم إنتاجه في مصانع ومسابك تلوث مخلفاتها الهواء والمجاري المائية. إن هذه التكلفة البيئية عنصر يغيب، في كثير من الحالات، عن أعين الدارسين، بالرغم من جدارته باحتلال مرتبة أساسية، عند حساب اقتصاديات الإنتاج والتشغيل.

وقد تهيأ للبامبو أن يحصل على اختبار يثبت قوته وتميزه، وهو اختبار من الطبيعة، هذه المرة، وذلك عندما ضرب زلزال شدته سبع درجات ونصف درجة، بمقياس ريختر، المنطقة التي شيدت فيها بيوت البامبو، في كوستاريكا، فأصاب الدمار كل البنايات بالمنطقة، إلاَّ بيوت البامبو، لم تنل منها الهزة الأرضية الشديدة. وكان ذلك راجعاً إلى صغر كتلة البامبو، مقارنةً بكتلة الخرسانة .. فكما هو معروف، من قوانين (الميكانيكا) التي يدرسها طلاب المدارس الثانوية، أن القوة تساوي الكتلة، مضروبة في عجلة الجاذبية الأرضية؛ والأخيرة، كما هو معروف أيضاً، ذات قيمة ثابتة؛ وعلى ذلك، فإن القوة (وهي، هنا، تعني قوة الزلزال)، تزيد كلما زادت الكتلة .. وهكذا، خفف عنصر صغر كتلة البامبو من تأثير القوة التدميرية لذلك الزلزال في كوستاريكا.

فما ســـرُّ قـــوة البامبــــو؟
إنك إذا تفحصت قطعة من قصبة بامبـو، أمكنك أن تشــاهد خطوطــاً، هي ألياف من السليلوز، وحقيقتها أنها الأوعية التي كانت تقوم بنقل الأملاح المغذية الذائبة في الماء، من الجذور إلى الأوراق، وقت أن كان النبات يعيش بالتربة؛ وتتخذ هذه الألياف لوناً غامقاً، بالنسبة للون المادة (البينيـة) في مادة القصبة، وهي "اللجنيـــن".

ويتمتع السليلوز بالقوة والمتانة، بينما تتميز مادة اللجنين بالنعومة؛ وهكذا، تتوفر الصفتان معاً لأقصاب البامبو. إن المادتين معاً تشبهان تركيب الخرسانة المسلَّحـة؛ فاللجنين هو بمثابة مادة الخرسانة الضامة، التي تمسك بألياف السليلوز، وتحافظ عليها موزَّعــةً على مسافات بينية شبه منتظمة، وتمنعها من الاعوجـاج مع امتداد الساق، عند نمو نبــات البامبـــو. واللجنين وحده، إذا فقد ألياف السليلوز، يتفتت؛ تماماً كمادة الخرسانة بدون أسياخ الحديد، تتفتت إذا وقع عليها ضغط حمل ثقيل. ومن جهة أخرى، فإن السليلوز، الذي يشبه دوره دور حديد التسليح، لا يعمل وحده؛ فإذا وقع عليه ضغط، اعوجَّ. وهما، معـــاً، قوة لا تُبـــارى.

وقد يتبــادر إلى الذهن أن طبيعة البامبو، كقصبـة مجــوَّفــة، يُعــدُّ نقطة ضعف فيه؛ ولكن الخبراء يرونها ميزةً، ويقولون إنه يتخـذ الشــكل الأنبــوبي؛ والأنبوبة (فورم)، أو صـيــغة قويـة، تسمح بتوزع أكبر قدر ممكن من المادة في الحيز المحدد؛ كما أن التجويف يعني وزناً أقل لهذه المادة، التي لا مثيل لهـا، والتي تجمع بين القوة والخفة.

كل هذه الميزات، ولا يزال البامبــو بحاجة إلى من يدافع عنه ويتحمس له كمادة بناء .. فلماذا ؟. لماذا لا يتجه إليه الجميع، ليبنوا به بيوتهم ؟. هـل المســألة مسألة مواد متعارف عليها، تحمل أرقاماً عالميةً، ولها معاييرها المستقرة؟ لماذا لا نجرب هذه المادة الجديدة ؟ . هل تمنعنا عنهــا عيــوبهـــا؟ .. نعم .. للبامبــو عيــوب .. وأي من مواد البناء التي اعتدنا عليها يخلو من عيـــوب؟

إن للبامبو عيوبه، التي لا يجب أن تغيب عنا، أو نحاول إخفاءها .. فثمة مستهلكون للبامبو، غير دب "الباندا" الشهير، الذي يتخذه طعاماً مفضــلاً؛ والإنســان، الذي يتخذه مادة للبناء وصنع الأثاث .. هناك (النمل الأبيض)، وأنواع من الخنافس، تثقب البامبو لتأكل مادة اللجنين المكونة له. لذلك، يحتاج البامبو إلى معالجة قبل استخدامه للبناء، أو لصناعة الأثاث. كما أن الفطريات تهاجم أقصاب البامبو، إذا ابتلَّــت. فما العمل مع تعرض أسقف وجدران بيوت البامبو للأمطار، في المناطق الاستوائية المطيرة؟ لمواجهة هذا الأمر، ينصح الخبراء بأن تختار مواقع بناء بيوت البامبو بحيث تكون دائمة التعرض لتيارات من الهواء، لتجفف الأقصاب المبللة، قبل أن تهاجمها الفطريات، وتنتهي إلى التعفن في غضون أسابيع قليلة. وعلى أي حال، فإن بيت البامبو، إذا أُحســن بناؤه وصيانته، يعيش لمدة 30 سنة.

وقد سبق أن أشرنا إلى تجويف قصبة البامبو على أنه ميزة؛ غير أن لهذا التجويف، بالوقت ذاته، عيب يجب أن ننتبه له، فهو يجعل البامبو سريع الاشتعال. وفي مفتتح القرن العشرين، شبت النيران في حي صغير، مكون من مساكن البامبو، بمدينة شنغهاي الصينية، فأتت على الحي كله، في نصف الساعة !. لذلك، لا ينصــح الخبراء ببناء منازل متعددة الطوابق من البامبو، كإجــراء وقـائــي، للتقليل من الخسائر، في حالة اندلاع حريق. وعلى أي حال، فإن سكان البيت ذي الطابق الواحد يمكنهم النجاة من النيران، والهروب من خلال الأبواب والنوافذ، وأيضاً من خلال الجدران، التي يمكن اختراقها بسهولة، في حالات الطوارئ.

وأخيراً، فإن للبامبو عيوبه الفنية، إذ لا يمكن تثبيته ووصل بعضه ببعض، مثلاً، كما في حالة الخشب، باستخدام المسامير؛ وهو عيب جوهري، يؤثر في قيمة البامبو كمادة للبناء. وكانت الأكواخ والمساكن تبنى في الطرق القديمة بأن تُشـــدُّ الأقصاب إلى بعضها باستخدام حبال. وفي الآونة الأخيرة، تغلب الخبراء على هذه الصعوبة الفنية، وتوصلوا إلى حل لهـا، بتصنيع وصــلات خاصة للبامبو، تشبه إلى حد مــا الوصــلات المستخدمة في ربط ووصل مواسير الميــاه. كما لا يكف سعي الخبراء من أجل إضفــاء لمســـات من الجمـــال على بيــوت البامبــــــو، التي عُـرفــت منذ القــدم بالتواضــع، وبأنهــا منـــازل الفقـــراء.

 

14

بدأ نهبُ موارد الأنتاركتيكا..!
الأنتاركتيكــا، أو القارة القطبية الجنوبية، أرض بلا أصحـــاب؛ فليس لهــا ســـكان أصليــون يحملون جنسيتها، ويملكون السيادة عليها. إنهــا مقسَّـــمة بين 16 دولة، هي التي تمكنت من الوصول إليها، إما لامتلاك وسائل الانتقال الفعَّالة، وإما للقرب منها. وقد سارعت هذه الدول بإعلان تملكها لأجـزاء من القارة، ما عدا الولايات المتحدة الأمريكية، التي رفضت أن تحدد (أملاكها) في الأنتاركتيكــا، وربما تضع في اعتبارها أن (الكعكة) كلها لهــا !

لقد سبق أن كشفنا، في مقال لمجلة العربي الكويتية (العدد رقم 424 - مارس 1994)، وكان عنوانه (إنهم يقتسمون الكعكة الجليدية)، حقائق ما يجري من صراع على تملُّـك أرض القارة القطبية الجنوبية؛ وأشرنا فيه إلى تخوفاتٍ لعلماء البيئة من الآثار التي ستخلِّـفهــــا أنشطة التعدين والتنقيب عن النفط واستخراجه، عندما تبدأ، في نظام بيئي، هو الوحيد على سطح الأرض الخالي من التلوث. وها هي التخوفات، بعد ما يقرب من ربع قرن من الزمن، تقترب من أن تصبح حقيقة، فثمة دلائل على أن استغلال الأنتاركتيكا قد بدأ فعلاً، دون أن يدري أحد، فمعظم سكان العالم منشغل، إما بحروب صغيرة تجعله لا يرى إلا موقع القدمين، وإما بتوفير الطعام والماء لمئات الملايين من الجوعى والعطشـــى!

إن الدلائل التي نقدمهـــا عبــــارة عـــن مجموعة من الصــــــور، جمعناها من (الشابكة، أو الإنترنت)، ويمكن قراءتها بسهولة، لنستنتج منها أن أرض القارة القطبية الجنوبية، التي وضع أقوياء العالم أيديهم عليها، قد تحولت فعلاً، إلى ميدان لعمليات استغلال واسعة النطاق، لثرواتها ومواردها المخبَّـــأة تحت عطائها الجليدي الثقيل. فاقرأ معنا أربعاً من هذه الصـــور ......

(1) في ظروف مناخية وطبيعية كظروف الأنتاركتيكا، تكون المواصــلات البحرية هي الأنسب والأفعل. لقد امتدت خطوط ملاحية نشطة، بين الشماال المستغل، والقارة الجنوبية؛ وسهَّلتْ كاسحات الجليد تأمين الناقلات العملاقة، التي تأتي بالمعدات الثقيلة، وترجع بالخيرات الوفيرة !. ومع ذلك، فلا غني عن المواصلات الجوية، فهي مؤثرة وسريعة، وهذه أمور ضرورية لخطط الاستغلال. لقد أُنشـــئت المطارات، وهبطت الطائرات العملاقة فوق القارة المتجمدة، التي بات استغلالها أمراً مؤكداً.

 

14 - 1

(2) ولاستكمال البنية التحتية، لتكون في خدمة الأنشطة الاستغلالية المختلفة، تم شق شبكة من الطرق، في الجليد، وتوفير أعمال المراقبة والصيانة لها، لتظل صالحة للاستخدام في كل الأوقات .. إن النقل هو عصب النشاط الاقتصــادي. كما سُخِّرتْ أحدث معطيات تكنولوجيا الاتصــال لتخـــدم أغراض استغلال القارة البكر .. محطات اتصــال عبر الأقمــار الصناعية، تربط إدارات الدول المستغِلَّة بالقارة المستغَلَّـة.

 

14 - 2

(3) وكان من الطبيعي أن تُجنَّــد جيوش من العلماء مزوَّدين بأحدث الأجهزة العلمية، للقيام بالدراسات الميدانية، وأعمال التنقيب والرصد، لتمهيد الطريق لأعمال الاستغلال، التي لا يســـاورنا شك بأنها قد بدأت فعلاً في القارة القطبية الجنوبية، التي كانت آخر الموائل الطبيعية النظيفة في عالمنا. وهذه محطة أبحاث أمريكية. هذا هو الظاهر. أي أبحاث تجري بها ؟. وما نتائجهــا ؟ . سرية مطلقة، تؤكد الظنون وتثير الشكوك.

 

14 - 3

(4) إن هذا العالم الجيولوجي يستخلص شريحة من الصخر بها حفرية. إن دراسة الحفريات مسألة تمهيدية ضرورية لأعمال البحث عن المعادن والنفط، فالحفريات ســجل للتاريخ الجيولوجي للأرض. وبالطبع، فإن هذا العالم لم يأت إلى (قاع العالم)، ليكِـــدَّ من أجل حفرية، لمجرد أن يكتب مقالاً، ينشره بمجلة علمية. إنهم يستخدمون كل الطرق والوسائل لتحسس طبيعة الموارد وتحديد مواقع الثروات، بما في ذلك الغوص تحت الغطاء الجليدي. ويطارد علماء الحياة أحياء القارة، لاستكشــاف ماذا يمكن أن يُســتغل منها.

 

14 - 4

ومن المستغرب أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعلن عن أطماع واضحة في أجزاء من القارة - ويبدو أنها تطمع في الكعكة كلها!! - فهي ترفض الاعتراف بحق أي دولة من الدول في أي جزء من أجزاء القارة الجنوبية. وقد قامت- في الوقت نفسه- بإيفاد العديد من البعثات إلى القارة المتصارع عليها. وحملت أضخم تلك البعثات اسم "عملية الوثب العالي" - (هل ينقل إليك الاسم دلالة معينة؟!). وقد تمت هذه العملية في عام 1946، في أعقاب الحرب العظمى الثانية، واستفادت بكل المعطيات التكنولوجية التي أفرزتها تلك الحرب، وضمت 13 سفينة، و 50 طائرة عمودية، وحوالي خمسة آلاف فرد!. وواضح أن الأمريكيين- في نشوة انتصارهم في الحرب- كانوا يريدون أن يوجهوا رسالة إلى الأمم المتنازعة حول القارة: نحن لا ندعي ملكية أي جزء من القارة، ولكن لدينا القدرة على تحقيق ما نريد!.

إن الأنتاركتيكا قد تبدو في الخريطة بعيدة عنا، وإن كانت وسائل الاتصــال الحديثة قد أحالت العالم كله إلى قرىً متجاورة؛ ولكن الحقيقة أننا أقرب ما نكون إليها، إذا أخذنا في اعتبارنا ارتباط مستقبلها بأحوال البيئة والموارد الطبيعية والمناخ في عالمنا الصغير .. المرهــق!

 

15

بلوتونيوم أسيموف

 

15 - 1 - أسيموف

تنقلُ لك قراءةُ "أيزاك أسيموف" أفكاراً إيجابية واضحة حول قدرة العلوم والتكنولوجيا على حل مشاكل العالم؛ فلقد كان إسحاق أسيموف مهموماً بتوصيل العلم إلى عامة الناس، وكان يقولُ إن العلم لعلى درجةٍ من الأهمية تستدعي ألا نتركه حكراً للعلماء وحدهم! وقد توفي إيزاك أسيموف في أبريل 1992 عن 72 عاماً، تاركاً وراءه ثروةً من المؤلفات، إذ كان غزير الإنتاج بشكل لافت للنظر، وبلغ عددُ كتبِه 500 كتاباً في موضوعات متنوعة، وموجهة لفئات عُمرية مختلفة، بدءاً من مرحلة ما قبل المدرسة، إلى أمهات الكتب المرجعية الجامعية. ولئن كانت شهرةُ أسيموف قد قامت على قصص وروايات الخيال العلمي، إلا أن مؤلفاته تفرعت في مجالات أخرى، كعلم الاجتماع، والتاريخ، والرياضيات، وعلوم الحياة، والكيمياء، والفلك، والفيزياء، بل لقد كتبَ ألغازاً، ودراسات دينية.

يحكي إيزاك أسيموف عن طريقته في الكتابة، في مقال يتسمُ بالطرافة، عنوانه (من أين استقي أفكاري) يقول: "إنني أفكر وأفكر وأفكر، حتى يخطر ببالي شيئ. ومع ذلك، يحدثُ، أحياناً، أن تأتيني الفكرةُ من الخارج .. ففي يناير 1971، شاركتُ في مؤتمر حول قصص الخيال العلمي، وكنتُ بين المستمعين حين كان إثنان من كتّاب هذه القصص المعروفين يناقشان أساليب كتابتها، فكان أحدُهم يرى – وأنا أشاطره الرأي – أن ردودَ الأفعال الإنسانية أهم من التفاصيل التقنية، حتى في مجال الخيال العلمي. قال ذلك الكاتب: إذا استطاع الكاتبُ نقلَ الدوافعَ الإنسانية على نحو مقنع، فلن يهم القارئ في شيئ أن يبحث أمرَ عنصر البلوتونيوم 186!. ولم أستطع أن أمنع نفسي من الضحك حينها، إذ أن ذاكرة المتكلم قد خانته، فليس ثمة من نظائر البلوتونيوم ما يسمى بلوتونيوم 186، ولا يمكن – حسب قوانين الكيمياء – أن يكون. غير أن خاطراً طرأ على بالي، وحدا بي إلى التفكير في كتابة قصة يكون فيها البلوتونيوم-186 موجوداً بالفعل، ويكون قد أتى إلى الأرض من عالمٍ آخر .. عالم تختلف فيه الطبيعة عن نظيرتها في الأرض. وما أن يحل هذا العنصرُ بالأرض حتى يبدأُ باستيعاب قوانينَها ببطء، ويزيدُ عدمُ استقراره شيئاً فشيئاً. وإذا استطعنا الحصولَ على كمية غير محدودة من هذه المادة، نجلبها من ذلك العالم الآخر السابح في الفضاء الكوني، فإننا سنحصل على مصدرٍ هائل للطاقة، لا يكاد يكلفنا شيئاً. وتلبيةً لمتطلبات الحبكة الروائية، كان عليَّ أن أنسب إليها عيوباً خطيرةً، تُعرضُ كوكبَ الأرض كله، وربما الكونَ برمته، لخطرٍ ماحق. فهل سيكون الناسُ على استعداد لأن يتخلوا عن مصدرً مجاني للطاقة؟ وهكذا، بدأت الأفكارُ تنبثقُ شيئاً فشيئاً من مصطلح ليس له ما يناظره في الطبيعة (البلوتونيوم-186)، وانتهى بي الأمرُ إلى تأليف رواية بعنوان (الآلهة أنفسهم)، صدرت بالعام 1972.

وكان أسيموف قد حصل على بكالوريوس العلوم من جامعة كولومبيا الأمريكية في العام 1939، ثم على درجة الماجستير في عام 1941، ثم درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم، متخصصاً في الكيمياء، عام 1948، واشتغل بعد ذلك بتدريس الكيمياء الحيوية في جامعة بوسطون. وكان يقلقه بشدة غيابُ النهج العلمي للمعرفة بين عامة الناس، في مختلف ثقافات العالم، فبالرغم من أن العلم قد أحدث ثورةً في مسار التاريخ، وجعل الكونَ كتاباً مفتوحاً، إلاَّ أنه يندر تطبيقُه في المجال الاجتماعي، ولم يترك في رؤى معظم البشر تجاه العالم غير أثرٍ ضئيل. وفي رأيه أن الغالبية العظمى من سكان الأرض تعيشُ، من الناحية الشكلية، عالماً تُحدده السلوكيات القبائلية للعصر البرونزي. وقد كرَّسَ أسيموف حياته لتغيير هذا الوضع المُنذر بالخطر.

 

16

شواطئٌ مُلَوَّنَـة!
تسمحُ الظروفُ لكثيرٍ منَّا بقضاء أيامٍ صيفية على شاطئ البحر. فهل تساءلتَ، وأنت تمشي على رمال الشاطئ، وهي تتخلل ما بين أصابع قدميك، عن السبب في أن الشواطئ رملية، ومن أين تأتي كلُّ هذه الرمال. صحيح أنك لا تذهب إلى شاطئ البحر لتسأل عن طبيعة رماله، فالهدف هو الاستمتاع بهوائه ومياهه؛ لكن لا بأس في أن تعرف عن البحر ورمال شواطئه ما قد يزيد من تمتعك بأيام المصيف.

إن رمال الشواطئ هي حصيلة عمليات طبيعية جرت على مدى آلاف السنين، تفككت خلالها أصداف وقواقع كائنات بحرية، وصخور في الماء وعلى اليابس، وتفتتت بفعل عوامل التعرية، من أمطار ورياح وحرارة، ونقلتها العواصف والأمواج، لتستقر في مواقعها مكونةً الشواطئ الرملية.

 

16 - 1

إن الصخور التي تراها قائمة أمام عينيك الآن لن تبقى بحالتها هذه إلى الأبد، فسوف تقع تحت تأثير هذه العوامل، لتتحول في نهاية الأمر إلى رمال وغيرها من المكونات المعدنية المستقرة، مثل الفلسبار أو سيليكات الألومنيوم، والكوارتز أو المرو، وخام معدني مكون من سليكات الكالسيوم والمغنسيوم والحديد، يقال له (هورنبليد)؛ إضافةً إلى مكونات أخرى غير مستقرة، تتحلل بدورها إلى عناصر أخرى. ومعظم رمال الشواطئ مكونة من نسب عالية من الكوارتز والفلسبار، ويدخل في تركيبهما أوكسيد الحديد فيعطيهما تلك المسحة البُنِّيَّة التي تُعرف بها الرمال الشاطئية بصورة عامة. غير أن عواملاً ومكونات بيئية أخرى، مثل طبيعة الأمواج والتيارات البحرية السائدة في المنطقة، قد تتدخل لتعطي الشاطئ (شخصيته) المميزة.

 

16 - 2

وتشتهر شواطئ السواحل الاستوائية بالرمال المكونة من كربونات الكالسيوم، الناتجة من تفتت الأصداف والقواقع، وهي بيضاء اللون، بينما شواطئ المناطق المعتدلة فأساس تكوين رمالها السيليكا، في صورة الكوارتز. وإن تيسر لك أن تزور جزيرة برمودا في المحيط الأطلنطي ستجد حبيبات رمال شواطئها متعددة الألوان، من أبيض ووردي وأحمر، وقد جاء اللونان الأخيران من هياكل كائنات بحرية وحيدة الخلية، تسمى (المنخربات). أما شواطئ جزيرة هاواي، في المحيط الهادي، فمعظمها ذو رمال سوداء اللون، مصدرها صخور بركانية سوداء، ولبعض الشواطئ رمال خضراء اللون، نتيجة دخول معدن الزبرجد الزيتوني في تكوينها. ولولاية كاليفورنيا الأمريكية شاطئ تصطبغُ رمالُه باللون البنفسجي بتأثير ملح معدني أساسه عنصر المنجنيز مصدرُه تلالٌ تطلُّ على الشاطئ.

 

17

عِلْمُ القِلاعِ الرملية!
 

 

لي قصة كتبتُها للأطفال عن صبي يشارك في مسابقة شاطئية لإقامة بنايات من الرمال، فيختار أن تلفت فكرةٌ خطرتْ بباله النظرَ إلى تلوُّثِ البحار والمحيطات بالمخلفات الصلبة، فيستخدم بعضاً من النفايات المتناثرة في نطاق الشاطئ ويُدمجها في مشروعه. ويبدو أن اهتمامي بكتابة هذه القصة كان بدافع من رغبة طفولية قديمة في مشاركة أطفال آخرين بناء منشآت رملية – هذا النشاط الشاطئي الذي لا يُقاوَم - لم يتحقق لها النجاح، فقد كانت تنهار قبل أن أُتِمَّها. وقد علمتُ مؤخَّراً سبب انهيار قصور أحلامي الرملية، بعد أن قرأت تقريراً لأحد علماء الجيولوجيا البريطانيين، يتحدث عن (عِلْمُ القلاع الرملية)!

بدأت حكاية ذلك الجيولوجي مع رمال الشواطئ عام 2004، عندما كلَّفته شركةُ سياحية أن يبحث لها عن أفضل الشواطئ البريطانية التي يضمن مرتادوها من عملائها السائحين، في عطلاتهم الصيفية، أن يبنوا قصورهم وقلاعهم الرملية، ولا تنهار بعد وقت قصير، وإنما تصمد طويلاً. فعكف الباحث على دراسة خصائص رمال عدد من تلك الشواطئ، ورتبها من حيث صلاحيتها للهدف، وجاء في مقدمتها شاطئ منطقة تسمى "توركاي". فكيف توصل إلى نتائجه؟

لم يغبْ عن بال الباحث أن القلاع، حتى وإن كانت مشيدة برمال الشاطئ، وبروح المتعة والمرح الصيفيين، هي رمز للمنَعَة والصلابة العسكرية، فيجب أن يتوفر لها الرسوخُ الداعي للفخار، لذلك يجب أن تتوفر لها رمال قوية. وتعتمد قوة الرمال على خواص حبيباتها، وعلى قدر ما تحتويه فيما بينها من ماء. كما أن قوة تماسك الحبيبات ببعضها تتزايد بتزايد أوجه أسطح الحبيبة الواحدة، وهو أمر مضمون في حالة الرمال التي لم تتعرض للنقل من مكان لآخر كثيراً، فعمليات النقل تفقد الحبة تضليعَها، وتجعلها أقرب للتكور. أما إن كانت الرمال كلسية، أي ناتجة من تفتت أصداف وقواقع الرخويات البحرية، فهي أدقُّ حجماً من غيرها، وتزداد قدرة الرمال على احتواء الماء كلما تضاءل حجم حبيباتها؛ والماء عنصر مهم في عمليات تشييد هذه المنشآت الشاطئية.

ولا تسرف في إضافة الماء إلى الرمال، ولا تقتِّر، ففي الحالة الأولى تفقد عجينة الرمال قوامها، وفي الثانية تتفتت وتنهار. إن كلمة السر في التماسك النموذجي لعجينة الرمال هي قوة (التوتر السطحي) لغلالة الماء التي تربط بين حبيبة وأخرى، فإن كانت كمية الماء كبيرة، انتفت الغلالة ومعها قوة التوتر السطحي، وانزلقت الحبيبات فوق بعضها، وأصبح من المستحيل أن يقوم لأي بناء رملي مقام. أما إن كانت كمية الماء مناسبة، تخلقت قوة الربط بين الحبيبات، وصلحت الرمال للبناء.

ويدلنا الباحث على (الخلطة السحرية) للرمل والماء، فقد توصل إلى أن أفضل صيغة لها هي: دلو واحد من الماء، يضاف إلى ثمانية دلاء من الرمل الجاف. ووضع الصيغة في صورة معادلة حسابية، هي:

حجم الماء = حاصل ضرب الرقم 0.125)) في حجم الرمل.

وينصحنا الباحث الجيولوجي البريطاني بالاستعداد لعملياتنا الإنشائية باختيار نوعيات مناسبة من الأدوات، خاصة الجاروف الذي يجب أن يتحدد حجمه حسب سن المستخدم، إذ يصعب على الصغار استخدام جاروف الراشدين، الذين يتسلل إليهم الملل والضجر إن لم يجدوا أمامهم إلا جاروف بلاستيكي يلهو به أطفالهم. كذلك الأمر بالنسبة للدلاء، التي يفضَّلُ المستدير منها، إذ تساعد استدارتُه في بناء أبراج القلعة وغيرها من تفاصيل معمارية. ولا يتبقى إلاَّ أن ننتظر منك كيف تترجم أفكارك إلى أبنية من رمال مبللة. ولعلك أثناء انشغالك بالبناء تتذكر أن وراء كل حبة رمل تستخدمها في هذا المرح الشاطئي قصة طويلة تحكي مسيرتها عبر آلاف السنين، انتقلت فيها من صخور في جبال غابرة، وأنهار اندثرت، ومستنقعات وبحار شهدت سيادة الدينوصورات وفناءها، ومرَّت بها عصورٌ من أنظمة مناخية متنوعة .. إن قصة حبة الرمل هي، في واقع الأمر، جانب من قصة كوكبنا، الأرض.

 

18

القناة التي خلقت الصين

 

18 - 1 - القناة التي خلقت الصين

يستغرق تنفيذ المشروعات الهندسية الضخمة زمناً طويلاً. وليس ثمة ما هو أطول من الزمن الذي استغرقه إنشاءُ قناة الصين العظيمة، فهي أعجوبة بطولها البالغ 1770 كيلومتراً، واستغرق إنشاؤها ألف عام، في مسيرة هائلة بدأت من الجنوب الشرقي لإقليم (هانجزهو) الساحلي الاستوائي الرطب، في القرن الخامس قبل الميلاد، وطرأت عليها إضافات وتمديدات حتى مجيئ (أسرة سوي) التي حكمت الصين في الفترة بين 581 و618 ق.م.

ومما يبعث على الدهشة أن المبادئُ المحورية النظرية لمشروع القناة الكبرى لا تزال وثيقة الصلة بوقتنا هذا، فتظهر لنا –أولاً- تعاون المهندسين مع إدارة الدولة في تجربة مع البيئة والاقتصاد تتسم بالتعقيد، وضعت دعامات لسلسلة من الحضارات، وتشير –ثانياً- إلى أن التجارة من عناصر الازدهار الأساسية، فلا وسيلة غيرها تُرجِّحُ استخدام الموارد الطبيعية على نحوٍ فعَّال، ولأقصى درجة ممكنة من الإنتاجية. فحين يشتغل البشر بالتجارة تجد مردود ذلك يعود بالفائدة على اثنين: المستهلك والمنتج، ويجد كل منهما مُستطابَاً له في السلعة المنتجة، فيتحقق الأمنُ للمنتج من خلال اكتفائه الذاتي من الغذاء، وتحصله على مدخولٍ مقابل تداول الفائض تجارياً، أما المستهلكون في المناطق المفتقرة للموارد الطبيعية، فتصبح لديهم القدرة على المضي في أنشطتهم الاقتصادية، وقد تزودوا بإمدادات ثابتة من السلع الغذائية التجارية.

وبالرغم من أن أجزاءً من قناة الصين العظيمة عانت أزمنة متقطعة من الإهمال، إلاَّ أن المدن الواقعة على امتدادها شهدت ازدهاراً طال لآلاف السنين. لقد أنشأت الصين القناة، فخلقت القناةُ الصين. وقد كان الغرض التجاري من القناة، في الأصل، وثيق الصلة بالغزو الذي لا خلاف على همجيته، والذي يمكن النظر إليه من بعض النواحي كشكل بدائي من أشكال التجارة. وأصل الحكاية هو أن "فوشاي"، إمبراطور الـ(وو)، كان هو من أمر بإنشاء المرحلة الأولى من القناة، رغبةً منه في امتلاك القدرة على تسهيل إمداد قواته في الشمال بالمياه من قاعدة تمركز نفوذه في الجنوب. وكان ذلك يعني التأكيد للجنود في الشمال على ألا يقلقوا بشأن توفر كفايتهم من الغذاء أثناء الحملة العسكرية؛ ويقول تاريخ البشرية أن معظم الصراعات العسكرية قد حُسِمَ لصالح طرف أو آخر بسبب نفاد الغذاء. وكان نابليون قد تلقى نصيحةً بأن يعي هذا الدرس خلال غزوه لروسيا. فكانت القناة الكُبرى هي الحل الذي وجدته الدولة الصينية لهذه المشكلة، لآلاف السنين، قبل أن تنجح أوربا في حلها. لقد شيدت الأغذيةُ والأسلحةُ القناةَ، التي جلبت الغذاء والأموال.

وكانت المخاطر تحيط بالقناة طول الوقت، لم يكن أهونها حقيقة أن القناة تمُرُّ بالعديد من المساحات الشاسعة من الأراضي المنخفضة، منها منطقة حوض النهر الأصفر، وكانت تتعرض جميعها للفيضان بصورة دورية، فكانت الطبيعة في كثير من الأحيان تناوئ القناة، ولم تكن في ذلك وحدها، إذ أن قادة الجيوش الدفاعية، وقد فطنوا إلى الصلة بين سَـوْقِيَّـات الغذاء وإحراز النصر في المعارك الحربية، كانوا يلجأون إلى تصديع القناة لوقف تقدم الجيوش الغازية. وعلى أي حال، فقد كانت أحوال الجيش الصيني تنتعشُ عندما تجري المياه في القناة. وهكذا، يمكننا أن نصل إلى أن الأشغال الهيدروليكية في المجتمعات الصينية القديمة، وأيضاً في وادي النيل، ومنطقة نهري دجلة والفرات، وحوض نهر السند، إنما كانت في بعدها الاستراتيجي وسيلة فرض السيادة على أراضٍ جديدة.

 

19

المستقبلُ: اتصالات وروبوتات !

19 - 1

قرأتُ كتاباً لأحد الكُتَّاب المهتمين بالمستقبليات يقول فيه إن ثمة آلة ضخمة واحــدة تديــر عالمنـــا، وتتمثل في نظـــام هـائـــل من وســـائل الربــط والاتصـــال، يمكنك أن تصفها بأنها أضخم وأثقل الآلات التي اخترعها الإنسان، ونحن لا نرى الجـزء الأعظــم من تلك الآلـة الإلكترونية، لأننا نخفيهـا تحت أســـفلت الشوارع، ونوظف لهـــا مؤسسات خاصة، مهمتها تشغيلهـا داخـل مبـان محصَّــنة.

ويدور صلـب الكتــاب حول استشراف صــور الاتصـــالات وتقاناتهــا، في مجتمع المائة سنة القادمة؛ ويسوق المؤلف من الدلالات ما يشير إلى أن أهـم التغيـرات، التي سيشــهدهـا ذلك المجتمـع، تتركَّـز فـي المجــال الاقتصـــادي، وعالــم الأعمـــال.

ويحذِّرُ المؤلفُ الدولَ المتقدمة من خطـر يهـدد مجتمعاتهــا، في العقود القليلة القادمة، إذ يتوقَّـع أن يهاجم طوفان ممن يسميهم بالنازحين الإلكترونيين، الذين تم إعدادهم وتدريبهم في الدول النامية، على مراكـز العمل في الدول المتقدمـة، فيحتلون الوظـائــف المتميزة، منافســين مواطني تلك الدول.

ولا يحســـبنَّ أحدٌ أن هـؤلاء النازحين الإلكترونييـن بشـــرٌ ينتقلـون بأجســـامهم المادية من بلـد لآخــر، ولكن أفكـــاراً عبقـريــة، وخدماتٍ متنوعة في مجالات استخدام الحاســوب ومعالجة البيانات، تنقـل إلى الدول المتقدمة، عبر الأقمار الصناعية وشبكات الأليـــاف الضـــوئيــة، لتـــؤدي عملهــا في القارة الأمريكية الشمالية، وأوربــا، واليابــان.

ويلفتُ الكتابُ نظــر النقابــات والمنظمــات المســـؤولة عن العمــال إلى أنَّ اطِّـــرادَ التقدمِ في مجال الإلكترونيــات سيجعل عدد ساعات العمل الأسبوعية 168 ساعةً (هي مجمل عدد الساعات بالأســـبوع)؛ إذ ستعطينا التقانيــات الإلكترونية المتجددة عمَّــالاً من نوع مختلف، هم الروبوتـــات، لا يكلون ولا يتوقفــون، وستكون تكلفتهــم أقل من تكلفة العمالة البشرية.

ويرى مؤلفُ الكتاب أن تقدم هذه الآلات الذكية سيكون متوافقــاً مع تـزايــد الاحتيــاج إلى استمرار العمل، دون توقف، في بعض المواقع والمؤسسات، مثل الفنادق ومنافذ توزيع السلع ومكاتب الخطوط الجوية ومراكز التنبـؤ بالطقس والبنوك العالمية.

ومن أغرب تصورات مؤلف الكتاب، احتمال أن يشهد المستقبل صــنفاً بشــرياً غير الصنـف الذي ننتمـي إليـه (هـومــو ســـابينس)، يحمل اسماً عصــرياً، هـــو (هـومــو إلكترونيكــاس) !

ويطلعنــا المؤلف على مزيد من صــور النفــوذ الذي سيكون للآلة الإلكترونية الهائلة في مستقبل حياة البشر على الأرض، في العقود القليلة القادمة؛ فنري معه أنها ستوفر لنـا مزيداً من المعلومات؛ وستدنو بنا أكثر فأكثر إلى المناطق النائيـة، بحيث تعيد تشكيل فكرتنـا عن مفهـوم (القرب) أو (البعـد)؛ بل إن على علمــاء الجغرافيــا أن يعيــدوا حســاباتهم في ظل النفوذ الإلكتروني القادم، الذي سيجعل المدن توصــف، لا بموقعهـا الجغرافي (المكــان)، ولكـن بالزمان، وبالقدرات الذهنية !؛ وعلى ذلك، فإن مدينة مثل (واشنطون) قد تكون أقرب إلى (لندن) من مدينة أخرى، تجاورها مكانيــاً، بنفس الولاية !.

ويدهشــنا المؤلف بفكرته المستقبلية عن "المدن المتراميــة"، التي هي - في جوهرهـا - مجتمعات معلوماتية، يربط بينها، برغم التنائي جغرافيــاً، أنظمة إلكترونية. ويعطي مثــلاً متوقَّـعَـــاً لتلك المدن، يطلق عليه: "مدينة المحيط الهادي"؛ وهي عبارة عن تجمُّــع ضخــم، يشمل كـلاً من اليابان والولايات المتحدة الأمريكية وكندا، تجمع بينها أنظمة معلومات فائقة التقدم. والطريف، أنه يعطي لهذه المدينة الإلكترونية اسماً جديداً، هو (جاكاناس)، وقد اشتقه من أسماء الدول الثلاث، على النحو التالي: JA – CAN – US!

 

20

دجاج فرانكنشتاين واللحوم البترولية ...!
للطعام في مختبرات مراكز البحوث حكايات وطرائف. ففي الأربعينيات من القرن الماضي، مثلاً، كان حلم كل من المستهلك ومربيي الدواجن أن تتطور وسائل تربية وإنتاج الدواجن لتعطي حجما أكبر من لحم الدجاج الأبيض؛ وعبر الزعيم السياسي البريطاني ونستون تشرشل عن هذا الحلم فقال: آن الأوان لأن نكف عن إصرارنا على تربية الدجاجة كاملة، فنحن لا نأكل إلا صدرها أو فخذها؛ فلماذا لا يقتصر اهتمامنا على إنتاج هذه الأجزاء من الدجاجة ؟

 

20 - 1 - صورة لأول قرص هامبورجر من لحم مختبري

وقد سبق تشرشل إلى هذه الفكرة من فكر في إنتاج لحوم بشكل جزئي، وهو الدكتور ألكسي كاريل، الحائز على جائزة نوبل في علوم الحياة، عندما أجرى في عام 1908 تجربة على قطعة من قلب دجاجة، قام بغمرها في محلول من أملاح مغذية، فوجد أنها لم تستمر محتفظة بحيويتها، فحسب، وإنما كان حجمها يتضاعف في كل يوم، ولم يطرأ على خصائصها أي تغيير، ولم تظهر عليها علامات التقدم في العمر، وظلت تتضخم وتتضخم حتى ملأت فراغ وعاء التجربة. هنا، اقتطع الدكتور كاريل شريحة من نسيج القلب الآخذ في النمو، وزرعها بنفس الطريقة في وعاء آخر، فتحقق النجاح ذاته. واستمرت هذه العملية مرات ومرات، حتى توفي كاريل في عام 1944، ولكن شرائح قلب الدجاجة لم تتوقف عن النمو في مختبره، واستمرت التجربة لمدة 36 سنة تحت إشراف تلاميذه؛ وكانت صحف نيويورك تحتفل كل عام بعيد ميلاد قلب الدجاجة المحتفظ بالحياة في أوعية المختبر! وأثارت هذه التجربة خيال بعض الكتاب، فتصوروا آلة في حجم الثلاجة، توضع في مطبخ المستقبل، وتقوم بنفس ما أجراه الدكتور كاريل في تجربته، فتنمى قطعا صغيرة من اللحم تضعها بها ربة البيت لتجد، بعد أيام قليلة، ما يكفي من اللحم لإعداد وجبة طازجة لأفراد أسرتها. ولم يستطع كتاب آخرون تقبل هذا التصور المستقبلي، فأطلقوا على اللحوم التي تنتجها تلك الآلة التخيلية اسم (لحوم فرانكنشتاين)!

ولا تزال فكرة تخليق لحم بالمختبر تداعب خيال وطموحات العلماء، وعلى نحو خاص في قطاع أبحاث الفضاء، على أمل إيجاد طرق توفر لرواد الفضاء لحوماً طازجة يستغنون بها عن اللحوم المحفوظة المخلوطة بالحبوب والوجبات النباتية التي يعتمدون عليها حالياً؛ فلعلنا نسمع في المستقبل القريب عن نجاحات تحققت في هذا المجال.

ولعل أغرب وأطرف محاولات إنتاج البروتين هي تلك التي اتجهت لاستخلاصه من النفط؛ وقد بدأت تلك المحاولات، كما في كثير من الاكتشافات العلمية، بملاحظة ظاهرة طبيعية؛ عندما تكررت شكاوى العاملين في حقل الطيران من أن خزانات الوقود في الطائرات تتعرض جدرانها الداخلية لهجوم مكثف من كائنات دقيقة تمثل خطرا حقيقيا على حياة المسافرين جواً؛ إذ أن هذه الكائنات تؤدي إلى انسداد مجاري الوقود في الطائرات، وتسبب الكثير من حوادث الطيران. وعلى الفور، بدأ علماء الأحياء الدقيقة (الميكروبيولوجي) في دراسة الظاهرة؛ فكان من الطبيعي أن يتم التعرف، أولاً، على ماهية هذه الكائنات، فوجدوا أنها أنواع من الخمائر والفطريات، لها القدرة على النمو في هذا الوسط النفطي. وهنا، اتخذت الأبحاث اتجاهاً آخر: فلماذا لا ندرس إمكانيات واحتمالات زراعة هذه الكائنات على مشتقات النفط، ونتعرف على العوامل المساعدة على نموها وتكاثرها، بحيث تمثل فتحاً جديداً في تكنولوجيا النفط، وفي نفس الوقت، تحمل البشرى لملايين الجوعى في العالم، حالياً ومستقبلاً ؟.

وتوصلت التجارب إلى أن أهم مشتقات النفط التي يمكن استخدامها في إنتاج البروتين النفطي هما الغاز الطبيعي وزيت الغاز. واكتشف العلماء أكثر من ألف نوع من الكائنات المجهرية التي لها قابلية النمو على مشتقات النفط. فمن المعروف عملياً أنه لا يمكن تخليق البروتين من مكوناته الأساسية، في المختبر، بشكل كيماوي خالص. إننا نحتاج إلى وسيط لهذه العملية، وهذه الكائنات الدقيقة التي تشتهي مشتقات النفط هي التي تقوم بدور الوسيط؛ ويمثل معدل نموها الكبير عاملاً كبيراً في تأكيد أهميتها في عملية تخليق البروتين من النفط. وإذا قارنا معدل نمو هذه الكائنات بمعدل نمو بعض الحيوانات الكبيرة نجد أن:

1 – العجل الذي يصل وزنه إلى 400 كجم، ينتج نصف كجم من البروتين يومياً، يضاف إلى وزنه؛ بينما وزن 400 كجم من الخميرة تنتج ألف كجم من البروتين في نفس الفترة الزمنية، عند توافر الظروف الملائمة للنمو.

2- يتضاعف وزن الكتكوت خلال الأسابيع الأولى من عمره، بينما تضاعف الخميرة وزنها خلال ساعات قليلة.

وقد ثبت بالتحليل أن هذه الكائنات الحية الدقيقة تحتوي على بروتين يساوي 60-70% من وزنها؛ ووجد أيضاً أن هذا البروتين لا يقل جودة عن الأنواع الأخرى، فلم تظهر أية أعراض ضـارة أو تسمم على الحيوانات التي تقتات عليه، ولا على الإنسان الذي يأكل لحوم هذه الحيوانات. كما توصلت التجارب في المعهد المركزي لبحوث الطعام والتغذية، في هولندا، على العجول والدواجن، إلى أن بروتين النفط مقبول لدي الحيوانات، بعد خلطه مع أنواع البروتين الأخرى في العلف وأن هذا البروتين الجديد مشابه في تركيبه الكيماوي للبروتين النباتي المنتج من فول الصويا، وقريب إلى تركيب البروتين السمكي.

وتتلخص عملية التصنيع في أن الكائنات المجهرية تقوم بتحويل المواد الأولية الموجودة في الوسط الذي تعيش فيه، كغاز الميثان، إلى مواد كيماوية أكثر تعقيداً، تنتهي بالبروتين. وبعد هذه العملية، التي تشبه في طبيعتها عملية التخمر العادية، يتم فصل النواتج باستخدام أجهزة الطرد المركزي، حيث نحصل على البروتين الخام الذي يتم تنقيته وتجفيفه بعمليات ميكانيكية وطبيعية، تحافظ على صفاته الكيماوية وقيمته الغذائية.

وهكذا، نرى إن العلم لم يتوصل، بعد، إلى تقديم طبق من اللحم البترولي للإنسان، ولكنه يقدم نفس القيمة بشكل غير مباشر؛ ولا نستبعد أن يصبح هذا البروتين صالحا للاستخدام المباشر في مطابخنا، مستقبلاً.

 

21

دفاعٌ سلبيٌّ.. مجيد !
هل هناك حاجة أقوى من أن يستمر الكائن الحى متواجداً فى خريطة الحياة؟

وهل ثمَّة كائنات حية تهمها تلك الحاجة، أكثر مما تهم سكَّان الغابة، حيث القانون السائد: إسع من أجل غدائك، ولكن، حذار.. فربما تكون، أنت، وجبة العشاء القادمة، لكائن آخر، يبحث عنك الآن !.

 

21 - 1 - أعظم خبراء التمويه على سطح الأرض ..

ومن (دينامية) هذا القانون، يتحقق للنظام البيئي بالغابة الاتِّزان؛ وتتضمَّن هذه (الدينامية) تفاصيل عمليَّة؛ فمن جانب (المفترس)، يهمه أن تكون مهارات المطاردة والقنص، لديه، فى أوج كفاءتها؛ ومن ناحية (الضحيَّة)، المنتَظَرة، يستعين بكل وسائل الدفاع المتاحة، لدرأ الخطر عن نفسه؛ وهى دفاعات إيجابية للقادرين؛ وسلبية، لمن لا يملكون قدراتٍ عضلية وأنياباً حادةً وفى اعتقادنا، أنَّ صفة (سلبية) لاتعنى انتقاصاً من (فكر) هذه الكائنات، التي تبدو ضعيفةً؛ إنها برأينا لا تقل قوَّةً عن تلك التي لا تكُفُّ عن استعراض قوة عضلاتها، وحدَّة أنيابها، وتفوُّقها فى أعمال الكرِّ والفرِّ وإثارة الغبار.. إنها كائنات (حكيمة)، خبيرة باقتصاديَّات القوَّة؛ تقبع فى مخبئها، وقد أدركت بعمق حقيقة العلاقات والأوضاع حولها، فتجرى حساباتها بأسرع ما يكون، وتقوم بتقدير الموقف، واتخاذ القرار،بلا تردد. لا عجب إذن أن ينجح مئات، بل آلاف الأنواع، من هذه الحيوانات التي ترتضي الدفاعات السلبية أسلوباً لها، فى الاحتفاظ بمواقعها فى خريطة الحياة علي سطح الأرض، لعشرات ومئات الملايين من السنين، بينما كائنات أخرى، أضخم وأقوى، قد طواها ظلام الانقراض.

 

21 - 2 - تحت قدمي الطائر المفترس ولا يراه!

ولعل أبرز (جنرالات) الدفاع السلبي، وأكثرهم شهرةً، فى البرية، الحرباء؛ ومنها تعلَّمت جيوشنا فنون التمويه، وإن عجزنا عن إتقانها بنفس درجة الكفاءة العالية، المشهود لها بها؛ وتتفوَّق الحرباء على نفسها، فى وسيلة دفاعية سلبية أخرى، لا يعرفها كثيرون؛ فهى، إن تعرَّضت لخطر داهمٍ، وهلاك محقق، بعد أن ينجح عدوٌّ مترصِّد فى اكتشاف وتحديد ملامح جسمها، تلجأ إلى التخلُّص من ذيلها، فتصدِّر المفاجأة للحيوان المفترس، الذى يجد أمامه (كائنين) يتحرَّكان: الحرباء، وذيلها؛ فيصيبه التشوُّش والارتباك؛ ويستغرق الأمر منه ثوانٍ قليلة، ليدرك الحقيقة؛ وعندما تتبدَّى أمامه أبعاد الخديعة، تكون الحرباء ناقصةً ذيلها قد فرَّت، وتحصَّنت بأقرب شقٍّ، أو عادت لحيلها اللونية بإحكام هذه المرَّة فيأخذ جسمها ألوان الموقع، وتختفى عن الأنظار؛ أمَّا المفترس الخائب، فلا يجد أمامه إلاَّ الذيل، ذا الحلقات القرنيَّة، ولا حاجة له به، فيستدير كاسف البال، وينسحب من الميدان.

إنَّ الحرباء هى (النموذج المثال)، الذى تستدعيه الذاكرة عندما يكون الحديث عن سلوكيات الدفاع عن الذات، بين الكائنات الحيَّة؛ وثمَّة كائنات أخرى، تحاكى الحرباء فى أسلوبها الدفاعى، غير أنها لا تصل لدرجة براعتها. وهذه (ضفدعة الأشجار)، حمراء العينين، التي تعيش فى غابات أمريكا الوسطى؛ وهى بالمناسبة من الكائنات التى تعانى ضغوطاً بيئية شديدة.. إنها تمتلك جسماً يصبغ معظمه لون الأشجار، الأخضر؛ ولكن مشكلتها فى لون العينين الواسعتين الأحمر، وفى بقع جانبية زرقاء. وقد اعتادت ضفدعة الأشجار، لتتغلَّب على مشكلة الأحمر والأزرق، فى حالة السكون، أن تثني ساقيها الخلفيتين الطويلتين، فتتكفَّلان بإخفاء البقع الزرقاء على جانبيها؛ وأن تسحب غطاء عينيها، فيختفى اللون الأحمر اللافت لنظر المتربِّصين: وهكذا، يتحقق لضفدعة الأشجار توافقها مع العالم الأخضر. ولكن الضفدعة، بطبيعتها، حيوان متحرِّك متحفِّز؛ فإن هى لمحت حشرة على بعد خطوات منها مثلاً يغادرها الحذر، وتنسي إجراءاتها الدفاعية السلبية، فتقفز، منقضَّةً على الحشرة، وتلتقطها بلسانها اللزج، الذى ينطلق طرفه السائب من داخل الفم، وهو وسيلة صيد لا تخيب، فيعود بالفريسة، لتبتلعها الضفدعة. هنا، ينتبه الأعداء إلى وجود الضفدعة التى انكشف عنها غطاؤها، فتسارع إلى مكان بين أوراق الشجر، وتثنى ساقيها، وتُغمض عينيها، فتعود بقعةً خضراء، على سطح أخضر !.

أمَّا الجندب مخروطي الرأس، وهو من سكَّان الغابات المطيرة، فى أمريكا الوسطى، أيضاً، فإنه يعتمد وسيلة مختلفة للدفاع عن وجوده.. إنه يتعامل مع أعدائه (نفسيَّاً)، فيحاول إخافتهم، إذ أنَّ لديه ما يشبه القناع الذى يرتديه لاعبو السلاح؛ وهو قناع أسود، يعطى مع بعض البقع السوداء على البطن تكويناً غير مريح، يؤدى بالمتربِّصين إلى الزهد فى الجندب. وحقيقة هذا القناع، أنه أجزاء خارجية من الفم، قاطعةً وحادةً، تعينه فى إعداد أوراق الشجر على هيئة شرائح صغيرة، يسهل ابتلاعها.

 

22

مســـاكن حسب الطلب ...
أسألك: أين تقيم؟ تجيب: في البناية رقم (كذا ؛ بشارع (كيت)؛ وتحدد اسم الضاحية، وقد تذكر رقم الشقة. سؤال عادي، وإجابة اعتيادية. فما رأيك إن كانت الإجابة على مثل ذلك السؤال، هكـذا: "في الثقب الواقع على يسار الفرع قبل الأخير، من شجرة السنديان القائمة على حافة الغديـر الأوســط"؟!

لا تتعجَّـب؛ فهكذا توصف مواقع محال الإقامة في الغابة؛ فالثقوب والفجـوات هي المساكن، والأشــجار هي البنايات والعمائر. إن شــجرة معمِّــرة واحـدة يمكن أن يعيش فيها جيران من أنواع مختلفة، ابتداءً من الحشــرات، مثل الصرصور والنمل، إلى الضفـادع والســحالـي والطيــور والفئـران، كلٌ في مســكنه، ينحته بنفسه، أو يجـده منحـوتاً بواســطة ســـكان ســابقين، على هيئــة حــفر أو فجــوات متنوعة الأحجــام والأشـــكال، ومنتشـــرة على طول جــذع الشــجرة، من القاعـدة إلى قمتها الشــاهقـة، فالبعـض يفضـل الســكنى في (الأدوار) الســـفلى، والبعض الآخــر يحب الإقامـة عنــد القمـة .. مع مـلاحظــة عـــدم وجـــود مصـــاعد !

 

22 - 1

ولا يهتم السكان بعمر العمارة، أو الشجرة، فكل المطلوب هو أن تكون فجواتهـا وأفرعهـا صالحـة للســكن، فيهـا أو فوقهـا. ولا عجـب أن تجـد أقـدم ســكان الأشجار من الحشـرات، فهم أول من يصـلون، ويقتحمــون الشــجرة من خلال الثقوب والشــقوق الصـغيرة الموجـودة بالقلــف، أو القشــرة الخارجيـة؛ فالحشــرات لا حاجـة لهـا بالمســاكن المتســعة. وقد يُضــطرُّ بعض أنواع الحشــرات، مثل النمـل الأبيـض والخنافس، إلى حـفر ممـرات تصــل بين الثقـوب والشــقوق، تلجــأ إليها لتضــع فيهـا بيضهـا، فيفقـس بداخلهـا، ويحتمي بهـا الصغار، حتى يصبحـوا قادرين على مغادرة (بيت الأســرة)!

 

22 - 2

تســـتقر الحشــرات في الشــجرة، وهي لا تدري، بطبيعة الحال، أن وجودها بهـا هو – في حقيقة الأمـر – بمثابة دعــوة للغــذاء؛ والمدعــو هــو طائـر شــهير .. إنه (نقَّــار الخشــب). إن النوع من طيور نقار الخشب، المعروف باسم (ذو الزغــب الصــغير)، يمســـح الشـــجرة من أســفلهـا لأعلاهــا (نقــــراً)، مفتشـــاً عن الخنافس الساكنة في قشـــرتهـا، ليلتهمهـا. أما النقار ذو العــرف، فإنه يفضــل النمـل، فينقــر القلــف، بحثـــاً عنــه. ويعمل ذلك النقَّــار على أن يســكن قريبــاً من (المطعــم)؛ بل إنه يبني مســكنه في نفس الشــجرة التي يأكـل منهــا، فيأخـذ في تقشـــير طبقــات الخشــب، حتى يحصــل على عــش، عبــارة عن فجــوات ذات حجم يناســبه. ولا بأس في أن يكون له عــدة مســاكن في أشــجار مجــاورة، فهـو لا يسـتـقر في مسكن واحد بصفة دائمة؛ وربما كان ذلك نوعاً من التضليـل لعيـون الأعداء. غير أنه يُضــطر إلى مـلازمـة أحـد المســاكن، معظـم أيام الصيــف، لرعاية صــغاره، الذين مــا إن يتحصَّــلوا على أجنحـة قادرة على الطيـران، حتى ينطلقوا مغـادريـن مكان المولد، كلٌ يســعى لحفــر مســـاكنه الخاصــة.

يســتحق نقَّــار الخشــب – إذن – هذه التســمية، ويمكننــا، أيضــاً، وبلا مبالغـة، أن نطلـق عليـه لقــب أعظـم البنَّـائيــن بالغابة؛ فهــو يمــلأ أشــجار الغـابــة ثقـوبــاً صــغيرة، تعينه في مطــاردة الحشـــرات، وفجــوات أكبــر، لســـكناه، وليفقـــس فيهــا أفراخـه. إن تلك الثقـوب الصــغيرة لا تلبـث أن تجتـذب أفـراداً آخـريــن من ســكان الغابة، يرتضــونـها بيوتاً تؤويهـم، فيســكنها عصــفور يســمى (أبو المليـح)، أو (القرقــف)، وأنواع من الفئران صغيرة الحجم. أما الفجوات التي يصنعهـا نقَّــار الخشـــب، ثم يهجرها بعد حين، فإنهـا تتعرض للرطوبة والبكتيريا، فهي – ولا ننســى – ليست من جمــاد، وإنما من أنسجة نباتية حية؛ فتتـآكل من الداخــل، فيزيدها ذلك عمقـــاً واتســـاعاً، لتناســب ســكاناً آخرين، من ذوي الأحجام الأكبر، مثل (فأر الماء)، أو (الفأر الغسَّــال)؛ وهو حيوان قارض، له ذَنَــب مخطـط غزيـر الشــعر؛ و" الأوبسَّــام "، وهو من الجرابيـات ليلية النشــاط، ويشــتهر بالتماوت عند القبـض عليـه. وفي العـــادة، فإن سكان البيوت التي هجرها النقَّـار، يكتفون بمسكن واحد؛ أما الســـنجاب الطيـَّار، فإنه لا يجد غضـاضــــة في التوســـع؛ فما دامت المســـاكن متاحة، فلماذا يعيـش في ضــيق ؟. إنه يتخذ لنفسه عدة فجوات، فيخصص واحدة كمســتودع لطعامه، ويستخدم أخرى كحمَّــام، ويختــار ثالثة من أجل الصــغار، وأخيراً، ينتقي الزوجان مســكناً خاصاً لهمـا، يعيشــان فيه شـــهور الصــيف، فإذا حــلَّ الشـــتاء، تجمعت الســـناجـب الطيــارة، لينـــام عـدد منهــا فــي مســــكن واحـــد، طلبـــاً للـــدفء !.

 

22 - 3 - حتى القواقع تجد مسكنا لها في اشجار الغابة

وثمة تجاويـف وفراغـات يحـدثهـا الزمـن في جـذوع أشــجار الغابة الشــائخة؛ وهذه تكثر قرب قاعدة الشجرة؛ وهي المسـاكن المفضلة لأنواع بعينهـا من الحيوانات، ولكـلٍ استخدامه الخاص؛ فالســنجاب الأرضي يســتخدم هذه الفراغات القاعدية كأبواب للطوارئ، وتكون متصلة بممرات تنتهي بمسكنه تحت سـطح الأرض؛ فإذا تربـص به عـدو عند الباب الطبيعي، في نهاية أحد الممرات، لجــا إلى " باب الشــجرة ". كمـا أن النحــل يبني أعشــاشــه في مثـل هـذه التجـاويــف؛ ويشـاركه في ذلك أنواع من الدبابيـر. فإذا كان التجويـف في جـذع الشـجرة ضخمـاً، فإن الدببـة الســوداء تتنافــس عليــه، ليكــون مســـتقرهـا المثـالــي، في بياتهــا الشـــتوي الطويل.

 

22 - 4 - وللنمور والفهود مستقر على أفرع الأشجار القوية

إن البيوت الشجرية قد تكون أكثر أمنـاً من الأعشـاش، التي لا يغطيهـا إلاَّ الســماء؛ غير أن الســلامة والأمـان لا يكتمــلان، فإن عاصـفة إعصــارية قد تطيـح بالشــجرة وســكانهـا؛ وإذا اندلعـت حرائـق الغابـات الشــهيرة، قامــت قيامـة ســكان الأشــجار، وضاعت الحيـاة مع المســكن. كمــا أن الســكنى في الأشــجار لا تعطـي حصـانة كاملـة ضــد اللصــوص والأعـداء، فبعض هؤلاء يعرفون كيف يصلون إلى البيوت الغائرة في أجسام الأشــجار؛ وأشــهر المهددين لأمـن الأشــجار الثعابيـن؛ كمـا أن بعض الجيـران لا يعرف أصــول الجيـرة، وتســوِّلُ لـه نفســه الســطو علـى مســاكن الجيران؛ فالراكـون، أو فــأر المــاء، يســرق بيـض وصــغار الطيــور من أعشــاشــها؛ ويبيـح الســنجاب الطيَّـار لنفســه اقتحـام مساكن الآخـرين، بحثـاً عـن طعــام مختـزن.

لقد دعت هذه الأخطار المحدقة بعـضَ ســكان الأشــجار إلى اتخـاذ إجـراءات دفاعيـة، وتحويل مساكنهم إلى قـلاع حصيـنة. وثمة طائر كبير الحجـم، لـه منقـار طويـل، عليه زائدة قرنية، يقال له (أبو منقـار)، يتفنـن في تحصيـن مســكنه، فتلجــأ الإناث إلى الفجـوات عندما يحين موعـد وضــع البيـض، ويبقى الذكـور بالخـارج، حيث يشــتغلون بإقفــال فتحـة الفجــوة بخليــط من الطيـن وبعض إفرازاتهم ومخلفاتهــم؛ فإذا جــفَّ الخليــط، فإن جداراً يكون قد نشــأ، يقوم بســد الفجــوة في وجوه الأعداء. ويراعي الذكور البنَّــاؤون ترك ثقـب صــغير، يكفـي لتهـوية المســكن المحصَّــن، ويســمح لمناقيـرهــم بإمداد (أهل البيت) بالغــذاء !. ومع نمو الصــغار، فإن جهــد الآبــاء يقصــر عن الوفــاء بالمطلوب من الإمدادات الغذائية، فتُضــطرُّ الأمهــات للخــروج لمســاعدة أزواجهـن في جلــب الطعــام للصــغار؛ فتشــق الأنثــى (أم منقــار) لنفســها ممــراً عبـر الحائـط الحصــين، وتأمر الصــغار بإعـادة بنـائــه عقــب خروجهــا، فيعـود إلى حالتـه الأولــى. ويجتهــد الزوجـان في إمـداد صــغارهما بالطعــام، حتى يكتمل نموهـم، فيهدمون الســد – ويكون ذلك، أحياناً، فيما يشــبه الاحتفــالية – وينطلقــون إلى حيــاة الغابة، محتفظيـن بخبرة أبويهــم في إقامة أنظمة التأميــن !

 

23

مهندسون جرَّاحون !
هذه نتائج مشروع بحثي قام به مجموعة من الباحثين في جامعة (ويسكونسين)، بولاية (ماديسون) الأمريكية، أجروا دراسات طريفة حول الكيفية التى تتحرك بها الأجزاء المختلفة من الجسم الآدمي. والمتوقَّع بطبيعة الحال أن يكون هؤلاء الباحثين من الأطباء، غير أن أغلب الفريق البحثي كان من المهندسين الميكانيكيين !.. كما ضمَّ الفريق متخصصين في الرياضيات وبرمجة الحاسوب؛ ولم يكن ثمة مكان لطبيب واحد !.

 

23 - 1

لقد حوَّل هؤلاء المهندسون كل حركة يقوم بها الجسم البشري، ابتداءً من الخطى الوئيدة لعجوز يتوكَّأ على عصاه، إلى الحركة الدائبة للاعب كرة سلة نشيط، بين سلَّتي الملعب، إلي مجرَّد صِيَغٍ حسابية، ومعادلات رياضية، يلتهمها الكومبيوتر، في برامج خاصة، فيتحوَّل الجسم البشري إلى نظام ميكانيكي مجرَّد. والمردود النهائي من هذا الجهد الهندسي، يأتي في صورة برامج ونماذج، تصف كل حركة تتم في الجسم الآدمي، من المشي إلي مضغ اللبان؛ هنا، يمكن للأطباء أن يظهروا، ليستفيدوا من هذه البرامج، التي تعينهم في تحديد أفضل الطرق لمساعدة المعاقين، كما ينتفع بها أطباء العظام؛ وتتسع دائرة المنفعة لتشمل مدربي الألعاب الرياضية، والمهتمين باللياقة البدنية.

وتضم النتائج المنشورة شهادة لطبيب عظام، استخدم واحداً من هذه البرامج في علاج مريض له، أصيب بكسر في عظمة الحرقفة؛ ولم يفعل الطبيب غير أن فتح برنامج الكومبيوتر، وأدخل المعلومات المتوفَّرة عن مريضه: الحجم، والوزن، ومنطقة العطب، بالتحديد؛ واستجاب البرنامج، فأخرج للطبيب وصفاً لأفضل طريقة يمكن للمريض أن يمشي بها، كما أوصى بضرورة استخدام عصا يتوكَّأ عليها !.

وقد استقبل الأطباء البرامج، التي أنتجها مشروع جامعة ويسكونسين البحثي، بترحاب كبير، فقد أفادوا منها؛ وكانوا قبل ظهورها يفتقدون الوسيلة المناسبة لتقدير الضغوط الواقعة على مختلف مواقع الإصابات، فكان يصعب عليهم التشخيص ووصف العلاج؛ وقد أصبحوا بفضلها أكثر قدرةً على اكتشاف طبيعة الإصابات التي تلحق بالبناء الهيكلي للجسم البشري. وقد مكَّنتهم تلك البرامج من كشف طبيعة المفاصل، وكيفية عملها، والتحقق من أي تلف يلحق بها، دون حاجة لتدخُّل جراحي، أو استخدام أي آلة طبية.

ويقول الدكتور (علي سييريج)، أستاذ الهندسة الميكانيكية بجامعة ويسكونسين، وهو قائد الفريق البحثي، إن بإمكانه الآن إجراء جراحات في العظام، دون حاجة لأن يدخل حجرة العمليات الجراحية، ولا لدراسة الطب !.. كل ما عليه، هو أن يجلس إلي الكومبيوتر، ويستدعي نموذجاً لهيكل بشري، مختَزَن في برنامج، ويبدأ جراحته (النظرية)، مستخدماً المعادلات الرياضية، التي تتعامل مع متغيِّرات، مثل الضغط، والطاقة، والاتزان؛ فيغيِّر عظمةً بعظمةٍ، أو يستغني عن جزء من عضلة؛ وفي كل حالة، يظهر على شاشة الكومبيوتر تأثير تدخُّله الجراحي على مشية مريضه (الافتراضي)، وسائر حركات أجزاء جسمه !.

ولقد ساعدت تلك البرامج - الميكانيكية الطبية - في تصميم وتصنيع جهاز خاص لعلاج العضلات الممزقة، يعتمد على توصيل شحنات كهربية صغيرة إلى مكان الإصابة، فتستجيب العضلات بانقباضات ضئيلة متتابعة، تؤدِّي إلى الشفاء.

 

23 - 2

الجدير بالذكر، أن الهدف النهائي من مثل هذا المشروع البحثي، هو فتح آفاق جديدة في مجال تصنيع (الروبوتات)، وتطوير هذه الآلات الذكية، وتحسين حركتها، وبصفة خاصة، حركة أصابع اليد؛ إذ تشتمل البرامج التي أنتجها المشروع على جزء خاص بكفِّ الإنسان، وفيه نماذج للكفِّ، توضِّح النسق الذي تتحرَّك به العضلات، وقطع العظام الصغيرة في الأصابع، لتؤدَّي مختلف الحركات.

ويقول واحد من أعضاء فريق ويسكونسين البحثي، لقد كان انحيازنا العلمي إلى فكرة أن الجسم البشري ما هو إلاَّ نظام شبيه بالآلة؛ إلاَّ أننا بعد شوط طويل من العمل بهذا المشروع - أصبحنا لا نخفي أن ثمة اختلافات جوهرية، بين الجسم والآلة فعلى سبيل المثال، ثمة مبدأ أساس، يجب أن يتحقق في الآلة الجيِّدة، وهو أن تقوم بعملها مستهلكةً أقلَّ قدر ممكن من الطاقة؛ ولا يعترف الجسم البشري بهذا المبدأ؛ فالإنسان لا يهمه كثيراً كم بذل من طاقة أثناء المشي، بقدر ما يهمه على الأقل في اللاوعي أن تبدو مشيته جميلة !

 

24

أنفاقٌ مُشمِسَـةٌ ..!

 

24 - 1

إنتشر اللون الأخضر في جانب من محطة قطار أنفاق من خط كان يجري تحت أحد الشوارع في الجهة الشرقية من مانهاتن، توقفت عن العمل وهُجرتْ منذ العام 1948، فتحول إلى ما يشبه حديقة استوائية. وكانت المحطة المهجورة تجتذب الشاردين ورسامي الجداريات، حتى جاء مهندس معماري يدعى جيمس رامزي بفكرة جديدة أوجدت هذا المتنزه، أو الحديقة، تحت الأرض. وهو من مهندسي وكالة أبحاث الفضاء والطيران الأمريكية (ناسا)، ومشغول بتكنولوجيا الطاقة الشمسية، التي استخدمها في تحويل ذلك المكان الجهم إلى ما يشبه المتنزه الطبيعي، إذ يعتقد في أن التقنيات المتقدمة في مجال البصريات، التي يتخصص بها في مشروعات (ناسا)، يمكن إخضاعها لخدمة الهندسة المعمارية، فتجمع الألواح الشمسية آشعة الشمس وتمررها عن طريق انابيب شمسية صنعت من ألياف ضوئية إلى أقبية وغرف بلا نوافذ، لتخلق ما يسميه مهندس ناسا (كوَّة ضوء قَصِيَّة). ويرى رامزي أن ما يقوم به هو نوع من التجريب العلمي، مع مغامرة عمرانية، لتحويل مساحة من المسالك الملتوية في نفق قديم، لا تزيد مساحتها عن 60 ألف قدم مربعة إلى أول حديقة استوائية مفتوحة للعامة، فرضت طبيعتها أن يُطلق عليها اسم (السفلية).

 

 

24 – 2

وقد افتتحت الحديقة السفلية، التي يرى فيها البعض شططاً، في أكتوبر الماضي، وبشكل جزئي، ليتردد عليها الزائرون في عطلات نهاية الأسبوع، والمقرر أن يستمر ذلك حتى مارس 2017، وهي تلقى ترحيباً من الأطفال على نحو خاص، ويأمل رامزي وفريقه أن تعلن إدارات المدينة موافقتها عليها في غضون الشهور القليلة القادمة، لتُستكمل الحديقة السفلية وتفتتح في 2021، لتكون ملتقى جديدا فريداً لسكان المنطقة، يثير فيهم روح الإبداع، متحدياً رأياً يقول بافتقاد التوافق بين المدن والطبيعة.

والمعروف عن سكان نيويورك ميلهم لأي مكان مفتوح يتاح لهم، وكان ترحيبهم كبيراً بهذه الحديقة التي أسهمت في إنشائها أبحاث الفضاء، والتي أزالت بعضاً من رداءة المشهد في ذلك الموقع سيئ التخطيط العمراني، والذي تجري محاولات لإزالة التشوهات فيه، ومنها هذه المحاولة لزراعة نفق المحطة السفلية المهملة، والتي تستهدف استعادة رونق هذه المنطقة من مانهاتن، وإنعاش الحالة الاجتماعية بها، وتنشيط مختلف الأنشطة التجارية والبلدية، وتوفير مكان آمن يمرح فيه الأطفال على مدار السنة. وقد استقبل هذا المتنزه العجيب منذ افتتاحه نحو خمسين ألف زائر، تدهشهم إضاءة المكان بآشعة ساطعة ناعمة، تخفتُ عند مرور غيمة في سماء المنطقة، لتعود إلى السطوع بعد أن تمر، تماماً كما هو الحال فوق سطح الأرض، الأمر الذي يسرب للمتواجدين في (المحطة السفلية) شعوراً بانهم تحت سماء حقيقية. صحيح أن الضوء المستقدم من أعلى تنكسر آشعته بانعكاسها أكثر من مرة، لكنه يبقى محتفظاً بمكوناته من موجات الطيف التي تحتاجها أشجار السرخس والنخيل والطحالب المزروعة في هذه الحديقة السفلية. وقد أبدى بعض الزائرين تخوفات من قدر الأمن المتوفر في هذا الموقع المعروف جيداً للمتشردين، وأشاروا إلى عدم كفاية المرافق الصحية.

 

24 - 3

وكانت الشكوك تنتاب من أشرفوا على مزروعات المتنزه، فلم يكونوا واثقين من أن تكنولوجيا الطاقة الشمسية التي طبقت ستوفر للنباتات احتياجاتها من الضوء، وبدأوا أعمالهم محاذرين، غير أن ما تحقق من نجاح شجعهم على إضافة المزيد من أنواع النباتات، مثل سلالات تتبع العائلة اللوفية، والفوشيا أو قرط السيدة، إضافة إلى أنواع من النباتات لا يصح نموها إلا في وجود آشعة الشمس الساطعة، مثل النعناع، والخزامى الفرنسي، والفراولة. وما إن انتشرت الفطريات على أوراق الطحالب النامية في برك صغيرة بالمنتزه السفلي، حتى فوجئ الجميع بظهور عظاءة!. لقد تخلَّق نظام بيئي (صناعي) فريد!. ويؤكد بستانيو هذا المتنزه أنه إذا توفر له أكثر من مائة من الألواح الشمسية لتمكنوا من إضافة مزيد من أنواع النباتات التي لم تكن لتخطر على بال أحد أن تصح زراعتها في مثل هذا الموقع، ولأتيح لهم تحويل المكان إلى حديقة بالمعنى المتعارف عليه في البستنة.

لقد أثبت الأساس التكنولوجي لهذه التجربة سلامته وجدواه، ورحبت به مدينة نيويورك، التي تبذل جهود فيها الآن لتوفير 60 مليون دولار، من القطاعين العام والخاص، للمضي في استكمال الصورة النهائية للمشروع، الذي يخدم أغراضاً علمية وتنموية وتعليمية، كما أن التكلفة السنوية لتشغيل وصيانة، وتراوح بين 2 و3 ملايين دولار، سوف تغطيها الإيرادات.

وعلى أي حال، فإن للتجربة، مهما كان حظها من النجاح، قيمتها في لفت الانتباه إلى إمكانية أن تفرض ظروف غير اعتيادية الاستعانة بهذه التكنولوجيا التي جلبت ضوء الشمس من السماء إلى مكان لم يكن لأحد أن يفكر في أن يدخله الضوء الطبيعي، ومن السهل تطويع هذه التكنولوجيا لتضيئ أماكن أخرى تفتقد إلى ما يكفي من آشعة الشمس لتتوفر لها مواصفات صحية أكبر، مثل المدارس والمستشفيات ومكاتب الدواوين، ناهيك عن المحطات الفضائية.

 

25

ماذا لو كانت أرضُنا بلا قمر ؟!

 

25 - 1 - صورة من أبوللو للقمر مكتملاً

لدينا ثلاثة أجسام فضائية متفاوتة الأحجام، مترابطة وِفق نظام مُحكم من الدورانات، وقوى التجاذب .. فالشمس تجذب الأرضَ إليها، لا تفلتها، ولكن تسمح لها بأن تدور حولها في مدار ثابت، دورةً واحدة كل سنة، ينتج عنها الفصول الأربعة، ودورةً حول نفسها، لينتج الليل والنهار. وبين الأرض والقمر تجاذب متبادل، يحتفظ للقمر بمدار ثابت حول الأرض، يُتمُّ فيه دورة حول الأرض كلَّ يوم تقريباً.

وهذا يعني أن الأرض تتأثر – حسب قوانين نيوتن للجاذبية، بقوة جاذبية كل من الشمس والقمر، وأن هذه القوة تختلف باختلاف موقع الأرض بالنسبة لهما، تبعاً لنظام ثابت أيضاً، تتميز فيه حالتان: في الأولى، تكون الأجسام الثلاثة على خط واحد: الشمس، والقمر، ثم الأرض. وفي الثانية، تكون الأرضُ مركزَ زاويةٍ قائمةٍ ينتهي أحدُ ضلعيها بالشمس، والآخر بالقمر.

وفي الحالة الأولى تكون قوة الجذب الواقعة على الأرض مساوية لمجموع قوتي جذب كل من الشمس والقمر. وفي الحالة الثانية، تكون الأرض تحت تأثير قوة جذب ضعيفة من اتجاه الشمس، لبعد المسافة بين الشمس والأرض، بينما تكون قوة جذب القمر هي المؤثرة.

يؤدي وقوع الأرض تحت تأثير هذا التجاذب إلى حركة المياه في بحار الأرض ومحيطاتها، وهي المعروفة بظاهرة المدِّ والجِـزْرِ .. ففي وقت خضوع الجانب من الكرة الأرضية لقوة الجذب، سواء كانت قوية أو ضعيفة، تنحسر المياه عن الشواطئ وتتوافد إلى وسط المسطح المائي، وهذا هو الجزر، ويستمر ذلك لساعات قليلة، فيذهب تأثير قوة الجذب، فتعود المياه منطلقة إلى السواحل فتغمر الشواطئ.

ولعل معظمنا رأى المدَّ والجزر في منطقة البحر الأحمر،حيث تنسحبُ كميات هائلة من المياه، معرية مساحات متسعة من المنطقة الشاطيئة، تتناثر فيها ببِرَكٌ صغيرة بها كائنات بحرية من أسماك صغيرة وقشريات ومحاريات، خلَّفتها المياه وراءها معرَّضَة للجو، لعلها تعود لتغمرها بعد ساعات قليلة، هي الزمن بين المد والجزر.

ويمكنك إن قمت بجولة بين برك المد والجزر أن تحصل على ثروة من العينات والنماذك من الكائنات البحرية صغيرة الحجم، وأن تدرس العلاقات التي تربط حياتها بهذه الظاهرة البحرية التي يلعب القمر فيها دوراً محورياً.

وقد استخدم البشر التناوب بين حركتي المد والجزر منذ العصور القديمة، في إدارة طواحين الغلال، التي لا تزال آثارها موجودة على شواطئ مقاطعة (بيرتاني) بشمال فرنسا، منذ القرن 12 الميلادي. وقد سبقهم العربُ إلى ذلك، إذ ورد في كتاب البلدان لابن خرداذابة (746 م) وفي مؤلفات المقدسي (989 م): "إستغل أهلُ البصرة تيار المد والجزر في إدارة السواقي والطواحين".

وللقمر فضله، من خلال المد والجزر، على الأرض، أكبر من ذلك، إذ تعمل تيارات المد والجزر الهائلة على استخلاص الأملاح والعناصر الكيماوية من أحجار اليابس، ونقلها إلى مياه المحيط، لصنع ما يسمى (حساء المخاليط)، الذي يمكن اعتباره أساس الحياة التي يقول عدد من العلماء بأنها نشأت في الماء، وبدونه لم تكن الحياة تشكلت على الإطلاق، أو للجأت الكائنات الأرضية إلى التعاطي مع أحوال أرض بدون قمر بأنماط مختلفة من السلوكيات.

والجدير بالذكر أن القمر قد اقتُطِع من الكرة الأرضية عن ارتطامها بجرم سماوي بحجم المريخ، منذ نحو خمسة ملايين سنة. فلو لم يحدث ذلك لكانت أحوالُ الأرض مختلفة، ولامتنع الشعراء عن قول القصائد في وصف القمر؛ كما أن العلماء لم يكونوا ليتطلعوا إلى ارتياد الفضاء، فعندما بدأ هذا النشاط، كان جارنا القريب (القمر) هو أول محطة لسفن الفضاء.

وأخيراً، يكشف العلماء عن سر تأثر البشر عاطفياً تحت ضوء القمر، ويقولون إنه يشبه تأثيره على الأرض ببحارها ومحيطاتها؛ فماذا تكون أجسامُنا البشرية إلى كتلة معظمها ماء، يؤثر عليه قوة جاذبية القمر، فيعيش بين حالتي مدِّ، أو (جزر) !

 

26

على ظهر حُدْوةِ حِصـان !

 

26 - 1 - سرطان البحر الحدوة

 

من العلاقات البحرية الغريبة علاقة السرطان البحري المعروف باسم (حـدوة الحصــان) بمجموعة من الكائنات البحرية، تســتردفَـهُ، أو تعتلي ظهره – بعضها يفضِّـل البطن – فتتخذه محلَّ إقامةٍ مختـــاراً، مؤقتـاً، أو دائماً. والحقيقة، أن حــدوة الحصـــــان، وأحياناً يقـــــال له "الســرطان الجندي"، ليس ســــرطاناً، وإن كان له هيئة الســـرطــــانات البحرية؛ إذ أنه ليس من طائفة القشريات البحرية، التي تنتمي إليها السرطانات الحقيقية؛ وإنما هو من مجموعة تمُــتُّ بصلةٍ – بعيدة نسبياً – للعناكـــب!

إن هذه الكائنات البحرية شبيهة السرطانات تعيش في المياه الشاطئية، وتحفر لبيضها أعشاشاً في رمال القاع، حيث تضع الأنثى الواحدة ما يقرب من 20 ألف بيضة، تفقس بعد شهر واحد، فتغطي أسراب الحدوات الوليدة خط الساحل؛ وتتعرض – في هذه المرحلة – للافتراس من كائنات أخرى، أما ما يكتب له النجاة، فلا يلبث أن يشق طريقه، ليختفي عن أعين الطيور في المياه الأكثر عمقاً.

أما الحدوات العجوز، فإنها تبقى بالميــاه الشاطئية غير العميقة، فيتخذها عدد من الكائنات البحرية مستقرَّاً له، فيتراكم عليها، حتى يكاد شكل السرطان الحدوة أن يختفي. وتُختــصُّ الحدوات العجوز بهذا الهجوم، لأنها – ببساطة – قد توقفت عن النمو؛ فالكائنات المســتردِفـة لا يمكنها الاستقرار على ظهور وبطون الحدوات الصغيرة، الآخذة في النمو، والتي تبدل درقاتها من وقت لآخـر.

ويبدأ استعمار جسم الســرطان الحدوة بالبكتيريا، التي تغطيه في صـورة طبقة رقيقة لزجة؛ ولا تلبث كائنات أخرى أن تعقبها، في تتابع غريب. وقد اهتم أحد علماء البيئة البحرية بدراسة ظاهرة اســترداف السرطان الحدوة، فوجد أن عدد الكائنات البحرية، من اللافقاريات فقط، التي تحتل ظهر وبطن هذا الحيوان، يصل إلى 40 حيواناً، أهمها الأطومات، والديدان عديدة الأشواك، والمفلطحة، وأنواع من الإسفنج، وبعض أنواع القشريات البحرية الصغيرة، بالإضافة إلى أنواع دقيقة من الجلدشوكيات البحرية، مثل نجوم وقنافذ البحر؛ وإذا توفَّـــرت بقعٌ خاليةٌ على سطح الحدوة، يصلها ضوء الشمس، احتلتها الأعشاب والطحالب البحرية، من خضراء وبنية وحمراء.

وبمرور الوقت، تصبح درقة السرطان الحدوة (كوناً) صغيراً، أو مستودعاً متحركاً للتنوع الأحيائي؛ فبالإضافة إلى المحتلين أو المستردفين، تجتذب الدرقة، العامرة بالحياة والأحيـــاء، أنواعاً أخرى (زائــرة) من الكائنات البحرية، تتردد على هذا (المـول)، أو المستودع الحــي، لتنتقـي منه ما يروقهـا من أنواع الطعــام، أو لتقيــم علاقـات مختلفـة مع بعض المقيمين بــه !

بقي أن نشير إلى أن الإنســان قد وجد لنفسه مكاناً بين المستفيدين من السرطــــــانات حـــــدوة الحصــان. إنه – بطبيعــــة الحـال – لن يســـتردفهـا؛ ولكنه (يحصــدها) من مواقع تجمعاتها على شواطئ المحيطات، ليســــتنزفهــا .. نعم 00 ليحصــل على دمائهـا، التي تتميز بحساسيتها الفائقة للسموم؛ ومن ثم، فهي تفيد في الاختبارات التي تحدد درجة نقاء المواد الكيميائية الفعَّــالة في العقاقير، ونظافة الأجهزة المستخدمة في تداول دماء البشر.

على ظهر حدوة الحصان:

 

26 - 2 - منظر ظهري

1 – بيض حيوان محاري.

2 – طحلب أحمر.

3 – حيوان قشري بين خيوط الطحلب.

4 – نوع من شقائق النعمان البحرية.

5 – نجمة بحر.

6 – حيوان رخو.0

7 – حيوان رخوي مصراعي.

8 – أطومات.

9 – نوع من المرجانيات الرخوة.

10 – محــارة.

11 - إسفنج أحمر.

12 – طحلب أخضر.

13 – نوع آخر من الأطومات.

14 – نوع دقيق من الجمبري.

15 – ديدان عديدة الأشواك.

16 – طحلب بني0

17 – دودة داخل أنبوبة صلدة.

 

على بطن حدوة الحصــان:

 

26 - 3 - منظر بطني

أرقام 1 و 4 و 7 و 8 و 9 – أصداف لحيوانات رخوية متباينة.

رقما 2 و 5 – نوعان من الكائنات الأولية.

3 – دودة اسطوانية.

6 – ديدان عالقة.

 

27

كلابُ الشرطةِ .. شكراً ..!
كُلُّنا يعرفُ كلابَ الشرطة، التي يُقالُ لها أيضاً كلابُ البحث الجنائي.

كنا لا نراها إلاَّ في أفلام السينما، تساعد رجالَ الشرطة في التعرُّفِ على المجرمين، فيُعرضُ عليها صفٌّ من الأفراد، يُحتملُ أن يكون مُرتكبُ الجريمةِ بينهم، فتمرُّ بهم، كأنها تستعرضهم، وفي الواقع هي تتشممهم، بعد أن تكون قد تشممتْ أثراً تركه الجاني وراءه في موقع الجريمة دون أن أن يشعر؛ فإن وجدتْ بينهم صاحبَ الأثرِ، توقفتْ أمامه وارتفعً نباحُها، وأوشكتْ أن تهاجمه بأنيابها ومخالبها الفتاكة.

الآن، نراها في كل مكان: المطارات – الموانئ – محطات السكك الحديدية – ساحات الألعاب الرياضية – المتاجر الكبيرة – مداخل المُجمَّعات السكانية الضخمة، وفي أي موقع يُحتملُ أن يتواجد به من يستهدفُ الإخلالَ بأمن البشرِ وتهديد حياة الأبرياء والإساءة إلى استقرار المجتمعات.

وقد رأيناها، مؤخَّراً، تساعدُ فِرَقَ الإنقاذ في تحديد أماكن تواجد الأجسام البشرية تحت أكوام الأنقاض، في حوادث انهيارات المباني.

لقد أوحتْ الخبرة البشرية المُتوَارَثةُ إلى رجال الشرطة باستخدام الكلاب كأداة للبحث الجنائي، قبل أن يؤكدُ العِلمُ قدرتَها الفائقةَ على التقاطِ روائحِ الأشياءِ والأجسامِ والتعرُّفِ عليها. إن قوةَ حاسةِ الشمِّ عند الكلابِ تبلُغُ عشرةَ أضعافِ قوَّتِها لدي البشرِ؛ ويستطيعُ أنفُ الكلبِ أن يحِسَّ بالروائحِ، مهما تضاءلَ تركيزُها، حتى أنه يشمُّ رائحةَ جزيئِ واحدِ من مادةٍ ما، ذائب وسط بليون جزيئ من الهواء!

 

27 - 1

لا عجبَ، إذن، أن الكلابَ تتعرَّفُ على من يخافها، فهي تشمُّ آثاراً من هورموناتٍ يزيدُ إفرازُها في حالة الخوف، وتخرجُ مع العَرَقِ!. ولا غرابة في ذلك، فالجهازُ العصبيُّ للكلبِ مُهيَّأٌ لهذا الأداءِ فائقِ القدرةِ، فمساحةُ تمييزِ الروائحِ في مُخِّ الكلبِ مُتَّسِعةٌ نسبياً، كما أن أنفه غنيٌّ بأطرافٍ لأنواعٍ من الخلايا العصبية الحسية، وظيفتُها استقبالُ الروائحِ، ويزيدُ عددُها عن 200 مليون خلية، بينما لا يزيدُ العددُ في الأنف البشرية عن خمسة ملايين!

ومع تزايُدِ الاعتمادِ على كلابِ الشرطة المُدَرَّبَة في مطاردة الإرهابيين ومُهرِّبي المخدرات والمتجرين فيها، إتجهتْ بعضُ مراكز الأبحاث في العالم إلى دراسة حاسة الشم عند الكلاب، فقضي فريقٌ بحثيٌّ في إحدى الجامعات الأمريكية عِقداً كاملاً من الزمان يدرسُ ويحللُ قدرة الكلاب على الإحساس بمئات المركبات الكيماوية، فتوصَّلَ إلى نتائج مدهشة.

تبين للفريق البحثي أن المواد المتفجرة والمخدرات والأجسام البشرية ينبعثُ منها روائح لعشرات من مركبات كيماوية مختلفة ومتداخلة، بحيث يصعبُ التأكُّدُ من أن أنوف كلاب الشرطة تحسُّ بها جميعاً، وبنفس الدرجة. كما اتضح أن الكلاب لا تستطيع التعرُّفَ على بعض الروائح التي يمكن للأنف الآدمية تمييزُها، مثل رائحة طلاء الأظافر!

 

 

27 – 2

وكشفت نتائج أبحاث ذلك الفريق من العلماء الأمريكيين عن أن الكلاب تتعرضُ لتسعة عشر مرضاً تنال من حساسية أنفها للروائح خلال فترة الإصابة بها، فتقلل من قدرتها على التمييز بينها، وهذا أمرٌ يجبُ أن ينتبه إليه المسؤولون عن فرق كلاب الشرطة، فيحمون الكلابَ من الإصابة بتلك الأمراض؛ فإن أُصيبتْ بها أوقفوها عن العمل.

ومن الطرائف التي وردت في نتائج ذلك الفريق البحثي، إكتشافُ أن بعض الكلاب المدربة على ضبط السموم البيضاء (الهيروين والكوكايين)، لا تشم رائحة المادة المخدرة، بل مادة الكيس النايلون المحتوي على تلك السموم.

المهم، أن تلك الدراسة العلمية قد وضعتْ أيدينا على بعض أوجه النقص والعيوب في كلاب الشرطة، كانت خافية علينا. لذلك، فإن فريق العلماء الذي أجرى تلك الدراسة يوصي بضرورة إيجاد بدائل (آلية) لأنوف الكلاب الشُرَطيَّة!. ويحدد العلماء جهازاً إسمه (جهاز تحليل طيف الكتلة)، وهو من الأجهزة المستخدمة في مختبرات مراكز البحوث المتقدمة، وتبلغ دقتُه في الكشف عن المواد إلى درجة رصد جزيئ واحد من المادة بين (كوادريليون) – أي واحد وأمامه 16 صفراً – من جزيئات الهواء!

ولكنها توصيةٌ شبه مستحيلة، فثمن الجهاز الواحد يزيد عن 150 ألف دولار، كما يصعبُ توفير عدد كافٍ منه ليحلَّ محلَّ (كتائب) من كلاب الشرطة العاملة في جميع أنحاء العالم. ثم إن هذا الجهاز يفتقدُ ميزة سهولة الاستخدام؛ فالكلابُ كائنات حية، مدربة، طيِّعة، تتحرك في كل مكان برفقة حراسها ومدربيها.

والخلاصة،، أن الجهاز المقترَح كبديل للكلاب، هو منافسٌ خاسر!

ويبدو أننا، وبرغم ما توصل إليه ذلك الفريق البحثي من نتائج غير إيجابية، سنظلُّ نرى كلاب الشرطة، لزمنٍ طويلٍ قادم، تتجولُ هنا وهناك، تتشممُ الهواءَ، وتُنذِرُنا بروائح الشرِّ المتربِّصِ بنا، فنهبُّ لمقاومته ...

 

28

دولفين إسمُه "آ - أُو" !
يعرف علماء سلوكيات الحياة البحرية أن أنواعاً من الدلافين لا تعيش إلا في حالة ارتباط أسري قوي، حيث لا يفارق الزوجان أحدُهما الآخر، مهما كانت الظروف.

 

28 – 1

وفي هذه القصة الحقيقية، نجد الدولفينُ ورفيقتُه وقد قررا معاً تركَ المياه العميقة، بيئتهما الطبيعية، ليقتربا من الشاطئ حيث المياه قليلة الغور. ربما كانا يطاردان سرباً صغيراً من الأسماك، ليلتقطا منه وجبة سريعة.

والمؤكد أنهما غفــلا عما يحيط بهما، فتعثرا في شبكة لصيد الأسماك. ويبدو أن السيدة الدولفينة كانت عصبية، إذ أخذت تضـرب الشـباك بعنف حتى نال منها الإجهاد. فماتت أمام عيني رفيقها الذي أصابه حزن شديد، فاستسلم لقدره، ينتظـر أن يلحـق برفيقة حياته.

ولحســن حظ هذا الدولفين المسكين، عاد الصيادُ صاحبُ الشبكة – وكان أبكم - في الوقت المناسب، وتقدم بقاربه ليرفع شبكته ويجمع صيده. ففوجـئ بالشبكة ممزقة، وقد التفّت خيوطهــــا حول الدولفينين.

 

28 – 2

لم يكن يهمه بالدرجة الأولى إلاَّ ســلامة الشــبكة، فهي كل رأســماله، ثم إنتـبه إلى وجود الدولفينين. أخرج الدولفينة المتوفاة، ثم حرر الدولفين المصــاب، وعكــف في تلقائية عجيبة على مداواة جراحه، وأطلقـه في المــاء. ثم هـداه تفكيـره إلى أن يدفن الدولفينة في رمال الشاطئ. وعـاد بعد ذلك إلى كوخـه المنعـزل، راضــياً عمَّــا فعلـه من أجل الدلفينين المسكينين.

خرج الصياد من كوخـه بعد أن استراح قليلاً، فلاحــظ أن الدولفيـن الجـريــح يســبح غير بعيـد عن الشــاطئ. فقال في نفسه: لعله لا يزال مجهــداً بســبب جراحه ولا يقوى على الإبحــار بعيــداً. والحقيقة أن دافع تواجده بالمنطقة كان ارتباطه الشديد برفيقة حياته، فربما كان لا يزال يتوقع عودتها إليه.

خابت جهود الصياد في رتـق شــبكته، وبات ليلته حزينــاً. وفي الصــباح غـادر كوخه وفي نيته أن يتوجه إلى قرية ســـياحية ســاحلية غير بعيدة يطلــب عمــلاً، فلا صيادٌ بلا شبكة. وفوجــئ بالدولفين الجريـح موجـوداً في البقعـة ذاتها، كأنه لـم يغــادرها منــذ الأمـــس، وقد اســــتعاد بعــض حيويتـه. تعجــب وسأل نفسه: ماذا يجعله متمســكاً بالبقــاء قــرب الشـــاطئ، هــو الذي لا يرضــى بالعيش إلاَّ في الميــاه العميقة؟

بلغ الصياد القرية السياحية. اســتوقفه الحارس، وسأله بصــوت عال: ماذا جــاء بـك إلينــا مبــكراً هــكذا أيهــا الأخـــرس؟ وأيــن أســــماكك؟ تعذَّرَ التفاهمُ بينهما، فانســحب الصياد راجعــاً إلى كوخـه. فوجــئ بالدولفين في اســـتقباله وهو يتقافـز في المــاء. فرمى إليه كيــس طعــام كان يحمله، ولســـان حالـه يقــول: دعني في حالــي، كفاني ما أصــابنـــي منـــك.

لكن الدولفين كانت له وجهة نظر أخرى. فهـم أن الصيـاد يلاعبــه، ويقـذف إليه بطعــام، فأســرع يلتقــط الكيـس الورقي على قمة رأســه، ويرفعه في الهواء ليعــود فيلتقطـه. ولمَّـا تمـزق الكيـس ابتلع ما فيه من طعـام.

لم يســتحســن الصياد ذلك، فأخذ يحـرِّك يديه بقصــد إبعــاده. لكن الدولفين كان متعلقاً بالصــياد الذي أنقـذ حياته وقدم له الطعــام.

ازداد ضـجــر الصيــاد، فأخــذ يطــارد الدولفيــن، ضــارباً الماء بيديـه، صائحـاً فيه: آ... أو... آ... أو.

كانت تلك هي الأصــوات التي يســتطيع أن يطلقهــا تعبيراً عن غضــبه، بينما تهيَّأ للدولفين أن صـاحبــه قد أعطــاه اســـماً، هــو: (آ... أو).

فجأة، رأى الصياد جمعـــاً من الســـائحيـن يقفــون بالقــرب من الكــوخ. اتجــه إليهــم. كانــوا يصيحــون: آ... أو! فاســــتوعب الموقــف بســرعة. لم يكن يســــمعهم بالطبع، ولكنــه قــرأ ما يصيحــون به في حركة شـــفاههــم، فــرد عليهــم: آ... أو!

هذه روايتي لقصة حقيقية متداولة في جنوب الغردقة، حيث هجر الأخرس الصيد، وأصبح مصدر رزقه الوفير استعراضاته اليومية مع "آ... أو"، أمام أفواج من السائحين، كانوا يطلبون من وكلائهم السياحيين إضافة زيارة ذلك الموقع في برنامج جولتهم بالبحر الأحمر!

 

29

الخيـالُ والعِلمُ معاً ...
ثمَّـة دلائل عديدة تـؤكــد أن ثقافتنــا العربية تسير برجـل واحدة، هي الثقافة الأدبية. إن كلمة " ثقافة "، عند جانب كبير من المشتغلين بالشـــأن الثقافي، لا تســـتدعي ســـوى الشعر، وفن القص، والمقالة، وأحياناً المسرح؛ فـــــــإذا كــان المجال يتسع لأكثر من ذلك، دخلت الموســــيقى والفنون التشكيلية. وإذا ذُكِــر لفظ (عـلـــم)، في حديث عن الثقافة، كان التجاهل، وربما الاســتنكار. لقد اقترحنــا اسم الراحل " الدكتور عبد المحســن صـالــح "، للتكريم في مناسبة ثقافية، ضمن قائمة من رواد (الثقــــافة) في الإسكندرية، من شـــــعراء وقصاصين و (علمـــــاء) فـــي الآداب، فرفـض المســـــــؤولون تكريمـه، بحجَّــــة أنه: (عالم) !.

وفي عملية إحصاء بسيطة، قمنا بها لإصــدارات أكبر مؤسستين للنشر في مصر، هما الهيئة المصرية العامة للكتاب، ودار المعارف؛ لم يزد نصيب كتاب الثقافة العلمية، فـــي أيٍّ من المؤسســـــــتين، على مــــرِّ تاريخ نشـــــاطهما الطويل، عن 20%، في أفضل الأحوال.

لقد قمنا بجولة سريعة في أحد مواقع شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت)، التي تعلن عن الكتب والمجلات المتخصصة، فأمكننا أن نحصي أكثر من 60 داراً للنشر، في بعض الولايات الأمريكية، متخصصة في كتب الأطفال؛ تتسابق لإشباع شهية القراء الصغار، المفتوحة للقراءة بصفة عامة، ولكتب الثقافة العلمية والخيال العلمي، بخاصة.

وإننا ننحاز لرأي يقول بأن الخيال العلمي هو الوسيلة المثلى للربط بين فرعي الثقافة: الأدبي والعلمي؛ فهو كفيل بأن يجعل منهما شريكين متعاونين، في التأثير على الواقع.

وبالرغم من أن أغلب الإنتاج في مجال الخيال العلمي موجَّه – أساســاً – للكبار، فإن الأطفال – في الواقع – هم " المستهلكون " الحقيقيون لهذا الإنتـاج. وثمة من يرى أن كافة أشكال الخيال العلمي هي، في الحقيقة، أقرب إلى عالم الطفولة، حتى وهي تخاطب الراشدين، فهي تحيي فيهم طفولتهم. وثمة واقعة، ذات دلالة، حدثت في مدينة " ستوكهولم"، منذ نحو عشر سنوات، عندما قامت أول مظاهرة من نوعها، للأطفــال؛ فقد تجمعوا أمام إحدى دور السينيما، احتجاجاً على قرار بمنع دخول الأطفال، الذين تقل أعمارهم عن 11 سنة، لمشاهدة فيلم من نوع الخيال العلمي، لامتلائه بمشاهد العنف، وتدور أحداثه حول مخلوق غريب، في هيئة طفل!

 

29 – 1

إن الخيال العلمي هو الذي جعل كاتباً، مثل النرويجي "جوستين جاردر"، لا يتردد في أن يكتب للأطفال ما يتخيله البعض (موضوعات ثقيلة)، فهو يمتلك القدرة على جعلها في مستوى إدراك الطفل. وقد أنتج "جاردر" عشرة كتب، بلغت جملة توزيعها 12 مليــــــون نسخة (!!)؛ ومن كتبــه: (مرحبـــاً .. هـــل مـــن أحد هناك؟!)، يغامر فيه بالدخول إلى عالم أسرار الحياة، والتاريخ الطبيعي للأرض، ونظرية التطــور. ولكاتب هذه السطور تجربة، في كتابه للأطفال (الأرنب يحصل على ترقية)، ويقدم فيه حكاية علمية عن اكتشاف حديث في مجال كيمياء البروتينات، جعل علماء التصنيف ينقلون الأرنب من موضعه في طائفة القوارض، إلى عائلة اللبونيات!

كما أن للخيال العلمي تأثيره السحري في قاعات الدرس؛ وقد لاحظ أحد أساتذة الفيزياء أن جفاف المادة العلمية لا يجعل تلاميذه يقبلون على الدرس، فأعدَّ سلسلة من الدروس، أسماها: (الفيزياء وأدب الخيال العلمي)، اعتمد فيها على استخلاص أسس ومبادئ الفيزياء القديمة والحديثة، من خلال مطالعة 50 رواية من روايات الخيال العلمي، وتقديمها للتلاميذ؛ ونجح الخيال العلمي في إزالة جفاف المادة التي ينفر منها التلاميذ، في كل مكان !.

 

30

مبيداتٌ آمنة!
مرحباً بكل جهودٍ تُباعِدُ بيننا والاضطرار إلى استخدام موادٍ كيماوية سامة، مثل مبيدات الحشرات أو الحشائش أو الفطريات، فقد تشبَّعَ معظمُ أنظمتنا البيئية بتركيزاتٍ مزعجة من هذه السموم الكيماوية.

وقد استقبلت الأوساط العلمية في العالم بارتياح بالغ نبأ توصُّل اثنين من العلماء الاستراليين، من المتخصصين في (البيولوجيا الجزيئية)، وهو فرع مستحدث من علوم الحياة، يهتم بدراسة الظواهر البيولوجية على مستوى (الجزيئ) المفرد من مكونات الكائن الحي، تمكنا من اكتشاف مصدر طبيعي لمبيدات حشائش، لا تؤذي الناسَ ولا الحيوانات، ولا تتعرض للزراعات الاقتصادية.

كان هذان العالمان يستمتعان برياضة الغوص، في شاطئ غنيٍّ بالشعاب المرجانية، فاستوقفتهما ملاحظةُ أن الحياة في بيئة الشعاب غنية بالعديد من أنواع الكائنات الحية الحيوانية، وتكاد تخلو من أي نوع نباتي. وظلاَّ يفكران فيما شاهداه، بعد عودتهما إلى عملهما بجامعة جيمس كوك الأسترالية، وهداهما التفكيرُ النظري إلى تفسيرٍ للظاهرة يتلخَّصُ في أن ثمة منافسةً خسرتها الأنواع النباتية، وكسبتها كائنات حيوانية تسكن شعاب المرجان، ولها مصلحةٌ عُظمَى في أن تُقصِيَ النباتات عن هذه البيئة، لتنعمَ وحدها بالحياة في الشعاب الغنية بالغذاء، مخافة أن يؤدِّيَ النموُّ المتسارع للحياة النباتية إلى أن يسدَّ عليها سُبُلَ الحياةِ في الشعاب. ولا بدَّ أن هذه الحيوانات قد وجدتْ الوسيلةَ التي تطردُ بها النباتات ..

 

30 – 1

فماذا كانت تلك الحيوانات، وما وسيلتُها؟

عاد العالمان، اللذان يستحقان أن نذكر اسميهما هنا: "جيم بورنيل" و"ليندون ليويلين"، إلى منطقة الشعاب، وحصلا على 500 عينة من مختلف أنواع الكائنات الحية فيها، وعكفا في المختبر على تحليل العينات، وانتهيا إلى مجموعة من المُرَكَّبات، استخلصاها من العينات، وتبين لهما أنها قادرة على إعاقة نشاط إنزيم متميز، بدونه لا تتم عملية البناء الضوئي في مجموعة من النباتات يعرفها العلماء باسم نباتات الرتبة الرابعة، وتشمل كلَّ أنواع الحشائش التي تنمو بسرعة أكبر من سرعة نمو نباتات المحاصيل الزراعية المهمة، التي تسمى بنباتات الرتبة الثالثة، وهي تختلف عن أفراد الرتبة الرابعة في أنها تقوم بعملية البناء الضوئي بأن تأخذ غاز ثاني أكسيد الكربون من الجو مباشرةً لتصنعَ منه المواد السكرية، التي تختزنها في أوراقها، وتُطلِقُ غازَ الأكسجين. أما نباتات الرتبة الرابعة، فإنها تحصلُ على ثاني أكسيد الكربون في صورة أملاح بيكربونات تمتصها من الوسط الذي تعيش فيه، وتؤدي عملية البناء الضوئي على نحوٍ أسرع، وبكفاءة أكبر، مقارنةً بأفراد الرتبة الثالثة. ومن هنا، كان نموها السريع، وانتشارُها الوافرُ في البيئة البحرية، وهذا هو الأمر الذي أقلقَ غيرّها من سكان الشعاب المرجانية!

ويجري الآن تجريبُ المركبات المستخلَصَة من هذه الدراسة الشيِّقَةِ، وعددُها أربعُ مركَّبات، في مزرعة محدودة للتأكد من أنها لا تؤثر إلا في الاتجاه المطلوب، فلا تُهلك إلا الأعشاب غير المرغوب فيها.

 

30 – 2

الجدير بالذكر أن مبيدَ الأعشابِ المُصنَّعَ، الشائعُ استخدامُه حالياً أصبح عديم الفعالية، إذ اكتسبت الحشائشُ القدرةَ على مقاومته؛ وهو يبدأُ مسارَه في الحقول الزراعية، وينتهى به المقامُ في الأنهار، التي تصُبُّ في البحار، فيلوِّثُ كلَّ المجاري والمسطحات المائية التي يمرُّ بها. أما المركبات التي استخلصها العالمان "جيم بورنيل" و"ليندون ليويلين" من كائنات الشعاب المرجانية، فهي طبيعية، قصيرة العمر، إذ لا تلبث أن تتحللَ إلى أخرى، غير ضارة.

 

31

ما الأنثروبوسين ؟!
قد يكون من الصعب تصديقُ أن عاملاً مؤثراً شديداً، مثل هبوبُ عاصفة شمسية قوية تجتاحُ سطحَ الأرض، أو ارتطامُ جُـرْمٍ سماوي سيَّار بالكرة الأرضية، يمكن أن يغير أحوال عالمنا؛ فهل يسهلُ تصديقُ أن البشر هم أنفسُهم العاملُ المؤثر الآخذ، فعلاً، في تغيير ملامح وجه العالم الذي يعيشون فيه؟!

 

31 - 1 - عصر غير البشر أحواله

هذه قضية علمية يثور حولها جدلٌ كبير الآن...

وقد بدأ هذا الجدل العلمي فريقٌ من خبراء الأزمنة الجيولوجية، يذهبُ إلى أن الأرض قد بدأت تدخلُ حقبةً جديدة من تاريخها الجيولوجي، أطلق عليها اسم (الأنثروبوسين) وهي تسميةٌ يعني الشقُّ الأول فيها (أنثرو) أنها من صنع الإنسان؛ فهي حقبة جديدة، تتميز بأنها لم تنشأ نتيجة تغيرات في الدورات الطبيعية التي جرت على سطح الكوكب، ككل الحِقَـب التي مرت بالتاريخ الجيولوجي للأرض، وإنما بتأثير من الأنشطة البشرية.

 

31 - 2 - خريطة الازمنة الجيولوجية

وكان آخر العصور الجيولوجية التي يُجمعُ عليها علماءُ الجيولوجيا هو عصرُ (الهولوسين)، أو العصر الحديث، الذي شغل العشرةَ آلاف سنة الأخيرة من التاريخ الجيولوجي للأرض، والذي يتحمس نفرٌ من هؤلاء العلماء لفكرة أنه قد انتهى بالفعل، ليبدأ (الأنثروبوسين)، الذي يحددون بدايته الفعلية بالوقت الذي عرفت فيه البشريةُ الزراعة وتدجينَ الحيوانات؛ وإن كان بعضهم يرى أن بدايته هي الثورة الصناعية، التي أدت إلى تغيير كبير في تركيب الغلاف الجوي للأرض، ووصول تركيزات غاز ثاني أكسيد الكربون إلى مستويات أعلى مما كانت عليه في أي وقت من الأعوام الثمانين ألفاً المنقضية. والجديرُ بالذكر أن فريقاً من العلماء قد اقترح تاريخًا محددًا للبداية، هو السادس عشر من شهر يوليو عام 1945، وهو اليوم الذي شهد أول تفجير نووي.

 

31 - 3 - يميل نفر من العلماء لاعتبار أن أول تفجير نووي هو بداية عصر الأنثروبوسين

وثمة اعتقادٌ بأن مَقدِمَ عصر الأنثروبوسين سيزداد ترسُّخاً بحلول منتصف هذا القرن، حين يصلُ تعدادُ سكان العالم إلى أكثر من تسعة مليارات إنسان، ستضغطُ احتياجاتُهم للطعام وغيره من ضرورات الحياة على منظومات المياه والطاقة وبعض الدورانات الطبيعية الحيوية، مثل دوران كل من النيتروجين والفوسفور، وعلى الزراعة وأسلوب استخدام الأراضي، وعلى التنوع الأحيائي، وغير ذلك، الأمرُ الذي سينتهي إلى تغير وجه الحياة على سطح الأرض.

وبالرغم من أن مصطلح (الأنثروبوسين) لم يحظ بإجماع المجتمع العلمي العالمي حتى الآن، إلاَّ أنه آخذٌ في الانتشار بين عدد متزايد من الدوائر العلمية، التي ترى أن النوع البشري قد أصبح أعظم القوى المؤثرة في تغيير وجه العالم، بقدرتها على نقل كميات من المواد المختلفة لا يمكن تصور مدى ضخامتها، وعلى تحويل كميات هائلة من الطاقة من صورة إلى أخرى.

الجديرُ بالذكر أن الإنسان ليس هو أول كائن حي يتسبب في تغيير البيئات الكونية، فقد سبقته النباتات، مثلاً؛ فهي تنتج عنصر الأكسجين من خلال عملية البناء الضوئي؛ وحين بدأتْ تقومُ بهذه العملية لأول مرة، منذ ملايين السنين، كان تركيزُ الأكسجين في الغلاف الجوي للأرض غاية في الضآلة؛ والمعروف أن عنصر الأكسجين عاملٌ مُؤكسد قوي، فلما ارتفع مستوى تركيزه من خلال البناء الضوئي في النباتات، كان على كثيرٍ من الكائنات الحية أن تستجيب لذلك بأن تعمل على حماية أجسامها من الأكسدة؛ ونجح بعضُها في ذلك، بينما لم تستطع مجموعة كبيرة من تلك الكائنات أن تحمي نفسها، فانقرضتْ وبادتْ.

و قد تمكن العلماء من التعرف على بعض الكائنات التي وجدت طريقةً لحماية أجسامها من تأثير الأكسجين، مثل أنواع من الديدان البحرية، إختارت أن تعيش مدفونةً عند قاع البحر، حيث يغيبُ تماماً عنصرُ الأكسجين الحرُّ.

وهكذا، تمكنت النباتات عند ظهورها في خريطة الحياة على سطح الأرض من أن تغير ملامح هذه الخريطة، تماماً كما يفعلُ الإنسانُ الآن؛ إلاَّ أنه يتميز عن النباتات بأنه نوع وحيد يقوم بهذا العمل، بينما النباتات أنواع عديدة.

 

32

النباتاتُ تُريدُ
النباتات البرية تنمو لحـال سبيلهـا، لا تحتاج لتدخل أو مساعدة من أحـد.

النباتات التي نزرعها تحتاج إلينــا.

إنها تريدُ ثمانية أشياء، علينا أن نوفرها لهـا:

أول ما تحتاج إليه النباتات، هو فراغ تنمو فيه؛ فالنباتات كائنات حية لا تتحرك، بل تقضي حياتها ثابتة في مكان واحد؛ ويجب أن تجد فراغاً كافياً فوق سطح الأرض، لتمتد فيه سيقانها وأفرعها التي تحمل الأوراق والأزهار والثمار. كذلك، هي تحتاج إلى (مجال) مناسب تتمدد فيه جذورها وتتشعب بين حبيبات التربة، حتى تتمكن من تثبيت نفسها، فتبقى قائمةً بما تحمله أفرعها، وتصمد بوجه الرياح، فلا تقتلعها.

 

32 - 1

أمَّـا الشئ الثاني، فهو درجة حرارة مناسبة لطبيعة النبات. وتحتاج النباتات للحرارة، تماماً كما يحتاج الإنسان إليها؛ غير أن النباتات تختلف فيما بينها كثيراً في درجة الحرارة المناسبة لها، والتي يكون توفُّــرهــا ضرورة قصــوى لتحقيق أكبر معدل من النمو؛ فبعضهـا يحتاج لحرارة عالية، كما هو الحال في النباتات النامية عند خط الاستواء؛ وبعضها يســتحبُّ للبرودة الشديدة، ويتحملها، كما هو الحال بالنسبة لنباتات وأشــجار المناطق القطبية، التي نرى الثلوج تغطيها، وهي لا تبالي !

لذلك، فمن المهم أن نكون على دراية بالموطن الأصلي للنباتات التي نقدم على زراعتها في حدائقنا المنزلية ومزارعنا الصغيرة، لنوفر لها درجة الحرارة التي تفضلهــا.

وثالث ما تحتاج إليه النباتات، ضـــوء ســـاطع. إن الجو المشرق المشــمــس يجعلنا، نحن البشر، مستبشرين سعداء؛ وكذلك الأمر بالنسبة للنبات؛ إنه ضرورة حيوية فائقة الأهمية.

 

32 - 2

إن النباتات المزروعة في الحديقة، أو بأي مكان خارج المنزل، لا مشكلة لديها، فإنها تحصل على احتياجاتها من الضوء المتوفر في الأماكن المفتوحة، فلا غطاء فوقها، إلا السماء! أما النباتات التي نزرعها في أماكن مغلقة، كتلك التي تنمو في أُصــصٍ داخل المنزل، فيجب أن نوفر لها كمية مناسبة من الضوء، بأن نضعها بالقرب من نافذة تدخل منها الشمس.

وأحب أن أقول لك أن النبات – ذاته – سوف ينبهك إن لم يكن يحصـل على كفايته من الضــوء، إذ أن ساقه ستضمر وتصير رفيعة واهنة، وسرعان ما تسوء حالته العامة. لذلك، فمن المهم جداً أن تكون حديقة المنزل في موقع يسمح لها بالتعرض لضوء الشمس، معظم ساعات النهار. وعلى كل حال، فإن لم يكن موقع حديقة بيتك يسمح للشمس بأن تزورها طويلاً، فلا تحـزن، فثمة أنواع من النباتات يمكنهــــــا أن تنمـــو بشكـــــل معقـــــول فــــي الظل؛ ومنهــــــــــا (الخــس)، و (السبانخ)، و (الخردل)، وزهور أُذُن الفيل أو (البجونيــا).

ورابع احتياجات النبات: الماء. إن الماء هو الذي يسهل حصول النباتات على المواد الغذائية من التربة، فغذاء النبات عبارة عن أمـلاح تذوب في الماء، الذي يحملها – عبر الجذور – إلى الساق، ومنها إلى الأوراق، التي هي بمثابة مصنع الغذاء للنبات، وفيها يتم تخليق المواد النشوية، في عملية " البناء، أو التمثيل الضوئي ". وبالإضافة إلى ذلك، فإن الماء يدخل في كثير من العمليات الحيوية للنباتات، كما أنه ينظم درجة حرارتها.

 

 

32 - 3

ويمكننا – ببساطة – أن نعرف متى يكون النبات بحاجة للماء، وذلك عندما يكون ملمس التربة جافاً، إلى حـدٍّ ما؛ فإذا قدمنا الماء لنباتاتنا، فيجب ألاَّ نسرف؛ ولا يغيب عن بالنا أن النباتات تختلف فيما بينها من حيث الكمية التي تحتاجها من الماء، بل إن احتياجات النوع الواحد من النباتات تختلف، حسب مرحلة النمو.

وإذا كنت تعيش في منطقة كثيرة الأمطار، فإن مياه المطر توفر عليك عملية ري النباتات، في الفصول الممطرة. وبصفة عامة، فإن بعض النباتات يحتاج إلى كمية من مياه المطر تقـدَّر بارتفاع بوصة واحدة، في الأسبوع. فإن لم تكن المنطقة مطيرة، فعليك أن تقدم الماء لنباتاتك؛ وضع في اعتبارك أن التربة الطينية يجـف محتواها من الماء أبطــأ من التربة الرملية؛ لذلك فإن الأولى تحتاج لعدد مرات ري أقل من الثانية.

ومن الاحتياجات الأساسية للنبات، تربةٌ تنبت بها بذوره، وينمو فيها. وللتربة خصائصهـا التي يجـب أن نلم بها؛ فهي تحتوي على عناصر مغذية، ومواد عضوية، عبارة عن نباتات وحيوانات دقيقة حية، وأخرى ميتة ومتحللة؛ وفيها أيضاً فجوات دقيقة يملؤها الهواء؛ بالإضافة إلى محتواها من الماء، أو الرطوبة. وفي الأحوال العادية، تكون هذه المكونات في حالة اتزان، بمعنى أنها كلها تتوافر معاً، وبأقدار متناسبة ثابتة، فلا يزيد أحدها أو يقل عن قدره، لتكون التربة في أحسن أحوالها.

وسادس احتياج للنبات، هو الهواء. والشائع، أن النباتات تخلصنا من غاز ثاني أكسيد الكربون، وتنتج الأكسجين، في عملية التمثيل الضوئي. وهذه حقيقة علمية ثابتة؛ ولكن البعض منَّــا يكتفي بهذه الحقيقة، ويغيب عنه أن النبات كائن حي، وأنه – كسائر الكائنات الحية – يتنفــس، وأن التنفس يعني الحصول على أكســجين، وإخراج ثاني أكسيد الكربون. إذن، فالنبات يستهلك، مثلنا، أكســجيناً، ويُخــرج ثاني أكسيد الكربون؛ ولكنه - وفي النهار فقط - يعـود فيعكـس هذا النظــام، في عملية التمثيل الضوئي. من هنا، ينصح الناصحـون بعدم النوم في حجـرات مغلقة بها نباتات كثيرة، لأنها تستهلك الأكسجين في كمية الهواء المحدودة بداخل الحجرة، وقد يكون ذلك على حساب صحة النائمين بها.

نخلص من هذا إلى أن النبات يحتاج لهــواء نقي، لكي يصح نموه؛ وأن تلوث الهواء بالدخان والغازات السامة يضــره.

أمَّـــا ســــابع الاحتياجــات، فهي الأمــلاح المغـذِّيــة ... هل يستطيع كـائـن حــي أن يـســــتغني عـن الطعـــام؟

 

32 – 4

والأمــلاح المغذية موجودة بالتربة؛ وتوجد بكثرة في الأراضي التي لم تزرع زمناً طويلاً. أما في الأراضي المجهدة، التي تزرع بانتظام منذ قرون طويلة، فإن محتواها من الأملاح المغذية يقل عاماً بعد عام، فالنباتات تستهلكها. وفي هذه الحالة، يجب أن نقدم للنباتات التي نزرعها أملاحاً مغذية إضافية، أو مخصِّـــبات تربة، لتزيد فرصتنا في الحصول على نباتات جيدة، وبالتالي على زهور وثمار وفيرة.

أما آخر الاحتياجات الثمانية، فهو الزمن. فالنباتات تحتاج لفسحة من الوقت لتنمو؛ ويتفاوت زمن النمو من نبات لآخر؛ فلا تتعجَّــل نمو نباتاتك، واصـــبر عليهـــا، فإن لكل شــــئ أوانه !

 

33

الجَـدُّ كامـلُ يحكي عن البيئية
وهب الأديب العظيم (كامل كيلاني) حياته التي امتدت بين سنتي 1897 و1959 للكتابة للأطفال، واهتم بتبسيط العلوم في حكايات شيِّقة، كتبها لهم، جمعها في عشرة كتب، هي: أصدقاء الربيع - زهرة البرسيم - في الأصطبـل - جبارة الغابة - أســرة السناجيب - أم ســند وأم هنـد - الصديقتان - أم مازن - العنكب الحزين - النحلة العاملة. ولا تخلو قصص جدكم كامل كيلاني من طرافة، كما أنها غزيرة بالمعلومات عن الحياة والأحياء ..

 

33 - 1

ففي قصة"أصدقاء الربيع" بلتقي أبو بريص (البرص)، وصديقته الضفدعة، في أعقاب انتهاء البيات الشتوي؛ فيأخذ أبو بريص في التساؤل عن طبيعة الضفادع وأطوار دورة حياتها؛ ويقدم الكيلاني من خلال هذه القصة عرضاً بسيطا للحياة في واحد من أهم الأنظمة البيئية على الأرض، وهو الأراضي الرطبة، أو المستنقعات؛ ويكاد القارئ، من شدة صدق وحساسية الأسلوب، أن يسمع صوت نقيق الضفادع وحفيف الأغصان وأوراق الشجر!.

 

33 - 2

وتبدأ قصة "في الإصطبل" عن فرس تدعى "قسامة" تتذكر ما كانت تلقاه في الماضي من معاملة سيئة من مالكها القديم، وكيف التقت حصاناً هرماً له خبرة طويلة، طلبت منه أن يعلمها ويقدم لها من خبرته. وفي الصباح، تلتقي "قسامة" مع حمار نزل ضيفا في الإصطبل، بعد أن استعاد نشاطه فيدور حوار فيه كثير من المعلومات عن فصيلة الأحصنة وأنواعها وأجسامها، وكذلك عن عالم الحمير وأهمية الدواب في حياة الإنسان. وينقلنا الحمار من مكان إلى آخر، ومن تجربة إلى أخرى، في أحداث كثيرة متتالية، تجعل القارئ في تعطش مستمر لمعرفة المزيد.

ويتصادق في قصة (الصديقتان)، على غير المألوف، حيوانان دائمي التنافر والتعارك، القط والكلب؛ فيقدم لنا الكاتب كلبة صغيرة اسمها "أم يَعفُور"، وصديقتها قطة كبيرة تدعى "أم خداش". وفي يوم اختفت القطة، فوجدتها الكلبة في صندوق على رفّ عالٍ وقد وضعت خمس قطط صغيرة، وأظهرت الأم غضبها من الكلبة. ومرة شاهدت الكلبة القطة الأم وقد خرجت فأسرعت إلى مكان القطط الصغيرة، وفجأة وقع قط صغير وسقط في إناء مملوء بالماء، وكاد يموت لولا إنقاذ "أم يعفور" لـه من الغرق. وفي يوم جاء رجل وأخذ القطط الصغار في غياب الأم، فغضبت لكنها علمت أن القطط ستوضع في مكان مليء بالفئران لتقضي عليها وأنها ستلقى عناية طبية، فاطمأنت "أم خداش" على صغارها.
وبعد أيام ولدت "أم يعفور" ثلاثة كلاب، فكان فرح "أم خداش" كبيراً مثلما فرحت بولادة صغارها. ومرضت الكلبة مرضاً شديداً، فجاء البيطري وأبعدها عن أولادها، بانتظار موتها، وشعرت "أم خداش" أنها أصبحت أماً للكلاب الثلاثة، وصارت القطة ترضعهم، ومرَّ على غياب "أم يعفور" خمسة عشر يوماً، ثم عادت ورأت صغارها قد كبروا وأصبحوا أقوياء أصحاء، فأخبرتهم أنها لم تكن مصابة بداء مميت بل كان مرضاً عاديّاً.

ونرى في قصة (مخاطرات أم مازن) واحدة من النمل الأسود، هي أم مازن، الذي تعيش حشوده بإحدى القرى. ويحدث أن تصعد تلك النملة غصن شجرة لتأكل برقوقة، وفيما هي تأكل منها سقطت وأغمي عليها؛ فلما أفاقت وجدت نفسها وسط فطيرة مصنوعة من البرقوق، وكان الطفل "فاضل" قد عثر على البرقوقة فصنعت لـه أمه فطيرة منها، وقبل أن توضع الفطيرة بالفرن شاهد فاضل النملة، فرق قلبه لها فأخرجها ووضعها على الطاولة، فانتهز أبوه الواقعة وراح يحدثه عن النمل ومزاياه .. ثم هربت "أم مازن" وعادت إلى قريتها، وعلمت أن جيوش النمل الأبيض دهمت بيوتها وطردتها منها؛ فقالت "أم مازن" إنها تعرف واديا مناسباً لبناء بيوت جديدة قوية، فهاجر الجميع إلى ذلك المكان.

إبحث عن قصص كامل كيلاني العلمية في أي مكتبة، وستجدها، واحتفظ بنسخة منها، فسوف تجد فيها متعة القراءة، وتقوِّي لغتك، وتزيد معلوماتك عن كائنات حية تعيش معنا على سطح الأرض، وتدهشنا سلوكياتها.

 

34

معنى الاستجابة ...
هل سألت نفسك يوماً لماذا يتخذُ الحمارُ الوحشي لنفسه جلداً مخططاً ؟.

لقد كــان ذلك ضــرورة لتفــادي هجمـات ذبابة "تســي تســي"، التي تعيش على دمـاء الحيوانات، في الوسط والجنوب الأفريقيين، وتنقل إليها طفيلاً أوَّليَّــاً، إسمه (تريبانوســوم)، يسبب مرض النوم عند الإنسان وبعض الحيوانات، وتبدأ أعراضُه بالحمى والأنيميــــــا، وينتهي –غالباً– بموت الضحية.

 

34 - 1 - فرضت الطفيليات هذا التخطيط على الحمار الوحشي

إن تلك الذبابة المرعبـــة لها القدرة على تمييز الأسطح ذات الألوان الداكنة، فتختصهــا بهجماتها المركَّــزة، وكان جلد الحمار الوحشي داكناً، فاستبدله، على مدى آلاف السنين بجلد مخطط، للتمويه على ذبابة "تسي تسي"، لتتضاعف فرصة الحمار في النجـاة من لدغاتها القاتلة! لم يستسلم الحمار الوحشي لخطر يهدد وجوده في الحياة، وذلك ما نسميه: الاستجابة.

وتقدم لنا اللبونيات البحرية، من حيتان ودلافين وفقمات، نموذجاً فريداً آخر في فن الاستجابة للمخاطر، إذ أنها كانت تعيش على اليابس، في زمن ما من تاريخ الحياة على سطح الأرض، فلم تلبث أن ضاقت بها سبل العيش، إما لنقص في موارد الغذاء، أو لتزايد الأعداء المفترسين المطاردين لهـا؛ فكان أن (قررت) الهجـرة إلى حياة الماء؛ وخلعت لباس اليابس من جلد وشعر، واتخذت هيئة مخلوقات الماء؛ ولم يثنها عن هجرتها تلك مشكلة في التنفس، أو في تباين الضغط في الأعماق عنه على سطح الأرض. لقد استغنت عما كان يجب عليها أن تستغني عنه، واكتسبت ما كان يجب عليها أن تكتسبه، فكان أن نجحت، ونجــت من انقراض أوشـــك أن يطبـق فكيـه عليهـا. وكلمة السر هي: الاستجابة!

والآن يسير الدُّبُّ القطبي على خطى اللبونيات البحرية، ويُشرِعُ في العودة إلى الماء، فقد استشعر أن حرارة جو الأرض في ارتفاع مضطــرد، فاتخذ قراره بأن يغادر اليابس إلى حياة الماء!

 

34 - 2 - صغار الدب القطبي يتعلمون الغوص لمدة طويلة

وكان ذلك الدب قد وطَّــن أسلوب حياته على سكنى الجليد. إنه يهيم في الفضـــاءات القطبية الشمالية، فإذا جاع، بحث عن فتحة في القشرة الجليدية، ينزل منها إلى الماء، ويغوص لدقائق قليلة، مطارداً فقمة سمينة، حتى يقتنصهــا، ويعـود بهـا إلى الســطح ليأكلهــا. إنه لا يطيق العيش إلا على سطح الجليد، ولا طاقة له بالغوص لأكثر من دقائق القنــص؛ فماذا سيكون الحال إن بدأت ثلوج القطب الشمالي تذوب بفعل حرارة مناخ الأرض المتزايدة ؟.

وجـد الدب القطبــي الحــل، ورأي أن يبدأ - قبل فوات الأوان - في التهيــــؤ لحيــــاة المــــاء؛ وثمة شـــواهد على أنه أضاف إلى قائمة طعامه أنواعاً بحرية أخرى، غير الفقمات؛ كما أنه آخـــذٌ في اكتســـاب القدرة على الغوص لدقائق أكثر، إستعداداً لإقامة دائمة في الماء!

أما أشهر الخائبين الذين لم تسعفهم الظروفُ على أن يستجيبوا أمام ما يحدق بهم من أخطار، فهي الديناصورات.

 

34 - 3 - الديناصورات لم تستجب فهلكت وبادت

لقد تكالبت علي تلك الزواحف الهائلة عدة عوامل، أهمها النيـــــازك المنطلقة كقذائف كونية ساحقة، كانت تثير عند ارتطامها بالأرض سحابات ضخمة من الغبار، ظلت معلقة بطبقات الجو العليا أمداً طويلاً، وحجبت ضــوء الشمس وحرارتها، فطرأ على مناخ الأرض تغيرات فادحة، أهمها انخفاض درجة الحرارة. والثابت علمياً، أن درجة الحرارة حاكمة في تحديد نوع الجنين عند الزواحف. وكانت الديناصورات قد اطمأنت إلى أن التفاوت في درجة الحرارة، الذي اعتادت عليه، يعطيها نســـباً متوازنة من الأجنة الذكور والأجنة الإناث، فتمضي دورة الحياة على ما جرت به ملايين السنين؛ فلما حـلَّ بمناخ الأرض ما حلَّ به من تغير، وبرد الهواء، أُســـقط في يد الديناصورات، فقد كانت البرودة الطارئة في صالح الميل إلى إنتاج الذكور. وبمرور الزمن، اختفت الإناث، ولم يعد الذكور يجدون أزواجاً لهم.

لقد بوغتت الديناصورات بذلك ففشلت في إيجاد الآليات التي تساعدها في الاستجابة المطلوبة لما أصبح أمراً واقعاً، بأن تعدل - بدافع من إرادة الحياة المشـفَّـرَة في كيان كل كائن حي - من فسيولوجية تكاثرها، فلا تجعل أجنتها تتأثر، إلى هذه الدرجة الخطيرة، بالتغير في درجة الحرارة.

 

35

كتابٌ عنوانه: الربيع الصامت !
أريد أن أعرض لكم حكاية كتاب مهم، عنوانه: "الربيـــع الصـامــت"، وتاريخ صدوره عام 1962. إستقبله رموز المجتمع الأمريكي بحفاوة بالغة، فقد أضاءت فيه مؤلفتُه الكثيرَ من الحقائق المخفية، وغيَّــرت بعض المفاهيم والأفكار التي كانت سائدة في ذلك الوقت؛ وامتد تأثيره إلى العالم كله؛ وكان شهادة صارخة، انتهت بإدانة المبيدات الحشرية، ووضع ضوابط صارمة على إنتاجها وتجارتها واستهلاكها.

ويحلو لبعض نشطاء البيئة أن يؤرِّخـــوا لبداية الاهتمام الحقيقي بالشــأن البيئي، بظهور "الربيـــع الصـــامـــت"، لمؤلفته (راكيل كارصـــون)، التي تقول إن هدفها الأساسي كان التنبيه إلى تزايد خطورة المبيدات الحشرية، وبصفة خاصة، مبيد (د.د.ت.) الرهيب، الذي بدأ إنتاجه في عام 1939.

 

 

35 - 1 - راكيل كارصون على غلاف كتابها المهم الربيع الصامت

والحقيقة أن بعض العلماء كانوا قد سبقوا بالإشارة إلى الآثار البيئية الخطيرة للمبيدات، قبل أن تصدر السيدة كارصون كتابها ذائع الصيت، غير أن كتاباتهم المتناثرة لم تحدث أثراً. وسرعان ما استفحلت الآثار المترتبة على استخدام المبيدات، وتوالت حوادث نفوق الأسماك في المسطحات المائية المجاورة للمزارع المرشوشة بالمبيدات، وموت الطيور في حدائق استخدمت فيها تلك المبيدات؛ وأشارت أصابع الاتهام إلى هذه المركبات الكيميائية الخطيرة؛ غير أن وثيقة الاتهام الرئيسية لم تجد من يقدمها للمجتمع البشري، حتى كتبت "راكيل كارصون" (الربيع الصامت)؛ وبدأت تنشر فصولاً منه في مجلة (نيويوركار)، في العام 1962؛ فأحدث دويَّــاً هائـلاً؛ وناصرها الرأي العام الأمريكي، بينما ناصبها العداء شركات الكيماويات وبعض الإدارات الحكومية وشركات الأطعمة؛ ووصفوها بالمهووسة، وقللوا من شأنها فقالوا إنها ليست أكثر من واحدة من هواة مراقبة الطيور، لا تعقل ما تقول!.

ولم تأبه كارصون لهذا الهجوم الضاري؛ ولم تلبث أن أصدرت كتابها الذي لقي رواجاً ضخماً؛ غير أنها لم تستمتع كثيراً بهذا النجاح، إذ توفيت بعد عام من ظهور (الربيع الصامت). ولكن (امبراطورية المبيدات) كانت قد فقدت سطوتها، بعد أن عرَّت كارصون وجهها القبيح، فرضخت للمراقبة والضوابط؛ وشهدت الأعوام القليلة التالية لوفاة راكيل كارصون تحريم وتقييد استخدام مبيد (د.د.ت.) وأكثر من عشرة مبيدات حشرية أخرى.

الجدير بالذكر، أن راكيل كارصون كانت تعتزم الاشتغال بالكتابة الأدبية، إلاَّ أن المصادفة وحدها جعلتها تتجه إلى دراسة علوم الحياة، لتحصل على درجتها الجامعية الأولى؛ ثم فشلت في إتمام برنامج الدراسة لدرجة الدكتوراة، فالتحقت بوظيفة في إحدى الإدارات الأمريكية العاملة في مجال صون الطبيعة والحياة البرية، الأمر الذي جعلها قريبة من شؤون البيئة، مطلعة على مشاكلها وأسرارها. ولم يحظ كتابها الأول (في مهــب رياح البحــر) بأي اهتمام من القراء أو النقاد، إذ صدر بالعام الذي دخلت فيه الولايات المتحدة الأمريكية إلى أتون الحرب العالمية الثانية؛ غير أن صدور الكتاب، بحد ذاته، قدمها لعالم النشر والناشرين، وقد شجعها ذلك على البدء في إعداد كتابها الثاني، وكان عنوانه (البحر المحيط بنــا)، الذي حقق نجاحاً كبيراً، جعلها تترك وظيفتها، وتتفرغ لتأليف (الربيع الصامت)، الذي تقول في أحد فصوله:

" ... سيتوقف المؤرخون، في المستقبل، بانزعاج شديد، أمام اعوجــاج وانحراف قدرتنا على تقدير الأمور؛ فكيف تعمل كائنات حية ذكية، مثلنا نحن البشر، على مقاومة وجود أنواع أخرى من الكائنات الحية، غير مرغوب فيها، باستخدام وسيلة من شأنها أن تفسد وتلوث البيئة بأسرها، وتجلب في طياتها خطر التعرض للأمراض، بل والموت، للنوع الذي تنتمي إليه تلك الكائنات الذكية ؟! ".

 

36

هل لديك أُحفُورة ؟!
الأحافيرُ، لمن لا يعرفها، هي أثرٌ، أو بقايا لنبات أو حيوان كان يعيش منذ عشــــرة آلاف سنة، على الأقل؛ والاســم الأعجمــي للأحفــــــورة، "Fossil"، مشتق مــن الكلمة اللاتينية "fossilis"، ومعناها: "إقتـلــــع". وقد تكون الأحفورة مجرد جزء من جسم الكائن الحي القديم؛ سِـــنَّـةً، أو صدفةً، أو هيكلاً عظمياً؛ وقد تكون جسم الكائن كاملا، تحوَّلَ إلى أحفورة قبل أن تهاجمه البكتريا وتحلله. وقد تكون الأحفورة أثراً مطبوعاً لخط سير الكائن الحي، أو لأسلوب تحركه في بيئته الطبيعيه.

وتتعدد الأوساط التي تحتوى على الأحافير؛ من الصخور الرسوبية، إلى نســـغ، أو إفرازات بعض أنواع الأشجار (العنبر)، الذي يقبض - وهو في حالته الســـائلة - على أجسام كاملة، أو أجزاء من حشرات أو نباتات، ثم لا يلبث أن يتجمد، فيحبس ما بداخله إلى الأبد، مكوناً أحفورة شفافة، لاتخلو من قيمة جمالية. أما الأحافير التي تحفظها الصخور الرسوبية، فإنها لكائنات كاملة، أو أجزاء منها، دفنت في الرسوبيات فور مماتها.

 

36 - 1 - أحفورة عقرب داخل مادة العنبر الشفافة

وتأخذ الأحافير هيئة الكائن الحي الأصلي كاملاً، أو جزءاً منه، مع اختلاف واضح في اللــون والكثافة والملمــس؛ فلـون الأحفورة يتحدد حسب المعادن التي تحل محل المادة الحية؛ كما أن وزن أحفورة لسمكة – على سبيل المثال – يكون أثقل من وزن السمكة وهى حية.

ويشـترط، لتكوين الأحفورة، أن يُطمــر أو يُدفــن الكائن الحي، عقب موته مباشرة، في الطمي أو الرمل. وأقدم الأحافير المعروفة لنا، حتى الآن، هي لأنواع من البكتريا، كانت موجودة منذ 3 بليون سنة !. أما أقدم الأحافير الحيوانية، فهي لأنواع من اللافقــاريات، عمرها 700 مليون سنة؛ وأقدم أحافير لحيوانات فقارية هي لأسماك، وقد تكونت منذ 500 مليون سنة.

 

36 – 2 - أحفورة سمكة بحرية

الطريف، أن التوصيف العلمي للأحافير لم يُعــرف إلاَّ حديثاً؛ وكان بعــض المشتغلين بالعلوم الطبيعية، حتى عام 1500 م. يرون في الأحافير خوارق طبيعية، وقد اعتبرها بعضهم من صنع الشيطان!! ولكي تتحول قطعةٌ من العظـام، أو سِـنَّةٌ من فـكِّ حيــوانٍ، إلى أُحفورة لابد، أولاً، من أن تُـدفــن في الرسوبيات (تغـرق في الطين، أو تدفنها رمال نقلتها عاصفة شديدة). وبمرور الوقت، تتراكم فوقها طبقات الرسوبيات؛ وعلى مر آلاف السنين، تطرأ على المكونات الكيماوية للجسم المدفون سلسلة من التغيرات. فمع تحلل نسيج العظم، يتسرب محلول من الأملاح المعدنية إلى النسيج المتحلل، ويرسِّــب به جانبـاً من هذه الأملاح، ويحدث تبادل بين مكونات النسيج الكيماوية والأملاح المعدنية الداخلة إليه،وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الأملاح تملأ أيَّ فراغاتٍ تنشـــأ في النسيج بفعل تحلله؛ ويكون الناتج عبارة عن نسخة حجرية من قطعة العظام الأصلية، هي الأحفورة.

 

37

قبل 50 ألف سنة ..
تبين لعلماء المناخ أنَّ التاريخَ الطبيعيَّ للأرضِ (أيْ تاريخُ تطوُّرِ الحياةِ فيها) كان يشهدُ فتراتٍ يسودُ فيها الجليدُ سطحَ الكرةِ الأرضية تماماً، ويستمرُّ ذلك لعِدَّة ملايين من السنين، يعقُبُها فتراتٌ قصيرةٌ، يسميها العلماءُ فترات (بينجليدية)، أيْ التي تأتيَ بين فترتين جليديتين، وكان زمن كل فترة جليدية يطول لعدة ملايين من السنين.

وفي الفترات البينجليدية ينسحبُ الغطاءُ الجليديُّ من على سطح الأرض، نتيجةً لارتفاع درجة الحرارة لأسبابٍ طارئةٍ، مثل انفجار بركان هائل، أو تغيرات في النشاط الشمسي. ولم تكن تلك الفتراتُ البينجليدية تستمرُّ إلاَّ لعدة آلافٍ من السنين، فقط، لتعودَ السيادةُ في الأرضِ للجليدِ!.

نحن نعيشُ الآن، منذ ألافٍ قليلةٍ من السنين، في زمنٍ بينجليدي، حيث لا نرى الجليد متواجِداً إلاَّ في قُطبي الأرض، وقمم أعلى مرتفعاتها.

لقد بدأ الزمن البينجليدي الذي نعيش قمته الآن قبل 50 ألف سنة. وقتها، تغيرت صورة الحياة على سطح الأرض، وسادتها أنواع من الكائنات الحية كانت محدودة العدد، فنشطت وتكاثرت وانتشرت مع بداية ارتفاع درجة حرارة جو الأرض في ذلك الوقت.

والعجيب، أن كثيراً من مخلوقات ذلك الزمن البينجليدي كان يتميز بضخامة الحجم.

 

37 - 1 - الجد الأكبر للفيل

من هذه الكائنات العملاقة (الغولُ الغوريللي)، الذي كان وسطاً بين الإنسان والقرد من حيث الخلقة، ويزيد طوله مرتين عن أطول إنسان؛ يمشي على رجلين، ويستعين في مشيه بذراعيه أحياناً. وكان يتسم بالبلادة، ويستوطنُ الغابات الاستوائية في أمريكا الجنوبية.

ولا تزال هذه الحيوانات البليدة تعيش هناك حتى اليوم، وإن كانت قد فقدتْ – بمرور الوقت – ضخامة الجسم، وصارت صغيرة جداً، تقضي يومها متعلقة بأغصان الأشجار، ليكون غذاؤها (أوراق الأشجار) في متناولها طول الوقت.

 

37 - 2 - الكركدن أو وحيد القرن القديم

وتضم قائمة مخلوقات ذلك الزمن أيضاً الجد الأكبر للفيل، ويسميه العلماء (ماستودون)، وكان من كبار مستهلكي الحشائش والأعشاب. أما (وحيد القرن) أو (الكركدن) في ذلك الوقت، فكان في حجم الفيل الحالي، وكان من جبابرة الغابة؛ وكان قرنه الوحيد يخرج من جبهته، لا من أنفه كما هو الحال مع وحيد القرن المعروف الآن. وكان يضغط بأرجله الغليظة على الأرض ليقتلع جذور النباتات، ثم يمضغها في فمه بصوت مرتفع، كأنه لماكينة طحين، قبل أن يبتلعها!

 

38

المحميـــاتُ
سفينةُ نوح عصرية

38 - 1

إجتمع زعماء العالم سنة 2002 في عاصمة دولة جنوب أفريقيا، في مؤتمر لبحث أحوال كوكب الأرض، وكان من أهم أحداثه مناظرة تمت بين بعض هؤلاء الزعماء وعدد من الأطفال، ألقى أحدهم كلمة قصيرة موجهة إلى أبيه، وكل الآباء في العالم، حيث قال: "أبي .. أنا أحبك، وأنت تحبني وتقوم بأعمال كثيرة لتأمين مستقبلي.

لكن أنظر ماذا تركت لي؟ النظم البيئية التي تعد خزانة الموارد الطبيعية وأساس الحياة على كوكب الأرض إختلت وظائفها خلال خمسين سنة مضت.

فقدنا 35% من أشجار المانجروف، 40% من الغابات، 50% من الأراضي الرطبة (المستنقعات)، 31% من الحيوانات الفقارية (أسماك، برمائيات، زواحف، طيور، ثدييات).

أبي .. إن ما تتركه لي على كوكب الأرض ليس منصفاً لي ..."

وقد شبَّه أحد علماء البيئة المحميات بفلك نوح، عليه السلام، لأهميــة دورها حالياً ومستقبلاً في إدارة الموارد الطبيعية، والحية منها على وجه الخصوص.

إن عدد المحميات الطبيعية يتزايد في مناطق كثيرة من العالم؛ وفي ذلك إشارة إلى إدراك الحكومات والإدارات الرسمية لأهمية هذه المناطق، التي يتم إعلانها وقفــاً على الحيـــاة البرية – نباتية أو حيوانية، أو حتى من الجماد ؛ بحريةً أو على اليابــس – لحماية أنواع من الكائنات الحية، أدركها، أو قاربهــا، خطــر الزوال من على خريطـة الحيـــاة على وجــه الأرض، وهو ما يعرف بالانقراض.

ولدينا ثلاثون محمية طبيعية منتشرة في سائر أنحاء خريطة مصر، يبلغ مجموع مساحاتها نحو 20% من مساحة وطننا؛ وتضم أفضل النماذج للثروات الطبيعية التي يلزم رعايتها للأجيال المتعاقبة، ويقطنها أكثر من مليون مواطن ويستفيد منها الملايين الأخرى. وثمة تقدير للعائد القومي منها بنحو 15 مليار دولار سنوياً، ويبلغ هذا العائد على مستوى العالم إلى ما يتراوح بين 21 و72 تريليون دولار سنوياً (التريليون يساوي ألف مليار)؛ من هنا يمكن اعتبار المحميات الطبيعية نظاماً إستثمارياً وكياناً إنتاجياً، لصالح التنمية المستدامة، التي تراعي برامجها حقوق الأجيال القادمة في ثروات الوطن الطبيعية.

إن دور المحميات يتعاظم.

 

38 - 2

إنها قد لا تكون – في بعض الحالات – مؤثرة بالقدر المطلوب، في إنعاش تجمع لحيوان أو نبات؛ ولكنها أصبحــت عنواناً لقضيــة كبيرة، ويتردد عليها تجمعات من الأطفال والشباب، في رحلات (متحفية)، لاكتساب مزيد من الوعي بقضايـــــا البيئة؛ كما أن المحميات أصبحــت مقصداً لنوع عصري من السائحين، هم " السائحون البيئيون " .. أي أن التواجد في المحمية لم يعد قاصراً على العاملين بها من علماء وحرَّاس .. من هنا، كان اهتمامنا بلفت أنظار مواطنينا إلى مجموعة من المحظــورات، لصالحنا، ولصالح المحميــات ...

1 – المحظور الأول:

إن منظر الشعاب المرجانية مغـرٍ، وقد يغويك لتلمسـها بيديـك. حـــذار، فقد تصيبك لســعات من حيوان المرجان، أو لدغة من كائن بحري، مختبئ بالشعاب.

2 – المحظور الثاني:

المحمية موقع خاص، مهمته (حماية) الحياة الطبيعية، وليس مطاردتها بالأسلحة وأدوات الصيد.

3 – المحظور الثالث:

حاول أن تقاوم رغبتك في إطعام أسماك المحمية بيديك. إن بعض أنواع الأسماك يألف البشر، وقد يستجيب لكرمك؛ ولكنك – دون أن تدري – قد تتسـبب في إفســاد الاتزان الطبيعي للغذاء في المياه، فتسيئ للأسماك، وللنظام البيئي.

 

38 - 3

4 – المحظور الرابع:

المكان الطبيعي للمخلفات، هو الصناديق المخصصة لجمعهـا؛ فـلا تفســد جمال ونقــاء المحميـة بالمخلفات.

5 – المحظور الخامس:

جمع (التذكارات) من الشعاب المرجانية والكائنات المتعايشة معها واحد من مصــادر الإساءة للبيئة، إذ يمكن أن يدمر نظاماً بيئياً قائماً؛ كما أنه يعـرِّض للمســـاءلة القانونية.

6 – المحظور السادس:

لا تســمح لنفســك، أو لقائد سيارتك، بالحيود عن الطرق الممهدة، المحددة كمسارات للسيارات، داخل نطاق المحمية. إن في ذلك تأميناً لك، وللحياة الطبيعية بالمحمية.

7 – المحظور السابع:

استمتع بالإبحار في قاربك، بالقرب مــن المحمية البحرية؛ ولكن ابتعد بمرساتك عن القاع المغـطــى بالشعاب، فالمرساة تدمرها.

 

 

39

عشرون عاماً بعد "دوللي" ...

 

39 - 1 - دوللي - النعجة التاريخية

يوافقُ هذا العامُ الذكرى العشرين لأول عملية استنساخ لحيوان ثديي، أجراها بنجاح علماء في سكوتلاندة، وأنتجوا نعجة شبيهة تماماً بالشاة التي خضعت لتلك العملية، ذاع اسمها (دوللي) في جميع أنحاء العالم كأول حيوان مستنسخ، جاء إلى الحياة بأسلوب مختلف تماماً عن أسلوب توالد الحيوانات، إذ أُخذتْ خلية عادية من نسيج ثدي شاة كبيرة، حوَّلها العلماء في المختبر إلى شاة وليدة، هي النعجة التي أطلقوا عليها اسم "دوللي"، تتطابق صفاتها الوراثية تماماً وصفات الشاة الكبيرة. وتداول الناس في كل أنحاء العالم كلمتي (الاستنساخ) و(المستنسخات) أو الكلونات.

والحقيقة أن نجاح عملية الاستنساخ كان تتويجاً لجهود طويلة ومتعددة شهدتها مختبرات علوم الأجنَّة والوراثة، وكان دافعاً للعلماء ليستمروا في تحسين طرق إجراء تلك العملية، فلم تكن دوللي هي نهاية المطاف، ولم يكن المستهدف هو صنع جيوش من الأغنام المتشابهة، فقط، من أجل لحومها وحليبها، وإنما البحث عن وسائل جديدة للحصول على ميزات أعلى من التوالد التقليدي، وعلى فرص أفضل للتعمق في مجالات أخرى مهمة، مثل الشيخوخة والمرض.

 

39 - 2 - كلونات النعجة دوللي

وعاشت دوللي حياتها كشاة اعتيادية، وكانت أمَّاً جيدة للعديد من الحملان، وطال عمرُها لستة أعوام ونصف العام، وماتت نتيجة تفشي مرض في القطيع الذي كانت تنتمي إليه، قضى على العديد من الأغنام، المستنسخ منها والطبيعي.

لقد سبق مجيئ دوللي عقودٌ من التجريب، وكان السائد من قبل أن الحيوانات العادية لا يمكن أن تتوالد إلا عن طريق إخصاب بويضة بحيوان منوي، فهذه هي سُنَّةُ الطبيعة، أما الأسلوب الذي استُنسِختْ به دوللي، فقد تضمن قيام الباحثين بنزع نواة خلية بويضة شاة ليضعوا مكانها نواة خلية جسدية عادية، فتتحول خلية البويضة إلى مصنع ينتج خلايا جاءت من خلية جسدية عادية مفردة. فلا حاجة هنا لإخصابٍ.

إذن، فقد كانت دوللي تتويجاً لمئات من تجارب الاستنساخ كان حظها من النجاح محدوداً، إلى أن أثبتت تجربة دوللي أن الخلايا الجسدية للحيوان مكتمل النمو يمكن أن تكون (الوالدة) لمستنسخات ذات صفات معروفة مسبقاً. وقد حققت تلك التجربة النجاح بعد 277 محاولة لإنتاج كلونات بنقل مادة نواة خلية جسدية إلى خلية بويضة فارغة. ولا تزال نسبة نجاح التجربة في حدود 10%، وتتحدد النسبة تبعاً لنوع الخلايا الجسدية المستخدمة، ونوع الحيوان. ويعرف العلماء عشرة أنواع من الخلايا الجسدية تتحقق معها أعلى نسب النجاح، معظمها من خلايا الجلد.

 

39 - 3 - كيف تصنع كلوناً؟

ويخفى على كثيرين أن الاستنساخ لم يقتصر على الغنم، فقد تم إنتاج عدة آلاف من الحيوانات الثديية تنتمي لأكثر من عشرين نوعاً، لم يخضع إلا عدد قليل منها لتطبيقات عملية، من بينها كلون لثور نوع مشهور من البقر يقال له (أنجوس)، يعود أصله إلى شمال شرق اسكتلندا، ويعدُّ أفضل سلالة لإنتاج اللحوم البقرية. وعلى أي حال، فإن من أهم أهداف تجارب الاستنساخ دمج تقنياتها مع غيرها من الطرق بغية تغيير الصفات الوراثية للحيوانات بكفاءة أكبر، وأسرع من أساليب تربية وإكثار الحيوانات التقليدية، التي تستغرق عقوداً من الزمن، سعياً وراء إكساب الكلونات صفات أفضل. ويُذكرُ في هذا الصدد نجاح هذه التجارب في إنتاج ماشية تقاوم مرض جنون البقر. ومن ناحية أخرى، فإن المعارف المتحصل عليها في هذا المجال لها شأنها في تعزيز فهمنا لمسائل تتصل بالصحة البشرية، مثل تطور الجنين، وأحوال التقدم في السن، وتقليل العيوب الخلقية، وتطوير بعض أدوات مقاومة أنواع بعينها من السرطان.

لقد تحقق كلُّ ذلك في غضون عقدين فقط، منذ طالعتنا دوللي في نشرات الأخبار، والمنتظر أن تخرج إلينا المختبرات بالمزيد من التطبيقات الناجحة في المستقبل القريب.

 

40

الأشـجارُ رئاتُنا ..

 

40 - 1

تتعرَّض الغابات في عالمنــا لأنشــطة غير مســـئولة، إذ تقـطَّـع أشــجارها، فتتقلَّـص مساحاتها. وفي الوقت ذاته، تصـب الآلات، ومداخن المصانع، في جو الأرض، كميات متزايدة من غاز ثاني أكسيد الكربون، الذي يحيط بالكرة الأرضية، فيجعلها تبدو كبيت النباتات الزجاجي، الذي ترتفع بداخله درجة الحرارة والرطوبة. هل عرفت، الآن، السبب في ما يعانيه كثير من سكان الأرض، حالياً، من ارتفاع درجة حرارة المناخ الأرضي ؟.

إننا نقطع الأشجار التي تساعدنا على التخلص من الزيادة في غاز ثاني أكسيد الكربون. أليس هذا أمر متناقض ؟!

هل تعرف، يا صديقي، كم دمرنا نحن البشر من ثرواتنا التي وهبها الله لنا من الغابات ؟

نصــف مساحاتها !.

الأكثر من ذلك كما تقول الإحصائيات أن ثلاثة أرباع المتبقِّــي من غابات المناطق المعتدلة والغابات الاستوائية، واقع تحت التهديد بالزوال؛ لأن أعمال تدمير الأشــجار وتعرية أراضــي الغابات لا تزال مستمرة، برغم كل شــيئ !

حســناً .. تعالـــوا نتعرف علـــى كيفية وكمية استهلاك الأشجار من غاز ثاني أكسيد الكربون ...

إن الأشــجار – وهي تخلصنا من غاز ثاني أكسيد الكربون - لا تفعل ذلك بطريقة سالبة، كأن تعيده إلى التربة، مثلاً؛ ولكنها تأخذه لتصنع منه مواداً كربوهيدراتية (نشويات) تختزنها في أنسجتها. وتختلف الكمية التي تمتصها الأشــجار من ذلك الغاز المسبب لظاهرة (بيت النباتات الزجاجي)، التي يحلو للبعض أن يسميها " الدفيئـة "، تبعاً لنوع الشــجرة وعمرها. وبصــفة عامة، فإن متوسط ما تستهلكه الشجرة الواحدة من ثاني أكسيد الكربون، لتبني رطلاً واحداً من أنسجتها الحية، يصــل إلى رطل ونصف الرطل.

والثابت علميـــاً إن الأشــجار تعرق.

نعـــم.. إنهـــــا تتخلَّص من المـــــــاء، في هيئته البخارية، فيما يعرف بعملية (النتـح)؛ فيخرج بخار الماء من خلال ثقوب مجهرية منتشرة على أسطح الأوراق. صحــيح أن كل ورقة (تنتــح) بضع نقاط من الماء في اليوم الواحد، ولكن مجمل ما تنتحه أشــجار الأرض ونباتاتها من بخار الماء يتجمَّـع في الغلاف الجوِّي، ويمثل جزءاً هاماً من المخزون، أو المحتوى المائي للأرض، ويدخل في الدورة التي تتحرَّك بها الميــاه على سطح الكرة الأرضيَّــة، وتنتقل من موقع لآخــر، ومن هيئــة لأخــرى (ماء – بخار – سحاب .. الخ).

والجدير بالذكر، أن شـــجرةً واحدة، طولها مائة قدم، يمكنها أن تسحب من التربة، في موســم نمــوٍّ واحــد، ما مقداره حوالي 45 ألف لتر من المـــاء، تستهلكها في عملياتها الحيوية، على مدار الموســم.

إن الماء يتحلل في (مصنع نباتي) فائق الكفاءة، هــو (أوراق النبات)، ضمن خطوات عملية التمثيل الضوئي، فيعطي غازين: الهيدروجين، الذي هو الأساس لبناء جزيئات المادة النشوية؛ والغاز الثاني هو الأكســجين، الذي تطلقه الأوراق، عبر ثغــورهــا، ليســهم في إنعاش كافة صــور الحيــاة على ســطح الأرض. وبالإضــافة إلى ذلك، تنتج عملية التمثيل الضوئي كميات كبيرة من بخار الماء، تتخلَّـص منها الورقة من خلال ثغورها، لتعــود فتدور مع رصيد الأرض من الميــاه.

إن منافع الأشــجار، كما نرى، متعــددة .. إنها (رئات) لكل كائنات الأرض الحية؛ وهي المصنع الرئيس للمركبات النشوية، أساس الهرم الغذائي على سطح أرضنا؛ وهي أيضاً الملجأ الظليل الذي يحمينا من حرارة الشمس اللاهبــة؛ وهي أحد العوامل المنظِّمــة والعاملة على استقرار أحوال المناخ الأرضــي. وأخيــراً، وليس آخــراً، هــي مكــوِّن جمالــي لا ينكــره أحد من سكان الأرض.

هــل نســينا شـــيئاً ؟

نعــم .. ســل المزارعين عن فائدة إضــافية للأشــجار، يخبروك أنها درعهم ضــد نشــاط الرياح؛ فهي تصــدُّ الرياح، فتحمي محاصيلهم، فلا تقتلعها أو تطمرها العواصف؛ كما أن جذورها الضاربة في باطن الأرض، لعدة أمتار، تعمــل على تثبيـت التربة، فلا تجرفها الرياح الزاحفة فوقها. إن سياجاً محكماً من الأشــجار، يحيط بمزرعة، يمكن أن يقلل سرعة الرياح بنسبة تتراوح بين 25 و 75 بالمائة.

 

41

شكراً للتكنولوجيا
يهتمُّ جانبٌ كبير من الإنجازات العلمية والتكنولوجية بوسائل إنتاج الطعام، التي سيكون من حظكم أنتم قراء قطر الندى أن تشهدوها وتنعموا بها، في العقود القليلة القادمة، وستهتمون بمتابعة أخبار مستحدثاتها.

 

41 - 1 - داخل مزرعة حديثة لا تحتاج الزراعة فيها للتربة

وقد كان للتكنولوجيا الزراعية فضل رفع إنتاجية الأرض الزراعية، للوفاء باحتياجات البشر المتزايدة من الطعام، منذ عرف الإنسان الزراعة. فكان باستطاعة الفلاح المصري القديم، منذ أكثر من 5000 عام، أن يطعم أسرته المكونة من 5 أفراد بزراعة قطعة أرض من وادي النيل الخصيب لا تزيد مساحتها عن فدان واحد. ومنذ 4 آلاف سنة، كان الفلاح الإنجليزي يزرع 5 أفدنة ليوفر الطعام لثلاثة أفراد فقط؛ ولما تدخلت الميكنة الزراعية، أصبح بإمكان الفلاح الأمريكي أن يحرث ويزرع ما يزيد على مائة فدان، معتمداً على الآلات الزراعية، في الربع الأخير من القرن 19، لينتج من المحاصيل الزراعية الغذائية ما يكفي أسرته وستة أفراد آخرين؛ وباضطراد التقدم التكنولوجي، في الربع الأخير من القرن العشرين، تمكن هذا الفلاح ذاته من أن يزرع 400 فدان، ليغطي احتياجات 50 فردا من الطعام.

أما الآن، فقد جاءت وسائل مبتكرة لإنتاج الطعام، حيث لا تزرع النباتات المنتجة للطعام في التربة، وإنما في الهواء!.

ويجري الآن تطوير هذا النمط الجديد من الزراعة في مراكز أبحاث بولاية فلوريدا الأمريكية؛ وتسهم وكالة أبحاث الفضاء الأمريكية (ناسا) في تمويل ودعم هذا الأبحاث فنيا وعلميا، لأن هذا النوع من الأبحاث قد يحل مشاكل الحصول على الطعام الطازج في الفضاء الخارجي، مستقبلاً.

 

 

41 - 2 - أساليب مستحدثة في الزراعة هدفها توفير طعام طازج لمرتادي الفضاء الخارجي

وفي هذه الزراعة الهوائية، تعلق النباتات في أحزمة دوارة في الهواء، حيث تحصل جذورها على الغذاء اللازم للنمو عن طريق الرش برذاذ من محلول يحتوي على الأملاح المغذية، يتغير تركيبه حسب تغير احتياجات النبات في أطوار نموه المختلفة.

وقد تمكن اليابانيون من استخدام الزراعة في الهواء، دون حاجة للتربة، في إنتاج 15 ألف ثمرة طماطم من بذرة واحدة. وكان ارتفاع النبات الذي أنتج هذا العدد الهائل من الثمار يقترب من خمسة أمتار، ولم تكن البذرة المستخدمة في زراعته معدلة وراثيا لتعطي هذا النبات الخارج عن المألوف.

وبالطريقة ذاتها أنتج اليابانيون أيضاً 700 ثمرة خيار من بذرة واحدة؛ وأنتجوا نبات (الخس) في أربعة أيام فقط !.

 

42

طفلٌ طولُه خمسة أمتار !
شهد متحف التاريخ الطبيعي بلندن، في الرابع من ديسمبر 2014، حدثاً علمياً تاريخياً، إذ أضاف إلى مقتنياته هيكلاً لنوع من الديناصورات، إسمه العلمي (ستيجوصوراص ستينوبس)، هو الهيكل الوحيد شبه المكتمل في العالم لهذا النوع، فلا ينقصه إلاَّ عظمةُ الذراع اليسرى وقطعة في قاعدة الذيل.

 

42 - 1 - نجح العلماء في ترتيب كومة العظام فانتجوا الديناصور

ويقومُ تصنيفُ العلماء للديناصورات على ما يتوفرُ لهم من هياكلها العظمية، سواء كانت مكتملة، أو مفككة يقومون بتجميعها وربط بعضها ببعض. وكان اختصاصيون من متحف لندن قد عثروا في العام 2012، في معرضٍ للأحجار النفيسة وأعمال الحفر والتنقيب عن المعادن يقام سنوياً في مدينة توسان، بولاية أريزونا الأمريكية، على (كومة) عظام هذا الديناصور، بعد الكشف عنها في ولاية وايومنج. وبعد أن تحققوا من قيمتها العلمية والمتحفية أوصوا بشرائها، ونُقلت إلى المتحف في لندن.

وكان علماء الحياة القديمة قد أثبتوا وجود هذا النوع من الديناصورات منذ أكثر من 130 سنة، غير أن عدم توفر هيكل مكتمل له في ذلك الوقت حال دونهم ووضع تصور للشكل العام لجسمه وكيفية عمل مختلف أعضائه. وقد ساعدت النسخة المكتملَة للهيكل التي ينفردُ بها متحف لندن في استنتاج تصور عام لفسيولوجيته وسلوكياته وموقعه في سلسلة التطور، فتمكن اختصاصِيُّو المتحف –مثلاً- من التوصل إلى آلية حركة عظام الفكين والجمجمة أثناء مضغ الطعام، فهذا النوع ينتمي للديناصورات آكلة النباتات، فكيف تسنَّى لفمه محدود الاتساع، في رأسه الصغيرة، أن يفي باحتياجات جسمه الضخم من الغذاء النباتي، خاصة وأن أسنانه كانت صغيرة وتبدو محدودة الكفاءة في مضغ الطعام؟. لقد كان سر ذلك الديناصور في قدرات فائقة توفرت لعظام وعضلات فكه وجمجمته. ويوشكُ هؤلاء الاختصاصيون على التوصل لتقدير حجم الديناصور لتكتمل دقة حساب استهلاكه اليومي من الغذاء النباتي، ولاستكمال تصورهم لأسلوبه في الحركة والسير. وقد أثار انتباههم عدد من الصفائح العظمية تغطي جسم هذا الديناصور، وهي سمة شائعة في كثير من الأنواع الأخرى، ويستعين العلماء بعمليات النمذجة للتعرف على تركيب هذه الصفائح الدرعية، وما إذا كانت وسيلة دفاع ضد ضربات الأعداء والمفترسات، أم وسيلة لتنظيم درجة حرارة الجسم، كأسطح تعكس أو تمتص الحرارة.

 

42 - 2 - الصفائح العظمية .. دروع أم منظمات لدرجة الحرارة؟

وقد عرفت الأرض هذا النوع من الديناصورات منذ 150 مليون سنة، أي في أواخر العصر الجوراسي، حيث كانت البيئة المحيطة به قاسية إلى حدٍّ ما، خالية من الحشائش التي لم تكن المملكة النباتية قد عرفتها بعد، ومغطاة بنباتات مثل السرخسيات وذيل الحصان (نبات وعائي لازهري)، ولم يكن يعيش في تجمعات كبيرة، وربما يكون ذلك جعله، مع أنواع أخرى صغيرة الحجم من الديناصورات يسميها العلماء الصربوديات، صيداً سهلاً للأنواع المفترسة.

ولا ينقطع زائرو المتحف عن توجيه أسئلة، من نوع: كم عمر الديناصور؟. وكيف مات؟. ويجيبُ أمناء المتحف على الأول بعدم معرفة العمر بالتحديد، ولكنهم متأكدون من أنه لم يكن ديناصورا راشداً، إذ تختفي في الأفراد الكبيرة فجوات بين أجزاء بعض العظام، وقد وجدوها لا تزال موجودة في هذا الديناصور الطفل الذي لا يزيد طوله عن 5،5 من الأمتار، في حين يبلغ طول الفرد مكتمل النمو تسعة أمتار. ولا يعرف أحد كيف مات ديناصور متحف لندن، فعظامه تخلو من أي آثار لعدوان، وأغلب الظن أنه مرض مرضاً مميتاً، أو مات جوعاً!.

 

43

حُلمُ الطيران !
أي شيئ مما نعيش به وعليه الآن لم يكن في يومٍ ما حُلماً ؟!

والطيرانُ لم يكن أكثر من حلم. وبعد عشرات القرون من التطلع إلى الفضاء من خلال الأساطير وأوهام القوة، ومحاولات فردية مميتة لتقليد الطيور، تحقق حلم الإنسان بركوب الجو، وراح ينمو دون توقف، حتى الآن.

هيا بنا نتابع هذا الحلم، من خلال بعض الصور القديمة ...

1 = لنبدأ بيوم 17 من ديسمبر 1903، حيث تسجلُ لنا هذه الصورةُ القديمة البسيطة أول محاولة طيران باستخدام آلة، حققها شقيقان اشتُهِرا باسم (الأخَوَان رايت)، وهما "ويلبر" و"أورفيل". نجحت المحاولة، وأقلعتْ بالفعل أولُ آلةٍ طيَّارةٍ صممها وبناها "ويلبر"، وكان قائدُها هو "أورفيل"، الذي قادها وهو راقدٌ بالقرب من محركها، الذي لم تكن قوته تزيد عن 12 حصاناً، ونجح في الاحتفاظ بها مرتفعةً في الهواء لمدة 12 ثانية، قطعت خلالها 50 متراً !.

 

43 - 1

2 = وبعد ثلاث سنوات تقريباً، وفي 12 نوفمبر 1906، جاء دور البرازيلي "ألبرتو سانتوس ديمونت"ن ليحقق رقماً قياسياً في سرعة الطيران، هو 41،292 كيلومتراً في الساعة، مستخدماً نموذجاً جديداً لطائرة من تصميمه وصنعه، أطلق عليه اسم (ديموازيل)، تميز بخفة الوزن، فهيكله من قضبان وألياف الخيرزان؛ وقد شاع استخدام هذا النموذج بين هواة التنزه في الجو!.

3 = وهذه صورة يرجع تاريخُها إلى 25 يوليو 1909، وفيها أطفالٌ يحيون أول محاولة لعبور بحر المانش، الواقع بين فرنسا وبريطانيا، واستغرقت 37 دقيقةً، فدخل "لوي بليريو" تاريخ تطور حلم الطيران بهذه المحاولة الناجحة للسفر جواً عبر البحار.

 

43 - 2

4 = بدأ تطلع البشر لأن يسافروا جوَّاً لمسافات طويلة؛ وشهد يوم 15 يونية 1919 أول رحلة طيران بعيد المدى، إذ أقلع الطياران الإنجليزيان "جون ألكوك" و"آرثر هوينن" بطائرتهما من (نيوفوندلاند) على الساحل الغربي للمحيط الأطلنطي، متجهين شرقاً إلى إيرلندا، عابرين هذا المحيط، بدون توقف، واستغرقت الرحلة 16 ساعة و27 دقيقة. صحيح أنهما لو يوفقا في الهبوط، فارتطمت الطائرة بالأرض، كما تبدو في الصورة، ولكن رحلتهما فتحت الطريق لآخرين، وتحققت بعدهما نجاحات أكبر، في السفر جواً لمسافات أطول، وعلى نحوٍ أكثر أماناً.

إننا نتحدث الآن عن تطورات سريعة، فلماذا لا ننتقل – بسرعة أيضاً – إلى حدث هائل شهده التاريخ الحديث للطيران: الطائرة التي تطير بسرعة أكبر من سرعة الصوت ؟!

 

43 - 3

في نهاية عام 1947، تمكن الطيار الأمريكي "الميجور تشارلس ييجار"، من تجاوز سرعة الصوت بطائرته من طراز "بيل – إكس 1"، التي تراه في الصورة ممسكاً بنموذج منها، وعلى ارتفاع 45 ألف قدم من سطح الأرض. وتبلغ سرعة الصوت في الهواء 1225 كيلومتر/ساعة، وقد اتفق علماء الطيران على تسمية هذه السرعة بـمصطلح (ماخ 1)، نسبةً إلى اسم عالم الفيزياء النمساوي إرنست ماخ؛ وقد تجاوزت سرعة الـ (بيل-إكس 1) سرعة الصوت بنحو مائتي كيلومترا.

 

44

طاقةٌ على مائدة الإفطار!
كنا نتناول إفطارنا، ككل صباحٍ، بالشُرفة في بيتنا الصيفي، حين أبدتْ أختي ملاحظةً خطرتْ ببالها، إذ عبَّرتْ عن إحساسٍ لحظيٍّ تعيشه، فقالت: "لديَّ شعورٌ محبب هذا الصباح .. كمٌّ غير اعتيادي من الطاقة الإيجابية يحيط بي!".

وافقها أبي وأمي، أما أنا فقلتُ: "نجيئُ إلى هنا لنسَرِّبَ ما ظللنا نحمله في المدينة من طاقة سلبية لشهور طويلة!".

وتفرَّعَ حديثُ المائدة إلى موضوعات مختلفة، حتى انتهينا من فطورنا، وجلسنا نتحدث عن خططنا لهذا اليوم، بينما أبي وأمي يحتسيان قهوتيهما. وفجأةً، ألقت أختي علينا سؤالاً مفاجئاً: "ما الطاقة؟!".

إستولت علينا الدهشة لثوانٍ، وهي تنظرُ إلينا منتظرةً من يستجيب لسؤالها. ثم قالت موضحةً لنا دافعها للسؤال: "كنا نتحدث منذ قليل عن الطاقة؛ وكل الناس يتحدثون عن الطاقة: العلماء والسياسيون والأطباء والرياضيون .. حتى المشعوذون، يتحدثون عن طاقة الجان!. فهل يفهم كل هؤلاء الطاقة بنحوٍ محدد، أم أن لكل منهم مفهومه الخاص؟!".

عبرتْ أمي عن سعادتها بأسلوب ابنتها ذات الإثني عشرة ربيعاً في التفكير. واكتفيتُ أنا بالقول: "سؤال مثير حقاً .."، ملتفتاً إلى أبي، الذي انضم إلى سرورنا بالسؤال، ثم ترك فنجان قهوته، وانطلق يحدثنا. قال:

  • "يبدو السؤال سهلاً، لكن الإجابة ليست يسيرة. إنه يمثل واحداً من أهم المفاهيم الأساسية في علوم الفيزياء، ومن المهم أن نعرفه جيداً، بعد أن شاع استخدام كلمة (الطاقة) بين الناس. وإن نحن لجأنا إلى الكتب المتخصصة في الفيزياء ستجدها تقول لك إن الطاقة هي (القدرة على أداء شغل)، ثم تعود فتقول لنا إن (الشغل) هو تحريك شيئ بالتغلب على (قوة) تحتفظ به في حالة ثبات. هل أستمر، أم أنكم تجدون صعوبة في تلقي ما أقوله؟"

لم يجد أحد منا صعوبة في فهم حديثه، فرجوناه أن يستمر، فعاد يقول:

  • "ولا أعتقد أن في محتوى الكتب العلمية البحتة الجافة ما يكفي لأن يعرفنا بماهية الطاقة، ويحلو لبعض الناس أن يصف هذا التعريف الذي يأخذُ به الاختصاصيون الفيزيائيون بأنه أشبه بتعريف الفيلسوف الإغريقي القديم (أفلاطون) للإنسان..".

أسرعت أختي تسأل: "وبم عرَّفَ أفلاطون الإنسان؟!".

  • "بأنه كائن حي لا ريش له، يمشي على قدمين!".

كنا نسمع هذا التعريف لأول مرة، فابتسمنا. وتمهل أبي قليلاً، مستجمعاً أفكاره، ليواصل حديثه عن الطاقة، فقال:

  • "ورأيي أنه لأمرٌ صعبٌ أن تعثر على تعريفٍ مُرضٍ، يحيط بمعنى الطاقة إحاطة تامة. ورأيي، أيضاً، أن صعوبة إيجاد هذا التعريف ناتجة من أن الطاقة فكرة مُجرَّدَة غير محسوسة مادياً، فلا يمكنك أن تأتيني بشيئ تقبض عليه في يدك وتقول لي خذ هذه الـ(طاقة)، فالطاقة كلمةٌ موجِزةٌ، تُغني عن شروحٍ طويلة مستقرة بأذهان العلماء المتصلين بمجالاتها؛ ولا يستطيع أحد ادعاء انه يعرف (جوهراً) مادياً للطاقة ".

 

45 - 1

والحقيقة هي أن أبي قد بذل مجهوداً كبيراً ليبسط لنا مفهوماً للطاقة ينقله إلينا. وقد فهمت من حديثه، الذي قطَّعته تساؤلاتنا واستفساراتنا مرات عديدة، أن الطاقة تمتاز بإمكانية اختزانها، أي تحويلها إلى (كتلة)، ككل المحروقات، لتفيد في إنجاز عمليات فيزيائية وكيميائية ننعم بمردوداتها. ومن أوضح مردودات الطاقة الحركةُ. وهنا، أشار إلى لعبة البلياردو التي أهواها وأمارسها في المدينة، فقال موجهاً حديثه لي:

  • "إنك من هواة البلياردو .. فأنتَ عندما تضرب الكرة بطرف عصاك تعطيها طاقة حركية تجعلها تتدحرج على طاولة اللعب بسرعة تزيد بزيادة وزن الكرة، أي بزيادة كمية الطاقة التي اكتسبتها من اصطكاك طرف العصا بها".

وتتخذ الطاقة أيضاً صورة الحرارة؛ فدرجة حرارة جسم ما هي مقياس لسرعة حركة الذرات التي تتكون منها مادة هذا الجسم. فكوب الشاي الساخن تتحرك فيه جزيئات الماء بسرعة كبيرة، تتولد عنها حرارته المرتفعة، التي لا تلبث أن تنخفض عندما تأخذ هذه السرعة في التناقص. ويمكن للمادة الصلبة أن تكتسب طاقة تتحول بداخلها إلى حرارة. إن ألقينا قطعة حديد في النار اكتسبت ذراتها سرعة حركة، لكنها في هذه الحالة حركة بغير انتقال .. إنها تتذبذب أو تتقلقل في مكانها.

 

45 - 2

واختصَّ أبي، هذه المرة، أختي بإشارته إليها وهو يقول:

  • "أنظري إلى كوب الماء أمامك على مائدة الطعام. إنك ترينه ساكناً، والحقيقة هي أنه واقع تحت تأثير قوة تضغط عليه لأسفل، هي الجاذبية الأرضية، وهي تعطي الكوب طاقة حركة تظل كامنة فيه، فإن لكزته يدٌ، سقط .. لقد حركته الطاقة الكامنة فيه".

وإن استغنينا عن التفاصيل –يقولُ أبي- فإن أنوع الطاقة الكيميائية والكهربية والنووية هي –ببساطة- محكومة بالحركة الصريحة الواضحة، أو طاقة الحركة الكامنة. ولا بأس في مثال قد يقرِّبُ لنا معنى الطاقة النووية. إنها كمية ضخمة من الطاقة محبوسة داخل أنوية ذرات، كما لو كانت زنبركاً ملفوف كحلزون، ليحتل حيزاً ضيقاً جداً بالنسبة لحجمه. فإن تيسر لنا (شق) النواة، حصلنا على قسمين يحمل كل منهما شحنة موجبة، تدفع بهما إلى التنافر بشدة، أي أنهما يتحركان بسرعة كبيرة، بتأثير ما كان كامناً فيهما من طاقة حركة.

واستحق أبي قبلاتنا وشكرنا على هذه المسامرة العلمية الصباحية، التي أنهتها أمي بإعلانها أنها ستكون من أنصار تعريف أفلاطون للكائن البشري، فأضحكتنا جميعاً، ليرتفع مستوى الطاقة الإيجابية في المكان!

 

45

سبب وفاة الموسيقار "موزارت" !

 

 

45 - 1 - موزارت

لعلك تعرف المؤلف الموسيقي النمساوي (ولفجانج أماديوس موزارت)، المشهور باسمه الأخير (موزارت)، أو لعلك استمعت إلى بعض موسيقاه.

عاش موزارت حياة قصيرة، أنتج خلالها أكثر من 600 عمل، منها 23 أوبرا، و41 سيمفونية، و21 معزوفة للبيانو.

مات موزارت في ديسمبر 1791، وكان عمره 35 سنة، بعد معاناة طويلة مع عدد من الأمراض التي كانت شائعة في زمنه، منها الجدري والتيفود والتهاب اللوزتين والتهابات الجهاز التنفسي العلوي. وكان ظنُّ أطبائه في ذلك الوقت أن سبب الوفاة هو التسمم أو مرض كلوي.

أخيراً، وبعد مرور أكثر من مائتي سنة على وفاته، ظهر هذا العام من يؤكد أن موزارت مات بسبب نقص الفيتامين (دي)، إذ كان الموسيقار النمساوي العظيم لا يكاد يغادر بيته طوال نصف عام، غير منتبه لأهمية التعرض للشمس، مما جعله عرضة لتلك الأمراض التي عانى منها.

 

 

45 - 2 - غياب الشمس أهلك موزارت

الغريب، أن الذي جاء بهذا الافتراض، واسمه ويليام جرانت، ليس بطبيب ولكن فيزيائي متخصص بأبحاث أشعة الشمس والغلاف الجوي في وكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، الذي اهتم في أبحاثه بهذا الفيتامين، على مدى العقد الماضي. وقد جاء ذِكرُ سبب موتِ موزارت في ذلك إشارة ضمنية إلى اهتمام أبحاث الفضاء بأعراض نقص هذا الفيتامين، التي يحتمل أن يتعرض لها رواد الفضاء في رحلاتهم الطويلة، الحالية وفي المستقبل، داخل المحطات الفضائية التي لا يدخلها ضوء الشمس. ويقول "جرانت" إن كل مرض معروف حالياً له صلة بالفيتامين دي، وإن ما حدث لموزارت يمكن أن يحدث لأي إنسان لا يتعرض لأشعة الشمس.

وكان الأطباء في ذلك الوقت، قبل قرنين من الزمان، أقل دراية بالمعلومات الطبية. وقد طرأت تغييرات كبيرة على التعريفات والاصطلاحات الطبية التي كانت شائعة في زمن موزارت، فلم يكن أطباء ذلك الزمن يعرفون شيئاً عن الفيتامينات، ولا البكتيريا، ولا ضغط الدم. وبالرغم من أن طاقم الرعاية الطبية لموزارت كان من أفضل الأطباء، إلا أنهم كانوا يفتقرون للمعرفة والتكنولوجيا الطبية، ففشلوا في معالجة المؤلف الموسيقي العظيم.

الجدير بالذكر أن دراسات علمية عديدة أجريت على سبب وفاة موزارت، ونشر عنها مقالٌ في عدد صدر مؤخراً من مجلة تهتم بالمشاكل الطبية لفناني الأداء المسرحي، يرى كاتبه أن مرض الكلى المزمن كان السبب في كثير من مشاكل موزارت الصحية، ومنها التهاب الحلق والعين. وكان الأطباء يلجأون إلى "إدمــاء" موزارت كوسيلة لعلاجه، ولكن يبدو أنهم تركوه ينزف أكثر من اللازم، فمات نتيجة فقر الدم الحاد.

وقد توقف الفيزيائي جرانت عند إشارة وردت في مقال عن حياة موزارت تحدد الوقت من السنة الذي كان موزارت يمرض فيه، كما عُثِرَ على خطابٍ كتبه موزارت يشير فيه إلى أنه في المدة من 1762 إلى 1783 كان يمرض في الفترة من العام بين منتصف أكتوبر إلى منتصف مايو. وهذه هي الفترة التي لا يستطيع فيها الناس في البلدان الشمالية، كالنمسا، أن يحصلوا على كفايتهم من الفيتامين D من الشمس، التي تغيب في معظم الأيام ومعظم ساعات النهار.

الحمد لله .. شمس بلادنا ساطعة على الدوام، تمدنا بفيتامين دي، الذي يحمينا من أمراض موزارت ..

 

46

خَـلِّ بالك من جوهرتك!
قد تجد نفسك، بعد قراءة هذا المقال، واحداً ممن لم يهتموا كثيراً بمعرفة حقائق هذه الجوهرة التي تتحصنُ في جمجمتك: المخ.

 

 

46 - 1

فمن الحقائق المستغربة أن المخ البشري قد تجاهل نفسه على امتداد التاريخ، فلم يهتم أحد، منذ قدماء المصريين حتى أرسطو، بأن يشغِّلَ مُخَّه على نحو لائق للتعرف على الدور الذي يقوم به هذا (العضو) الملغز الذي يسكن الرأس فيما بين الأذنين. حتى "جالينيوس"، الطبيب والفيلسوف اليوناني القديم، الذي برز في نواحي عديدة من بينها علم التشريح ووظائف الأعضاء، إكتفى بتعريف المخ بأنه المُتحكم في الحركة والكلام، ولم يلتفت إلى المادتين البيضاء والرمادية في المخ، ولم يُشر إلا إلى بطينين بداخله، مملوءين بمادة سائلة، معتقداً أنها هي التي تقوم بكل العمل.

وتُعدُّ الأمخاخ البشرية كبيرة الحجم بالنسبة لكثير من الحيوانات اللبونة التي ننتمي إليها تصنيفياً، ويصل متوسط وزن مخ الإنسان إلى 1،4 كجم، ويحتل 80% من حجم الجمجمة، وملمس مادته يشبه ملمس معجون الأسنان، وإن كان لا يلتصق بالأصابع، أما العشرون بالمائة المتبقية فهي تتوزع بالتساوي على كميات من الدم، والسائل المخي الشوكي، والسائل الشفاف المنظم لعمل الأنسجة العصبية. وإن تحولت محتويات المخ كلها إلى سائل، لا تكفي لملء زجاجة حجمها لتران.

 

46 - 2

وعلى أي حال، فقد كانت أمخاخ أجداد البشر قبل 5000 سنة أكبر منها الآن، ووصل متوسط حجمها إلى 1350 سنتيمترا مكعباً، وقد انكمشت بنحو 150 سنتيمترا مكعباً، أي بنسبة 10% تقريباً. ولا يعرف العلماء سبباً واضحاً لانكماش أمخاخنا عن أمخاخ أجدادنا، ويتصور بعضهم أن الانكماش كان ضرورة تطورية، لصالح قدرات أعلى للمخ البشري. ويرى نفرٌ آخر أن سبب الانكماش هو تغير طرأ على تركيب الجمجمة البشرية عندما احتاج الإنسان إلى فكين أكبر حجماً وأقوى لمضغ الطعام، فكان وجودهما على حساب المساحة المخصصة للمخ. وأيَّاً كان سبب الانكماش، فإن حجم المخ لا علاقة له بقدراته، فليس ثمة أي دليل على أن أمخاخ ما قبل الانكماش كانت أذكى من أمخاخنا الآن.

 

46 - 3

وبالرغم من أن المخ البشري لا يزن إلا نحو 2% فقط من وزن الجسم، إلا أنه يستأثر بقدر ضخم من طاقته، وتصل درجة شراهته إلى أنه يحصل على 20% من محتوى الدم من غاز الأكسجين، وعلى 25% من محتواه من الجلوكوز. ولا يزال العلماء يتجادلون على نوع الطعام الذي كان له السهم الأكبر في تطور المخ البشري وقدراته، فبعضهم يرى أنه اللحوم، فقد كان الإنسان على امتداد التاريخ صياداً ماهراً، ويرى البعض الآخر أن لحوم الصيد لم تكن مضمونة في كل الأوقات، وأن اعتماده الأول كان على المواد النباتية، ويدللون على ذلك باكتشافهم لنوع من القردة يعيش في مناطق السافانا الآن، يمتلك مهارة الحفر بحثاً عن الدرنات الغنية بالسعرات الحرارية.

وفي المخ تكمن أسرارُ ذكائنا البشري، فسطحه ليس مستوياً وإنما تنتظمه تلافيفٌ تصنع تثنياتها أخاديد تملأ السطح، أو القشرة المخية، وينتشر بها نحو 100 بليون خلية عصبية. ومن السهل استنتاج أن تجعُّدَ سطح قشرة المخ يزيد من مساحة رقعتها، بالرغم من الفراغ المحدد لها في الجمجمة، الأمر الذي يتيح مساحة أرحب لمعالجة الإشارات العصبية المختلفة وتجهيز ردود الفعل الفورية حيالها. ولبعض الحيوانات المنتمية إلى (الرئيسات) درجات مختلفة لتجعد قشرات أمخاخها، تعطيها قدرات متفاوتة من الذكاء، غير أنك قد تدهش حين تعلم أن تلافيف قشرة مخ الدولفين أكثر من تلافيف المخ البشري!.

وكان الشائعُ أننا لا نستخدم غير 10% فقط من قدرتنا الدماغية، والحقيقة هي أن هذه النسبة تمثل نسبة الخلايا العصبية (أو العصبونات) بين سائر خلايا المخ، والباقي -90%- هو من خلايا يقال لها (الدِبْقيَّة) –glia- وهو اسم مشتق من اسم (الغِرَاء) باليونانية، ويصل وزنها إلى نصف وزن المخ. وكان المعتقد لدي المتخصصين في طب الأعصاب أن هذه الخلايا الدبقية، بطبيعتها اللزجة، هي التي تربط الخلايا العصبية معاً، غير أن بحثاً أُجرِيَ بالعام 2005 أوضح أن لهذه الخلايا المجهولة وظائف مهمة، منها اقتلاع غير المرغوب فيه، أو الزائد من الناقلات العصبية، وتوفير حماية مناعية لنمو وفعالية وصلات الخلايا العصبية.

ويظهر أساس المخ في وقت مبكر من المرحلة الجنينية، بعد ثلاثة أشهر من الحمل، في هيئة شريحة من الخلايا الجنينية تسمى الرقعة العصبية، لا تلبث أن تتحول إلى طيَّة، تلتحم مكوِّنةً أنبوباً عصبياً، هو الخطوة الأولى في نشأة الجهاز العصبي المركزي. ويأخذ الأنبوب على مدى الشهور الجنينية الثلاثة الأولى في النمو وتبدأ خلاياه في التخصص متحولة إلى أنسجة مختلفة، هي التي ستبني أجزاء الجهاز. ولا تبدأ المادة (الدِبْقيَّة) والعصبونات في التكون إلا في الثلث الثاني من مدة الحمل، أما تجعُّد القشرة فيحدث في وقت لاحق، أظهرها التصوير بالرنين المغناطيسي تظهر كعدد قليل من أخاديد على سطح أملس في دماغ الجنين، بعد24 أسبوعاً من الحمل، وتأخذ في التعقد والزيادة في العدد مع بداية الأسبوع 26 من الحمل، حتى نهايته.

ولا تتوقف عمليات التطور والنمو في المخ خلال زمن الطفولة، ويستريح الآباء تماماً حين يتخطى أبناؤهم سن الصبا، ويكفون عن عناد المراهقين وتصرفاتهم الصبيانية، التي كانت تسببها تقلبات نمو المخ. غير أن أجزاء المخ التي تختص بالتعدد الوظيفي، أي التعامل مع عدة مسائل في نفس الوقت، لا يكتمل تطوّرها حتى سن البلوغ، وهناك وظائف أخرى لا يكتمل تطورها قبل العشرين. كما تبين دراسات أجريت على بعض المصابين بإعاقات مخية قدرة المخ على التكيف مع الضرر الحاصل، أي أنه لا يتوقف عن التطور وتكوين الوصلات العصبية حتى نهاية العمر.

 

47

ماذا لو تضاعف مستوى الذكاء البشري ؟!
تُقاسُ درجةُ ذكاء الإنسان بواسطة اختبار يُرمزُ إليه بالحرفين IQ (آي كيو).

وقد توصل علماءُ الأعصاب إلى سرِّ ارتفاع قيمة الـ(آي كيو) عند بعض الناس، وانخفاضها عند البعض الآخر ..

فأمَّا الأذكياء جداً، ذوو الآي كيو المرتفع، فإن أمخاخهم تتمتع بمسارات عصبية طويلة، تتنقل فيها الإشارات العصبية بين المراكز العصبية المتباعدة في المخ. وأما الأقل ذكاءً، فإن أمخاخهم أبسط من حيث التكوين، والمسارات العصبية فيها أقصرُ، لأن المراكز العصبية في أمخاخهم متقاربة.

 

47 - 1 - خلايا عصبية تطلق إشاراتها في مسارات طويلة عند الأذكياء وقصيرة عند غيرهم

ويعتقد العلماءُ أن نسبة من تصل درجة ذكائهم إلى أقصى (آي كيو) لا تزيد عن واحدٍ من بين عشرة بلايين إنسان. وبما أن تعداد سكان العالم الآن يبلغُ سبعةَ بلايين، فقد يكون بيننا نحن البشر إنسان واحد فقط هو الأذكى بين من يعيشون على سطح الآض حالياً.

ويُقالُ أن عالم الفيزياء والرياضيات الإنجليزي "إسحاق نيوتن"، مكتشف الجاذبية الأرضية وحساب التفاضل والتكامل، ضمن إنجازات علمية أخرى، كان هو أذكى سكان الأرض في الفترة التي عاشها من منتصف القرن السابع عشر حتى بداية القرن التاسع عشر.

فهل يمكن للعلماء أن (يصنعوا) نيوتن آخر، بعد أن يتوصلوا في المستقبل إلى سِـرِّ طول أو قِصَـرِ تلك المسارات العصبية، ويجدون طريقة مناسبة لمدِّ القصير منها (زيادة الآي كيو)، أو تقليل طولها (خفض الذكاء، إن دعت الضرورة) ؟!

هل تبدو لك هذه الفكرة صعبة التحقق أو مستحيلة ؟. يقول العلماء إنها بالفعل لا تزال في النطاق النظري، غير أن ما يجعلهم متحمسين لها هو أنه لأول مرة في التاريخ تطرح فكرةٌ مقبولة، ولو نظرياً، للتحكم في درجة ذكاء الإنسان، وأن كثيراً من الإنجازات العلمية والتكنولوجية المدهشة، التي أثرت حضارة البشر المعاصرة، لم تكن في بداية الأمر إلاَّ أحلاماً وتصورات نظرية.

ومن التوقعات التي يمكن أن تتحقق لو نجحت تلك الفكرة، وصار من الممكن مضاعفة درجة ذكاء الإنسان:

  • على المستوى الفردي:
  1. - زيادة قدرة الإنسان على القراءة والتعلم، فيمكنه – مثلاً – إتقان لغة جديدة خلال أسابيع قليلة.
  2. - والتعمق في إدراك حقيقة الأشياء.
  3. - ممارسة الأعمال التي يحبها بدرجة أعلى من الكفاءة.
  4. - التمتع بحالة صحية أفضل، لأن الفرد الأذكى هو الأقدر على مراعاة السلوكيات التي تقيه شرَّ الأمراض.
  • على المستوى المجتمعي:
  1. - يتسبب الجهل وضيقُ الأفق في كثير من المشاكل الاجتماعية، فإن ارتفع معدل الذكاء الفردي، تلاشت هذه الأسباب، واختفت المشاكل، وأصبح المجتمعُ مثالياً متآلفاً.
  2. – سوف تزداد كفاءة الإنتاج، وستعرف أوساطُ العمل الابتكارات التي تجد الحلول لمشاكل ستزداد حدتها مستقبلاً، مثل توفير مصادر للطاقة، وموارد للمياه.

 

47 - 2 - الأكثر ذكاءً يحرصون على تناسق هندامهم

 

  1. – لكن الأشرار لن يختفوا، وإنما سيمكنهم ذكاؤهم الفائق من استحداث أساليب للجريمة، وسيكون أكثر الجرائم شيوعاً سرقات البنوك، وعمليات الغش والتزوير. ومن جهة أخرى، فسوف تزداد قدرات رجال الأمن، وسيجدون ما يواجهون به المجرمين الأذكياء، فهم على نفس الدرجة من الذكاء!.
  2. – وقد وجدت دراسةٌ أجرها باحثون في جامعة هارفارد الأمريكية أن هناك علاقة بين درجة الذكاء وحسن المظهر العام للفرد، فالأكثر ذكاءً يحرصون على تناسق هندامهم ورقي تصرفاتهم في الحياة اليومية.

 

48

تاريخ اللون الأحمر
يرتبطُ اللونُ الأحمر بأشياء كثيرة، منها عنفوان الحياة، والقوة، والحب، والغضب، والحرب. ويرد في بعض القواميس الإنجليزية تعريفٌ للون الأحمر بأن لون جمر النار المستعرة أو الدم. وثمة تفسير لتواجد أشياء حمراء اللون في مقابر مصرية ويونانية ورومانية قديمة، من مجوهرات وأقمشة وأواني زجاجية، بأن المعتقد قديماً أن هذا اللون يحمي الموتى في العالم الآخر، ويعينهم على استعادة جانب من حيويتهم!. ويصعبُ تحديد الزمن الذي عرف فيه البشر الصباغة والأصباغ، غير أنه من السهل التكهن بأن بداية الصباغة والتلوين كانت في نطاق اللون الأحمر، وقد عُثِرَ على بقايا من أقمشة يعود تاريخُها إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد مصطبغة بلون أحمر حائل.

 

48 - 1 - كان المصريون القدماء يعتقدون أن اللون الأحمر يحمي الموتى في العالم الآخر، ويعينهم على استعادة جانب من حيويتهم!

وحظيَ هذا اللونُ في العصور الوسطى بمكانة خاصة عند الشعوب الغربية، كما أنه لا يمثل في ثقافات عديدة مجرد لون من مجموعة ألوان معروفة، وإنما هو اللون الوحيد المختار للاستخدام في كثير من النواحي الاجتماعية. بل إن بعض اللغات لا تعرف كلمة (لون) وإنما (أحمر) بمعنى لون. والأحمر أول الألوان التي استخدمت في الرسم والصباغة؛ وقد أطلقه العرب وصفاً للماء، وورد في الحديث الشريف: “بعثت إلى الأحمر والأسود”. والعرب تقول: امرأة حمراء، ويريدون: بيضاء. والعرب تطلق على الأبيض: أحمر إذا أرادت لوناً أبيض؛ وأطلقته على الذهب والزعفران فكانا عندهم: الأحمران. وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: “أهلك الرجالَ الأحمران وأهلك النساءَ الأحامرة". والأحمران الخمر واللحم، والأحامرة الذهب والزعفران. ويقول الشاعر:

هجان عليها حُمرة في بياضها تروق به العينان والحُسن أحمر

ويعنى الحُسنَ في حُمرةِ اللونِ مع البياضِ دون غيره من الألوان. وقال الثعالبي في تَقْسِيمِ الحُمْرَةِذَهَب أحْمَرُ، فَرَس أَشْقَرُ، رَجُلٌ أَقْشَرُ، دَمٌ أَشْكَلُ، لَحْم شَرِق، ثَوْبٌ مُدَمَّى، ومُدَامَة صَهْبَاءُ". كما اتخذ الأمويون اللون الأحمر شعاراً لهم بعد قيام الدولة العباسية في العراق، وربما كان هذا اللون رمزاً للمعارضة في عصرهم. وقد عرفت أوربا (الأحمر السياسي) خلال ما شهدته من حركات سياسية واجتماعية، واستمر هذا اللون محتفظاً بدلالته السياسية والعقائدية، حتى أنه أصبح مرادفاً لصفات (إشتراكي)، و(شيوعي)، و(متطرف)، و(ثوري)، حتى الآن.

 

48 - 2 - حلل إسحق نيوتن الضوء الطبيعي إلى ألوان الطيف في القرن السابع عشر

وتضم قائمة ألوان الطيف ستة ألوان أساسية، هي: الأحمر وطوله الموجي700 نانومتر، والبرتقالي (620 نانومتر)، والأصفر (580 نانومتر)، والأخضر (530 نانومتر)، والأزرق (470 نانومتر)، والبنفسجي (420 نانومتر)؛ وكان إسحق نيوتن قد أضاف إليها عام 1666 اللونَ النيلي، بين الأزرق والبنفسجي، ولكن معظم الناس لا يستطيعون تمييزه، كما أن معظم علماء الألوان لم يميزوه كلون منفصل، ويشار إليه في بعض الأحيان بالطول الموجي 420-440 نانومتر. وكان أرسطو قد وضع الأحمر في مكانة وسطى بين النصوع والدكنة.

وظل اللون الأحمر، بدءاً من ظهوره في رسومات الكهوف إلى طلاء سيارات السباق العصرية، ينبض بالحيوية. وثمة طرفة تشيع بين الفرق الرياضية، تقول بأن الفريق الذي يرتدي لاعبوه قمصاناً حمراء يخيف منافسيه، ونادراً ما يخسر. وكانت ستائر المسرح زرقاء اللون، فجاء الأحمر ليحل محل الأزرق تدريجياً بدءاً من القرن الثامن عشر، ولم يكن ذلك نتيجة لتغير الأذواق، فقط، ولكن أيضاً لأن وسائل الإضاءة الجديدة في ذلك الوقت تطلبت أن تكون الستارة حمراء، ثم لم تلبث خشبة المسرح ذاتها أن صارت حمراء، بل إن اللون الأحمر عمَّ القاعة بأسرها. ومنذ ذلك الوقت حتى الآن يندر أن تجد قاعة مسرح أو داراً للأوبرا بلا لون أحمر.

 

49

ستون عاماً على رحلة "لايكا"

49 - 1 - لايكا

صعدت الكلاب السوفييتية إلى الفضاء الخارجي متحررة من الجاذبية الأرضية، قبل البشر. وكان العلماء السوفييت قد نجحوا في إطلاق أول مركبة فضاء من طراز سبوتنيك في الرابع من أكتوبر 1957، فأمر الزعيم السوفييتي نيكيتا خروشوف بأن تحمل سبوتنيك الثانية أول كائن حي أرضي يغزو الفضاء الخارجي، فكانت الكلبة (لايكا) هي ذلك الكائن التاريخي، وكانت رحلتها بلا عودة، إذ لم يستطع العلماء استكمال الإعداد للرحلة، ولم تسعفهم التكنولوجيا المتوفرة في ذلك الوقت في ترتيب رحلة عودة لايكا من رحلتها سالمة، فقد كانت أوامر خروشوف أن تنطلق سبوتنيك-2 وعلى متنها تلك الكلبة (في خلال شهر)، فأطلقوها في الثالث من نوفمبر من نفس العام؛ وكانت الحرب الباردة في أوجها بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي، وكان سباق تكنولوجيا الفضاء أحد ميادين الصراع فيها.

وكان من الطبيعي، وسط ذلك المناخ العالمي، أن تعمل آلة الدعاية الشرقية على تضخيم هذا الحدث، حتى أن لايكا أصبحت بطلاً وطنياً، واهتم المسئولون في برنامج الفضاء السوفييتي بالإعلان عن برنامج رحلتها إلى الفضاء الخارجي، مؤكدين على أنها ستبقى بحالة جيدة، وقد توفر لها غذاء وماء كافيان لإبقائها على قيد الحياة لأسبوع. غير أن تلك التوقعات لم تتحقق، إذ كشفت معلومات ظهرت مؤخراً، عام 2002، أن الكلبة المسكينة لم تحتمل الإجهاد الحراري في كبسولتها الفضائية، فلقيت حتفها بعد سبع ساعات فقط، وكانت سبوتنيك-2 قد استقرت في مدارها حول الأرض. وقد سبق لايكا كلاب أخرى شاركت في تجارب الفضاء السوفييتية، وعاد معظمها إلى الأرض حياً، بعد رحلة شبه مدارية إلى خارج الغلاف الجوي للأرض.

وكان برنامج الفضاء الأمريكي يعتمد على القِرَدَة، بينما فضَّل السوفييتُ الكلاب لأن تدريبها كان أيسر، وعلاقتها بالإنسان أقرب، ولتوفرها بأعداد كبيرة فيسهل انتقاء الأصلح منها للمهام الفضائية، وكانوا يميلون لاختيار الإناث من النوع الهجين المعروف باسم «مونجريل» الذي يتميز عن باقي سلالات الكلاب باللطف وسرعة البديهة. وكانت الكلاب المختارة تخضع لبرامج طبية وتدريبية تستهدف إكسابها التعود على أن توضع في ملابس فضاء مخصصة لها، وعلى الاطمئنان للحبس في الكبسولة الفضائية زمناً طويلاً. وقد أفادت تجارب الكلاب الفضائية العلماء في الترتيب للرحلات البشرية، خاصة فيما يتصل باستجابة الأجسام الحية لتأثير الإشعاعات وانعدام الوزن في الفضاء الخارجي، وكانت بداية لما عرف بعد ذلك بطب الفضاء.

 

49 - 2 - طابع بريد تذكاري للايكا

وقد شجعت تجربة لايكا السوفييت فأطلقوا إلى الفضاء كلبتين أخريين، هما (بيلكا) و(ستريلكا)، من المونجريل أيضاً، وبصحبتهما فأران وأرنب وعدد من ذباب الفاكهة وبعض النباتات. وكان ذلك بعد ثلاث سنوات من رحلة لايكا، في 19 أغسطس 1960. وكانت التجربة ناجحة إلى أبعد حد، وبينما سفينتهما الفضائية تلف حول الكرة الأرضية في دورتها الرابعة أصيبت بيلكا بحالة قيئ، إلا أنها سرعان ما استعادت نشاطها، وظهرت في شريط الفيديو تتحرك داخل الكبسولة مع رفيقتها وتنبحان؛ وبعد أن أتمت المركبة الفضائية 17 دورة، إنطلقت صواريخ إرجاعها إلى الأرض، وهبطت بسلام. وعندما فُتحت الكبسولة شوهدت بيلكا وستريلكا بحالة طيبة.

 

49 - 3 - لايكا في كابسولتها الفضائية قبيل اطلاقها للفضاء

ولم تلبث كلاب الفضاء أن تدخلت في الشأن السياسي، عندما عُقدت في العاصمة النمساوية فيينا، في يونية 1964، أول قمة جمعت بين الرئيس الأمريكي جون كنيدي ورئيس الوزراء السوفييتي خروشوف؛ وخلال العشاء دار حديث بين "جاكلين كنيدي" وخروشوف حول الكلاب السوفييتية التي ارتادت الفضاء، وذكر الأخيرُ أن الكلبة ستريلكا رُزقت بعدد من الجراء، فطلبت سيدة أمريكا الأولى منه أن يرسل لها جرواً، واستجاب خروشوف وأرسل الجرو – وكان أنثى اسمها بوشينكا – لقيت ترحيباً من سكان، وكلاب، البيت الأبيض، وتآلفت مع كلب الرئيس، وكان اسمه (تشارلي)، وأنجبا بعض الجراء، بالرغم من أجواء الحرب الباردة!

 

50

إنقشِــعْ يا ضباب ...
إنه، كالسحاب، يتكون من دقائق أو قطيرات من الماء. وتتميز دقائق الماء المكونة للضباب بأنها شبه كروية، ويتراوح قطرها بين 2 و50 ميكرون، وكثافتها بين 20 و 500 قطيرة من الماء فى السنتيمتر المكعَّب من الهواء. وتحدد كثافة قطيرات الماء درجة شفافية الضباب; فكلما ازدادت الكثافة قلَّ مدى الرؤية. وأعلى كثافة للضباب يمكن أن نقابلها فوق المسطحات المائية، حيث يصل حمل المتر المكعب من الهواء إلى جرام كامل من الماء.

 

 

50 - 1 - مدينة غارقة في ضباب كثيف
والمعروف، أن الماء أثقل من الهواء بمقدار 800 مرة; والثابت، أن قطيرة ماء قطرها 10 ميكرون، تتساقط بسرعة 0،3 سم/ ثانية; فإذا زاد القطر إلى 20 ميكرون، كانت سرعة التساقط 1،3 سم / ثانية، فى الهواء الساكن. فلماذا، إذن، لا يؤدى ذلك إلى تساقط قطيرات الماء على الأرض بسرعة، وانقشاع الضباب، بعد وقت قصير من سقوطه?.

تساعدُ عوامل كثيرة على استمرار تلك القطيرات عالقة بالهواء، كأن تحملها أو تعوِّمها تيارات هوائية صاعدة; أو أنها تتساقط على الأرض فعلاً، ولكن يتم تعويضها، بغير انقطاع، بدقائق جديدة، بتكاثف جزء من بخار الماء الموجود بالهواء.
ويكون الضبابُ ثقيلاً حول بعض المناطق الصناعية ذات الهواء الملوث بدقائق التراب والمواد الناتجة عن الاحتراق. وليس معنى هذا أن تلوث الهواء سبب أساسي لتكوين الضباب، ولكنه عامل مساعد، يؤدى إلى سرعة تكوينه، ويطيل بقاءه، ويقلل من درجة شفافيته، مقارنةً بالضباب المتكوِّن عند درجات الرطوبة العالية، فى المناطق الأقل تلوثاً.

 

50 - 2 - ضباب يتساقط على حديقة

ومن الممكن تبديد الضباب، أي إرغامه على الانقشاع ...

فمثلاً، تلجأ بعض شركات الطيران إلى رش الضباب المخيم على المطارات بمواد تساعد على اتحاد قطيرات الماء، فيكبر حجمها إلى الحد الذى يجعلها تثقل وتسقط على الأرض، فيتبدد الضباب، وتعود حركة الطائرات. وهذه طريقة ناجحة، وبخاصة فى حالة الضباب ذى القطيرات شديدة البرودة، التى تُرشُّ بمادة مبردة، مثل (البروبان) المُسيَّل، فيتجمد جانب منها، ويتساقط فى صورة متبللرة; وفى الوقت ذاته، فإن بخار الماء الموجود بالهواء يسارع بالتكثف إلى جزيئات المادة المبردة، فيتحول الهواء الرطب، تدريجياً، إلى جاف، فيعمل الجفاف على سحب مزيد من قطيرات الضباب وإعادتها إلى الحالة البخارية.

أما الضباب الدافئ، المتكون فى المناطق المعتدلة، فيتم حقنه بخليط من مواد كيماوية تساعد قطيرات الماء فى الضباب على التجمع، بتأثير نوع من التجاذب الكهربى.
وفى مستعمرة لبعض العاملين بالقطب الشمالى، استخدمت رياح اصطناعية فى تبديد الضباب الثلجى الذى كان يغطي المستعمرة بين وقت وآخر.. ففى تلك المنطقة من العالم، يكفى بخار الماء، المتصاعد من مثل تلك المستعمرة الصغيرة، لتتكون منه كتلة محدودة من الضباب; ومع هبوط درجة الحرارة إلى ما تحت الصفر بأكثر من ثلاثين درجة، فإن معظم قطيرات الماء فى الضباب يتحول إلى بللورات ثلجية.. وهذا نوع من الضباب كفيل بوقف أى نشاط لرواد تلك المنطقة من العلماء والمستكشفين، فكان لجوؤهم إلى استخدام مراوح ضخمة لتبديد تلك الستارة الثقيلة من الضباب.

 

المؤلف

رجب سعد السيد

  • تخرج في كلية العلوم، جامعة الإسكندرية، في عام 1970، حيث تخصص في الكيمياء وعلوم البحار.
  • عمل، حتى تقاعده في عام 2008، كبيراً للأخصائيين العلميين بالمعهد القومي لعلوم البحار والمصايد، في مدينة الإسكندرية، مقر إقامته الدائم.
  • أسس، ورأس مجلس إدارة، الجمعية البيئية: "بحرٌ نظيفٌ – تجمُّـعُ خبـراء البيئة البحرية"
  • عضو كـلٍ من: اتحاد كتّاب مصر – نادي القصة بالقاهرة – أتيلييه الإسكندرية.
  • رأس من يناير 2011، حتى 2015 تحرير سلسلة كتب (الثقافة العلمية) التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، وأصدر منها 24 عدداً.
  • حرَّر عددا من الأبواب البيئية و العلمية، ونشر مئات المقالات العلمية للعامة، بالإضافة إلى إنتاجه الأدبي، في كثير من المجلات الثقافية العربية.
  • نال جائزة أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، عام 1994، في تبسيط العلوم.
  • نال درع التكريم من مهرجان القراءة للجميع – مكتبة الأسرة – مرتين، لإسهامه في الإصدارات العلمية للمشروع.
  • نال شهادة ودرع التكريم من مؤتمر أدباء مصر – الدورة 22 - مرسى مطروح - 2008؛ وجاء في حيثيات تكريمه: " .. فضلاً عن إسهامه الأدبي في القصة القصيرة والرواية والنقد، فإنه كذلك مترجم متميز، سواء في الآداب أو في العلوم؛ كما أنه باحث متمكن، وناشط في مجال العلوم والبيئة. وإلى ذلك، فقد أضاف الكثير إلى الحركة الأدبية في أرجاء مصر، من شمالها إلى جنوبها؛ وله مشاركات متعددة في مؤتمر أدباء مصر وفي غيره من مؤتمرات الأقاليم، والمؤتمرات الثقافية والأدبية ".
  • حصل على جائزة الدولة التشجيعية في الترجمة – 2013.
  • أصدرَ نحو 65 كتاباً في القصة والرواية والثقافة العلمية وأدب الأطفال والترجمة، في كبريات دور النشر المصرية والعربية.
  • عنوان بريده الإلكتروني: ragabse@yahoo.com