مرة أخرى، مرة رابعة، يقدم حجي جابر، الروائي الإرتري، رواية مترعة بالإدهاش، ومكتنزة بالمفاجآت، فضلا عن تقديمه لمشاهد من خارج المسرح التقليدي للرواية العربية، مشاهده آتية من بلده إرتريا، وما خلفته الحروب القاسية على كاهله من أثقال، لتكون هذه الرواية نموذجاً من جنس لم يصبح ظاهرة في الرواية العربية بعد، هو جنس رواية مابعد الحرب، التي قد يكون الروائي العراقي مهدي عيسى الصقر مؤسسه، بروايته الشاهدة والزنجي([1]).
جغرافيات حجي جابر في رواياته الأربع: سمراويت([2])، ومرسى فاطمة([3])، ولعبة المغزل([4])، ورغوة سوداء([5])، هي بلده الأم: ارتريا، وجيرانه الأقربون: السودان، وإثيوبيا ومصر، وانفتحت واقعيته الاجتماعية على هموم اللون، وما ترتب عليه من ثقل شديد: العبودية، لكن ذلك كله تم تقديمه بطريقة فنية، بعيدة عن النبرات الخطابية والمقالاتية والمباشرة، تلك الصفات القريبة من السرد، لكنها تخرج النص من ذلك الجنس.
قد يكون الدخول الى عالم (دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين) من بوابة إفريقيا أسهل دخولا من البوابات العربية، لكنه دخول سلس، بالتركيز على وصف القدس: مشاهدها الدينية، وأسواقها، وأحيائها السكنية، الخاصة بالعرب وبالأفارقة وبالمهاجرين من يهود إفريقيا، واللاجئين الإفريقيين أيضا، ربما كان رائد هذا الأمر الروائي العراقي علي بدر، في روايته (مصابيح أورشليم)، ولم يكن الصراع العربي الإسرائيلي هو موضوع (رغوة سوداء)، بل كان موضوعها أحد الأسئلة الوجودية الأكثر انتشارا، والأكثر أهمية في حياة الإنسان، انه صراع الإنسان مع ما وجد نفسه عليه، مع قدره، مجيئه الى الحياة بدون اختيار ذاتي، وبصفات لم تكن له يد فيها: لونه، جنسيته/ وطنه، ديانته، أبوه وأمه، وحتى شرعية وجوده([6])، أو الطريقة التي منحت الحياة له بواسطتها، وهذا أيضا أحد الأسئلة النادرة في الرواية العربية، بطل (رغوة سوداء) لا يعاني من لونه، ولا من النظر اليه كـ "عبد"، حتى من قبل ذوي بشرة سمراء آخرين، إنه يعاني كونه من (ثمار النضال)، وهم – حسب تعريف الرواية – الأطفال الذين يولدون بسبب لقاء بين مقاتل وامرأة ما، وتقوم جهات حكومية برعايتهم، وإعدادهم للمستقبل.
الروايات الأربع لحجي جابر تحتوي على قصة حب، غالبا ما تكون ذات نهاية سوداوية أو مأساوية، لكن قصة الحب متوفرة في رواياته كلها. تقدم (رغوة سوداء) قصتها بطريقة المونتاج، لا تبدأ من البداية ولا من النهاية، بل تبدأ من نقطة زمنية فيها، قد تكون في وسطها، أو في بداية نصفها الثاني، من حيث كمّ الأحداث وطول المدة، وتنقسم الرواية الى (29) فصلا([7])، ولكن تلك الفصول لا تتوالى بشكل طبيعي، بل بشكل فني، يحفز المتلقي على التوقع والتوقف للتساؤل، بالاستفادة من تقنية الاسترجاع، وربما بكمٍّ أكبر من تقنية المونتاج السينمائية، فقد ينقسم الفصل الواحد الى عدد من الأجزاء، لا تترتب بشكل منطقي أو زمني أيضا، بل تعود على ما يسبقها بجزء أو فصل أو أكثر، ولا تبدو هذه الطريقة ذات جمال فني فقط، وإنما هي عامل مساعد لإبقاء المتلقي في حالة يقظة، عندما يصطدم بعد الانتهاء من جزء الفصل بأن الجزء الذي يليه ليس استكمالا له، فتنشط الذاكرة، وتتمرن على الاحتفاظ بتلك الأجزاء والأحداث والمشاهد، وربما تقلب الصفحات الى الخلف للبحث عن الجزء ذي العلاقة، وغالباً ما يستعين مفتتح الجزء بخاتمة الجزء السابق، فمثلا في الجزء الأول([8]) من الفصل (6) يحكي الراوي الخارجي مشهد وصول البطل الى مطار بن غوريون، وإذ ينتهي بـ: "لمحَ جارته العجوز صاحبة زوج الأسنان الوحيد" ص43، فإن الجزء الثاني سيبدأ بـ: "لكن العجوز لم تكن وحدها من يتربص به" ص43، فيظن القارئ أن الحكي مازال في المشهد نفسه، لكنه سيكتشف لاحقا أنه في مشهد آخر، بعيد في الزمان والمكان عن المشهد السابق، ولكن إيجاد (العجوز) كعلاقة بين الجزأين هي لعبة فنية جمالية، تقوم على الاسترجاع أحيانا، في حالة هذا الفصل، وفي الفصل (9)، الذي يحتوي جزؤه الأول على مشهد الإتيان بالمهاجرين الى المستشفى، فينتهي بجملة: "بدأ يشعر بالمادة السائلة ذات الرائحة النفاذة تغمر جسده"، ويبدأ الجزء اللاحق بـ: "كان الماء يقطر منه ويحجب الرؤية" ص67، فيبدو للقارئ أن الجزء الثاني هو إكمال للأول، لكنه ليس كذلك، إنه مشهد مختلف، وبعيد عن الأول في الزمان والمكان.
اللعبة([9]) هنا تقوم على عدد من العلاقات، منها:
- وجود شيء مشترك بين الجزء السابق والجزء اللاحق، قد يكون شخصا أو حدثا، أو شيئا ما.
- يذكر هذا الشيء في نهاية الجزء السابق وفي بداية الجزء اللاحق.
- الجزء اللاحق يكون استرجاعا.
ولم يكن اختيار اسم البطل عفويا، كما في الواقع، إذ يسمي الناس أبناءهم بقصدية غالبا، وهنا في هذه الرواية سوف يكتشف القارئ هذه القصدية، مثلما لن تصرح الرواية بذلك فحسب، بل إنها ستستثمر طاقات ذلك الاسم، وتحولاته الايديولوجية، براغماتيا، وحسب المكان، ولا يبدو ذلك الاهتمام بتسمية البطل متناقضا مع إبقاء الفصل (1) خاليا من ذكر اسم البطل، فقد احتوى هذا الفصل على أسماء لها دلالات وعلاقات مع محتويات الرواية، فيقرأ المتلقي في السطر الأول اسم (أديس أبابا)، عاصمة إثيوبيا، ليعرف أنه في الساحة الإفريقية، وليعرف قارئ روايات حجي جابر السابقة أن المؤلف لم يغادر جغرافياته واهتماماته، ثم أسماء الحانات، وأسماء بعض أنواع المشروبات، ثم اسم ساحة (مسقل) واسم (ضاحية بولي)، وأيضا سيقرأ في الصفحة الثانية إثيوبيا، فتبدو الصفحتان زاخرتين بالأسماء، ومتجاهلتين لاسم البطل! ستعرِّفه الرواية في منتصف الصفحة الثانية بالرجل الجالس الى جوار النافذة في المقعد سبعة وثلاثين من الحافلة الرابعة (الصفحات: 9 – 10)، ليس تعريفا جغرافيا فحسب، بل هو تعريف من لا يعرفه! يدعي الراوي العليم أنه لا يعرف اسم بطل النص! لينتهي الفصل القصير([10]) – صفحتان – بعدم ذكر اسم البطل.
ثم يستمر تجاهل اسم البطل، الذي هو بطل الفصول كلها، فالرواية من نمط روايات الأبطال، فضلا عن كونها رواية سيرة شخصية، مثل رواية (لا تقولي انك خائفة)([11])، الإفريقية أيضا، يستمر تجاهل اسم البطل الى مسافة غير قليلة، لكنه ليس تجاهلا عفويا أو خللا سرديا ما، انه مقصود، ثم يتم الاقتراب من الاسم هكذا: "مرّ بإصبعه على اسمه" ص 19، صار الاسم شيئا! هل لإعطائه حجما وملمسا وكتلة ووزنا، أي لإضفاء صفات مادية عليه، أثر ايجابي؟ يعززه أو ينفعه، أم للتقليل منه بجعله شيئا؟ النزول به من علياء المعنى والرمز والمحسوس الى عادية الملموس ذي الحجم والكتلة!! المهم في الأمر إن الاسم يحظى باهتمام ما، هذا التغييب، وأساليب دخوله الى النص، ربما هكذا سيدرك القارئ منذ البداية، ويتوقع أن يكون للاسم دور ما في الرواية، ويستمر التجاهل بهذه الطريقة المتعمدة؛ لكي ينطلق الاسم من موقع ما في الرواية، أو من شخصية – هامشية – ذات رمزية، سيسأله الضابط الإسرائيلي في صالة الاستقبال: "ما اسمك؟"، فيجيبه: "داويت"، قد لا يحتاج القارئ الى جهد ليعرف أن هذا الاسم إفريقي، وعلى فرض عدم امتلاك القارئ معرفة جيدة بمعاني الأسماء الإفريقية، غير العربية، مثل مشار، وگرنگ، وغيرها، فإن هذا الاسم لن يكون محاطا بالغموض مثل الأسماء الإفريقية الأخرى، إنه قريب من مفردة معروفة في اللغة العربية، بل إنها مشهورة، وذات علاقة بالدين والنصوص المقدسة، تحتوي داويت على ثلاثة حروف من داود، كما أن حرف الدال ضعيف الى حد إمكانية لفظه تاءاً بسهولة، فضلا عن العلاقات بين حرفي الواو والياء، ربما سيذهب ذهن القارئ الى أن داويت هو تصريف إفريقي لداود! إذن، لا شيء بريء في هذا الأمر، ثمة قصدية في اختيار اسم داويت للبطل، ربما يكشف عن بعض أسباب الاختيار وجود البطل على أرض إسرائيل، وربما يتذكر القارئ، وربما كان يعرف أو سمع بيهود الفلاشا، وهم يهود شرق إفريقيا، ربما إثيوبيون تحديدا، تم نقلهم الى إسرائيل للمرة الأولى عبر السودان في زمن رئيسه الأسبق جعفر النميري، في ثمانينيات القرن العشرين، وربما تم نقل أفواج أخرى من إثيوبيا مباشرة.
لم تكتفِ الرواية بأنها اختارت هذا الاسم، الذي قد يكون هو التصريف الإفريقي لداود، لم تكتفِ بأن تختار هذا الاسم لأحد يهود الفلاشا الذي يرغب بالهجرة الى إسرائيل، لن يكون هذا الموضوع مثيرا بشكل كاف، فقد تكون هجرة يهود إفريقيا الى إسرائيل طبيعية لأسباب دينية أو اقتصادية أو سياسية، بل ستجعل الاسم لشخص مجهول الهوية، الإثنية والدينية، وعليه سيمر الاسم بمستويات، أو بانتقالات، تشبه، أو تتماهى مع انتقالات البطل، وسيكون ذلك مباشرة من خلال النص، بالتلميح أو بالتصريح، ستشرك الرواية قارئها في فك شفراتها، ستكشف عن بعض أوراق اللعبة، أو كثير منها.
ربما لم يمتلك داويت هوية دينية أو إثنية، لسبب آخر أو بسبب كونه فري قدلي (ص116)، أي انه أحد أبناء ثمار النضال (ص108)، وهم أبناء العلاقات العابرة بين الجنود والنساء في جبهات القتال، وما جاء في الصفحة (104) عن اختلاف الأب والأم في تسميته، عندما كان البطل يتحدث عن هذا، سيبدو غير معقول وغير مقبول من قبل القارئ؛ لوقوعه في تناقض بين أن يكون البطل يحكي عن أب وأم، يعرفهم، أو يعرف أمه فقط، وهي حكت له عن اختلافها مع أبيه في تسميته، وهو من ثمار النضال، أي: لا أب ولا أم معروفان له، إلا أن يكون ذلك محض أمنياتٍ تراود خياله، وسيحكي - في الصفحة التالية - عن وجود أكثر من مرضعة له وأمّ، بل ويتم استبدالهن عن قصدية من قبل الجهات الرسمية؛ حتى لا يتعلق الوليد بواحدة معينة!!
مستويات الاسم وانتقالاته مرتبطة بالمصلحة، الطبيعة الإنسانية، الفطرة التي تمد الإنسان بالكثير من القوة والفطنة للتعامل مع الحياة ولتجاوز صعوباتها وامتحاناتها العسيرة، وربما ليس مفارقة أن يبدأ المستوى الأول – أو الاختيار - للاسم من الحب!([12]): "لم تخبريني عن اسمك" (ص102)، هكذا سيسألها([13])، ولن يسمع جوابها فورا، في ألعاب فنية ممتعة، سيسمعه بعد صفحة: "عائشة"([14])، وهذا الاسم هو محفز اختيار البطل لاسمه الثاني أو لاسمه الانتقالي الأول، وإن لم تكن عائشة شخصية محورية في الرواية ولا في حياة البطل، الذي كان يصارع وجوده، إذ كان يعاني من حياة مُرة فُرضت عليه بقسوة مفرطة، عاقبته على ذنوب لم يرتكبها، لقد انشغلت الرواية بهذا، فلم تتفرغ لإعطاء عائشة دورا أكبر، وإن كانت بدورها هذا علامة مضيئة في النص، لذا فإن تأويل اسم عائشة ربما لن يتمدد الى أكثر من كونه اسما له علاقة بالدين الإسلامي، سيكون محفزا للمستوى الأول من اسم البطل، أو إن الاختيار جاء لملائمة اسم داود الديني!! دين الفتاة الظاهر من اسمها جعل البطل يختار اسم داود، الإسلامي، والقريب من المقدس، مثل اسم الفتاة، بل إن الاختيار لم يأتِ من خارج النص، أي من الرؤية التأليفية فحسب، بل جاء من داخل النص، إنه اختيار البطل، الذي يستهدف قبول عائشة ابتداءا([15])، وإمكانية أن يكون محطة في طريق انتقالاته المكانية والإثنية، محطة مناسبة لطريق يوصله الى (بيتا إسرائيل) كما يطلق يهود الفلاشا على أنفسهم، ويؤدي به في نهاية المطاف للهجرة الى إسرائيل.
"هل أذكر اسمي الذي أعرفه؟ أدال؟" (ص103)، الذي سيتبعه تفسير وتحليل البطل: "ستعرف على الفور معنى أن يسمى شخص بإسم جبل أو وادي أو معركة" (ص103)، وربما سيلمح هنا الى شيء ما: "شعرتُ أن الأقدار ... دلتني على أول الطريق، ... داود.. اسمي داود" (ص 104)، أما المستوى الثاني فسينطلق من موقع آخر، "إذن أنت لست ديفيد .. لم تكذب على عائشة فقط. أخرجه موثق الجلسة" (ص105)، الذي هو موظف في بعثة الأمم المتحدة للهجرة، يعمل مع المندوب الأوربي، ويسجل كلام طالبي اللجوء الى بلد ثالث، فهو ذو سلطة ما، وإن كانت محدودة، ثم يفصح النص عن مستويات الاسم، أو انتقالاته: "جملة واحدة نفضت عنه تلك العذوبة في كمشتاتو، وقذفت به بقسوة الى مكتب متنقل في انداغابونا ... تلعثم ديفيد الذي كان داود في أسمرة وقبله أدال في الجبهة" (ص 105)، في الحالة الأولى انتقال، وفي حالات متعددة ندرجها في خانة الحالة الثانية سيكون مستويات، انتقل من أدال – مجهول النسب – الى داود، الاسم الديني المقارن لعائشة، وأول الطريق الى إسرائيل، في مفارقة أن لا يكون أول الطريق الى حل مشكلته، ولكن ثمة محطة طلب لجوء الى بلد ثالث – البلد الأم اريتريا وبلد اللجوء إثيوبيا – تستوجب مستوى آخر للاسم، ولأن البلد الثالث المرغوب فيه مسيحي سيكون الاسم ديفيد!!
لا تتمكن الروايات من استثمار الواقع البسيط، الحياة العادية، وقد استهلكت مواضيع الصراع الطبقي والفقر والبيروقراطية وهموم العمل، وحتى السرقة والكذب ومهنة بيع اللذة والحروب والصراعات الايديولوجية، الرواية الآن تشتغل في أماكن أخرى، طازجة بكر، تتضمن كثيرا من الإشكاليات الجغرافية والسياسية والتاريخية والهوياتية، وتبعات الحروب، وتعمل على التخلص من مختلف أنواع التعصب، وتهتم بإنسانية الإنسان، هنا سيستثمر حجي جابر جغرافية مفقودة في الأدب العربي، محاطة بإشكالية الانتماء الى العروبة، إثنية أو تجمعا سياسيا ممثلا في الجامعة العربية، فإرتريا الآن ليست عضوا فيها، فضلا عن وجود شرائح اجتماعية وإثنية من غير العرب في ارتريا، هذا الأمر قد يشمل الصومال وجيبوتي وجمهورية جنوب السودان، فقد يكون جديدا تماما، أو يكون نادرا، تناول موضوع سمر البشرة، كما أن روايات حجي جابر تقترح حلا لإشكالية الروائي العربي الذي يحمل جنسية أخرى، الحل هو ليس بالهوية الوطنية، ولا بتحليل الـ (D N A) للمؤلف، وذلك لأن التعامل يتم مع منتج إبداعي، لا مع (الدي إن أي) ولا مع الهوية التعريفية، في حالتي الروائيين: أمين معلوف لبناني الأصل، والطاهر بن جلون مغربي الأصل، مثلا، اللذين يكتبان بالفرنسية، وتترجم رواياتهما فنقرأها بالعربية، فقد لا تنطبق عليهما صفة روائيين عربيين، بينما تنطبق على حجي جابر صفة روائي عربي، حتى وإن كانت دولته غير عربية، وفق خيارها السياسي، لأن التعامل هنا مع منتج لغوي، لا مع جينات وراثية ولا مع هويات سياسية.
يختار حجي جابر بطلا لروايته يتمتع بما يجعله شخصية روائية مدهشة، فهو أسمر البشرة، أو أسود، وربما يطلق عليه البعض تلك المفردة البغيضة: عبد، ولن يكتفي بذلك الهم القاسي، الذي ربما سيكون بسيطا في محيط متجانس، لكنه يعاني من ذنب لم يرتكبه، انه (فري قدلي)، أو أحد أبناء ثمار النضال، الذين هم أبناء غير شرعيين، أنتجتهم علاقات عابرة حصلت في جبهات القتال، ومع ذلك وفق سياقات معينة، واقعية لا سردية، ثمة استيعاب ما لما سبق، إذ يتم إدخال أبناء النضال الى مدرسة الثورة وإعدادهم ليكونوا مستقبل الثورة، لكن مفارقة ما، مؤلمة، ومؤذية، وقاتلة، بقدر ما هي جميلة ورقيقة وعذبة وحيوية، هذه المفارقة التي ستنقله من مجتمعه المتجانس، الى مجتمع آخر، يجعله يدرك صعوبة تشظيات هويته، المفارقة تكون في أن سبب أهوال حياته، التي ستؤدي به الى الموت العبثي، هي قصة حب، تجمعه بعائشة الارترية، التي بسببها ترك مدرسة الثورة، فعوقب بالسجن في الوادي الأزرق، وهروبه منه الى معسكر انداغابونا في إثيوبيا التابع للأمم المتحدة، وحين لم يحصل على لجوء الى بلد أوربي، هرب الى غوندار، منطقة أخرى في إثيوبيا، ربما هو مخيم في أديس أبابا، مخيم ليهود الفلاشا، الذين لا يرضون بهذا الاسم ويطلقون على أنفسهم اسم بيتا إسرائيل.
يضطر أدال الى التحول الى داويت، مرورا بداود وديفيد، ويضطر الى ادعاء اليهودية، للهجرة الى إسرائيل، ترافقه الشكوك، والصدف الغريبة، وصولا الى هروبه من مسكنه مع يهود الفلاشا، وقتله برصاصة جندي إسرائيلي من أصل إثيوبي بالخطأ! كان الجنود الإسرائيليون يطاردون شخصا ما وينادون عليه، فهرب داويت لاعتقاده بأنهم يقصدونه، فأردته رصاصة الشك قتيلا. هذه الإشكاليات: في الهوية والجغرافيات والصعوبات الحياتية، التي لا تفتقد الى أسئلة الوجود، هذه الإشكاليات جديدة أو فريدة في الرواية العربية، لكنها ليست كذلك فقط، بل حظيت بكتابة فنية ممتعة، استثمرت آليات الحداثة في التأليف الروائي، وربما بالاستعانة بالفن السينمائي، أكثر من نصف الرواية يقوم على الاسترجاع، وعدد من فصولها يستثمر المونتاج، فيتقطع الى أجزاء منفصلة، تتصل بفصول أو أجزاء أخرى من فصول، ذلك ما يكثف تمسك القارئ بالنص واستمتاعه به. تخلصت الرواية من الأثقال اللغوية والفلسفية، التي تندرج تحت تصنيف الاستعراضات المعرفية للمؤلف، فذلك من مخلفات زمن ما ورواياته.
المعرفة الآن متاحة للجميع، بيسر شديد، لذا فإن الرواية المعاصرة إذ تشعر بعدم مناسبة الاستعراضات المعرفية لها، تعمل على إبداعات أخرى تتعلق بالصنعة، هنا في (رغوة سوداء) لا يكون الحكي كله موجها لقارئ خارجي – وهو شيء طبيعي – بل انه سيقطع ليكون بعضه لشخوص داخل النص، حكي موجه نحو الداخل سيتلقاه الخارج حتما!! يحكي ديفيد قصة حبه لعائشة الى مندوب الأمم المتحدة، فيعرفها القارئ الخارجي، وسيحكي حكايات أخرى للباحثة النفسية الفلسطينية سارة، ويحكي قصصا أخرى لرفيقيه من يهود الفلاشا في السكن في القدس، وربما سيحكي ليعقوب السوداني اللاجئ في إسرائيل، وهذه الشخصيات والمواضيع والجغرافيات نادرة أو جديدة على الرواية العربية، كما أن هذا الحكي لن يشفع بتقديس تأليفي، حين يعتبر المؤلف نفسه صادقا، ويؤكد ذلك، ويصر عليه، في شعور متفاقم بالأنا، وبوهم الاستعلاء على المتلقي.
يورد حجي جابر نتفا نقدية، دون الإثقال بالتنظير وادعاء المعرفة وتشظي فنون التأليف، إن بطله سيفكر، وهو يحاور نفسه عن مدى الصدق، يتساءل عن الحدود بين الأحداث الواقعية التي يحكيها، وبين تلك الخيالية، أو التي يختلقها لمناسبة الظرف، يا للدهشة، استثمار الحكي هذا لظرف ما، لكل مقام مقال كما في المثل التراثي، هو يختلق قصة ما، أو يضيف أو يغير في قصة أخرى، حتى ينال رضا المستمع في الرواية، وربما هو يعمل، أو إن ذلك سيأتي عفويا، على إشباع فضول القارئ، وهو يحاول استكناه تلك الحكايات، فمازالت قراءة الرواية من منظار الحقائق سائدة، وربما غالبة، فالمؤلف هنا يبعث برسالة كون الرواية جنسا تخييليا، تخييلي فحسب، فيا أيها القارئ المحترم لا تبحث عن الصدق فيها، عليك أن تستمتع، مثلما كانت عائشة تفعل: "أنا أكذب وهي تستمتع"، في: "تواطؤ جميل" (ص132)، هو عينه ميثاق القراءة الضمني، يقول المؤلف: لي حرية الحكي، وللقارئ حرية التلقي، والمعيار الأهم في هذه العلاقة بين القارئ والمؤلف هو المتعة.
حساسية الكتابة السردية هذه توفرت أيضا في روايته السابقة (لعبة المغزل)، والتي طابقت بين النسيج اليدوي والنسيج السردي، وحكي الحكايات الذي توارثته بطلة الرواية من جدتها، وتسببت – في الروايتين – بإنتاج قصص كثيرة، ربما لا يكون مالكها وسيدها دائما (ص212)، ولم تتخلص (رغوة سوداء) تماما من هفوات سردية وأخطاء لغوية ونحوية قليلة، على الرغم من وجود عدد غير قليل ممن قرؤوا النص وراجعوه وقدموا ملاحظاتهم للمؤلف، شكرهم بالأسماء في الصفحات (253- 254)، كما أنها – مثل كثير من الروايات العربية – لم تستخدم أقواس التنصيص بشكل صحيح.
إن تقسيم الرواية الى فصول قصيرة مرقمة، وتقسيم الفصول الى أجزاء بواسطة فواصل إخراجية، أضاف اليها لمسات فنية جميلة، ولا يقلل من جماليات صنعتها كونها رواية سيرة شخصية، أو رواية خيالية تماما، لذا فإن الدور الذي قام به الفصل (29) هو دور ثانوي، أو مما يتعلق بما هو خارج النص، فبدا ملصقا بالرواية، ولم ينفعها فنيا؛ لأنه توثيقي، مؤرخ، ومذيل بإهداء الى شاب ارتري، سيجعل القارئ يستبدله ببطل الرواية، أما في حالة رواية (لا تقولي انك خائفة)، فقد أوضح المؤلف كون روايته سيرة شخصية لفتاة صومالية فقدت حياتها في طريق هجرتها الى أوربا، واستمد معلوماته من أهلها، في نصوص ليست من صلب الرواية.
الهوامش:
([1]) الشاهدة والزنجي، مهدي عيسى الصقر، دار الشؤون الثقافية العامة- بغداد، ط1، 1987.
([2]) سمراويت، حجي جابر، المركز الثقافي العربي، ط2، 2012.
([3]) مرسى فاطمة، حجي جابر، المركز الثقافي العربي، 2013.
([4]) لعبة المغزل، حجي جابر، المركز الثقافي العربي، 2015.
([5]) رغوة سوداء، حجي جابر، دار التنوير، 2018.
([6]) النغل: اسم يطلق على ثمرة العلاقة غير الشرعية بين الذكر والأنثى، وقد تكون من أقسى الإهانات التي توجه الى الانسان في المجتمع، ولكن، على الفرد والمجتمع أن يتساءلا عن ذنب هذا المخلوق!! الذي سيعامله المجتمع باحتقار وعدم ثقة، وسوف تلصق به كثير من الأوصاف السيئة!!
([7]) يبدو أن الفصل (29) ملصقا بالرواية، لا يبدو قطعة منها، لأسباب عديدة، منها انه توثيقي، وانه ذو علاقة مباشرة بما هو خارج النص.
([8]) هي أجزاء بلا عناوين أو أرقام، إنها مفصولة عن بعضها بالنجمة الإخراجية.
([9]) غالبا ما تحتوي روايات حجي جابر على ألعاب فنية.
([10]) فصول الرواية كلها قصيرة، أو قصيرة نسبيا.
([11]) لا تقولي انك خائفة، جوزبّه كاتوتسيلا، ترجمها عن الايطالية: معاوية عبد المجيد، دار المتوسط، 2016.
([12]) ربما ثمة اهتمام فني بوجود قصة الحب في الرواية، وإضافة زخارف اليها.
([13]) بوضع السؤال بين أقواس التنصيص، والأفضل لو وضع بعد الشرطة.
([14]) أيضا بين أقواس التنصيص التي تستخدم أحيانا في الحوارات الخارجية والداخلية، فيبدو الإخراج قاصرا عن إلباس النص ملابسه المناسبة.
([15]) ثمة دلالة ضمنية هنا، موجعة، تشير الى فشل الحب في أن يكون حلا لبعض معضلات الحياة، ماذا لو أنقذ الحب داود؟ ماذا لو اختارت الرواية أن تكون قصة حب، بين هذا الـ (فري قدلي) وبين عائشة، أن توافق أمها على زواجها به، سرديا ستفتقد الرواية الى كثير من محفزات تميزها وقراءتها، وواقعيا قد يكون الأمر هكذا، الحب لا يتمكن من حل مشكلات الحياة، إلا في القصص الرومانسية!