فى هذه الرواية الذكية القصيرة خدعة قاص ماكر، يمتلك ناصية السرد، ويوظفها لخدمة فكرته: يوهمك طوال الوقت بأن الرواية عن لقاء عاطفى منتظر، فيما هى بالأساس عمن يفسدون الحلم، يحدثك فى سطوره عن رجل يراقب ما يعتبره مشهدا شهوانيا، بينما لن نشعر إلا فى النهاية بعيون مراقبين آخرين، لهم أسلاف فى كل حقبة، ويظهرون دائما فى الوقت الذى يختارونه، الحكاية ظاهرها عاطفى، قصة حب، ومتعة جسدية بين رجل وامرأة، بينما جوهرها موقف مما كان وجرى، وصراع دفين بين الفراشة والقط، عبر حياة الوطن كلها.
"ما رآه سامى يعقوب" من تأليف عزت القمحاوى، ومن إصدارات المصرية اللبنانية، لا تبوح بأسرارها إلا فى السطور الأخيرة، «نوفيللا» تنطلق من لحظة انتظار، فى اليوم التالى للحظة انتصار عارمة، سامى يعقوب بطل الحكاية ينتظر تليفونا من حبيبته فريدة، ليذهب لأول مرة إلى شقتها فى إمبابة، فى اليوم التالى لصعود مصر إلى كأس العالم، بعد المباراة التاريخية ضد الكونغو فى 2017، سيكون هذا الانتظار مناسبة لكى نعرف حكاية سامى وأسرته بأكملها، بينما هو يستغل الانتظار فى استخدام الموبايل، لتصوير لقاء حميم بين قط وقطة، أراد سامى أن ينقل إلى حبيبته صورا وفيديوهات تمهد لمداعبات قادمة.
يبدو الموقف بسيطا جدا، ولكن سرعان ما يحفر الكاتب الأريب فى كل الاتجاهات، لنكتشف معه طبقات أعمق فى هذا البناء حول شخصية سامى الخاصة، وحياته مع أسرته فى جاردن سيتى، علاقته مع فريدة ابنة امبابة، والد سامى المهندس الذى أخذه الرجال الأشداء، ومات فى السجن، لمجرد أنه كسب قضية، استرد بها شرف والده الوزير السابق، وحكم له بالاحتفال بعيد ميلاد هذا الوزير الأب فى ميدان التحرير، والدة سامى الألمانية التى عادت إلى بلدها مع يوسف شقيق سامى، ثم عودة يوسف ليشهد موقعة الجمل، ويموت بنيران القناصة.
ينسج عزت القمحاوى حكايته على مهل، بحيث يتداخل الخاص مع العام، بطله سامى عاشق الفراشات، صاحب الابتسامة الراسخة، والذى يؤمن بأن الحياة مجرد عرض، أكثر مما هى واقع، يصدمه الواقع بموت الأب والشقيق، ولكنه يستعيد الحياة مع فريدة، لقاءاتهما الحميمة توصف مثل عرض ممتع وخاص، من الأمور الدالة أن يعجب بها سامى فى عزاء زوجها، فتولد حياته من قلب الموت.
يمكن فهم اللعبة السردية كلها بأنها صراع بين الواقع والعرض، بين لحظات السعادة، ولحظات الحزن، بين القاهر والمقهور، عرض ما جرى من خلال شخصية حساسة ومختلفة؛ مثل سامى يعقوب، ومنح ما يراه فى أحلامه مصداقية التحقق، يمنح النص حيوية بالغة، تدعمها تفصيلات لامعة، والعلاقة بين سامى وفريدة، ولقاءاتهما التى تتحدى العادى والمألوف، بمساندة ومعاونة صديقات فريدة، تبدو كما لو كانت تحديا لعالم قديم، قفزة هائلة بين جاردن سيتى وإمبابة، سامى نفسه سيغير من طابع الشقة التى ورثها عن والده، سيحاول أن يحررها من حضور الرجال العجائز الذين كانوا يساندون والد سامى فى قضيته الطويلة.
فى كل جزء من النص يظهر رجال أشداء يفسدون العرض، سواء مع والد سامى، أو مع ما حدث مع يوسف فى ميدان التحرير، أو عندما ظهر رجال ممشوقون يصادرون الموبايل الذى استخدمه سامى فى تصوير مضاجعة القطين، يتحول العرض من جديد إلى واقع خشن، ويصبح المراقب نفسه تحت المراقبة، وتظهر القطط كحيوانات شرسة تعود إلى أصلها فى أول فرصة، لا تتورع عن فعل أى شىء فى سبيل متعتها الشخصية.
"ما رآه سامى يعقوب" يتحول دوما من عرض وحلم إلى كابوس واقعى، الشرنقة التى يخرج منها، هناك دوما من يعيده إليها، نكتشف أن الحكاية لا تخص فردا، ولكنها ربما تخص جيلا ووطنا بأكمله، يقفز فوق الحاجز، فيكتشف حواجز جديدة، لا نهاية فيما تراه الرواية من صراع الحلم والواقع، ومن معركة الفراشات والقطط.
جريدة الشروق المصرية