أعلنت حكومة اللواء عمر البشير في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2018، عن رفع أسعار المواد الغذائية وغيرها من الضروريات اليومية. ارتفعت قيمة رغيف الخبز الى أكثر من ثلاثة أضعاف. مارست الحكومة في الخرطوم اعتباراً من عام 2013 سياسة تقشف صارمة، ونفذت منذ عام 2017 خطة ادخار تحت إشراف صندوق النقد الدولي (IWF). ارتفعت في كانون الأول/ ديسمبر 2018 أسعار المواد الغذائية الأساسية والبنزين، وارتفع معدل التضخم إلى 70 في المئة. في حين كان الجنيه السوداني عام 2009 بالكاد يعادل نصف دولار، فإن قيمته في نهاية عام 2018 وصلت الى 2 سنت فقط .
جاءت الاحتجاجات الأولى في أكبر مدن البلاد في الصباح بعد زيادة سعر الخبز. كانت شعارات الشعب محددة وواضحة: "تسقط بس"، "حرية، سلام وعدالة!" ، "الثورة خيار الشعب"، "الشعب يريد اسقاط النظام"، أو ببساطة "ثورة". لم تتلاش منذ الربيع العربي عام 2011، الاحتجاجات في السودان أبدًا، لكنها في الغالب ظلت محدودة محلياً، وعادة ما كان يتم قمعها بسرعة. لكن الحركة "الثورية" التي ولدت في كانون الأول/ ديسمبر 2018 – ووضعت هدفها الإطاحة بالنظام – سرعان ما انتشرت في البلد بأكمله.
لعب منذ البداية، "تحالف قوى الحرية والتغيير" (ALC) دورًا محوريًا في الاحتجاجات التي أدت إلى الإطاحة بالبشير في 11 نيسان/ أبريل. هذا التحالف هو المنظمة اللاحقة "للتحالف الوطني الديمقراطي" (AND) الذي كان قد تأسس عام 1989. احتشدت في التحالف الوطني الديمقراطي، الجماعات والقوى التي دفعها البشير الى المنفى بعد توليه السلطة في عام 1989 من خلال انقلاب عسكري. قام بتنظيم ذلك الانقلاب رجل الدين والسياسي حسن الترابي، الذي توفي في عام 2016، في ذلك الوقت كان وزيراً للعدل والشؤون الخارجية، وزعيم الجبهة الإسلامية القومية (NIF)، وهو حزب يدور في فلك جماعة الإخوان المسلمين. ونتيجة لذلك، أصبح الإسلاميون المتحالفون مع البشير من حزب المؤتمر الشعبي الذي انبثق عن انقسام الجبهة الإسلامية القومية في نهاية التسعينيات، هدفاً لحركة الاحتجاج. هكذا في نهاية الأسبوع الأخير من شهر نيسان/ أبريل، عندما هتف المتظاهرون "لا مكان للإسلاميين". اعلن حزب المؤتمر الشعبي إن المبنى الذي عقد أعضاؤه اجتماعًا فيه تعرض لهجوم وأصيب 64 شخ
يضم تحالف قوى الحرية والتغيير (ALC)، من جانبه اليوم العديد من المنظمات، بما في ذلك "تجمع المهنيين السودانيين" (SPA) النشط للغاية، والذي يمثل ثماني مجموعات مهنية، بما في ذلك المهندسين والمحامين والأطباء والأساتذة. وعلى عكس النقابات الرسمية، لم يتم تمويل تجمع المهنيين السودانيين (SPA) من قبل النظام. شارك تجمع النقابيين في الاحتجاجات ضد زيادة أسعار الخبز، وانضمت تحالفات وأحزاب معارضة أخرى إلى مطالبه: مثل قوى الاجماع الوطني (NCF)، وهو تحالف للأحزاب اليسارية، بما في ذلك الحزب الشيوعي. كما يلعب تحالف نداء السودان ("نداء السودان") دورًا، بما في ذلك حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي، الذي شغل منصب رئيس الوزراء في الفترة الديمقراطية القصيرة بين عامي 1985 و1989.
تبنت في الأول من كانون الثاني/ يناير قوى الحرية والتغيير مطالب تجمع المهنيين السودانيين من خلال "إعلان من أجل الحرية والتغيير". ينص البرنامج السياسي المبين في هذا النص على إنشاء حكومة انتقالية مدنية ديمقراطية لمدة أربع سنوات[i] وفقًا لذلك، لم توافق قوى الحرية والتغيير على خطوة الجيش عندما قام بحل البرلمان في 11 نيسان/ أبريل واعلن عن تشكيل مجلس عسكري انتقالي لمدة عامين. لقد رأت فيه مجرد "انقلاب داخل النظام" وكررت مطالبها بالانتقال الحقيقي إلى الديمقراطية. مع استمرار الآلاف من الناس في التجمع أمام مقر القوات المسلحة، قدم المجلس العسكري تنازلات. واضطر قائده، اللواء عوض بن عوف، إلى الاستقالة في 12 نيسان/ أبريل. وعلى نفس الخطى تبعه بالاستقالة صلاح غوش، رئيس جهاز الأمن و المخابرات (Niss) القوي. اتفق في نهاية شهر نيسان/ أبريل، الجانبان على تشكيل مجلس انتقالي مشترك، لكن تقاسم السلطة بين الجيش والمدنيين ما زال مثيراً للجدل.
يمكن معرفة أسباب الثورة السودانية من الويلات التي تسببت فيها 30 سنة من الديكتاتورية العسكرية الإسلامية في عهد البشير. شهدت البلاد منذ انقلاب عام 1989 تدهورا في العديد من المجالات. لقد تم بعد الانقلاب حظر الأحزاب المستقلة والنقابات غير الحكومية. ومع ذلك، ظلوا تحت الأرض أو في المنفى نشيطين للغاية (خاصة في فرنسا وبريطانيا العظمى). اضافة الى ذلك طال القمع الأوساط الفكرية ووسائل الإعلام، كما أُحكمت السيطرة على القوات المسلحة من خلال العديد من موجات التطهير. يضاف إلى ذلك الاستخدام الوحشي المتزايد للشريعة. وزاد البشير من مفاقمة القانون الجنائي، الذي يرجع تاريخه إلى زمن ديكتاتورية الرئيس جعفر النميري (1969-1985). حيث ينص القانون السوداني الحالي على (الحدود)، عقوبة بدنية شديدة وقانونيا لا يمكن تخفيفها، لأن مرجعيتها في القرآن أو في السنة. وتشمل هذه بتر الأطراف في حالة السرقة، وحكم الإعدام على "الزنادقة" والتمييز ضد النساء وعلى غير المسلمين، الذين يشكلون ما لا يقل عن ثلث السكان السودانيين، وخاصة أتباع الديانات (الاحيائية) الروحانية في جنوب البلاد.
تقوم قوى الحرية والتغيير الآن بحملة من أجل جمعية تأسيسية لإنشاء نظام قانوني "محايد" و"وطني" (البيانان 15 و18 نيسان/ أبريل 2019). يهدف تكوينها (الجمعية التأسيسية) إلى تعكس التنوع الثقافي والعرقي والديني في السودان، وتلبية حصة النساء التي عليها ان لا تقل عن 40 في المائة.
كان الاقتصاد أيضًا تحت حكم البشير الاستبدادي في الحضيض. حيث فقدت العملة الوطنية المزيد والمزيد من قيمتها، ونما العجز في الموازنة، وفي نهاية المطاف اضطرت الحكومة الى اللجوء إلى مقدمي القروض الدوليين. اعتمد السودان حتى انفصال جنوب السودان في عام 2011، مثل العديد من الدول العربية، على الاقتصاد الريعي غير المنتج، الذي يعيش في المقام الأول على عائدات النفط. وقد قدمت هذه طفرة اقتصادية قصيرة الأجل بين عامي 2000 و 2008. دخلت في عام 2008 شركات النفط من دول الخليج وآسيا الى البلد، وفي أوج الطفرة، نما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 11.5 في المائة: وفقًا للبنك الدولي حقق قطاع النفط في هذا العام 21.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. لكن ومع ذلك فإن الأرباح لم يستفد منها إلا اقلية أوليغارشية صغيرة، ولم يصل منها اي شيء الى باقي السكان. بلغ منذ عام 2011 معدل البطالة في المتوسط 18 في المائة، ووصل بين الشباب الى أكثر من 30 في المائة، وبحدود 60 في المائة بين الشابات. يعيش ما يقرب من نصف السودانيين تحت خط الفقر. [ii]
بالإضافة إلى هذه الصعوبات الاقتصادية، انغمست البلاد في العديد من الصراعات الدموية على مدى السنوات الأربعين الماضية. شنت الحكومة في الخرطوم من عام 1983 إلى عام 2005، حربًا ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان (SPLM) والجيش الشعبي لتحرير السودان (SPLA) تحت قيادة جون قرنق في جنوب السودان. اضطر 4 ملايين شخص إلى الفرار وقتل أكثر من 2 مليون شخص من جنوب السودان. كان قرنق، مثل المعارضة الديمقراطية في الشمال، مقتنعًا بأن الدولة الوطنية العلمانية والموحدة هي وحدها القادرة على تقديم حل للنزاع. توفي جون قرنق في عام 2005 بعد أشهر قليلة من توقيع معاهدة السلام مع حكومة الخرطوم، بحادث تحطم طائرة هليكوبتر.
لم يدم هذا الاتفاق طويلاً: حيث قرر سلفا كير الذي جاء بعد قرنق، انفصال الجنوب. بعد الاستفتاء في كانون الثاني/ يناير 2011، الذي صوت فيه 98.83 في المئة من الناخبين من أجل الاستقلال[iii]، تم إعلان جمهورية جنوب السودان. هذا التقسيم للبلاد، الذي روجت الولايات المتحدة الأمريكية له بقوة، أثار شعور الإذلال وخيبة الأمل في شمال السودان. ومع ذلك، تعترف ضمنياً قوى الحرية والتغيير بتقسيم البلد. وتدعو في إعلانها "اعلان الحرية والتغيير"، إلى الاعتراف بحقوق اللاجئين وتشدد على أهمية العلاقات الجيدة مع جنوب السودان، على أساس الاحترام المتبادل والسعي لتحقيق المصالح المشتركة.
يجب على المرء أيضاً، كما هو الحال في قضية النزاع مع الجنوب، اعتبار حرب دارفور "قضية وطنية". فالأسباب الكامنة لهذه الحرب الأهلية والتي شنتها الجماعات المتمردة في إقليم دارفور بغرب السودان ضد الحكومة المركزية وميليشياتها المحلية (الجنجويد)، هو في الاِهمال المعروف للمنطقة من قبل النظام. أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في عامي 2009 و2010، مذكرتي توقيف بحق البشير بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية؛ وكذلك ايضاً ارتكاب إبادة جماعية في دارفور في الفترة ما بين 2003-2008. ومع ذلك، فقد أغلق التحقيق في ديسمبر 2014 احتجاجًا على تقاعس مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والذي مثل انتصاراً للدكتاتور البشير.
ينتشر مع الحركة الثورية الأخيرة شعور بالتضامن الوطني في جميع أنحاء البلاد. وهو ما عبر عنه أحد شعارات المحتجين في العاصمة "كلنا دارفور". ينص "إعلان الحرية والتغيير" الصادر عن قوى الحرية والتغيير على أنه يجب على الحكومة الانتقالية أولاً وقبل كل شيء "معالجة الأسباب العميقة" للحروب الأهلية وضمان حل عادل ومستدام. ومع ذلك ، فإن التدهور السياسي والاقتصادي في البلاد وكذلك النزاعات المسلحة ليست وحدها كافية لشرح كيف جاءت هذه الحركة الجماهيرية في كانون الأول/ ديسمبر 2018. فهي تدين لوجودها ليس فقط لعدم الرضا التلقائي، ولكن أيضًا للذاكرة التاريخية للشعب السوداني، الذي ناضل باستمرار من أجل حريته منذ استقلاله عن بريطانيا العظمى عام 1956.
قادت "ثورة أكتوبر" في عام 1964، إلى سقوط الديكتاتورية العسكرية التي انشأت في عام 1958 بدعم من الحكومة البريطانية لإبراهيم عبود. وبالكاد استمرت الحكومة الديمقراطية خمس سنوات. أطاحت في عام 1985، "ثورة أبريل" بالدكتاتورية العسكرية الإسلامية - للنميري، والتي كانت تعتمد على دعم الولايات المتحدة، وكذلك مصر وليبيا. وأعقب ذلك حكومة ديمقراطية، أوقفت في عام 1989 بالانقلاب العسكري للبشير. كان انتصار الثورات السلمية في عام 1964 وعام 1985 ممكنًا فقط لأن الجيش رفض إطلاق النار على الشعب. وكان هذا هو الحال مرة أخرى في منتصف نيسان/ أبريل من هذا العام.
تستند هذه الاحتجاجات الجماهيرية المترابطة - بما في ذلك الاحتجاجات الحالية - إلى العزيمة السياسية والخبرات من النضال الطبقي للعديد من الفاعلين، من بينهم عمال السكك الحديدية والمزارعين من الجزيرة (وهي ولاية زراعية جنوب شرق الخرطوم)، والاتحاد النسائي السوداني، التي شاركت في تأسيسه الناشطة الاشتراكية والنسوية فاطمة أحمد إبراهيم (1928-2017)، وليس آخراً الحزب الشيوعي. الذي كان منذ تأسيسه في عام 1946 وحتى أواخر الستينيات، واحداً من أقوى الأحزاب في العالم العربي الإسلامي، ولا يزال تأثيره قائماً، حتى لو لعب دورًا ثانويًا من حيث الأرقام. بالإضافة إلى ذلك، هناك فئة أكاديمية مستنيرة، وهو ما يفسر الدور الرائد لتجمع المهنيين السودانيين في الأشهر الأخيرة.
إذا نجحت الثورة السلمية في الحفاظ على اليد العليا، فسوف يستوجب على الحكومة الجديدة تقديم تسوية تاريخية بين الأحزاب التقليدية والحركات الصوفية الدينية والطبقات الحديثة التقدمية في المجتمع. يبدو أن الوضع المحلي مواتياً، حتى لو كانت لا تزال هناك شكوك بشأن الموقف الذي سيتخذه الجيش في النهاية. أن قيام ديمقراطية حقيقية في السودان، ينظر اليها بعين الشك والريبة من قبل العديد من الدول العربية وخاصة في الممالك الخليجية: هناك مخاوف من تأثيرها على زعزعة الاستقرار في مجتمعاتهم الخاصة. كما أن ردود أفعال الدبلوماسيين الغربيين والأمم المتحدة كانت حذرة للغاية. لم يعترف حتى الآن، على حد علمنا، أحد بتحالف قوى الحرية والتغيير بوصفه ممثلا شرعياً للشعب السوداني. وهذا ينطبق أيضًا على روسيا والصين، اللتين حافظتا على علاقات جيدة مع نظام البشير. ليس أمام الحركة الثورية في السودان سوى الاعتماد فقط على قوتها.
/ Mai 2019 LE Monde diplomatique
[i] انظر النص وقائمة الموقعين على www.sudaneseprofessionals.org
[ii] إحصاءات العمل الوطنية 2011 ، المذكورة في "لمحة بيانية للبلد 2017 "، اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة www.uneca.org
[iii] انظر جان بابتيست غالوبين (Jean-Baptiste Gallopin)، "لا راحة في السودان" (Keine Ruhe im Sudan) ، LMd ، حزيران/يونيو 2012