ربما كان المفكر العربي الراحل سلامة كيلة أول من أطلق توصيف "امبريالية" على روسيا البوتينية في التحولات التي حدثت للاتحاد الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه.
وإطلاق توصيف "امبريالية" على النظام الذي أحكم سيطرته في موسكو منذ وصول فلاديمير بوتين الى رأس هرم السلطة هناك ليس توصيفا عبثياً أو اعتباطياً، وليس بالتالي "اتهاماً" أو حكماً رغبوياً عدائياً اطلقه المفكر الراحل على السياسة الدولية التي انتهجها الاتحاد الروسي، بل توصيفاً ينطلق من فهم علمي للنظام الرأسمالي عموماً وللحالة الروسية خصوصاً.
والامبريالية ليست كما يظن البعض، ليست مصطلحاً خشبياً انتهى عصره، بل واقعاً نعيشه بشكل متواصل منذ اكتمل نمو أنظمة رأس المال أواخر القرن التاسع عشر في المراكز التقليدية المعروفة في أوروبا والولايات المتحدة واليابان، وها هو يكتمل في مراكز جديدة تسير على المنوال ذاته رغم اختلاف الظروف التاريخية الذاتية والدولية التي تحيط بتلك المراكز.
يعرّف سلامة كيلة الامبريالية بقوله: "الرأسمالية في تكوينها "الأصلي" هي إمبريالية، حيث أنها حال تسيطر قومياً تنزع مباشرة إلى التوسع العالمي، فليس من الممكن أن تتطور الصناعة وتستقر دون أن تحظى بأسواق كبيرة، وليس من الممكن للرأسمال أن يظل منحصراً في السوق القومي".
ففي تعريف كيلة، إن كل نظام رأسمالي محلي ينحو باتجاه التحول الى مركز امبريالي. فإذا لم تسعفه الظروف الذاتية أو الدولية تحول الى نظام رأسمالي تابع لأحد المراكز الرأسمالية القائمة. وهذا هو حال رأسماليات العالم الثالث.
عند انهيار النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي وبعد تفككه، تحول الاتحاد الروسي الى الرأسمالية. سيطرت مجموعة من المافيات على اقتصاده وبيع القطاع العام بأبخس الأثمان ليتشكل نظام رأسمالي متعثر في زمن يلتسن، نظام اعتمد في اقتصاده على ريع النفط والغاز. سعت الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها المركز الأكثر سطوة في النظام الرأسمالي العالمي إلى تهميش الرأسمالية الروسية الصاعدة وتحويلها الى رأسمالية تابعة، إلا أن التقدم العلمي والصناعي الذي ورثته روسيا عن الاتحاد السوفياتي أسهم في تحويلها الى مركز رأسمالي يسعى الى البحث عن أسواق لسلعه ورؤوس أمواله مثله مثل باقي الامبرياليات، وقد ساعد في ذلك الظرف الدولي الناشيء عن تراجع الدور الأمريكي نتيجة الأزمة المالية التي عصفت بالولايات المتحدة وباقي العالم سنة 2008.
لقد واجه الراحل سلامة كيلة الكثير من الاتهامات وحفلات الردح والتجني فقط لأنه حاول تقديم فهم علمي للتحولات التي أصابت روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وخصوصاً من يساريين توقف عندهم التاريخ عند ستينات القرن الماضي. فتارة يتهمونه باليساري التائب وتارة باليساري المتطرف، وشتان بين يساري تائب ويساري متطرف أن يجتمعا في شخص واحد! في وقت تسعى روسيا البوتينية الى مد نفوذها وانتزاع أسواق لها بالقوة العارية نظرا للقدرة التنافسية الضعيفة لمنتجاتها الصناعية أمام الصناعات المتقدمة في الغرب أو في الصين واليابان. لذلك نجد تدخلاتها في أواسط آسيا في بلدان الاتحاد السوفياتي السابق أو في أوكرانيا أو في سوريا تتسم بالعنف وشن الحروب.
وفي محاولته التسويق لصناعاته الحربية صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنفسه أن قواته جربت أكثر من ستماية نوع جديد من الأسلحة الحديثة في سوريا. وفي نفس السياق، ليس غريباً على امبريالية "بازغة" بهذا التوتر والنزق ان تستعرض كل ما لديها من أسلحة برية وجوية وبحرية بما فيها حاملات الطائرات والصواريخ العابرة في حربها التي شنتها على شعب شبه أعزل في مدن وقرى سوريا، في إطار تثبيت نظام المافيا الأسدية "التابعة".
ربما يمكنني أن أتوقع ما كان سيكتب سلامة كيلة اليوم لو كان بيننا، حول سيطرة الشركات الروسية على مصادر الثروة في سوريا وصراعها غير المعلن مع الوجود الإيراني هناك، وكذلك حول "استئجارها" مرفأ طرطوس لتسعة وأربعين عاما وما تضمنه الاتفاق المعلن الخاص بهذا "الاستئجار"، أو حول الأذرع الأمنية ودورها التي تنشرها روسيا باعتبارها شركات أمنية خاصة في سوريا والسودان وربما في الجزائر وسواها، وحول التعاون والتنسيق الدائم بين روسيا واسرائيل في كل المجالات الأمنية والعسكرية وسواها، ولكم أن تتوقعوا ما هو رأي ذلك اليسار المتكلس الذي حاول تجميل الامبريالية الروسية ردا على سلامة كيلة، بوصفها "دولة بازغة" أو "رأسمالية وطنية" مناوئة للامبريالية! في مقاربتهم لهذا الهجوم الروسي النزق.