ينطلق الناقد في نصه من قصيدة للشاعرة العراقية، ليقول بانزياحها التكثيفي وانشقاقها الشعري عن الشعرية السائدة التي تعتمد النبرة المحلية المتضخّمة والمضادة للفكر التحليلي. ليخلص إلى تعالي شعرية باهرة عبد اللطيف على محدّدات الزمان والمكان والبيئة.

نصّ أنيق يستثير العقل.. الشّعرُ الذي أحبّ

فـلاح حكـمت

 

"إنضباط"

خبّأ في جعبتِهِ

الكاكية

طفلاً كانَ(هُــ)

ونَزَقاً لم يَبُحْ بهِ

ومضى رصيناً

إلى

حروبهم...!

(باهرة عبد اللطيف)

* * *

لا أطيق الشعر، ولا أظنني خلِقتُ لأكون كائناً شعرياً أو حتى مُريداً لأحد أساطين الشعراء: كانت هذه (المقولة) واحدة من الثوابت التي اعتمدتها ركناً ثابتاً مكيناً في حياتي. لم تكن هذه العبارة كناية أو مؤشراً عن رغبة بسيطة في أن نحبّ أو لا نحبّ أشياء كثيرة في هذه الحياة: وردة (الجوري) أو أكلة (الدولمة) أو سيارة (مرسيدس) أو حلوى (الماكنتوش)...؛ بل كان جوهر الموضوع مع (المسألة) الشعرية أعقد بكثير لكونه ينطوي على حيثيات مفاهيمية تختصّ بجوهر الكينونة البشرية ووضع الإنسان في هذه الحياة – تلك الكينونة التي لا أحسب أنّ (الجوري) أو (الدولمة) أو (المرسيدس) أو (الماكنتوش) قادرة على ملامسة تخومها العقلية العليا بمثل ما يمكن للتجربة الشعرية أن تفعل؛ ولكن أي شعرٍ يمكنه أن يفعل هذا؟ هنا مكمن الاشتباك الإشكالي في الموضوع بكامله، ويصلح أن يكون منطلقاً طبيعياً لهذا المبحث الساعي للكشف عن بعض متاهات غابة الشعر الشائكة.

* * *

أخدوعتان شعريتان

الخصيصتان المميزتان في التجربة الشعرية السائدة

الخصيصة الأولى: الشعر صوت ينطق بالنبرة المحلية المتضخّمة

لطالما تساءلت: أين تنشأ الرابطة الأولى التي تشكّلُ جوهر العلاقة بين الكائن البشري وفضاء الشعر في عالمنا العربي بخاصة؟ لو وضعنا في حسابنا أنّ القراءات المنظّمة لم تكن جزءً متأصلاً في برنامج تنشئتنا ونحن لمّا نزل أطفالاً فسيكون أمراً طبيعياً أقرب إلى البداهة المحسومة إذا ماافترضنا أنّ مقاربتنا الشعرية المبكّرة الأولى إنما تبدأ مع المدرسة الإبتدائية ؛ وهنا لا مناص من رصد المشهد المدرسي في بيئتنا العربية.

صُمّمت المدرسة –وكامل المنظومة التعليمية– في بيئتنا العربية لتكون ذراعاً من أذرع أخطبوط يتشكّل من هياكل مؤسساتية (جيش، إعلام موجّه...) يُرادُ لها تعزيز الروابط اللاحمة لمفهوم (الأمة–الدولة) وفقاً لسياقها الذي نشأ في أوربا القرن التاسع عشر، وصار يُعهدُ إلى المدرسة مهمّتان رئيسيتان: تمرير حُزمة من المعلومات (علمية، تأريخية، جغرافية... إلخ) بهيئة مواضعات ناجزة، وترسيخ أنساق المواطنة المفترضة عبر وسائل تناغي العاطفة الوطنية الفجّة الغارقة في تفاصيلها المحلية حتى ليخيّل للمرء أنّ الوطن يرادُ له أن يكون ثقباً أسود منكفئاً على ذاته ومكتفياً بِـ(ذاتويته) التي تشكّلها جملة من العناصر الغارقة في محليتها. الوطن بهذا الوصف أقرب إلى تفرّدية Singularity فيزيائية خالصة منطوية على عالمها الخاص الصلب العصي على التفاعل الخلّاق مع مواطنيه أو مع العالم الواسع الكامن خارج نطاقه.

في بيئة محلية مغلقة على أنساقها القيمية الخاصة (وهي أقرب إلى المشهديات الفلكلورية قصيرة النفس) ليس ثمة ماهو أفضل من الشعر وسيلة تخاطب العاطفة الطفولية غير المهذّبة، ولم يكن القيّمون على شأن التعليم ليغفلوا هذه الخصيصة الشعرية السائدة فراحوا يمعنون في تكريسها عبر مشهديات إستعراضية مقترنة بالوطنية المفترضة (رفع العلم يوم الخميس، الإصطفاف الصباحي اليومي...).

من جانبهم لم يكن المعلّمون سوى أدوات جرى توظيفها (بموجب السطوة الوظيفية الصارمة) في تكريس هذه الرؤية المحلية المتضخمة حتى بات الشعر قرين الفحولة: كان يؤتى بأكثر الطلبة ضخامة في الجسد وغلظة في الصوت ليلقي شعراً وطنياً مفترضاً أمام طوابير التلاميذ المساكين في مشهدية بائسة يراد منها جعل هذا التلميذ الخشن مثالاً نوعياً معيارياً للآخرين، وصرنا نسمع أمثولات شعرية على شاكلة النمط التالي الذي كتبه الرصافي.

لِحَصاها فضلٌ على الشهب

وثراها خير من الذهب

تتمنى السماء لو لبِسَت

حُلّة من طرازها العجب!

كان الجزع يغشاني، والغثيان المرّ يقلب معدتي وأنا أستمع إلى هذه التضخّمات الشعرية المحلية المتورّمة، وصار أمراً مفروغاً لديّ أنّ الشعر قرين الغلظة والقساوة؛ بل وأكاد أقول الجلافة القبلية. ربما يكون الدكتور (صلاح نيازي) هو أفضل من وصف هذه الحالة توصيفاً دقيقاً عندما قال بأنّ الشعر عندنا (والكلمات بعامّة) ليس سوى تمرينات لعضلاتنا اللغوية التي يراد لها أن تتناغم مع متطلبات الفحولة الجسدية ومترتباتها القاسية(1).

لطالما تفكّرتُ، ومنذ وقت مبكّر (وبالتحديد بعد حادثة قاسية حصلت في العراق في يومٍ من أيام كانون الثاني عام 1969): ماهي المسببات الحقيقية التي جعلت لغتنا الشعرية (وغير الشعرية كذلك) مثقلة بهذه الحمولات المتضخمة المقترنة بالولاءات المحلية الضيقة؟ عرفت لاحقاً أنّ الإجابة على مثل هذا التساؤل مهمّة مشتبكة تتطلّبُ عُدّة مفاهيمية ومعرفية (حفريات أنثروبولوجية، مباحث سوسيولوجية، مراجعة تاريخ الأفكار..)، ويمكن أن تمتدّ لتكون مهمّة العمر بكامله.

يحضرني في هذا المقام معلومة مهمّة أوردها الكاتب الألمعي (والتر إيزاكسون) في كتابه عن العالم الفيزيائي (ألبرت آينشتاين) عندما ذكر بأنّ آينشتاين قضى طوراً من صباه في إيطاليا بعيداً عن ألمانيا لكي يتفادى الضرورة المحتّمة التي تلزمه الحصول على الجنسية الألمانية لاستكمال متطلبات حياته اللاحقة(2)، واكتشفت لاحقاً أنّ كلّ العلماء (الفيزيائيين والرياضياتيين بخاصة من الذين أحب) كانوا يتطلّعون لنوع من المواطنة العالمية –بل وحتى الكونية– المتجاوزة لنمط المواطنة المحلية الضيقة، وكان تطلّعهم هذا مشوباً برؤية إنسانية صوفية عميقة، وهنا لن يكون عسيراً التصوّر إلى أي مدى كنت أشعر بالإبتئاس المتعاظم من كلّ الأنساق التي تعزّز فكرة المواطنة المحلية الضيقة وتكرّسها، والشعر –بالطبع وبحسب واقع الحال السائد– في مقدمتها

ثمة أمر لاينبغي إغفاله هنا: كلّ حروبنا هلّل لها الشعر ونفخ في رمادها سواء جاء شعراً عامياً (شعبياً) أو منظوماً أو حتى شعراً يتقنّع بأقنعة الحداثة.

* * *

الخصيصة الثانية: الشعر السائد مضاد للفكر التحليلي

أكاد أسمع تمتمات بعض القرّاء وهُمْ يقرأون عنوان هذه الفقرة: ماللشعر والفكر التحليلي؟ أولم يأتِ الشعر ليكون مضاداً معادلاً للنزعة التحليلية من خلال إعتماده على ثالوث (الخيال، البلاغة، الجرعة العاطفية) الذي يتقاطع مع الفكر التحليلي المميز للممارسة العلمية الصارمة؟. هذه حيثيات تحتاج بعض التفصيل لكونها تقوم على مواضعات مكذوبة تبنّاها وروّج لها بعض المُنافحين عن الشعرية العربية السائدة التي تبدو حلبة متاحة للجميع (حالها في هذا حال الرواية) بصرف النظر عن حيازة العدّة المعرفية والمفاهيمية الرصينة.

جرت العادة السائدة على توزيع الفكر البشري –وفقاً لمنطق اختزالي باهت– إلى جغرافيات مستقلة تلصق الفكر بواحد من التوصيفات السائدة: الفكر الأدبي، الفكر العلمي، الفكر الديني... وقد يكون هذا التوزيع بعض صدى الأطروحات الإختزالية للفلسفة الوضعية التي سادت في القرن التاسع عشر (وضعية أوغست كونت بخاصة). يرى مريدو الشعرية السائدة أنّ الشعر ينتمي لفضاء الفكر الأدبي مع تركيز خاص على عوامل التكثيف وترسيم الصور والاستخدام البلاغي للغة المتداولة إلى جانب توظيف الإيقاع الموسيقي للكلمات كلّما أمكن ذلك.

إنّ القول بوجود جغرافيات فكرية شبيهة بجُزُر معزولة لهو الأخدوعة الكبرى، والأخدوعة الأكبر هو القول بتمايز الأنساق العلمية عن الأدبية: قد يتبدّى الفكر البشري في هيئة منتجات فكرية متمايزة هي مصنّعاته النهائية؛ لكنّ طبيعة الجهد العقلي المبذول في تشكيل تلك المنتجات إنما هي عناصر في نسق فكري تحليلي بالضرورة.

الشعر مسعى فكري بشري يرمي لتحويل التجربة الإنسانية المحلية إلى تجربة عالمية (وحتى كونية) مستخدماً وسائل اللغة المتاحة في هيئة تخليق خوارزمي من الكلمات التي تتشكّل منها صور من التجربة البشرية المتجاوزة لمحدوديات الزمان والمكان والبيئة، والشعر بهذا الوصف لايتمايز عن أي نسق فكري بشري آخر سوى في غائيّته: هو لايسعى لتخليق فهم جديد للوقائع السائدة في الطبيعة بقدر مايسعى لعولمة التجربة البشرية وجعلها متعالية على الحواجز الفيزيائية والسايكولوجية

ثمة قناعة سائدة مفادها أنّ الخيال إنما هو خصيصة مرتبطة بالعقلية الأدبية (والشعرية منها على وجه التحديد )، وتنطوي هذه القناعة على أكذوبة جرت مجرى الأمثولات الراسخة التي لم تخضع (مثل قناعات راسخة كثيرة سواها) لمراجعة تمحيصية دقيقة بشأن ماالمقصود بمفردة (الخيال) من الوجهة الإجرائية؟ ويمضي الأمر ليبلغ مستويات غير مسبوقة من السوء من خلال ربط الفكر التحليلي بالعقلية المفتقرة إلى الخيال، وتلك مغالطة فلسفية شائهة. ليس من نسقٍ فكري بشري في أيّ ميدان كان لم يبدأ بالخيال كنقطة شروع، وثمة الكثير من المصنّفات التي تحكي بتفاصيل مدهشة عن هذه الجزئية (ومنها بعض السير الذاتية لعلماء ورياضياتيين(3).

يسري الحال ذاته مع البلاغة المفترضة في الممارسة الشعرية، وتكمن المغالطة المنطقية هنا في طبيعة البلاغة المفترضة في الجملة الشعرية التي يراد لها أن تكون بلاغة كلمات ؛ في حين أنّ البلاغة المرجوّة من كلّ نسق فكري هي بلاغة الأفكار التي يصعب تحديد معايير إجرائية صارمة لها، ويركن المرء إلى ذائقته الشخصية فحسب لتحديد مستوى البلاغة المقرونة بأي نصّ بصرف النظر عن مرجعيته (نص شعري، نص فلسفي، نص علمي...)، ومن الطبيعي أن تتعاظم المعضلة مع اللغة العربية التي يريد لها مريدوها أن تكون لغة منتفخة عصية على الإستخدام الخوارزمي الهادئ والمعقلن(4).

أما فيما يخصّ الجرعة العاطفية المفترضة في النسق الشعري فيمكن القول أننا –العرب– غالباً مانَصِفُ حضارتنا بأنها حضارة شعرية إمعاناً في تغليب عوامل الإنفعال اللحظوي المميز للشخصية العربية وتكريساً لابتعادنا عن العقلنة التي سادت عصر التنوير الأوربي الذي مهّد لموجات الحداثة – تلك الحداثة التي لم نشارك فيها ولم تكن لنا بصمة مميزة موقّعة عليها.

ساهمت هاتان الأخدوعتان –بالنسبة لي على أقلّ تقدير– في تكريس نزعتي المضادة للشعر ومُريديه، حتى حلّت الواقعة التي قلبت رؤيتي كلها.

* * *

مشهد من صيف بغداد عام 1980

كان الوقت ظهيرة يوم تمّوزي قائظ (23 تموز عام 1980) عندما كنت عائداً من مدرستي الثانوية بعد أن استلمتُ وثيقة موجهة للتجنيد لبيان كوني طالباً ناجحاً من الثانوية في إمتحان البكالوريا العامة. كنت مكتئباً مكفهرّ الروح وأنا أقرأ عنوان الوثيقة الموجّهة للتجنيد، ورحت أتساءل: هل حلّت نهاية عهدنا مع هامش الفردانية والحرية الضئيلتين المتاحتين لنا بسبب كوننا طلّاباً في المدرسة؟ هل سنرتدي الخاكي عمّا قريب؟ من عساه يعلم؟ كم كانت الروح منقبضة في تلك اللحظة.

اتخذت مقعداً لي في حافلة نقل الركّاب العاملة على الخط (72) الواصل بين الباب الشرقي والبلديات، وتصادف أنّ الرجل الجالس بقربي كان يقرأ في كتاب أمامه؛ فما كان مني إلا أن أتابع القراءة معه طلباً للسلوى ونشداناً لطرد مشهد (الخاكي) ورجال التجنيد غلاظ القلوب. كانت العبارة المسطورة في مفتتح أحد فصول الكتاب هي التالية.

مَنْ يشتهِ ولا يفعل يكون وباءً

(وليام بليك، زواج الجنّة والجحيم)

انتبه الرجل إلى أنني أشاطره قراءة الكتاب؛ فراح يبادلني الأحاديث الجميلة حتى بلغت مقصدي؛ فغادرته شاكراً له حسن صنيعه بعد أن كان سبباً في تعريفي بإسم (وليام بليك) الذي سيكون له شأن عظيم في حياتي اللاحقة. الأمر الغريب الذي بعث الدهشة فيّ آنذاك أنّ قراءة عبارة (وليام بليك) جعلتني أتناسى كلّ ما يمتّ بصلة للخاكي وأهله وكأنهما ماكان لهما وجود في الأصل.

أدهشتني عبارة (وليام بليك) إلى الحدّ الذي دفعني لمتابعة أعماله أينما أتيح لي ذلك، وقد وفّرت لي مكتبة المعهد الثقافي البريطاني إمكانية قراءة كتابين باللغة الإنكليزية: الأول هو (زواج الجنة والجحيم)، الكتاب الشعري ذاته الذي كتبه (وليام بليك) والذي قرأت العبارة الأثيرة المستلة منه في الحافلة؛ أما الكتاب الثاني فكان بعنوان (وليام بليك وعصر الثورة )(5) لمؤلفه ذائع الشهرة (جاكوب برونوفسكي).

* * *

الشعر والقيمة الخوارزمية

لو فهمنا الخوارزمية(6) على أساس أنها نمط من الخبرة المضغوطة التي يمكن تمريرها في نسق من الكلمات لعرفنا فرادة عبارة (وليام بليك) وغناها الخوارزمي، وليس الأمر مقصوراً على الشعر جيّد الصنع؛ فثمة رغبة ممضّة لدى الجنس البشري (أو أفراد منه على الأقلّ) في تحويل الخبرات البشرية إلى فضاء المعرفة المشاعية المتاحة للآخرين من خلال تشذيب اللغة وسلخ الزوائد عنها ورفعها إلى مصاف خبرة تجريدية (معزولة عن المحدّدات المحلية والزمانية والمكانية) وعلى الشاكلة ذاتها التي تفعلها الأنساق الرياضياتية مع الخبرات الفيزيائية البشرية، وأرى أنّ مسعى (لودفيغ فتغنشتاين) في كتابه الأشهر (أطروحة منطقية–فلسفية) (7) في بيان المحدوديات التي ينطوي عليها كلّ نسق لغوي يمكن أن يساعد في تشكيل لغة عالمية تتأسس على قاعدة مواضعاتية من الخوارزميات. إنّ هذا المسعى النبيل –كما أرى– هو مسعى شبيه بما ينبغي أن يفعله الشعر الجيّد: خورزمة التجربة البشرية وتنطيقها في إطار لغوي صالح لرفعها إلى مصاف التجربة العالمية، أو بعبارة أخرى: نقل (المحلي) إلى (العالمي) بواسطة رافعة لغوية مناسبة وقادرة على تمرير الصور والأفكار في ترتيب خوارزمي ملائم لمتطلّبات عولمة التجربة الإنسانية وإشتراطاتها الصارمة.

* * *

حصيلة ختامية:

ماالذي فعلته باهرة عبد اللطيف؟

قد يتساءل الكثيرون (وهم محقون في تساؤلهم): علامَ وضعتُ النصّ الشعري للأستاذة (باهرة عبد اللطيف) في مقدّمة النص؟ أقول بوضوح: كانت هذه الأطروحة المطوّلة بعض الشيء عن الشعر تمهيداً فكرياً لكي أقول بأنني لم أعثر على نصّ شعري (أو حتى عبارة شعرية) حتى اليوم يمتلك قدرة مقاربة العبارة الشعرية التي خلقها (وليام بليك) سوى في هذا العبارات الشعرية التي كتبتها (باهرة عبد اللطيف) والتي تستحقّ خلع توصيف (الخوارزمية الشعرية) عليها بامتياز: نصّ قصير أقرب إلى البرق الشعري (أو الصورة الشعرية الخالصة Imagism بمفهوم إزرا باوند، متعالٍ على محدّدات الزمان والمكان والبيئة، ينطوي على خبرة خوارزمية شديدة التكثيف وعظيمة القدرة في تحفيز التخييل العقلي من غير حمولة عاطفية زائدة تتراقص على وقع مؤثرات فيزيائية (موسيقى مصطنعة، مسالك لغوية حلزونية، متاهات ملتفّة تتوسّل خلفيات فكرية متموضعة في كهوف لاهوتية أو دهاليز متخفية في أقنعة لغوية ”على طريقة إليوت”)، وكلّ هذا الجمال الخوارزمي يأتيك في أناقة صادمة.

هذا هو الشعر الذي أحب!

* * *

الهوامش

(1) يمكن للقارئ الشغوف الإستزادة من هذه الموضوعة بمراجعة كتاب السيرة الذاتية للدكتور صلاح نيازي والمنشور بعنوان (غصن مطعّم في شجرة غريبة).

(2) يمكن الرجوع إلى كتاب والتر إيزاكسون Walter Isaacson الموسوم (آينشتاين: حياته وعالمه) وهو مترجم إلى العربية، ويمكن أيضاً لمن يرغب في رؤية هذا الكتاب بهيئة سلسلة مشهديات درامية متابعة الحلقات الموسومة (العبقري) والتي أخرجها المخرج العالمي (رون هاورد) وعرضتها قنوات تلفازية عدة (منها ناشيونال جيوغرافيك).

(3) يمكن، على سبيل المثال فحسب، مراجعة الكتاب الموسوم: The Worlds of M.C. Escher: Nature, Science, and Imagination لمؤلفه David Steel والمنشور عام 2015

(4) يعدّ كتاب (The Philosophy of Rhetoric) لمؤلفه I. A. Richards

أحد المرجعيات الكلاسيكية في هذا الميدان، والكتاب مترجم إلى العربية ترجمة ممتازة أنجزها الأستاذ (سعيد الغانمي).

(5) عنوان الكتاب باللغة الإنكليزية هو: William Blake and the Age of Revolution

(6) الخوارزمية المقصودة هنا، وكما يكشف تعريفها المثبّت في متن النص، هي غير الخوارزميات الحاسوبية وإن كانت تتشارك معها في خصيصة المعرفة المنمّطة التي تستخدم نظاماً رمزياً محدّداً (7) Tractatus – Logico Philosophicus