النبوءة:
في منتصف التسعينات لم يكن اكتشاف الصورة الهولوجرامية قد أكمل عقده الثالث، لكنني عندما كنت أجلس في كافتيريا الهناجر مع بعض الأصدقاء، جاء النقاش إلى مستقبل المسرح فقلت بثقة بالغة أن هذا الفن يحتضر ولكنه لم يعلم بذلك بعد، وأنه بينما نتكلم الآن يتم في مكان ما تجهيز القبر الذي سيوارى فيه إلى الأبد، وهذا القبر اسمه “الهولوجرام”!
في ذلك الوقت بدت لي تلك النتيجة منطقية للغاية، فالهولوجرام قادم لانتزاع كل ما يخص المسرح، وكل ما كان يجعله -لعشرات القرون- فنا قادرا على البقاء، أي تلك الشيئية “الطارئة” التي تميز الممارسة المسرحية بداية من تقديم الجسد الإنساني بوصفه شيئا أي موضوعا حسيا متعينا، مرورا بإخضاعه إلى أطر حدثية قد تثبت أو تنفي هذه الشيئية، ونهاية بتلك الكتل أو الأشياء المتعينة التي توالي غزو خشبة المسرح والانسحاب منها طوال الوقت.
وبرغم أن هذا التنبؤ لم يعد يحظى بثقتي منذ فترة طويلة، إلا أنه كان تفكيرا متناغما بصورة جذابة مع النبرة التبشيرية التي طالتني من خطاب ما بعد الحداثة حول الواقع الذي سيختفي ويتم ابتلاعه بواسطة “فعاليات التمثيل” تارة؛ و”تقنيات الاستنساخ” تارة أخرى، بيد أن هذا الخطاب نفسه لم يكن حينها يميز جيدا بين فرضيتين أو سؤالين: هل هذه الفعاليات هي إحدى اختراعات صباح البارحة التي استبقت تاريخها الخاص والمغاير والذي يكد الآن في اللحاق بها قبل صباح الغد؟ أم أننا إزاء حالة من التنشيط المتزايد لما كان طوال الوقت أحد الفعاليات المركزية في طريقة بناءنا لعالمنا؟
وبوجه عام فهذه الأسئلة حول مصير المسرح ليست جديدة، ورغم ذلك فلا زال التعاطي معها يحمل طابعا تنبؤيا أكثر منه تحليليا نتيجة ارتكاز أغلب المقاربات على الفرضية الأولى التي ستبدو وكأنها تنهض في مواجهة الواقع الآني وضده على نحو لا يكاد يسمح لنا سوى بعزاء الانتظار المريح الذي سيتكفل وحده بالإجابة عن سؤال “ما الذي سيحدث؟” إن نحن منحنا ما هو حادث بالفعل وقتا كافيا للإفصاح عن نفسه. وفي المقابل فإن الفرضية الثانية ستبدو وكأنها تردنا باستمرار إلى الواقع الذي نعرفه وتفتح اقواسا للتأمل؛ إن لم يكن للتحليل أيضا؛ حول أوضاعه وتوازناته الحالية واحتمالاتها القائمة، والتي تشكل في مجملها قائمة خيارات هذا الواقع في توجهه نحو المستقبل!
وهذا الاتجاه المزدوج والمتعارض دائما الذي تخطه هاتان الفرضيتين هو نفسه الأفق الذي تفتتحه أي نبوءة أمام العالم الذي تصدر عنه، ولكن بما أن المسرح ذاته يكره الانتظار الساكن الذي تتطلبه الفرضية الأولى على نحو جعله ينتصر دائما للنبوءة التي ترد الواقع إلى حيث ينكشف أمام ذاته؛ على حساب تلك التي تنخلع عنه، فعلينا إذا أن نحاول المضي في هذا الاتجاه، وأن نقود تأملاتنا نحو ما يمكن رؤيته وتحليله داخل افق ما هو متوقع.
1- الأفق المفتوح لعلاقات الهولوجرام والمسرح:
بداية ينبغي التمييز بين تقنيتين ترتبطان بفعالية الهولوجرام، فهناك تقنية التسجيل والعرض، والتي تقوم على استنساخ شيء حادث بالفعل وإعادة عرضه، مقابل تقنية تصنيع أو خلق الشيء/ الصورة هولوجراميا عبر أدوات ومعطيات رقمية.
في التقنية الأولى لدينا “صورة شيئية” تستعيد حضور أصل سابق عليها وبالتالي فهو يتمتع أمامها بسلطة مرجعية “الظهور” الذي منحها إمكانية أن تكون حاضرة، وبعبارة أخرى فإن هذه التقنية لا تتحرك إلا في مجال الحضور فحسب.
أما التقنية الثانية فهي تقدم صورة لذلك الذي لم يحدث أو يظهر من قبل وبالتالي فهي أصل ذاتها، بحيث أنه أيا كان ما قد تحيل إليه في الواقع فإن مرجعيتها الوحيدة تقريبا هي طريقة صنعها، بمعنى أن لحظة إنتاج هذه الصورة أو هذا “المكون الشيئي” ستنطوي على تطابق لحظتي الظهور والحضور معا، وهذه التقنية التي يمكن أن نطلق عليها “الهولوجرام الرقمي” يمكن أن تتطور لتصبح “كتابة شيئية” والتي يحتمل –إن ظهرت- أن تذهب إلى منازعة “الكتابة الصوتية” المهيمنة –منذ اختراعها- على الحضارة الإنسانية.
وقد بدأ الهولوجرام منذ فترة في طرح نفسه بوصفه اقتراحا مسرحيا، ولكنه حتى الآن لم يكد يتحول إلى “عنصر مسرحي” يمكن استخدامه لذاته؛ واستعماله الحالي الأكثر غزارة وملاءمة شبه منحصر في خدمة أو تحسين عنصري الملابس والديكور، وربما مع انتشار التقنية وتطوراتها المستمرة التي قد تسهل طرائق تشغيلها وتخفض تكلفتها بحيث تصبح أقل من متوسط التكلفة السائد لتصنيع الملابس والديكور وتخزينهما وصيانتهما؛ فقد تصبح أجهزة الهلولوجرام جزء من التجهيزات الأساسية للمسارح الكبرى مثلها مثل أجهزة الإضاءة والصوت، وبمعنى آخر فقد بتنا في انتظار قليل من التطور الذي قد يطيح تماما بالكتل المادية التي يتكون منها عنصري الديكور والملابس إلى خارج المسرح لتحل محلهما شيئية الهولوجرام.
وهو ما يعني أن الهولوجرام قد بات حاليا يشاطر المسرح في ألعاب الظهور التي يمارسها، بحيث أن ظهور الكتل المادية “المصنعة” على خشبة المسرح لم يعد بالضرورة مرتبط ارتباطا مباشرا بفعل “التصنيع” الإنساني، بكل ما قد يعنيه هذا من انفتاح ألعاب الحضور المسرحية على خيال غير مقيد بمادية تلك الكتل. ولكن هذا التطور الحالي يمر بهدوء بالغ يكاد يكون غير ملحوظ، وربما يظل كذلك، فقانون التكلفة الحدية الذي يحكم بشكل كبير عملية احلال شيئية الهولوجرام محل الكتل المادية لا يعمل بكفاءة سوى في أوعية الإنتاج المسرحي التي تحظى برساميل ضخمة نسبيا، بينما المسرح بطبيعته لا يشترط وعاء إنتاج بعينه نظرا لتمتعه بحالة من المرونة الإنتاجية التي قد تصل في بعض العروض إلى أن تكون تكلفة هذه العناصر المادية قريبة من الصفر.
غير أن قانون التكلفة الحدي الرأسمالي النزعة قد يجد تطبيقا أوسع في التجهيزات المسرحية إذا ما تم حل بعض المشاكل التقنية والتمويلية الخاصة بقدرة الهولوجرام على التسجيل والعرض الكامل للمنتج المسرحي، فهنا ستصبح التكلفة المتغيرة لليلة العرض –أيا كان حجم تمويله الإنتاجي- في أضيق الحدود، بحيث أن كل ليلة عرض إضافية ستعني نسبة متزايدة من صافي الربح. ومدى تأثير هذا التطور مرتبط بالأوعية المسرحية التجارية التي تستجيب للمنطق الرأسمالي.
أما إذا نجح تعاضد الهولوجرام والرقمية في خلق عرض مسرحي هولوجرامي المنشأ والصنع تماما، بحيث نحصل على مجموعة من الكيبوردات التي يكفي أن نضغط عليها لنخلق مشهدا مسرحيا؛ فسنكون عندئذ أمام تطور أكثر إثارة على نحو يستدعي معاودة التأمل في النبوءة التي بدأنا بها، فهل سنكون حينها أمام لحظة اندثار المسرح امام هذا التطور، أم أن الأمر سيتوقف عند ظهور فن درامي جديد مثلما حدث مع تطور تقنيات السينما والفيديو؟
2- من المسرح إلى السينما وإعادة الاشتقاق التقني للعالم الدرامي:
أتخيل أنه مع كل تقدم أحرزته تقنية الهولوجرام في الربع قرن المنصرم؛ كان البعض ينظر إلى ساعته ليحسب كم تبقى من الوقت قبل أن يموت المسرح ويتلاشى تماما بحيث يتحول ما نطلق عليه “العرض المسرحي الحي” إلى مجرد نسخة محفوظة بالكامل في شريط تسجيل هولوجرامي، غير أن التفكير في مستقبل الظاهرة المسرحية بوصفها عرضة لخطر الاندثار ليس جديدا، فربما قبل قرن ونصف تقريبا كان ثمة اشخاص في مكان ما يتناقشون حول مصير المسرح بعد ظهور التصوير السينمائي؛ أو تقنية تسجيل وحفظ الحركة عبر وسيط مادي يمكن من استعادتها وتكرارها بوضوح، وربما لم يكن أحد هؤلاء الأشخاص أكثر ذكاء مني فباغت رفاقه بقوله أن المسرح يحتضر أمام السينما التي تعد الآن لتكون قبره، فما الذي يستطيع المسرح تقديمه سوى سلاسل مرتبة من الانطباعات الحسية التي يشكل تعاقبها عالما دراميا، وهو ما سوف تقدمه السينما بصورة أفضل وأكثر دقة وحساسية، وربما أضاف هذا الشخص –بروح القرن التاسع عشر- أن المسرحيين أمام صناعة السينما سيعانون نفس المصير الرأسمالي للحرفيين.
ومن شبه المؤكد أن هذه الجلسة قد تكررت على نحو ما بعدما تم إضافة شريط الصوت للفيلم، ثم بعد إضافة الكتل اللونية بتحسيناتها المتواصلة.
ولكن بفضل التاريخ، أو على الأقل بفضل النقطة الزمنية التي نحتلها الآن داخله؛ فنحن نعرف جيدا أن كل ما قيل خلال القرن ونصف الماضيين عن اندثار المسرح هو محض هراء، فالسينما بدلا من أن تقصي المسرح اعتمدت عليه كثيرا في تشكيل ذاتها بوصفها فنا، واستعارت منه تقنيات التمثيل والإخراج وطرائق التعامل مع العالم عبر الدراما … إلخ، أي أنها اقترضت منه كافة سلاسل ألعاب الحضور التي كونها لنفسه عبر التاريخ.
أما المسرح فقد راقب صعود السينما بصمت وطور ذاته تحت تأثيرها كلما كان ذلك ممكنا، ثم في اللحظة المناسبة اقتنصها ومعها ربيبها –الفيديو- ليضمهما إلى صندوق أدواته (أو مقتنياته!) بوصفهما عنصرا مسرحيا يمكن استخدامه في تطوير ألعاب الحضور الخاصة به. وبعبارة أخرى فقد قام المسرح بـ “تطويع” فن الصورة المتحركة لصالحه من جهة، مثلما قام بحصد استثماراته في أصولها ومجال حضورها من جهة أخرى.
ولكن حتى إذا كان القرن التاسع عشر –وما تلاه- مخطئا في تنبؤه بالعلاقة المستقبلية بين المسرح والسينما، فهذا لا يعني بالضرورة خطأ من يقدم الآن نبوءة مماثلة حول المصير المنتظر للمسرح مع الهولوجرام، فبرغم أن عقودا كثيرة قد مضت دون أن يتحقق هذا التنبؤ، فمن يدري ما الذي سيحدث في العقد التالي أو الذي يليه، خاصة وأن السينما والفيديو لم ينازعا المسرح إلا في ألعاب حضوره الدرامية فحسب، أي في جانب واحد من جوانب ماهية الظاهرة المسرحية، وهو نزاع انتهى إلى استحداث اشتقاقات درامية استخدمت لصالح تطور كل هذه الفنون بنسب متفاوتة.
ولذلك ربما كان علينا أن نتوقف في التأملات التالية امام ماهية الظاهرة المسرحية وطبيعة علاقتها بعالمها.
3- ألعاب الظهور والعطاء الاجتماعي للظاهرة المسرحية
للظاهرة المسرحية شقين أساسيين يتقاسمان ماهيتها، أو بعيارة أخرى فلنقل إنها تقدم لنا عطاءين (بالمعنى الفينومينولوجي):
أولهما: هو العطاء الاجتماعي الذي تمنحه تلك الظاهرة بوصفها ممارسة اجتماعية تتمحور حول نمط فريد من أنماط الفعل الجسدي والمعرفي (والأخير قد يكون الأهم)، وتنطوي على نظام مرهف لتقسيم العمل بين المنخرطين فيها، ولذلك فالحاجة لن تنقطع قط إلى هذا العطاء ما ظل البشر في حال الاجتماع والتواصل الذي يتطلب ممارسات عامة تجمع بينهم، وهذه الحاجة قد تخفت أو تزداد من ثقافة لأخرى أو من عصر لآخر ولكن افتراض انقطاعها التام يحمل في طياته تصورا عن بشر غير الذين نعرفهم!
وهكذا، فالممارسة المسرحية تتعلق في المقام الأول بألعاب الظهور التي انحدرت إلينا عبر التاريخ التطوري للنوع الإنساني، إلى الحد الذي يمكننا من القول أن الأرضية التي تنتج هذه الممارسة أو التي تجعل إنتاجها ممكنا هي أمر لصيق بحالة “التجمع الإنساني”، لدرجة أنه عندما تم الكشف عن الأصل الأدائي لألعاب الظهور المسرحية تم استيراد هذا التحليل إلى أغلب العلوم الاجتماعية على نحو ساد خطابها تقريبا خلال العقود الثلاثة الماضية.
4- ألعاب الحضور والعطاء الجمالي للظاهرة المسرحية
أما الشق الآخر للظاهرة فهو “ألعاب الحضور”، والتي يمثل “العطاء الجمالي” أحد تجلياتها عبر ما يقدمه العرض المسرحي بوصفه مادة للاستهلاك الجمالي والمعرفي، وللأسف فإن النظرية الجمالية التقليدية ذات الأصل الأدبي والغارقة فيما يسميه البعض –انطلاقا من هيدجر- “ميتافيزيقا الحضور”، لا تكاد ترى في ظاهرة المسرح سوى هذا الجانب فحسب، وهي حتى حين تلتفت إلى العطاء الاجتماعي الخاص بالظاهرة لا تراه إلا بوصفه مشتقا على نحو أو آخر من عطائها الجمالي. وبالتالي ففي كل مرة تذهب فيها هذه النظرية إلى أحد اشتقاقات المقولة الهيجلية الشهيرة حول “موت الفن”؛ وتحاول تطبيقها على “المسرح”؛ فإنها تفعل ذلك في إطار فرضية أن عطاءه الاجتماعي سيتلاشى في نفس لحظة اختفاء عطاءه الجمالي، أي في تلك اللحظة المفترضة لموته بوصفه فنا، وهو ما يعني –طبقا للتحليل الذي نتبناه- أنها تقول أن الظهور سيتلاشى إذا ما انمحى شكل من أشكال الحضور التي يخلقها هذا الظهور لنفسه، وهو ما يكافئ القول بأن السبب سيختفي إذا ما بطلت بعض نتائجه؛ وكأن النتيجة تخلق سببها الخاص حين توجد وتبتلعه إذا انعدمت!
ومثل هذه التناقضات الفظة كانت دائما بمثابة العقبة الكأداء في وجه تأسيس تحليل فينومينولوجي فعال للعالم وظواهره وبالأخص المسرح.
5- ألعاب الحضور والظهور والموت “الجمالي” للمسرح
وهكذا، فالمسرح بوصفه لعبة ظهور بالمقام الأول؛ هو في الأصل حركة واقع (أيا كان تعريفنا لهذا المفهوم) تسعى للتلاقي مع الخيال أو المتخيل الجمعي للعالم عبر ألعاب الحضور، وبالتالي فإذا ما افترضنا –جدلا- انقطاع هذا التلاقي على نحو ما فإن هذا لن يؤدي ابدا إلى اختفاء ألعاب الظهور من تلقاء ذاتها، وبمعنى آخر فإن العطاء الاجتماعي للمسرح سابق ومستقل بشكل ما عن عطائه الجمالي، ولذلك فأي حديث حول موت الفن، أو اندثار فنون لصالح أخري؛ يصدر مرتكزا على منطلقات جمالية بحتة هو بالضرورة لا ينطبق على ظاهرة المسرح ككل.
وبالتالي فإذا ما كان بوسع تقنية الهولوجرام أن تتطور بوصفها أداة تسجيل وتشغيل للعرض المسرحي على نحو تنمحي معه الحاجة إلى التكرار “الحي” للعرض، فإن هذا لن يمس سوى الجانب الخاص بتكرار الألعاب المسرحية فحسب، فحينها لن يكون العرض المسرحي بحاجة إلا إلى الظهور لمرة واحدة فقط؛ وفي مكان واحد فحسب، ثم تتولى نسخه الهولوجرامية بقية المهمة.
ولذلك فربما يمكننا القول -انطلاقا من هذا التحليل- أن النبوءة التي تبشر بأن تطور تقنية “التسجيل والعرض الهولوجرامي” سيؤدي إلى تغير حاسم في طبيعة الظاهرة المسرحية؛ قد سقطت بصورة نهائية، وأننا -سواء في أفضل الأحوال أو أسوأها- قد نشهد مع هذا التطور دخول المسرح إلى ما يطلق عليه فالتر بنيامين “عصر الاستنساخ الآلي للعمل الفني”؛ ليلحق بفنون مثل الموسيقى والرسم والأدب المكتوب، وهي فنون خسرت –فيما يقول بنيامين- الهالة أو العبير المصاحب لها، أو بعبارة أوضح: خسرت جزء حميمي من مجال الحضور الذي يخصها.
ومع أن المسرح الذي قاوم محاولات استنساخه حتى الآن عبر الوسائط المرئية قد يخسر ما هو أكثر من مجرد تلك الهالة المرتبطة بحضوره الحي؛ لأنه سيفقد ايضا الكثير من مساحة التكرار المخصصة لإعادة اكتشاف ذاته باستمرار، المرة تلو الأخرى؛ عبر ممارسة ألعاب الظهور والحضور، ولكن بالمقارنة بالموسيقى التي سبق أن منيت بخسارة مشابهة فمن المشكوك فيه أن تطورا كهذا يمكن أن ينهي المسرح كما نعرفه.
غير أن هذا التحليل برمته يتوقف عند الهولوجرام بوصفه تقنية للتسجيل والعرض، ولذلك لا أعتقد أن نتائجه تطال التحول المتوقع للهولوجرام إلى “كتابة شيئية” تفرض قوانين جديدة تماما على ألعاب الظهور والحضور والعلاقات بينهما. وفي هذا الإطار يمكن التفكير في الموسيقى مرة أخرى، وتأمل التحول المماثل الذي اجتاحها بعد اخضاع الفعل الموسيقي للعالم الرقمي بحيث تطابقت لحظة التأليف أو الكتابة الموسيقية مع لحظة العزف المسجل القابل للتداول، وأصبح بالإمكان أن نشهد انتشار مقطوعات موسيقية لم تعزف قط من قبل. غير أن حجية هذه المقارنة قد تضعف كثيرا أمام تلك الفوارق الهائلة بين ماهيتي الموسيقى والمسرح، ففي النهاية لا تقدم تقنيات الموسيقى الرقمية سوى نفس الصوت الموسيقى الذي قد يصعب تمييزه عن الصوت الصادر عن فعل العزف التقليدي، وهو ما لا ينطبق على “الأشياء” التي قد يصبح الهولوجرام قادرا على خلقها مسرحيا.
ولذلك ربما كان علينا أن نواصل التأمل على نحو أعمق في ماهية الظاهرة المسرحية وطبيعة تأسيسها وأنماط تعاملها مع ما تجلبه إلى فضاءها الخاص من العالم المعاش، وخبراتها التاريخية التي راكمتها عبر التنازع مع ما هو شيئي.
6- المسرح بين العالم الأنطولوجي والفضاء الرقمي:
من المنظور الابستمولوجي نحن لا زلنا نعيش داخل حدود ما أطلق عليه “العالم الأنطولوجي”، والذي بدأت معالمه في التكون منذ القرن الخامس قبل الميلاد في إيليا اليونانية (مع بارمنيدس وزينون) مرورا بأثينا، إلى أن اكتملت وبسطت هيمنتها بصورة تامة على ما هو معاش في الإسكندرية “القديمة” التي كانت حينها مدينة العالم.
وما هو انطولوجي هو ذلك الذي يبقى في الحدث وبرغمه، إنه ما لا يطاله “الحدث”؛ أو بعبارة أوضح “ما لا يطاله التغيير” عبر مروره بالحدث. والعصور الانطولوجية المختلفة التي شهدتها حضارة البحر المتوسط التي ننتمي إليها قد عززت تطورات هائلة في ألعاب الحضور، لأن ما هو انطولوجي ليس بمقدوره أن يواصل الصمود في محايثة ما هو معاش إن لم تسانده أو تستدعيه مجالات حضور مستقرة يمكن إعادة إنتاجها اجتماعيا بسهولة وغزارة.
أما المسرح –على الأقل في طبعته اليونانية، إن لم يكن قبل ذلك – فسيبدو وكأنه قد عثر على فضاءه الخاص قبل أن تتبلور ملامح هذا العالم الانطولوجي، أي أنه سابق على هذا العالم وغريب عنه في الوقت نفسه.
واعتقادي هو أن المسرح ينتمي إلى عالم ابستمولوجي تم نسيانه وهضم نتائجه في العالم الذي تلاه بحيث أصبحنا لا نكاد نعرف عنه شيئا “بعد”، وهذا الزمن البائد الذي أطلق عليه اسم “عالم الفعل” قد شهد تطور الفعل الجسدي والمعرفي في مواجهة “ما يظهر”؛ أو “ما يحدث”، الأمر الذي منح الانسان كل ما لديه –تقريبا- من المبادئ الأساسية لألعاب الظهور والحضور التي يقتات عليها حتى الآن؛ على نحو مهد أو أتاح خلق هذا العالم الأنطولوجي الذي ما لبث أن قدم نفسه بوصفه كيان يتطوى داخله كل ما هو تاريخي وكأنما لم يكن شيئا قبله!
وفي اعتقادي –أيضا- أن العصور التي سادها عالم الفعل هذا قد وجدت تأسيسها المكتمل والنهائي في مصر الفرعونية القديمة، وخاصة عبر مفهوم “الماعت” والذي –عكس ما هو شائع- يعني بالفعل ذاته أكثر مما يعنى بنتائجه سواء كانت عدل أو غيره.
وفي هذا العالم كانت علاقة الفعل (وبخاصة الفعل الإنساني) بالحدوث أو الظهور هي الأرض التي يتأسس عليها كل ما هو معاش؛ وكل ممارسة اجتماعية أو جمالية، والكثير من الفنون التي أنتجها هذا العالم القديم قد شهدت تحولات جذرية مع عصور تطور العالم الانطولوجي، باستثناء بعض الفنون الأدائية (مثل المسرح والموسيقى تحديدا) التي تم تأسيسها بوصفها “حدوث” خالص ينتجه الفعل الإنساني.
وفي هذا الإطار، فإن التقنيات الرقمية في جوهرها هي حدوث خالص أيضا، وبذلك فهي تنتمي بشكل ما إلى عالم الفعل، ولكن من زاوية أخرى فالمنتج الرقمي بقبوله التسجيل والاستعادة المتطابقة مع ذاتها يستجيب لشرط البقاء الأنطولوجي الذي يتطلب عبور ما يحدث دون تغيير، ولذلك فإن جلب “الرقمية الشيئية” أو الهولوجرام بتوسطها بين ما هو فعل حادث وما هو انطولوجي باقي؛ إلى الظاهرة المسرحية يمكن أن يكون تطورا مثيرا للغاية ومنذرا بتحولات يصعب توقعها ناهيك عن التفكير فيها بدقة مقبولة.
وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن التطورات الأخيرة للخطاب الثقافي عبر مرحلة “الحداثة المتأخرة” (والتي عادة ما يطلق على بعض تجلياتها اسم ما بعد الحداثة!) تميل إلى إبداء مقاومة إيديولوجية عنيفة –أحيانا- ضد الهيمنة الانطولوجية، أو على الأقل ضد سيادة “الحقيقة الأنطولوجية” على المعرفة الإنسانية (وهو النزوع الذي يعد أحد أهم مصادر النبوءة التي بدأنا بها هذه التأملات)؛ فإن هذا قد يعني أن ثمة بيئة فكرية صالحة لاستقبال وتدعيم وتحفيز أو تسريع تلك التحولات المنتظرة للمسرح عند تلاقيه الأخير مع العالم الشيئي للهولوجرام الرقمي الذي ينتزع خاصية الحضور أو البقاء الانطولوجي لنفسه فيما يهتك كل ما يمكن اسناده إلى الحقيقة الانطولوجية.
وربما كان التفكير في هذه التفاعلات الممكنة يتطلب أن نذهب إلى تأمل أكثر تفصيلا حول طبيعة الفعل المسرحي، بحيث نصبح في وضعية تمكننا من التساؤل حول قدرة الهولوجرام الرقمي على إنتاجه وحفظه.
7- أنماط الفعل المسرحي:
يتأسس الفعل المسرحي على ما هو مجلوب من العالم الواقعي المعاش، ولكنه –عكس ما تذهب إليه نظريات المحاكاة- لا يقدم هذا المجلوب كما هو، فللمسرح طريقتين أو نمطين من الفاعلية “التحويلية” في التعاطي مع الأشياء والبشر والمعاني وكل ما يستعيره مؤقتا من العالم الخارجي ليكون به عالمه الخاص.
والنمط الأول يتأسس على الاكتفاء بالاستخدام المسرحي لحضور تلك المجلوبات بحيث يقوم بربط الأفق المصاحب لها بالمكونات الأخرى لعالمه على نحو يجعلها أشبه بالحروف أو الكلمات التي تشكل الجمل التي يسعى لقولها أو تقديمها، وهو ما أطلق عليه “تأطير مجال الحضور المعاش”.
إما النمط الثاني للتحويل المسرحي فيقوم بالإضافة إلى ما سبق بإعادة تشكيل مجال حضور مجلوبات العالم الخارجي، بحيث “يطوعها” لصالحه على نحو لا يفقدها بعض ما تنطوي عليه من حضورها الخاص فحسب؛ بل قد يسلبها الكثير من قيمها أو تضميناتها الذاتية أو الداخلية التي كانت تتمتع بها قبل جلبها إلى المسرح بحيث يتم منحها قيما أخرى مباينة لما كانت تنطوي عليه؛ إن لم تناقضها أحيانا، وهذه القيم المضافة للمجلوبات لن “تظهر” إلا بوصفها جزء من الفعل المسرحي وموضوعا له، أما عندما ينقضي هذا الفعل فقد ترتد هذه المجلوبات عن الكثير مما اكتسبته ولكن هذا لا يعني أن بإمكانها أن تعود تماما لما كانت عليه، على الأقل ليس بالنسبة لنا نحن الذين شاهدناها وهي تنخلع عن ذاتها وتتخارج إلى شيء آخر.
وهكذا، فهذين النمطين، التأطير والتطويع، هما الأدوات الأساسية في الألعاب المسرحية بمواجهة العالم، فالأول يتلاعب بأفق الحضور، والثاني يتلاعب بكيفيات الظهور والحضور معا. وهو ما يمنح المسرح مساحة هائلة من المناورة مع العالم، وقدرة استثنائية على انتهاك استقرار ما هو معاش وقلقلته.
ولكن إلى أي مدى يمكن لهاتين الفاعليتين أن تناورا حالات الشيئية الرقمية الجديدة التي ينتظر أن يغزو بها الهولوجرام ما هو مسرحي؟
8- الشيئية الطارئة للمسرح:
إن القول بأن قدم الظاهرة المسرحية يجعلها فنا مكشوفا ومستنفدا وأن كل ما يخصها معروف؛ هو أمر يفتقر للدقة إلى حد كبير. فلا يزال المسرح غريبا عنا إلى هذا الحد أو ذاك، بحيث سيبدو وكأن ثنائية “بول دي مان” حول البصيرة والعماء تتحكم أكثر مما ينبغي في العلاقة بين الفلسفة والمسرح، بداية من ارسطو وبصيرته بالدراما المسرحية مقابل عماءه أو استخفافه بالعرض المسرحي الذي بدا له وكأنه زائد عن الحاجة (وهو النزوع المزدوج الذي تحكم في الخطاب المسرحي بقدر متساوي من الهيمنة لعشرات القرون)، مرورا ببعض الفلاسفة ممن كانوا أكثر قربا من معاينة جوهر ما هو مسرحي والتقاطه في فكرة واضحة تصلح لاستدراج العديد من التحليلات الثرية؛ ولكنهم تعاموا عن الذهاب خلفها في إطار منازعاتهم ضد المسرح ودعوتهم لكراهيته على نحو أو آخر، وهو ما ينطبق مثلا على السير فرانسيس بيكون الذي اصطدم اصطداما غير واعي بآلية الاستباق المسرحي للعالم ولكنه أغلق عينه عنها وفر من أمامها صامتا ليتشبث بمقولته المحقرة عن “وهم المسرح” أو صنميته، وكذلك نيتشة الذي كان أول من تنبه لفعالية “التطويع” الذي يمارسه التحويل المسرحي على الموسيقى؛ ولكنه اكتفى باستخدام هذه الملاحظة في حربه “الشخصية” ضد الاوبرا الفاجنرية؛ مثلما رأي أن حالة “التياتروقراطية” أو سيادة المسرح على جميع الفنون (وهو أول من استخدم ذلك المصطلح الأفلاطوني بهذا المعنى) هو أمر أشبه بالدنس الجمالي الذي يجب قتاله أو على الأقل مقاومته عبر تحقير غير مسبوق للمسرح.
وهكذا، فالأمثلة النظرية الي يمكن ايرادها لإثبات غرابة المسرح أمام مفاهيمنا الجمالية والفلسفية ذات الأصل الأنطولوجي هي كثيرة لدرجة يصعب احصاؤها، ولكنني سأكتفي بتوقف آخر عند هيدجر ودراسته الجمالية الأهم في القرن العشرين: “أصل العمل الفني”، ففي بداية هذه الدراسة سيتساءل هيدجر ببساطة عن شيئية العمل الفني، وهو سؤال كان يمكن أن يصبح كاشفا لخصوصية الظاهرة المسرحية مقابل الممارسات الجمالية الأخرى، لولا أن هيدجر لم يكن يفكر في الشيئية المكونة للحدث الفني؛ أو حتى الشيئية التي تتكون عبر ما يحدث في الممارسة الجمالية؛ وكلاهما يمثلان المادة الأصلية لظهور العمل الفني؛ بقدر ما كان يفكر في الشيئية الباقية، أي ذلك الشيء الذي يبقى من “حدث الممارسة الفنية” بعدما يخضع للتحويل الجمالي، وبعبارة أوضح فهيدجر هنا لم يكن يفكر في العمل الفني إلا بوصفه تحويلا أنطولوجيا للشيء، واعتقد أنه لولا أن هيدجر كان ملموسا بالموقف النيتشوي المضاد للمسرح لاستطاع تمييز حالة الشيئية الطارئة التي يتعاطى المسرح عبرها مع العالم، وأن “العمل المسرحي” هو في الأصل اجتماع طارئ لأشياء متعينة في اطار حدث بعينه، وهو ما يجري على نحو لا يسعى إلى تحويل تلك الاشياء من حالة ثابتة إلى حالة أخرى ثابتة تبقى بعد نهاية العمل، فعقب نهاية العرض المسرحي “لا شيء” يبقى منه، فالبشر أو الممثلين وقطع الديكور والملابس والاكسسوارات والأوراق التي تحفظ النص الأدبي أو التعليمات الاخراجية أو الألحان الموسيقية، أي كل ما استخدم أو يمكن استخدامه لخروج العرض إلى العالم؛ كل ذلك سيظهر بعد العرض كما كان قبله تقريبا، ودون اختلاف ملحوظ في تعيناته أو “شيئيته الظاهرة”؛ حتى وان بدا أن مجال الحضور المصاحب له قد أصابه بعض الاختلاف أو الانتهاك. وهو ما يعني أن المسرح الذي ينتمي إلى طائفة “ألعاب الظهور” سيفنى عند نهايته ولا يترك سوى ما ينتمي إلى ألعاب “الحضور” وأفقه، وبعبارة أخرى فما أن يتم اسدال ستار العرض المسرحي حتى يصبح غير متاح لنا التواصل معه إلا عبر أفق الحضور الذي أخلفه، وهو ما يصدق حتى على فريق العمل الذي سيتعين عليه تقديم العرض مرة أخرى في ليلة تالية، فأيا كانت الأشياء المتوفرة قيد الاستخدام فإن هذا الفريق سيتعين عليه أن يستعيد أفق الحضور الباقي من العرض من أجل إعادة إنتاجه وإعادة جلب أشياءه مؤقتا وبصورة طارئة إلى حالة الظهور المتعين.
وهذه “الشيئية الطارئة” التي يمتاز بها الفعل المسرحي –والتي عادة ما تفشل الجماليات المعاصرة في إدراكها- تفتح السؤال أمام كيفية تفاعلها أو مصيرها أمام شيئية الهولوجرام التي ما أن تطرأ حتى تبقى، والتي ما أن تقتنص لحظة ظهور عارض حتى تستحلب منها إمكانية أن تكون حاضرة أبدا.
ومن أجل توسيع افق هذا السؤال سأتعرض إلى مثالين حديين لتعاطي الفعل المسرحي مع الأشياء التي يجلبها من العالم، الأول خاص بتعامله مع شيئية رقمية خفيفة لدرجة التبخر إن لم يلمسها الحضور، والثاني يتعلق بشيئية الكتلة النحتية الصلبة، التي تبوأت في مراحل بعينها مرتبة النموذج الأنطولوجي الذي ما أن يظهر حتى لا يطاله بعدها الحدث أو التغير.
9- منازعات شيئية المسرح وشيئية العالم المعاش
منذ ثلاثة أعوام اقترح علي أحد محرري نشرة المهرجان التجريبي (الذي لم يتبقى لنا منه الآن سوى مسخ معاصر!)، إجراء دراسة حول عنصر “الدمى” في أربع عروض تنتمي إلى أربع دول من قارات مختلفة.
والدمى هي أحد أنواع الكتلة الأداة، أي الكتلة التي هي نتاج فعل إنساني أو وسيلة لأداء هذا الفعل على نحو أكثر فاعلية، وفي هذا الإطار تنتمي الدمي لمساحة تقاطع شديدة الحساسية والرهافة بين الكتلة المادية الظاهرة وألعاب الحضور، فهي منصة مادية مخصصة لاستقبال ما يخص الوعي عبر “آلية المخارجة” التي تجوف حضور الدمية وتملأه بمعطياتها في نفس الوقت، وهو ما يتم على نحو يجعل كتلة الدمية تلعب دورا شبيها لما تقوم به الكتلة المعمارية المجوفة التي تعمل -في ميدان الظهور- على استقبال واحتواء وحفظ ما يأتيها من خارجها.
وفي عرضين (“الزومبي والخطايا العشر” من مصر، و”سم هاملت” من المكسيك) كان ثمة منازعة متباينة مع صور وأحداث وأفعال الفضاء الرقمي الذي قدم باعتباره ما أصبح يغزو عالمنا بلا رجعة ملوحا بذاته بوصفها تمتلك بشكل أو آخر سلطة ماضية على المصير الإنساني والاجتماعي، وفي مواجهة هذه الشيئية الرقمية الطارئة العصية على الإمساك بها؛ اختار العرضان دمجها في علاقة مع الكتلة/ الدمية بوصفها الشبكة القادرة على اكساب المعطى الرقمي المهيمن مزيدا من الحسية والتعين. وهذه المناورة المسرحية المشتركة –التي يفصل بينها مسافة جغرافية وثقافية بقدر التباين بين مصر والمكسيك- تشي بوضوح بطريقة تفكير الفعل المسرحي في احتواء أو تجسيد الحضور الفوري والزائل لمعطيات العالم الرقمي عبر كتلة مادية شديدة القدم يعود ظهورها التاريخي إلى عشرة آلاف عام تقريبا (للمزيد انظر للكاتب: “الدمى والوعي والعالم” نشرة مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي والمعاصر، 2016).
وقبل ذلك بعدة سنوات (عام 2000) كنت في المسرح المكشوف بالأوبرا لمشاهدة عرض “أوريستيا” اليوناني في الدورة 12 للمهرجان التجريبي، وللوهلة الأولى بدا العرض أكثر سخافة مما ينبغي.
كان المؤدين قد اتخذوا أوضاعا ساكنة على هيئة تماثيل؛ ثم بدأوا يتلون جملا باليونانية بطريقة بدت لي وكأنها مجرد أسلبة صوتية لتراتيل غير مفهومة وبلا معنى، لذلك بدأت بالتجول بين مدرجات المسرح لتأمل تلك الأشكال النحتية من أكثر من زاوية؛ مثلما قد نفعل في أي متحف، إلى أن شعرت فجأة بصدمة ما أراه، كان الممثلين يتحركون ببطء شديد بين كل مشهد ساكن وآخر؛ حركة متناغمة ومنسجمة في كافة تفاصيلها؛ ومحسوبة بدقة شديدة بحيث أنه مهما تعارضت اتجاهاتها أو تقاطعت فإنها ستتلاقى جميعا في اللحظة نفسها وتسكن داخل شكل يستوحي التماثيل اليونانية القديمة ذات الشخوص المتعددة، كان هناك هذا الانسياب فائق النعومة والمنشغل بذاته والساعي إلى تداخله معها والانطواء نحوها وكأنه بلا خارج يمكن أن يذهب إليه، فضلا عن السريان الذي تتأود عبره الحركة ببطء لا يكاد يخدشه سوى ثقل تضاغط الكتل الجسدية تجاه بعضها البعض وكأنها تنشد الاتحاد في كتلة مصمتة بلا فراغات تقريبا؛ ثم جاء ذلك التجمد الصارخ في أوضاع تكاد تقاوم قانون الجاذبية أكثر مما تستجيب له. وعبر هذا الاندفاع البطيء والانسياب الهادئ للأجساد نحو ما سيبدو وكأنه مصيرها النهائي الذي ستتعثر به؛ كان ثمة أفق حضور يتخلق بصورة هادرة تمنحه القدرة على الاستمرار والتحويم حول هذه الأجساد حتى بعد أن سكنت حركتها تماما، بحيث لن يمكنك أبدا أن تغفل عن تلك العلاقات الدرامية الفاتنة التي باتت توالي التدفق بين جنبات هذه الكتل المتحجرة وتفيض عن انثناءاتها الرشيقة وتلاحق الصوت الذي يحمل جمل الحوار وتمنحه تضخيما أو تأكيدا دراميا لتلوناته ونبراته التي كانت بالنسبة لي قبل لحظات مجرد تأوهات معدنية مصمتة وباهتة، أما الآن فقد أصبح من الصعب القطع ما إذا كان هذا الصوت يشع من أرواح الممثلين التي سجنت داخل هذا الشكل المنحوت أم أنه يهبط إليها من مكان ما، ولكن في كل الأحوال أنت لم تعد تشاهد استخداما مسرحيا لفن النحت أو منتجاته، بقدر ما ستجد نفسك أمام المسرح ذاته كما يجب أن يكون؛ أو كما يستطيع أن يكون؛ وهو يطوع فنا آخر ويبتلعه داخله ويخضعه لفعاليته ويحلله إلى أجزاءه المكونة ثم يعيد تشكيلها طبقا لمقتضياته الخاصة.
وفن النحت؛ مثله مثل الكثير من الفنون القديمة، تم “استخدامه” مسرحيا في إطار فعالية التحويل التأطيري منذ أكثر من ألفي عام، أما عرض “الاوريستيا” الذي نتناوله هنا فيكاد يكون –حسب علمي- المرة الأولى في التاريخ التي يتم فيها إخضاع “النحت” لآلية التطويع المسرحي على هذا النحو. وبعبارة أخرى فالفارق الزمني بين ظهور مرحلتي الفعل المسرحي (التأطير والتطويع) يزيد على الفي عام، وهو ما يعني أن المسرح لا ينسى مهامه ولا صراعاته قط مهما طال الزمان.
بالنسبة لنا فكل من الدمية والتمثال هي كتل ذات وظيفة جمالية بالمقام الأول، ولكنها في عصور أخرى كانت كيانات أسطورية ذات سطوة دينية أو تعبدية، وهنا سيبدو المسرح وكأنه يستعيد زوال الهيمنة الاسطورية الما قبل تاريخية للدمية لمواجهة الهيمنة الرقمية “الما بعد تاريخية”، فيما سيستحضر مع التمثال اسطورة البقاء الصلب المفارق للعالم الإنساني ويفتتها عبر الحركة إلى حضور إنساني بالغ الرقة.
ومن الواضح أن هاتين المناورتين تغطيان مساحات جغرافية وثقافية وجمالية وزمنية هائلة الاتساع، وهو ما يعني أن للمسرح ميل عنيد وتاريخ طويل -لما ينتهي بعد- في منازعة ما يهيمن أو ما يقدم نفسه بوصفه متعاليا على الفعل الإنساني، ولا أكاد أجد مبررا للقول بأن أي هيمنة متوقعة للهولوجرام الشيئي ستحظى بنصيب أقل من هذه المنازعة المسرحية.
10- رهان ختامي
من وجهة نظري –على الأقل- يحظى المسرح بمساحة شاسعة لسريان حركته وفعاليته التحويلية على نحو يمنحه قدرة شبه دائمة على مناورة العالم المعاش فضلا عن نزوعه إلى تأطير أو اخضاع كل ما يطرحه هذا العالم وجلبه إلى حيث يصبح موضوعا ممكنا للفعل المسرحي الذي يستطيع التعاطي مع عناصره أو مكوناته عبر أكثر من نمط تحويلي، وربما لايزال المسرح هو ميدان التدريب الأساسي الذي يختبر فيه الانسان خبرته بألعاب الظهور والحضور وإمكانيات المزاوجة بينهما في مواجهة حدوث الأشياء، إنه الأفق الذي يستبق فيه الفعل الإنساني عالمه مستشرفا مصائره.
ورغم ذلك فإن حصيلة التأملات السابقة تكشف عن أن معظم هذه الخصائص قد تصبح عرضة للهجوم الاستحواذي المنتظر لتقنية الكتابة الهولوجرامية الشيئية -حال اكتمال ظهورها- والتي قد تلاقي دعما من النزوع الرأسمالي الدائم لخفض التكلفة الحدية، بحيث أن كل ما مررنا به لا يجعلنا نفكر باطمئنان فيما إذا كان هذا التطور المتوقع سيسفر عن نهاية المسرح كما عرفناه ونعرفه، أم أنه سيفضي إلى ظهور نوع جديد من الفن الدرامي يتقاطع مع المسرح في تقنياته وعوالمه مثلما حدث مع تقنية التصوير والعرض السينمائي.
وربما لا يمكن حسم هذه التوقعات المتعارضة إلا في إطار رهان يتخارج عن النبوءة التي بدأنا منها هذه التأملات، وفي هذا الإطار سأضع رهاني على ازدهار الممارسة المسرحية ما ظل التجمع البشري والفعل الإنساني هما أساس بناء العالم.
لقد تعرضنا لمرونة الفعل المسرحي التي تجعله قادرا على إضافة كل ما يظهر أو يحدث إلى فضاءه، وهو ما يتيح لنا التفكير في أنه قد يتمكن بسهولة من إضافة “الشيئية الهولوجرامية” إلى نطاق فاعليته، ولكن هذه القدرة ليست المبرر الوحيد لرهاني على استمرار المسرح، فتلك المرونة المسرحية التي تسمح بالإضافة تسمح أيضا بالتخلي والحذف، فلا يكاد يوجد عنصر أو مكون مسرحي واحد –على سبيل الحصر- غير قابل للاستبعاد أو الاستبدال، وتاريخ وحاضر المسرح يمدنا بالكثير من المعطيات في هذا الشأن، بدءا من استبعاد النص اللغوي أو الأدبي مرورا بالإطاحة بالممثل ذاته والاستغناء عن الكتل المادية للديكور والملابس وصولا لتحييد؛ أو حتى التخلي، عن جانب من فضائه الحسي المزدوج مثلما نجد في مسرح المايم المنعدم الصوت تقريبا، أو المسرح الإذاعي الذي يقصي حاسة البصر تماما، وفي كل مرة يستبعد فيها المسرح أحد عناصره يتحول من شكل لآخر ومن سلسلة ألعاب ظهور وحضور إلى أخرى، ولكن الممارسة المسرحية تستمر في كل الأحوال ولا تنقطع.
وبالطبع فإن التطور الهولوجرامي إذا أصبح قادرا على منازعة المسرح وملاحقته فيما يضيفه، فقد يستطيع أيضا مطاردته فيما يقصيه أو يستبعده ولكن أغلب الظن أن هذه المطاردة إن قدر لها أن تبدأ فستستمر لأحقاب طويلة قبل أن تحصل على نتيجتها النهائية.
(نشرت في مجلة “عالم الكتاب” عدد أبريل 2019)