"كانت أيامًا عادية، أتلقى فيها الخيبات كهدايا عيد الميلاد، خيبات في العمل، الصداقة، الحب، صعود السلم، هبوط السلم، عبور الشوارع المكتظة، السير في الشوارع الخالية، كان خيالي بليدًا لا يعرف التدوين بعد، أزم شفتيً، وأثبت عيني في السقف، فيأتي النوم، أنام ست عشرة ساعة دون حلم واحد، دون أن أبدل وضعي، أستقبل العالم وأدوعه على ظهري".
بهذا المقطع تبدأ الكاتبة أريج جمال روايتها "أنا أروى يا مريم"- الصادرة هذا العام عن دار الساقي ضمن برنامج "آفاق لكتابة الرواية"- ليشعر من يقرأ الرواية بالتورط على الفور في النص رغمًا عنه، فمن منا لم يتلقِ الخيبات في العمل أو الحب أو الصداقة أو غير ذلك من أمور الحياة البسيطة، من منا لم تمر عليه أيام لا يرغب في مغادرة الفراش ويكتفي بالتمدد وعد خيباته وإحباطاته على سقف الحجرة.
حين أرسلت أريج لي الفصول الأولى من الرواية العام الماضي تأثرت كثيرًا بهذا المقطع مثلما تأثرت بغيره، وحين منحتني الرواية منشورة بعد ذلك بعام كامل، ظننت أنني لن أتأثر مثلما تأثرت المرة الأولى، لكني فوجئت أنني تأثرت أكثر، شعرت بالخوف مثل مريم الراوية في الجزء الأول من النص عندما كانت خائفة من أن تخرج من رحم والدتها "بدأت أنزلق إلى الأسفل بفعل قوة رهيبة تزداد تسلطًا بمقاومتي، حاولت أن أصمد، شبكت أجنحتي بالكبد، ألصقت نفسي بسقف المعدة وأنا أنهج من المرار، أنا أفسدت الأجهزة التي طالما حرستها، لو أنني ذئب، لكنت عويت من الجرح، طبعًا لم أعوِ، كل ما حدث أنني واصلت الانزلاق، غير مصدقة أن الله الذي أودعني في الجنة، يقتلعني الآن منها، دم، وماما صوت صراخها يجبرني على الانصياع، وتجاهل الماضي، ماما لم تعد تريدني هنا".
لم يكن الانزلاق خارج الرحم هو الألم الوحيد الذي أشعر به، أو بمعنى آخر تشعرني به أريج على لسان راويتها، فكل ألم ووحدة وخوف لمريم يفتح بابًا في الذاكرة على الطفولة، حتى ولو كانت تفاصيل بسيطة للغاية مثل عرائس مريم التي كانت تنيمها إلى جوارها "نمت مع عرائسي داخل العلبة التي يحتجب عنها النور، حين أيقظتني ماما كان لعابي قد بلل شعر إحداهن، حزنت وقلت سأنتظر نهار الغد كي تجف".
تكمن هنا سر جاذبية كتابة أريج، فهي مثل موسيقى بها شجن ما أن تبدأ حتى لا يجرؤ أحد أن يطفئها، يشعر كل منا بأن مكانًا في روحه قد انفتح، يرغب في البكاء، وربما يبدأ به، لكن بكاء إعجاب ورغبة في قول (الله) وليس بكاء حزن، طوال رواية أريج كنت أشعر بذلك، بداخلي شيء ما ولكن لا يمكنني التوقف عن القراءة، أعرف أن الأمر ليس حزنًا ولكن شيئًا ينفتح بداخلي، خاصة أن لغة أريج نفسها تحمل موسيقى، وهذه نقطة لا يمكن تجاهلها، فالقارىء لأعمال أريج السابقة (مجموعتان قصصيتان: "مائدة واحدة للمحبة"، و"كنائس لا تسقط في الحرب") يدرك أن أريج تهتم كثيرًا باللغة وأن لغتها أقرب للشعر، ورغم أن هذا الأمر ليس سهلاً في كتابة القصة، إلا أنه أكثر صعوبة في كتابة الرواية، فقليلون من يمتلكون القدرة على الحفاظ على الشاعرية في لغة نص طويل، وهذه نقطة تُحسب لأريج خاصة أنني لم أشعر لحظة بأنها توقفت عن الكتابة، فطوال الجزء الأول من الرواية الذي تبلغ عدد صفحاته 135 صفحة كنت أشعر أن أريج جلست جلسة طويلة ربما امتدت لأيام لتنهي هذا الجزء بنفس واحد دون توقف لشرب مياه أو للنوم، ولولا أنني أعرف كيف كتبت أريج هذا النص مرات ومرات قبل أن يخرج بشكله النهائي لما كنت تخيلت غير ذلك.
الأمر الآخر المثير للانتباه بالنسبة لي هو الجزء الثاني من الرواية "أنا أروى يا مريم"، هذا الجزء لم أقرأ منه أي شيء قبل النشر وفاجئني جدًا أكثر من الجزء الأول، لأنه يعتمد على الحرفية بشكل كبير، شعرت هنا أكثر أن أريج خرجت من ذاتها، تحولت إلى كاتبة محترفة لديها شخصيات ربما لم تكن رأتهم ولا مرة في حياتها لكنها صنعتهم وحركتهم بطريقة جعلتني أصدق أنها قابلتهم وعرفتهم حتى أنني كدت أن أسألها بعد أن أنهيت الرواية من سارة ومن ميشيل.
كان من المفترض أن تُنشر هذه الرواية مع روايات أخرى ضمن برنامج "آفاق لكتابة الرواية" عام 2016، إلا أن أريج لم تنتهِ منها حينها وطلبت التأجيل، وظلت تعمل عليها من وقتها (ومن قبل ذلك منذ بداية الورشة عام 2015) حتى صدرت هذا العام، ربما يفسر هذا التأجيل والإصرار عليه -حتى حتى تعمل على الرواية أكثر ولا تنشرها دون أن تكون راضية عنه- النضج الذي ظهرت عليه الرواية، فمن يقرأها لا يتخيل أبدًا أن هذه الرواية الأولى لأريج، وسيظن حتمًا أنها كتبت العديد من الروايات غير المنشورة قبل أن تصل إلى هذا المستوى والحرفية.