مع قاسم حداد، وكما في أيّ مدادٍ، يُهرَق حبّاً بقراءته؛ في أيّ كتابٍ يُخرجه من قلب محارات بحوره. لا يسع القارئ إلا أن يشعر بالوحدة بين الأضداد؛ إذا لم يتوحّدَ نفسه، ويكون كما ماءٍ يعكس لونَه، من دون تشابيهَ تكبّله في أمسِه، وتقيم حدوداً مانعة للكائن عن أن ينتظم في كونه.
في مجموعته “تعديلٌ في موسيقى الحجرة”، يبرع الشاعر البحريني، كعادته، في أن يقدم مجموعة شعرية متناغمةً في الشكل والمحتوى، على حِدَة لكل منهما، وفيما بينهما كذلك، من دون أخذه موضوعاً شائكاً وبسيطاً في ذات الوقت مثل “موسيقى الحجرة”، بجرأة ملفتة، كمحور تدور حوله قصائد المجموعة في أفلاكها فحسب. إنه أيضاً يضيف، كما حدث مع هذه الموسيقى عبر تاريخها، تعديلَه المماثلَ على صعيد قصائده، محافظاً على تناغمها كقصائدِ نثرٍ، وقصائدِ تفعيلة مستقلة بإيقاعها، وقصائد يمتزج فيها النثر بالتفعيلة ليخلقَ إيقاع القصيدة الخاص بها. وهذا مع توحيده مجموعات القصائد المنتظِمة في “الكونشيرتو”، والمجموعات المنتظمة في “السوناتا”، والمجموعات الطليقة في “أغاني التروبادور”، خارج الحجرة، ولكنْ ليس بعيداً عن نوافذها التي توحدّها معها.
في هذا التناغم الطليق، المنتظِم تحت عنوان يعبّر عنه بدقة، هيكَلَ حداد بنيةً بسيطةً لمجموعته، تتكوّن من ثلاثة فصول موحَّدة مع بعضها، ويمكنها أن تأخذ مكانها ككتبٍ مستقلةٍ كما عنونها كذلك، من دون أن ينسى تعريف موسيقى الحجرة وتعريف تفاصيلها في مقدمة هذه الكتب.
ـــ في الكتاب الأول، الذي خصّصه للكونشيرتو، تحت عنوان “كونشيرتو البحر”، ضَمّن حداد فصلَه قصيدةً واحدةً طويلةً منسجمة في سبعين صفحة، لكنْ بتقسيمٍ يتناغم مع أنواع وآلات الكونشرتو، ويكسرُ ملل القراءة، تحت أرقامٍ تكوّن خمسين قصيدة مستقلة وموحّدة، تحت عنوان: “وحيدة البحر” التي من أسمائها “أوال” و”دلمون” و”تايلوس” والأحسن “البحرين”، أجاجٌ وعذبٌ:
“خرجت من زرقةٍ
واستحال لها الماء بيتاً وأرجوحة واحتمالاً.
أحسنتْ،
كيف تغفو على الغمر
في يقظةٍ كالزمان،
وتنهض
تذهب في شمسها
مثلما يُقبل العرسُ قبل الأوان.
أخذتْ شكل النساء
وأعطتْ لأطفالها ثوبَها اللؤلؤيّ
وَزَهتْ بخضرتها اليانعة
ثم أرْختْ غموض الرسائل
للمولعين ببرق النهار القَصِيّ.”
وفي هذا الكتاب أو القصيدة تتبلور وحيدة البحر، حضناً أمومياً كما حضن الإلهة، لأطفالها التائهين المتذكّرين والناسين، الذين تأخذهم رياح البحر، طوعَ الشغف، أو كرْهَ البحث عن الرزق. سلامَ التآلف، أو حربَ التخالف. تجارةَ المكاسب أو سلعةَ الخسائر؛ بصوت الشاعر البشير والنذير، الذي يلبس ثوب حكمة زهير بن أبي سلمى، وثوب حكمة الطاو اللطيفة، أكثر من لبسه قارعة عصا تيريزياس وعصا المعرّي، مع إقامة جسر التواصل بين الأبناء المغتربين وموطنهم، حبلَ سرّةٍ عليهم أن لا ينسوه. هذا في محتوى الكلام كما في شكل تكوين القصيدة، التي يمتد فيها الحبل رابطاً بصيغة لفظتي الشرط، “فإن”، “فإذا”، اللتين تتكرران ثلاثة عشر مرة، بعد النذير الذي يأتي على شكل صورةٍ مرعبةٍ للواقع، كما في:
“يولد الطفل بأحداقٍ مفتوحة
وأبوابٍ موصدة.
خطواته برزخ الشوك والشراك
يشبّ ويهرم ويشيخ
ولا يكاد يحبو.
فإنْ عبرتم رملَها
اطمئنوا عليها
واحملوا لأطفالها فيما يكتهلون،
الوردَ والهدايا
ترى إليكم ممتنة
شامخة تكاد أن تهوي”.
وكذلك في:
“فإذا كنتم في ساحلٍ أو مركبٍ أو رحيل. ولمحتم ذلك البريق الوامض، فلا يظنّنَ أحدٌ أنها سماءٌ. إنه بحرٌ يستفردُ بالطريدة. فجرّدوا أدواتِكم لتخطّوا تاريخَها. حيث العاصفةُ شقيقةُ الطريق، والسفنُ خشبٌ يرسم النعشَ. والصواري صليبٌ يسَع الفيزياء والشكّ”.
ـــ في الكتاب الثاني، الذي خصّصه للسوناتا تحت عنوان: “سوناتات السفر”، يصيغ حداد ست عشرة قصيدةَ تفعيلة، وقصيدة نثر واحدة، تحت عناوين قصيرة موحية. ويتخلل اثنتين من قصائد التفعيلة أشطر نثرٍ، لم تخلخل إيقاعهما، كما يفعل الشاعر عادةً في المزج عندما يتطلب جو القصيدة ذلك. وتتجاوز مواضيع القصائد مواضيع السوناتا المعروفة، كما تتجاوز تركيبَها التشبيهي إلى التركيب الحديث المنتظم، في تعديلِها لموسيقى الحجرة، وإن أبقتْ على الحبّ والغناء والطبيعة التي تنشغل بها السوناتا الكلاسيكية، كما في أحزان الجوقة:
“أعطيكِ ريف الكمانات تنزف أحزانُها/جوقةً جوقةً /لفرط غيابك /وأوقظ ماءً وشمساً /وأزرع زهراً حزيناً ببابك /وأرسم سنبلةً تنحني بالغيوم الثقيلة /سائلةً عن جوابك /أيتها الأرض أبكي لعينيك /كي تنقذيني، /تضيعين بي في السديمِ /كأني عذابُك”.
مع إدخال الشاعر همّ إبداع القصيدة مترابطاً مع مواضيعه، كما في: “نصف القصيدة”: “من رأى جنة تستعيد الكتابة من نارها، /هل أنا في القصيدة /هل أنا نصْفُها”. إضافةً إلى إدخاله الرموزَ في نسيج قصيدته، وأبرزها رمزُ شجرة الزنزلخت الطبيعي، الذي يعود إلى هدهدة الأمّهات لأطفالهنّ وهنّ يعقدن عقودَ الأساور من ثمارها، ورمزُ الفتى الحجر الذي يعودُ إلى الشاعر تميم بن مقبل، واستخدامات محمود درويش له؛ خارج التشبيه الذي يخلق الانفصال، وداخل المنظومة التي يعيش فيها الشاعر كخليّةٍ من خلايا الكون، وكنغمةٍ في هارمونية حركته.
ـــ في الكتاب الثالث الذي خصّصه للتروبادور، تحت عنوان: “أناشيد التروبادور المرحة”، والذي ضم خمسة عشر قصيدةَ تفعيلة، بإدخالاتِ أشطر نثرٍ لا تضير حيث يَحسُن المقام؛ يفتح حداد شرفات حجرة الموسيقى، لنعيش دون أن نفقد التناغم، طلاقةَ أغاني الشعراء الجوّالين، فرساناً وصعاليك، نبلاء ورعاة في الطبيعة والأسواق والمسارح. لكن هذا يتمّ بتعديلٍ أيضاً للمواضيع والأشكال التي تشكل همّ حداد، في كشف أوهام الإنسان لنفسه في تعامله مع الآلهة، وفي تحذير الملوك والسلاطين من لقاء مصير ما ارتكبوا، وفي حسراته وأسفه على آثام الإنسان في تخريب بلاده، والإساءة إلى أخيه، وفي همّه الإبداعي بالخلاص من تصنيم ما يقدّمه التراث، وفي صقل نظر الإنسان، ليرى ما يراه لا ما رآه له الآخرون، ومن ذلك، نظرته المتحسرة على فداحةِ خسارة امرئ القيس الذي:
“ما كان له أن يترك بيت الشعر /ويسعى نحو الرّوم، /كأنّ تخومَ الصحراء التسعة /وصهيلَ الخيل وريفَ الزهر الأصفر /وامرأةً في حريتها، /نارُ الكلمات طريقٌ للجنة،../لا يكفيه، /كأنّنساء العشقِ يَجدْن الأملَ الآخر فيه. /هل كان على الشاعر أن يترك مجداً يملكهُ /كي يسعى للخسران؟ /إذا كانَ.. /فمَن يأخذُ رايتنا الآن؟”.
ـــ عبر فصوله الثلاث المجموعة ككتب في “تعديل موسيقى الحجرة”، يخلق حداد سيمفونية شعر، ثرية بلغتها التي تنبض بتفاصيل حياة وتاريخ وتراث البحرين، وتراكيبها الحديثة، وصورها التوليدية المتراكبة، مع ثقافتها العميقة المتداخلة مع الثقافة الإنسانية. ويضيف حداد التناغم إلى سيمفونيته شكلاً ومضموناً، لتصلح دون قصدٍ بذلك، أن تكونَ درساً للشعراء والكتاّب في كيفية هيكلة بنى كتبهم. وفي إغنائها بالموضوعات التي تتقاطع مع واقعهم، وأحلامهم، وطرق إبداعهم، دونَ أن يفقدوا طلاقة دمهم في الحركة خارج حدود الهيكلة وداخلها في آن. وأن يعيشوا مع القارئ متعةَ التناغم الدقيق الخلاّق الذي ينتظم كاملَ الكتاب بما في ذلك إهداءه الذي تدمع مع فرط شاعريته أعينُ الآباء، لصديق الموسيقى، الابن الذي:
“أطلّ عليه من كوّة في الكون
أراه يهرول تحت المطر
مظلّته أغنية لم تكتب بعد
وفي عينيه تتراكض فراشات النوم
ثمّة أحلامٌ كثيرة تنتظر عودَتَه
هذا الذي إن تريّث، يمشي في جذلٍ
منسّقاً وقعَ خطواتِه مع دقّات قلب الطبيعة”.
قاسم حداد: “تعديل في موسيقى الحجرة”
الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2017
208 صفحة.
جريدة القدس العربي