عندما صدر الجزء الأول من كتاب «خطابات محمد خان إلى سعيد شيمى»، عن دار الكرمة، وصفته بأنه حدث ثقافى كبير، وليس مجرد حدث فنى أو سينمائى، ومع صدور الجزء الثانى الضخم من الكتاب عن نفس الدار بعنوان «خطابات محمد خان إلى سعيد شيمى.. انتصار للسينما»، من تقديم الناقد أحمد شوقى، يتأكد تمامًا هذا الوصف، حيث يتجاوز الأمر خطابات بين اثنين من أصحاب الصداقات المدهشة، لنصبح أمام مرآة ضخمة لزمن وعصر، وصورة عملاقة لثقافة وأحلام اثنين من أبرز أبناء جيلهما فى عالم السينما.
كنت شاهدًا منذ البداية على رغبة خان، قبل وفاته، أن تنشر هذه الخطابات/ الكنز، التى احتفظ بها صديق عمره طوال هذه السنوات، والتى كتبها خان من لندن وبيروت، من نهاية الخمسينيات، وحتى النصف الثانى من السبعينيات، وأشهد الآن أنها خرجت بأفضل شكل ممكن، وبكل تفاصيلها الإنسانية والفنية، وبتعليقاتٍ شارحة لا تقل أهمية عن متونها.
خان فى الجزء الثانى من الخطابات (من 1967 إلى 1972) صار بحكم السن والتجارب أكثر نضجًا، ولكن جنونه بالسينما لم يتغيّر، فى سن الثلاثين تراكمت أمامه سحب اليأس، كان لديه إحساس أنه لم يحقق شيئًا بعد، يعترف أنه فكّر فى الانتحار، وخصوصًا مع تدهور صحة والده، وعدم ثبات الدخل، ولكن طاقة الحياة القوية التى عرفناها مباشرة فى محمد خان تتغلب فى النهاية، لا يتوقف عن إرسال القصص والسيناريوهات القصيرة إلى شيمى، بل يطلب منه الاتصال برشدى أباظة وشكرى سرحان للقيام ببطولة هذه الأفلام المكتوبة، ولا يتوقف عن كتابة ريفيوهات لما شاهد من أفلام عالمية فى لندن، بل ويفتخر أنه شاهد أربعة آلاف فيلم طويل، كما يصدر فى لندن كتابا بالإنجليزية بعنوان «مقدمة فى السينما المصرية»، ولا يتوقف أبدًا عن الحب والمغامرات العاطفية، من جينى الأمريكية إلى فتاة مصرية يسميها «نفرتيتى».
الولع بالسينما واضح فى كل صفحة، إنه يعتبر صداقته مع شيمى من نوع خاص ورفيع، لأنها صداقة فى السينما، ويسرد خان حصاد كل خطواته بطريقة مذهلة، فيقول مثلا إنه حاول بين عامى 1966 إلى 1969 أن يدخل الحقل السينمائى، وأرسل 25 طلبًا إلى من يعنيه الأمر دون أى نجاح، فى بريطانيا درس السينما، واشترك فى مسرحيات، وأرسل سيناريوهات للتليفزيون، ولكن قلبه كان دومًا فى مصر: لا يثير غضبه أكثر من وصفه بأنه «الشاب الباكستانى»، ويذهب عشية حرب يونيو 1967 إلى القنصلية المصرية فى لندن، لكى يتطوع فى الحرب ضد إسرائيل، ويرافق فيلم «المومياء» فى مهرجان لندن، أو فى عروضه التجارية، شاعرًا بالسعادة وكأنه فيلمه شخصيًا؛ لأنه فيلم عظيم من مصر، وتنزل الدموع من عينيه وهو يستمع بالصدفة إلى أغنية فريد الأطرش «هلّت ليالى حلوة وهنية»، ويرسل سلامه إلى السينمات والشوارع وأكواب عصير القصب، ويعبر دومًا عن وجهة نظر ناضجة جدًا، سواء فى قراءة الأفلام، أو فى نوعية السينما التى اختارها، تكنيكًا ومضمونًا.
عرفتُ خان شخصيًا، وأصدرت كتابًا عن أفلامه، وجلست معه كثيرًا، كان حكاء بارعًا، ولكنه لم يكن يذكر أبدًا أى تفصيلات عن هذه «المرمطة» و«البهدلة» فى عشق السينما، ولم يقل أبدًا إنه فعل كذا وكذا فى سبيل وطنه الذى ولد فيه وأحبه، كان يعتبر كل ذلك واجبًا وقربانًا يجب أن يدفعه، ولكنه أراد أن تنشر الخطابات لكى تستفيد منها الأجيال الجديدة، أراد أن يقول إنه لا نجاح بدون تعب ومعاناة، لعله أراد أيضًا أن يفهم عشاق السينما أن وراء أفلامه رؤية خاصة للسينما وللحياة وللبشر، تكونت على مهل، وأنضجتها التجارب والصدمات.
خطابات خان إلى سعيد شيمى تكشف بوضوح أن شخصيات أفلامه تعكس طبيعته هو: لقد صاروا تعبيرًا عنه فى دأبه وصبره ورومانسيته، وفى حبه للناس والأماكن، وفى فروسيته وبساطته الآسرة.
الشاب المصراوى حتى النخاع جعل من أفلامه تعبيرًا عن هويته التى لا يمكن محوها، فجمع بضربةٍ واحدة بين عشق السينما، وعشق الوطن.
جريدة الشروق المصرية