يخلص الباحث إلى أنه رغماً عن المعلومات الخاطئة والخيالية في تأريخ هيرودوت، إلا أن رواياته تشكل مصدراً هاماً عن السودان القديم، ليس فقط من حيث أسبقيته أو من حيث أنه أصبح أساساً استقت منه الأعمال اللاحقة، ولكن بفضل سلسلة من المعلومات الموثوقة في كتابي التواريخ الثاني والثالث.

نص هيرودوت عن السودان القديم

وصف السـودان القديم

كما قدمه المؤرخون والجغرافيون الإغريق والرومان (في الفترة 430 ق.م-550 ميلادية)

أسامة عبدالرحمن النور

 

منذ أقدم الأزمان تخيل طوباويي الإغريق والرومان (العوالم المثالية) في الهوامش البعيدة في الجنوب أو الشمال، في الشرق أو الغرب. عادة ما اقتنت أعمالهم شكلاً وصفياً لرحلات خيالية. لذلك جاءت توصيفاتهم للأراضي البعيدة والشعوب التى تعيش فيها مليئة بالخيال.

كتب آدمز قائلاً بأن منظور أولئك الكتاب للسودان القديم تميز بـ(نزعة الإعجاب الرومانطيقية) بداية بهومر الذى كان الإثيوبيون في رؤيته رجالاً مستقيمين ومحبوبين من قبل الآلهة. إعجاب مماثل وجد انعكاسا له في الوصف الرومانطيقى الذى قدمه كل من هيرودوت وسترابو لمروى، وفي الغرام "الإثيوبي" الشائع الذى ميز أواخر العصر الكلاسيكي.

كان هيرودوت هو المؤرخ الإغريقي الأول الذى حفظ لنا معلومات موثوقة إلى حد ما عن السودان القديم. كما هو معروف، فقد زار مصر في سنة 448 أو 447 ق.م. وبقي فيها قرابة الأربعة أشهر. بالتالي، فإن الوقت كان كافياً له للتعرف على الكثير من المعلومات. لم يكتب له الوصول إلى السودان، لكنه زار المنطقة الحدودية -جزيرة ألفنتين- حيث وجدت آخر حامية فارسية في الجنوب.

جسدت زيارة هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد نقطة تحول في تدوين تاريخ السودان القديم وفي التاريخ المصري على حد سواء. لم يرتحل هيرودوت أبداً بشخصه إلى ما وراء أسوان، لكنه استجمع من المسافرين والتجار وصفاً جغرافياً دقيقاً (بالنسبة له) ومثيراً للعجب عن الأراضي الأبعد بأعلى النيل.

إلى اليوم فإن معرفتنا بمملكة مروى تعتمد في قسط منها على بينة هيرودوت، رغم أنه لم يشاهدها مطلقاً. إن عمله هو الأقدم الباقي عن تاريخ السودان القديم وجغرافيته والذي يحق له ادعاء الشمولية أو الموضوعية، مع أنه يمكن أن يكون مسبوقاً بسرد هيكاتيوس المفقود. تنحصر أهمية المعلومات التى أوردها هيرودوت عن السودان القديم ليس فحسب في قدمها، لكن أيضاً في تنوعها. في الحقيقة فإن الجزأين الثالث والرابع من "التواريخ"(1) احتفظا بالكثير من المعطيات عن هذه البلاد، وهى معلومات تقارب الحقيقة إلى حد بعيد.

يفرق هيرودوت أيضاً بين الإثيوبيين الشرقيين، ذوي الشعر السبيبي، والإثيوبيين الليبيين الذين يكون "شعرهم مفلفل إلى درجة لا توجد لدى شعب آخر". بالإثيوبيين الشرقيين غالباً ما كان يقصد شعوب جيدروسيا وكرمانيا؛ في حين المقصود، في الغالب، بالإثيوبيين الغربيين هم السودانيين (الكوشيين) الذين يعيشون، حسب قوله، "في قطر نائي في جنوب غرب الأرض الصالحة للسكن-إثيوبيا. فيها يوجد الكثير من الذهب، وفيها ترعى أفيال ضخمة، وتنبت أشجار من كل الأنواع".

يحدد بهيرودت دقة تخوم السودان الشمالية-جزيرة ألفنتين. كما ويلاحظ هيرودوت الاختلاف بين سكان مناطق الجنادل النيلية السفلى المتاخمة لمصر وبين "الإثيوبيين طوال الأعمار"- قبائل شلالات النيل العليا المتزنجون. الحقيقة، أن وصفهم الوارد في سرد هيرودوت لحملة قمبيز، مشحون أدبياً بالصيغ الجمالية المميزة للتقاليد الإغريقية القديمة، مع أن المصريين في عصر انهيار دولتهم تمكنوا من خلق تصور كمالي لمملكة مروي القوية المستقلة حيث حفظت العبادات القديمة. لم يغب عن هيرودوت التأثير الثقافي للمصريين على السودانيين، وهو ما يجعله متميزاً عن بعض الكتاب اللاحقين، على سبيل المثال ديودور الذى يعبر عن وجهة نظر مغايرة كلياً. من بين المعلومات المؤسسة بحق الإشارة إلى مائدة الشمس في مروي - المنصوبة أمام معبد الشمس، حيث قدمت لحوم الحيوانات المذبوحة قرباناً إلى الجمهور، وكذلك الإشارة إلى التقاليد المتبعة هناك في اختيار الوريث للعرش عن طريق الوحي، مع أن تلك المعلومات قد لا تتوافق مع الحقيقة في حالات. الواضح، أنه في أزمان هيرودوت كان الرحالة الإغريق يمتلكون قدراً من المعلومات عن العاصمة الجنوبية البعيدة، ذلك أن سرد هيرودوت ينطلق من أرضية تقاليد إغريقية وليست تقاليد مصرية كما هو الحال بالنسبة لسرده عن مصر.

وصلت إلى هيرودوت مأثورة إخضاع سنوسرت والفراعنة الآخرين للسودان القديم، رغم أن سجل هيرودوت بهذا الخصوص ملئ بالتحريف وتشويش التواريخ، والحقائق، والأسماء : يُعد زسوسترس(2) الملك الوحيد الذى خضعت له الأطراف الشمالية للسودان القديم. هذا الخطأ من اليسير تفسيره: ظلت طازجة ذكرى سيادة السودانيين على مصر، وهى سيادة ظل السودانيون يؤكدون شرعيتها (على سبيل المثال الملك نستاسن) حتى عندما كانت مصر تحت السيادة الفارسية.

حُرفّت أيضاً رواية احتلال السودانيين لمصر. غير واضح من هم الـ 18 ملكاً الذين حكموا مصر. كان لبسيوس قد طرح فرضية في وقته تقول بأن هؤلاء شملوا إلى جانب ملوك الأسرة الخامسة والعشرين فراعنة الأسرتين الخامسة والسادسة (Lepsius 1849). إلا أن الأخيرين ترجع أصولهم إلى إقليمي ألفنتين وطيبة. ممطوطة أيضاً وجهة نظر بودنجير(3). إذا استبعدنا احتمال الخطأ في هذه الحالة فإن سؤالاً يبرز بشأن المصدر الذى استند إليه هيرودوت في وضع ملوك سودانيين، مثل كاشتا، وبيَّا، وتالتاماني، وكذلك أمراء مستقلين أو شبه مستقلين حكموا في تلك الفترة الغامضة في أقاليم متفرقة ونسبوا لأنفسهم لقب سيد كل الأرض، سوياً مع الملوك المصريين.

يحتمل أن تكون إفادة هيرودوت اعتمدت على المأثور الشفهي أو على سجل من سجلات احد الأقاليم الجنوبية لمصر، والتي كانت تربطها علاقات صداقة بالسودانيين في عصر السيادة الآشورية والسيادة الفارسية، حيث أن السودانيين أسهموا بنشاط في انتفاضات المصريين ضد المحتلين الأجانب، ونُظر إلى ملوك نبتة بوصفهم حكام مصر الشرعيين. جلي أن التقاليد التى حفظها هيرودوت تؤكد على علاقات المصريين الحميمة بالسودانيين.

الحقيقة أن مانيثو في فترة لاحقة، وهو من أصل سيفينتي، عكس في كتاباته وجهة نظر مصر السفلى المعادية لـ بيَّا وخلفائه الذين أخضعوا تحت قبضتهم مدن الدلتا. هكذا نجد أن شباكا وتهارقا يمثلان، من وجهة نظره، قتلة قساة (Manetho 1958). لكن هيرودوت لا يتبنى وجهة النظر الشمالو-مصرية هذه، ففي كتاباته يصور سباكون (شباكا) حاكماً عادلاً وإنسانياً؛ الإثيوبيون بالنسبة لهيرودوت خيرون، وبلادهم غنية وخيراتها وفيرة.

يحتمل أن يكون هيرودوت قد وقع تحت تأثير الشعور الطيب السائد في التقاليد المصرية تجاه السودانيين بالإضافة إلى روايات المرتزقة الإغريق عن الكنوز التى لا حصر لها لدى ملوك نبتة ومروى. ما كان الأمر صدفة أن هربت، في راي ساونيرون ويوته، الفرق الإغريقية في عهد ابري إلى السودان (Sauneron and Yoyotte 1952).

من بين الملوك السودانيين عرف هيرودوت بالاسم واحداً منهم فقط –ساباكون- شباكا، والذي تحدث عنه أكثر من مرة. خمسون سنة دامت فترة حكم شاباكا على حد تعبير هيرودوت، بالتالي فإنها تتوافق مع فترة حكم الأسرة الخامسة والعشرين(4). الحقيقة، أنه من خلال مثل هذا المنظور الكرونولوجى يصبح من غير الممكن تحديد الملك الضرير انسيس الذى حل محل ساباكون (هيرودوت، الكتاب الثاني، 137).

المأثور الذى يقدم لخروج الإثيوبيين من مصر يتداعى مع مسلة الحلم الشهيرة للملك تالتاماني، حيث وردت الوقائع وفق ترتيب مختلف : حلم الملك سابق للحملة على مصر. كذلك فإن تحديد الأطر الزمنية لحملة سنحاريب على مصر في عهد الملك ستون يتسم بقدر من شبه الخيال ولا يتطابق مع الواقع. فالملك الأخير هذا لا يوجد أثر واحد دال عليه. يحتمل أن يكون ستون هذا واحداً من أمراء مصر السفلى. حملة سنحاريب يمكن احتمالاً إرجاعها لعهد تهارقا أو شبتاكا، الذين دخلا في مواجهات مع الآشوريين، وهى مواجهات نالت حظاً وافياً من السرد في الكتاب المقدس [ايسيا، 37-9؛ كتاب الملوك 19-9] والحوليات المسمارية (Streck 1916).

أخبار بسامتيك الأول بوصفه الخلف للأسرة الخامسة والعشرين تتطابق تماماً مع الواقع التاريخي، وكذلك الأخبار عن حملة بسامتيك الثاني على السودان وهو الشئ الذى تؤكد عليه نقوش المرتزقة الإغريق في أبي سمبل التى سبق ذكرها. في الحقيقة فإن هيرودوت يعد الملكين شخصاً واحداً. فيما يتعلق بذكر إخضاع قمبيز "للإثيوبيين المجاورين لمصر"، فإن هذه الحقيقة لا يجدر اعتمادها الآن. هامة للغاية الملاحظات المتقطعة عن "الإثيوبيين طويلي الأعمار"(5)، والذين يشار بهم إلى القبائل التى تعيش في جنادل النيل العليا. هذه هي المعلومات الأولى التفصيلية، رغم أنها غير موثوقة تماماً، عن سكان المناطق الشمالية لوسط أفريقيا.

إلى جانب الخرافات الأسطورية، المعتادة في الروايات الإغريقية عن الشعوب البعيدة، فإن فيها، بلا شك، نطفة من الحقيقة الهامة بالنسبة لنا والتي سوياً مع المصادر المحلية يمكنها أن توضح خصائص الأوضاع الاجتماعية لتلك القبائل ليس في القرن الخامس ق.م. فحسب بل حتى في القرون السابقة.

وقد قدم المرتزقة الإغريق، الذين رافقوا حملة الفرس التأديبية على السودان، وكذلك بعض التجار الإغريق الفرادى، وأيضاً المصريون، ولو أن الأخيرين بشكل أقل، إلى هيرودوت المعلومات التى تهمه(6). هكذا، فإن الأخبار التى أوردها هيرودوت عن كوش تماثل، من حيث الموثوقية والجودة، تلك التى أوردها عن مصر. الاختلاف فقط في أنه فيما يتعلق بالسودان فقد وجد نفسه مضطراً للاعتماد على المصادر، طالما أنه لم يذهب إلى هناك، وبالتالي ما كان أمامه من طريق للتأكد والتدقيق.

بعض وصفه حي للغاية ومعبر وصحيح، على سبيل المثال وصفه لمنطقة الجندل الأول حتى فيله. التصور العام عن الأماكن الواقعة إلى الجنوب من فيله، مع عدم دقة تحديد بعد المسافات بين بعض المواقع المأهولة والخطأ في تثبيت أمكنتها، لا غبار عليه في وصف هيرودوت. هكذا نجد أنه يحدد موقع مروي أبعد إلى الشمال من موقعها الفعلي، وسمى جزيرة فيله بـ تاكمبسو، رغم أن تاكمبسو تمتد على ضفتي النيل في منطقة سيّني وتتطابق في الغالب مع الدوديكاسخيون. الرواية الخاصة بتتويج بسامتيك الأول وبالهجوم الآشوري، كما هو الحال في العديد من الروايات التاريخية، مأخوذة عن معبد بتاح في منف.

من كل ما قيل يمكن استنتاج، أنه على الرغم من المعلومات الكثيرة الخاطئة والخيالية، فإن روايات هيرودوت تشكل مصدراً هاماً يكمل معلوماتنا عن السودان القديم، ليس فقط من حيث أسبقيته أو من حيث أنه أصبح أساساً استقت منه الأعمال اللاحقة - ديدور، سترابو وغيرهما، ولكن بفضل سلسلة من المعلومات الموثوقة المحتواة في كتابي التواريخ الثاني والثالث.

من بين الكتاب الإغريق الذين وصلت إلينا أعمالهم الأقرب إلى هيرودوت زماناً ومن حيث محتوى العديد من الروايات يمكن ذكر أرسطو (384-322 ق.م.). أكثر من ذلك، فإن بعض المقاطع تكاد تكون مأخوذة مباشرة عن عمل هيرودوت. في رأي أرسطو، تقع إثيوبيا في نهاية الأرض المسكونة؛ فيما وراء ذلك تستحيل الحياة بفعل الحرارة الحارقة. لديه معلومات عن جبال الفضة التى ينبع منها النيل، والتي تفصل ما بين الإثيوبيين الشرقيين والغربيين.

المظهر الخارجي للقبائل الزنجية يصفه أرسطو بدقة (تاريخ الحيوان، الكتاب الثالث، 9)، وهو أمر طبيعي حيث أن الإغريق قد تعرفوا على الزنوج منذ أزمان طويلة سبقت أرسطو؛ ويفسر تجعد الشعر المميز للزنوج بعوامل المناخ. وجاء وصفه للنظام السياسي في السودان القديم قريباً من وصف هيرودوت. أيضاً أخذ عن هيرودوت وصف "الثعابين المجنحة". بالتالي يجوز القول بأن تصورات أرسطو عن السودان القديم اعتمدت على أعمال "أب التاريخ"، لكن عرض أرسطو الجغرافي أكثر اتساعاً: فهو يعرف الجبال والأنهار في تلك البلاد، بخاصة الفروع الشرقية للنيل.

وسعت حملات الاسكندر المقدوني كثيراً من أفق الإغريق الجغرافي. إنهم يصلون إلى بلدان وبحار بعيدة، وتنامت كميات الأعمال الوصفية لمناطق متفرقة. في الحقيقة فإن تلك الأعمال الوصفية قد خلطت الخيالي بالواقعي. فيما بعد هيرودوت حتى نهاية القرن الرابع، عندما أقيمت مسلة نستاسن، لم تتوفر عن السودان القديم أية كتابات. وقد غطت النقوش التى تم الكشف عنها في كوة (جم آتون) بعض الفراغات، لكن ذلك ليس بالشكل الكامل. لهذا السبب يحتل أهمية خاصة ما توفر في شكل مقتطفات لدى الكتاب المتأخرين عن أعمال جيل من رحالة، وعلماء، ومؤرخي، وجغرافيي القرنين الأولين للعصر الهلنستي.

بلا شك، فإن الأول منهم كان فيلون، الذى كان احتمالاً أدميرالاً لبطليموس الأول. وصف رحلته إلى السودان القديم باسم إثيوبيكا، وأعطى سلسلة من التحديدات الفلكية الدقيقة لبعض النقاط، والتي استخدمها فيما بعد كل من جيبارخ وارتوسفين(7). عنوان فيلون يتكرر في أعمال الكتاب اللاحقين الذين كتبوا من بعده حول الموضوع نفسه.

تعمق داليون، الذى عاش في أزمان البطالسة الأوائل، أكثر من سابقيه في القارة الأفريقية. تؤرخ رحلته، في الغالب، بالسنوات الأولى لحكم بطليموس الثاني فيلادلف (285-246 ق.م.)، والذي كان قد أمر بتسيير هذه البعثة. انطلاقاً من الإشارات الشحيحة التى أوردها بليني، فإن داليون قد صعد مع النيل إلى ما وراء مروي وبالتالي كانت له فرصة أن يورد في عمله وصفاً للشعوب التى تعيش في أعالي النيل. يبدو أنه وفي الوقت نفسه تمكن تيموسفين من التغلغل عميقاً في البلاد وحدد المسافة بين سيّني ومروي برحلة ستين يوماً.

إن المعلومات التى أوردها داليون ساعدت إلى حد بعيد اراتوسفين في كتابة جغرافيته Geographika. بالطبع، فإن هذا الرجل الموسوعي الذى كان من أكثر أبناء جيله تعلماً (275-195 ق.م). استخدم إلى جانب مكتبته الخاصة كنوز مكتبة الإسكندرية. وجد اراتوسفين فرصة لاختيار أكثر المواد اكتمالاً وموثوقية.

ما يدعو إلى الأسف هو ضياع بعض مقتطفات جغرافيته وكذلك بعض مقتطفات "التاريخ الطبيعي" لبليني، التى يتحدثان فيها عن أعمال فيلون وداليون. بمساعدة حسابات فيلون تمكن اراتوسفين من تحديد خط عرض مروي وسيّني، مرتكباً في كلا الحالتين خطأ يقارب الأربع دقائق. ويدين اراتوسفين أيضاً، في الغالب، لكل من فيلون وداليون فيما يتعلق بالإشارة إلى روافد النيل. بالنسبة للأجيال اللاحقة حتى نهاية القرن التاسع عشر ظلت هذه تمثل معضلة لم تجد حلاً لها.

كتب ارستوكريون، وبيون، وباسليس الذين يستند اليهم أيضاً بليني، عن السودان القديم في أعمال عامة أو متخصصة وعاشوا، في أغلب الاحتمال، في وقت متزامن مع اراتوسفين، أو أنهم كانوا أنداداً له أصغر سناً. مقتطفات متفرقة من عمل ارستوكريون عن الأراضي الواقعة إلى الجنوب من مصر بقيت محتفظ بها في عمل بليني وفي عمل كلاودي اليان. إذا احتكمنا إلى المقتطفات التى سلمت،

المعلومات الواردة في عمل ارستوكريون تبدو غير موثوقة. مع ذلك لا يجدر الإصرار على مثل هذا الحكم القاسي: المتطرفون يمكن أن يعتمدوا على روايات أشد خرافية. عدم صحة روايات ارستوكريون كان من الممكن تبريرها، في حالة إذ لم يقم شخصياً بزيارة السودان، لكنه يشير بدقة إلى طول المراحل المتفرقة للطريق حتى مروي.

لذلك يوجد أساس للافتراض بأن ارستوكريون عرف تلك البلاد مباشرة لا عن طريق طرف ثالث. إذ لم يك قد زار البلاد، فإنه لا بدَّ وقد امتلك مصادر جيدة للغاية، والتي لم تجذب، للأسف، انتباه الكتاب اللاحقين الذين استندوا إلى عمله. على كل، فإن شهاداته، حتى من القليل الذى وصل منها بفضل اليان، تحمل بذرة من الحقيقة.

القليل معروف عن سيمونيد الذى عاش خمس سنوات في مروي. سنوات حياته غير محددة تماماً. اسم عمله غير معروف وهو عمل استخدمه بليني. قد يصح التكهن بأن رحلة سيمونيد إلى مروي ترجع إلى عصر أقدم، ذلك أن بليني يذكره مباشرة عن طريق كتاب عاشوا في القرنين الثالث-الثاني ق.م.

يمكن أن يفسر ازدهار التجارة في عصر البطالسة الأوائل مع البلدان الجنوبية، المتاخمة للبحر الأحمر والواقعة في أعالي النيل، الكم الهائل من الأعمال التى ظهرت في القرنين الثالث-الثاني ق.م. المكرسة لوصف المناطق الواقعة إلى الجنوب والشرق من مصر.

يتحدث سترابو مباشرة عن الاهتمام الذى أبداه البطالسة، بخاصة بطليموس الثاني فيلادلف، لمثل هذه المسائل. بدءاً من القرن الثاني ق.م. تأخذ عددية مثل تلك الأعمال في الانخفاض. وأصبحت أكثر ندرة في القرن التالي. ردد كتاب القرن الثاني ما أورده السابقون لهم، دون أن يدخلوا أية معلومات جديدة. لكننا ندين لهم بالفضل تحديداً لكونهم حفظوا ذلك القليل المتبقي من أعمال الأزمان الأسبق. تكمن قيمة أعمالهم في اعتمادها المباشر على قدرات ومواهب الكتاب الذين أخذوا عنهم. يصبح العلماء المكتبيون هم الأكثر بروزاً.

من أبرز أولئك ديدور الصقلي الذى كان في وضع أكثر ملائمة من هيرودوت: كانت مصادره أكثر اتساعاً وموثوقية، لكن تناوله السطحي للموضوعات أعاق استفادته الكاملة من تلك المصادر. مع ذلك فإن عمل ديدور المكتبة التاريخية يضيف الكثير من التصحيحات على عمل هيرودوت.

حقيقة أنه وخلال الأربعة قرون التى تفصل بين الكاتبين جرت تحولات في كل من مصر والسودان في نمط الحياة وفي الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية. كان ديدور أكثر معرفة بتاريخ مصر والسودان والبلدان الواقعة إلى الجنوب والشرق منهما وباثنوغرافية تلك البلدان مقارنة مع سترابو وبليني الذين كتبا بعده.

هكذا نجد، على سبيل المثال، افادته بأن "أربعة ملوك إثيوبيين حكموا لمدة 36 سنة" وهى أقرب إلى إفادة مانيثو. يلاحظ ديدور العلاقة الطيبة تجاه الملوك السودانيين. يشير أيضاً للاحتلال المصري للسودان القديم في عهد زيزوستريس الأسطوري. الأكثر قيمة لتاريخ السودان القديم في سرد ديدور ما كتبه في الفصول الأولى من الكتاب الثالث للمكتبة التاريخية حيث يقدم وصفاً للبلاد والقبائل المجاورة لها، وعاداتها وتقاليدها. الفصول المعنية تحتوي على معلومات لا يمكن تجاوزها من جانب أي مؤرخ دارس للسودان القديم. مثله مثل هيرودوت ينظر ديدور نظرة مثالية لبعض جوانب حياة السودانيين القدماء وعاداتهم.

أما سترابو فإنه يجوز القول بأن اهتماماته الجغرافية جعلته لا يعير الأحداث التاريخية اهتماماً كبيراً، بخاصة ما يتعلق بالتاريخ البعيد.

وصل سترابو إلى حدود السودان القديم في عام 24 أو 25ق.م، واستخدم لوصف السودان أعمال كتاب آخرين، بخاصة عمل ارتيميدور، وإلى حد ما عمل أجثارخيد. احتوى مؤلفه الجغرافيا على معلومات معتبرة عن بيئة السودان وطبيعته وموقع عاصمته. ويبدو أنه عرف من المشاركين في حملة بيتروني الكثير عن عادات السودانيين وبخاصة القبائل التى تعيش في منطقة مروي وإلى الجنوب والجنوب الشرقي منها.

يحتوي عمل بليني الأكبر التاريخ الطبيعي (Einaudi 1982-8) على قدر كبير من المعرفة بشمال شرق أفريقيا، خصائص المنطقة: جغرافيتها، وثرواتها الطبيعية، وعالمها النباتي والحيواني. نجد لدى بليني ذكر للعديد من المراكز المأهولة، بما في ذلك المراكز الرئيسة في عصر المملكة الوسطى، موضحاً المسافات بين تلك المراكز، ومعلومات عن القبائل التى تقطن حوض النيل وبالقرب من سواحل البحر الأحمر، ووصف لثروات البلاد الطبيعية. المعلومات التاريخية نادراً ما لقيت اهتماماً من جانب عالم الطبيعة بليني.

آخرون من الكتاب مثل اراتوسفين، وكلاودي بطليموس قدمت أعمالهم الكثير من المعلومات الجغرافية عن السودان القديم. نقول بأن المصادر الإغريقية والرومانية (الكلاسيكية) تضيف الكثير للمعلومات التى نستقيها من علم الآثار السودانوية والمعطيات الابيجرافية، ومن ثم فإنه لا يمكن استبعادها إذا أردنا أن نعيد تركيب صورة أقرب للواقع لتاريخ السودان الحضاري القديم.

* * *

الهوامش

(1) تجدر الإشارة إلى أن ترجمة جديدة إلى العربية لكتاب هيرودوت "التواريخ" ظهرت مؤخراً أنظر: هيرودوت، تاريخ هيرودوت، ترجمة عبدالفتاح الملاح، المجمع الثقافي أبوظبي، الإمارات العربية المتحدة 2001. من هنا فصاعداً الإشارة ستكون إلى هذه الترجمة.

(2) زيزوسترس في قراءة الكتاب الإغريق القدماء (ارسطو، وبوليبى، وماجاسفين، واراتوسفن، وديدور وغيرهم) - شخصية أسطورية تشمل في ذاتها سمات عدد من الفراعنة المحاربين الذين وسعوا حدود مصر في عصر المملكتين الوسطى والحديثة: سنوسرت الأول وبخاصة سنوسرت الثاني، وكذلك بالطبع رمسيس الثاني (Wiedemann 1920: 392-405). حاول بعض علماء القرن التاسع عشر مطابقة زيزوسترس بـ سنوسرت الأول والثاني (ويلكنسون)، وسيتي الأول ورمسيس الثاني (لبسيوس وبونزين). مع ذلك فإن مطابقة كاملة غير ممكنة، ذلك أن زيزوستريس فاقد لأية سمات تاريخية محددة، ويرجع اسمه إلى فراعنة الأسرة الثانية عشر-السنوسرتين ورمسيس الثاني (Lange 1954: 12-27).

(3) يرى م. بودنجيرا أن هيرودوت، بوصوله إلى طيبة، علمَّ في دفتر مذكراته ثلاثة ملوك كوشيين معروفين- شباكا، وشبتاكا، وتهارقا- بثلاث شرطات، وفيما بعد، لدى كتابته لمؤلفه، قرأ الشرطات بوصفها ΙΗ أي 18. يصعب علينا تصور أن يكون هيرودوت، مثله مثل عالم معاصر أو سائح، ظل يتنقل حاملاً معه دفتر يومياته لتدوين ملاحظاته.

(4) يرى ستروفه (Струве 1941: 66) أن الثلاثة ملوك الذين كونوا وفق مانيثو الأسرة الخامسة والعشرين، حكموا 40 سنة: من 726 حتى 686 ق.م فوق ذلك، حكم كاشتا 31 سنة (763-732 ق.م.). يحدد البعض فترة خمسين سنة لحكم هذه الأسرة 715-663 ق.م حين حكم كل من شاباكا، وشبتاكا، وتهارقا.

(5) انطلاقاً من المعنى العام للمحتوى، يدور الحديث عن "الإثيوبيين طوال الأعمار" (aithiopes makrobioi)، وليس عن "الإثيوبيين ذوى الأقواس الطويلة"، كما حاول إثبات ذلك لاست، الذى حاول إرجاع الكلمة bios إلى الكلمة الهوميرية "قوس"، وليس للكلمة "حياة". لاحقاً، في اعتقاده، خلط الكتاب الإغريق، بما فيهم هيرودوت، بين المفهومين. إلا أن bios"قوس"- كلمة نادرة الاستخدام. تعريف الإثيوبيين بوصفهم "طوال الأعمار" تتطابق أكثر مع التصور الأسطوري عنهم.

(6) هكذا نجد في أساس روايته عن حملة قمبيز إلى مصر وكوش (هيرودوت، الكتاب الثالث، 1-38)، كما يتضح من اللون السياسي لروايته، يكمن مصدر مصري معاد للغزاة، وهى رواية أدخل عليها هيرودوت هنا وهناك بعض التعديلات طبقاً لروايات الإغريق والفرس الذين عاشوا في مصر (الكتاب الثالث، ص 227-229)، وواضح أيضاً من أين اقتطف بعض الفقرات الكاملة. ويرى سيف سيودربيرج Säve-Söderbergh,1946 أن مصادر هيرودوت كانت معادية لقمبيز فقط لا للفرس، وأن المعلومات لا يمكن أن يكون قد تحصل عليها من مصريين، وإنما من إغريق أو فرس. مع ذلك فإن حجج عالم المصريات السويدي غير مقنعة في بعض نقاطها. وقد اعترض عليها كاتسنلسون في 1962. وتم دحضها في رسالة دكتوراة قدمت في جامعة هامبورغ مكرسة لوصف هيرودوت لكوش (Herminghausen D. 1964).

(7) يحتمل أن تكون المعلومة التى أوردها بليني عن موقع مروي ترجع إلى فيلون، الذى كان عمله فيما يبدو بيد جيبارخ. فإلى هذا الأخير يستند بليني مباشرة. مع ذلك يتشكك بيرجر في مصداقية زيارة فيلون إلى مروي. يحتمل أن تكون بعض القياسات الفلكية قد أنجزت في مروي بجهد محلي حيث أنه قد تم الكشف من خلال أعمال التنقيب التى أجريت في المدينة الملكية على أدوات للقياسات الفلكية، وهو ما قد يدفع للافتراض بوجود مرصد فلكي. فكما هو معروف كان المصريون قد راكموا خبرات معتبرة في متابعة النجوم ومن ثم كان من الممكن أن تنتقل الخبرات إلى المرويين. حتى في المدن الريفية المروية وجدت ساعات شمسية مشابهة للمصرية، لكنها صنعت بلا ريب في السودان، حيث وجد الكثير من الحرفيين المهرة.

المراجع

(1) Lepsius R. 1849, Die Chronologie der Ägypter, Berlin.

(2) Manetho 1958, Aegyptiaca (Epitome), ed. W.G.Waddell, London; Loeb Classical Library.

(3) Sauneron S. and J.Yoyotte 1952, La campagne nubienne de Psammetique II et sa signification historique', BIFAO, t.50.

(4) Streck M. 1916, Assurbanipal und die letzten assyrischen Könige bis zum Unterange Ninveh's, Bd 2. Leipzig.

(5) Einaudi G. (ed.) 1982-8, Pliny the Elder. Storia Naturale 1982-88, vol. 1, libri II, VI; vol. 5, libro XXXVII. Turin.

(6) Wiedemann A. 1890, Herodots zweites Buch mit sachlichen Erläuterungen, Leipzig.

(7) Lange K. 1954, Sesostris. Ein ägyptischer König in Mythos, Geschichte und Kunst, München.

(8) Струве В.В. 1941, Подлинный манефонский список царей Египта и хронология Нового царства, “Ученые записки ЛГУ”, No. 78, (Серия исторических наук, вып. 9).

(9) Herminghausen D. 1964, Herodots Angaben über Athiopien mit einer kritischen Untersuchung ihrer Quellen und ihrer Funktion im Zusammenhang mit den Angaben über Ägypten, Hamburg (Dissertation zur Erlangung der Doktorwürde der Philosophischen Fakultät der Universität Hamburg).

(10) نص هيرودوت عن السودان القديم