في نصها/ الشهادة تسرد الباحثة اللبنانية ذكريات جمعتها مع الكاتبة المصرية، ومن خلال نصها تتبدى صورة رضوى عاشور المثقفة والإنسانة نابضة بالحياة. وتخلص إلى أن الكلام عنها مثل الكلام على شجرة تتفرّع غصونها وتزهر بلا كلل، كأنّها قرينة ذلك النهر، النيل، الذي ما زال يجري منذ الأزل.

رضوى عاشور

كأنها قرينة النيل الذي يجري منذ الأزل

يمنى العيد

 

من أنت يا رضوى ومن أين جئت… هل من الأنثى فائقة الجرأة والعطاء. الأنثى التي حكمتْ وأنجبتْ وتركتْ لك استعادة التاريخ… فآمنتِ بالثورة، وعملتِ لأجلها كي تكون مصر، تلك الأنثى الأم، أماً لنا جميعاً؟

بهذه الكلمات توجهتُ إلى الصديقة رضوى عاشور يوم الاحتفال بها (آذار/مارس 2014) في مسرح جامعة عين شمس في القاهرة، بدعوة من أساتذة وطلاب قسم اللغة الإنكليزية الذي كانت ترأسه.

كانت هذه المناسبة بمثابة وداع لرضوى العائدة من آخر جلسات العلاج في الغرب. كانت تعرف حقيقة وضعها الصحي وكانت، كما تقول، تخاف لا من موتها، بل من “الموت بأقنعته العديدة”، والتي منها الوأد، وأد الأنثى التي تنتمي إليها بصفتها “امرأة عربيّة ومواطنة من العالم الثالث”. تخاف كما تقول: “حدَّ الكتابة عن نفسي وعن آخرين أشعر أني مثلهم أو أنهم مثلي”.

أتذكر استقبالها لنا بوجهها الضحوك وإصرارها على مرافقتنا والبقاء معنا، وتلك البساطة التي اتسم بها كلُّ ما له علاقة بهذا الاحتفال: القاعة، المسرح، الحضور، الموسيقى، الغناء وما أُلقِي من كلمات الودّ والتقدير.

لكن، كان هناك من هو ضدَّ هذا الاحتفال، ضدّ فكر المحتفى بها ومواقفها ومنظورها الثقافي النقدي. هكذا فوجئنا خلال الاحتفال بقطع التيار الكهربائي، فقط عن قسمٍ من المبنى الجامعي الذي يقام فيه الاحتفال. كان ذلك ضدّ الأديبة والمناضلة، رضوى التي لم تكن تغادر ميدان التحرير إلا لضرورات العلاج، والتي كانت ترفض المشاركة في أيّ نشاط أدبي أو ثقافي يقام تحت راية النظام وسلطته. لكن الشموع التي بادر طلابُ رضوى وزملاؤها إلى إضاءتها، أعلنت عن انتصار الروائية المحتفى بها، وانتصار تأييدها للمقاومة، وذلك على إيقاع موسيقى عازف العود الضرير الذي استمرَّ في عزفه، وازدادت إيقاعاته حرارة وشغفا، فأكملنا وقد صار الاحتفال برضوى، احتفالا أيضاً بالثورة التي انتصرتْ لها.

عرفتُ عن رضوى الروائيةّ المبدعة الكثير، ولم أعرف عن الإنسانة فائقة الشجاعة والحنان إلا القليل. لكن الكوارث التي أصابت بلادنا هي التي مدّتّْ بيننا جسوراً من كلام الذات عن ذاتها، الذات التي هي أبعد من الـ أنا، الذات التي تذهب بعيداً في الذاكرة وتحفر عميقاً في الواقع المعيش.

لم أكن أتصوّر أنَّ مريضاً على قدَرٍ كبير من المعاناة يبحث عن ورقة ليكتب قبل أن يفيق من التخدير. لم أتصوّر أنَّ مصابا بمرض خطير، لا يفكّر إلاّ بالعودة إلى مصر، مصر التي كانت أكثر من وطن، مصر الميدان والثورة. تعود رضوى وتنجز كتاباً بالغ الجمال والثراء، وتسمّيه “أثقل من رضوى” (2013)، أي من جبل رضوى الواقع بالقرب من المدينة المنوّرة، والذي تضرب به العربُ المثل في الرسوخ. وكانت رضوى راسخة في موقفها من الثورة، وفي كتابتها عن المناضلين والشهداء، مسنودة بقوة على تراث ممتد من أوزوريس حتى أولئك الشباب الذين كانوا يقدِّمون حياتهم قربانا من أجل العدالة والحريّة والكرامة.

مؤلم كتاب “أثقل من رضوى” بقدر ما هو مدهش. إنه ذاك الألم التاريخي الذي ما زلنا نعيشه، والذي حكت عنه رضوى أكثر من حكاية: حكاية نضالات الجامعة وشهدائها، أساتذة وطلبة. حكاية هند أنثى قرية أكياد بالقيلوبية، الأنثى المُهانة التي اقتلع عملاء القمع حجابها وعرّوها أمام الناس، وداستها “رجليهم” وكأنّها حشرة. لكنها، ومن على كرسيّها المتحرِّك، كانت تكرِّر بأنّها “ستواصل المشاركة في الثورة والنزول إلى المظاهرات، وستذهب إلى كليّتها”.

حكاية شعبان مكاوي الطالب، الدكتور، الزميل المريض، وكأنَّها حكاية كلِّ شباب الريف المسكونين بحلم الحياة العادلة، وبحب مصر وطناً يؤْمِن حكّامُه بقدرات هؤلاء الفقراء على العطاء، والإبداع في كل ميادين الحياة.

حكاية المكان الذي تكتشف رضوى حقيقة هيئته التاريخيّة التي اغتصبها المستعمِرُ والحاكمُ المستبدّ… اغتصبها هؤلاء وزوَّروا التاريخ والهويّة، فامّحى اسم أحمد عرابي عن بيته بعد أن أُقيمتْ فيه “مستشفى الليدي ستانجفورد”. كأنَّ المكان هو لهذه السيدة. المكان الذي توالى عليه الشهداء، المكان الذي أُصيبت بالقرب منه سلمى سعيد تلميذة رضوى.

إنها الثورة، “الثورة الجديدة” كما تسميها رضوى، الثورة غير المقطوعة من شجرة، ولا أتت من فراغ. شهداؤها “مسنودون بقوة على تراث ممتد من أوزوريس الذي بكته امرأة حتى فاض النيل، ومنذ أبي عبد الله الحسين سيّد الشهداء، وصولاً إلى آبائهم المباشرين بطول تاريخنا الحديث”.

أستعيد ما كتبتُه ذات يوم عن روايتها “قطعة من أوروبا” (2003)، عن الناظر الذي أوكلتْ إليه الكتابة عن تاريخ مدينة، هي القاهرة. يكتب الناظر، فتسأله الراوية عن معنى الحكاية، عن حقيقتها… فهي مشغولة بالمسار، بهويّة المكان، برؤية ما لا يُرى، بمعنى الهدم والبناء، بمعرفة من دبَّر “حرائق ذلك اليوم في وسط المدينة” كي يشعل ناراً في القاهرة تصل إلى فلسطين. يحفر الناظر عميقاً، وبعيداً، ليكشف لنا أنَّ الموسّاد ومن خلفهم شارون، هم من دبَّر حريق مثلّث ميدان سليمان باشا في القاهرة يوم 26 كانون الثاني/يناير 1956. يتبصَّر الناظر في المسار، المسار المعقّد، بين ما حدث في فلسطين وبين حريق القاهرة، بين بلدين لرضوى في كل منهما هويّة، ولها معهما هويّة الابداع وتبنّي القضايا الانسانيّة الكبرى.

أتذكّرك يا رضوى، أتذكّر لقاءاتنا العديدة في القاهرة، في بيروت، في قطر، يوم قلت في مقابلتنا التلفزيونيّة “نحن أحفاد شهرزاد”، في تونس وقد توجّهت إلى الوزيرة بـ“السيدة” رافضة “المعالي”، في الندوات، في لجان التحكيم، وفي بيوتنا التي كانت تضيق بالأصدقاء مقاعدُها فنجلس على الأرض. أتذكّر عملنا المشترك في “موسوعة الكاتبة العربيّة” (1873 ـ 1999) بمبادرة من “مؤسّسة نور لدراسات وأبحاث المرأة العربيّة”.

حاضرة عوالمك المتخيّلة، عوالمك المحمولة بأجنحة الإبداع، المغرِّدة على إيقاع حقائقها… أسمعك تقولين: الكلمات تحمل “تاريخاً وجغرافيا، وطيّات متراكمة من طبقات الأرض. والسّياق التاريخي المختلف، يفسِّر فروقاً في الرؤيا وأسلوب التناول والشكل”، والفن “يأتي إلينا محمَّلاً لا بالفن وحده، بل بتاريخنا الخاص والمشترك، وذاكرتنا وذكرياتنا”.

روائية، تحكي الحكايات… كأنَّها شهرزاد، أنثى الكلام المعاصرة، لكن التي تعود بنا إلى العام 1491، عام سقوط غرناطة وتنازل أبي عبد لله محمد الصغير، آخر ملوك غرناطة، عن ملكه على قشتاله. يتنازل الحاكم عن الأرض ويقرّر على أصحابها الرحيل.

لا تتعب، هذه الروائية المبدعة، من رواية الحكايات وكتابتها… كأنّها جدّة لهذا الزمن الذي نعاني عيشه. جدّة حداثيّة، تكتب لتحكي عن الإنسان وقد اقتلِع من أرضه وقريته وبيته. هي رقيّة التي تشعر، شأن كلّ فلسطيني، “أنها بالصدفة، بالصدفة المحضة، بقيت على قيد الحياة”. رقيّة التي شهدت المذبحة في قريتها الطنطوريّة عام 1948 ولها من العمر ثلاث عشرة سنة، تبدو وكأنها فلسطين المولودة من التقسيم، والمُرَحَّلة عنها بوعد بلفور. إنّه الترحيل الذي أوصل الحكاية إلى لبنان، فاشتركنا بها. نلتقي في النكبة النكبات، نلتقي في حروب إسرائيل علينا، وقد غدت “السماء جهة”، يأتينا منها أيضاً الهلاك، وغدت “الدموع تستحي من نفسها”، والذاكرة “تؤلم ألماً لا يُطاق”.

أسمعك تقولين: الذاكرة “سيّدة لعوب مراوغة، تتواطأ مع الخيال وتجاريه، والإبداع نصٌّ غني من أعقد اختراعات البشر…”. تنظِّرين فيما أنت تروين، فألتقيك في المساحة العابرة، ولكن التي تؤكِّد لي بأنَّ سؤال الرواية العربيّة هو كيف نروي حكايتنا، وليس ما هي حكايتنا. ألتقيك فخورة بهذا اللقاء، مطمئنّة إلى الفهم المشترك الذي ينُّص على أنَّ المرجع هو الواقع الذي نعيش، وهو التاريخ الذي عاشه اخرون، التاريخ الذي يعيد المتخيّل الروائي الحياة إليه، كي نقرأ فيه أكثر من حكاية، نقرأ الحكاية/ الحكايات القادمة من الحياة والعابرة للتاريخ.

ما زالت ذكرياتي عنك يا رضوى نابضة بالحياة، والكلام عليك مثل الكلام على شجرة تتفرّع غصونها، تمتد، تزهر بلا انقطاع، بلا كلل، كأنّك قرينة ذلك النهر، النيل، الذي ما زال يجري منذ الأزل.

 

رضوى عاشور (26/5/1946 - 30/11/2014)

ولدت في القاهرة، لعائلة أدبيّة وعلميّة.

روائية وناقدة وأستاذة جامعية.

مناضلة وناشطة، ساهمت في إنشاء اللجنة الوطنية لمكافحة الصهيونية في الجامعات المصرية.

نالت أكثر من جائزة، بينها قسطنطين كفافيس الدولية للأدب في اليونان، 2001؛ وسلطان العويس للرواية والقصة، 2011.

بين مؤلفاتها، في الرواية: “حجر دافئ”، “خديجة وسوسن”، ثلاثية غرناطة، “أطياف”، “تقارير السيدة راء”، “الطنطوريّة”، وسيرة ذاتية صدرت بعد رحيلها تحت عنوان “الصرخة”. ولها في النقد “البحث عن نظريّة للأدب”، “جبران وبليك” (بالإنكليزية)، “التابع ينهض: الرواية في غرب إفريقيا”، “في النقد التطبيقي: صيادو الذاكرة”، “الحداثة الممكنة: الشدياق والساق على الساق”.