تنقل لنا كاميرا الصحفي وليد معروف تفاصيل انضمامه لتنظيم داعش، من خلال الاستجابة ل "نداء" المجلة البريطانية، وتلك العلاقة المركبة التي تجمعه بالأشقر. حكاية مضمخة بالخراب والدمار والتيه الملازم لشخصيات الرواية التي تعتمل في دواخلها كل أشكال التناقض، مما جعلها شخصيات زئبقية هاربة، عصية عن التحديد. وترتيبا على ذلك، فالرواية ـــ في تقديري ــــ مكتوبة على كل البحور؛ بحر التيه الذي لازم شخصيات الرواية؛ ويمكن أن نتلمس تفاصيله من خلال ذلك الحكي الموغل والمؤلم لقصة حياة وأختها في الصحراء وهجوم الذئاب على القطيع والكلب آدفل، هذا التيه سينجم عنه فقدان حياة ــــ أم الأشقر ــــ لعذريتها. لقد سُرقت الحياة من حياة، وُئدت أحلامها المبكرة من طرف المرأة الغريبة، التي وإن أنقذتها من بطش الذئاب وسطوة الثلوج، فإنها في ذات الوقت قد عكرت مسار حياتها، وهو ما قاد حياة إلى امتهان الدعارة رفقة منانة أم شامة.
في هذا الجو الآسن، ينبت الحب كزهرة برية بين الأشقر وشامة التي ولدت هي الأخرى في بيت عاهر، هذا الحب النقي ستجده يطوق الرواية منذ السطور الأولى وحتى نهايتها، إنه بوح صادق لتعلق صارخ بالرغم من كثرة الأجساد التي وطأها الأشقر التائه. ستتشابك الأحداث وستزداد تعقيدا، لاسيما وأن الأشقرين كانا يحبان معا نفس الفتاة، أي شامة، مما أسفر عن قتلها بمدية وانتحار الأشقر النسخة، واعتقال حياة لاشتباهها في الضلوع في قتل شامة. وقد زاد تيه الأشقر بعد هذا القتل الذي اعتقد أنه سيمنحه خلاصه الذي ظل يبحث عنه.
تظل ملازمة التيه مرافقة للأشقر التائه ـــ بدل القاتل ـــ فالرواية لا تقدمه باعتبارها قاتلا صرفا، بل باعتباره شخصية تائهة تواقة إلى الخلاص، هذا التوق إلى الخلاص ارتهن بإشباع رغبات الجسد ورحلة التنقلات والاستنجاد بالذاكرة والبوح لوليد معروف باعتباره شاهدا على ما جرى وما يجري. تتملك الأشقر رغبة الانتقام من كل أولئك الذين دقوا في القلب مساميرهم، تتقاذفه أجساد العاهرات ( هناء وحياة وأخريات...)، ينتقل من دولة إلى أخرى لنصرة قضية لا يعلم متى كان طرفا فيها! ينخرط في لعبة المخدرات والقرصنة وما رافقهما من عهر وقتل وسفك دم ... وأمام هزات التيه كان الأشقر يعلق انهزاماته على مشجب "الأخ الكبير" باعتباره الملاذ الوحيد، والمسؤول الأعظم عن التنظيم، والصديق الذي جمعته معه علاقة وطيدة سرعان ما ستتهدم بشكل ملغوم في أواخر الرواية.
ولعل من أبرز مظاهر التيه التي يمكن أن يستقيها قارئ رواية القاتل الأشقر نجد ذلك الشبه الحاصل بين شامة التي كان يكن لها حبا دفينا، وبين ليلى(رَوَنْدْ) التي ستموت إثر طلقة طائشة تائهة. وقد كانت "عين العرب" باعتبارها مسرحا لأحداث الرواية أكثر من غيرها شاهدة على تيه الأشقر وانضمامه لتنظيم البادي أنه حشر فيه حشرا. يقول السارد معبرا عن تيهه الدائم : " القادة عشاق الدنيا، والجنود وقود الحرب، وأنا الوحيد الذي لم يكن يعرف ما يريد "(الرواية، ص259).
تنتهي حكاية التيه ببدايتها التي نتلمسها في السطور الأولى للرواية، تنتهي بتذكير السجان الدائم لوليد معروف بالموت شنقا، تنتهي أيضا بالعودة إلى شامة والكتابة عنها ولها، شامة باعتبارها المبدأ والمعاد...
إجمالا، يمكن القول إن الرواية ــــ كما أشرنا سالفا ــــ مكتوبة على بحور شتى، ويظل بحر التيه أبرزها؛ مكتوبة على بحر الوجع الإنساني الذي جعل فتيات يمتهن الدعارة بعدما تم وأد حياتهن (حياة ومنانة) ووجدن أنفسهن في مواجهة شرسة مع الحياة. مكتوبة أيضا على بحر الحب؛ حب الأشقر لشامة وبحثه الدائم عنها في وجوه وأجساد الأخريات، مما خلق لديه تيها دائما. مكتوبة على بحر الخيانة؛ خيانة الأخ لأخيه، خيانة الزوجة لزوجها (حياة)، الخيانة المتأخرة للأخ الكبير من قبل الصحفي وليد معروف. كتبت الرواية أيضا على بحر التيه باعتباره ـــ في تقديرنا ـــــ أس الرواية، ومن تجلياته: سفر الأشقر الدائم وأحيانا بلا وجهة، الحب المغلف بالخيبات، الارتماء في أحضان التنظيمات التي تضمر أكثر مما تظهر، كره الأخ وقتل شامة، القتال إلى جانب تنظيمات أخرى، قتل عبد المالك ووأد أحلامه ... القاتل الأشقر مكتوبة على بحر الخراب والدمار الذي نستشعره منذ فاتحة الرواية حتى نهايتها؛ خراب عين العرب وأمكنة أخرى متاخمة له ممن شكلت مسرحا لأحداث الرواية. وعليه، تكون الرواية قد رسمت صورة الممكن في واقع تتحقق فيه بالقوة كل أشكال الخراب والعنف والدمار.