مقدمة المقال:
قد تخلف المسلمون في جميع المجالات من السياسة والاقتصاد مع تخلفهم في العلوم التي بدأت تنحط منذ عهد المتوكل الذي قضى على المعتزلة. وكان المعتزلة فرسان العقل وحاملي لوائه، "فأطلقوا للعقل العنان في البحث في جميع المسائل من غيرأن يحدوه بأيَّ حد، وجعلوا له الحق أن يبحث في السماء وفي الأرض وفي الله والانسان فيما دق وجل. فليس له دائرة معينة، له الحق أن يسبح فيها ودائرة ليس له حق ذلك. بل خُلِقَ العقل ليعلم وفي مكنته أن يعلم كل شيئ حتى ماوراء الطبيعة."[1] فنتج من ذلك أنهم نجحوا في وضع عدد كبير من العلوم أمثال: علم الكلام وعلم البلاغة وعلم الجدل والمناظرة، واستعانوا بالفسفة اليونانية في تأييد نزعاتهم الدينية، وتلوين علم الكلام بالفلسفة، وقدموا بحوثا محيرة العقول في العلوم النقلية والعلوم العقلية، ومهدوا طريقا لظهور الفلاسفة الإسلاميين فيما بعد.
ولكن لما نُكّل بالمعتزلة على يد المتوكل، علا منهج المحدثين وهم حاملو لواء النقل، فانحط شأن العقل في عهدهم، ومعه انحطت العقلانية في الإسلام. ثم رُفع شأن الأشاعرة الذين قدموا عقيدة الجبرية في ثوب جديد. وانتشر الأشاعرة مع عقيدتهم الجبرية في ثوبها الجديد. وقد ساعد على انتشارها وجود التلاميذ البارعين لأبي الحسن الأشعري الواضع لمنهاج الأشاعرة كأمثال: اسفراييني والباقلاني والإمام الغزالي الذين لعبوا دورا بارزا في نشرها من خلال التأليف والتعليم والدفاع بها ودعمها بالأدلة والبراهين. فانتشرت الأشعرية في العالم الإسلامي بسرعة فائقة، وانتشر معها تيارإهمال العقل الإسلامي وسد الباب للتحقيق والتفكيروإخضاع العقل للأشياء التي لا يقبلها وفتح الباب للخرافات والأوهام في لباس التصوف الذي قد أيده تأييدا كبيرا كبار العلماء من الأشاعرة مثل أبي حامد الغزالي.
فبدأت عقيدة الجبر تعمل عملها السلبي وتؤثر تأثيرا سلبياعلى العلوم الإسلامية حتى انحطت العلوم الإسلامية، ومعها تخلف المسلمون في جميع المجالات من العلوم والسياسة والإقتصاد. لأنهم قد تركو العمل والمحاولة اتكالا على القضاء والقدر بمعانيهما الجبرية، واستمروا في هذا التخلف حتى وقعت النهضة الحديثة بفضل جهود المصلحين. فحاول المصلحون المخلصون كأمثال: جمال الدين الأفغاني والسير سيد أحمد خان والشيخ محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي في التعرف بأسباب انحطاط العلوم الإسلامية، وأسباب تخلف المسلمين وفتورهم في جميع المجالات. فتوصلوا بعد التحقيق والبحث العميق أن عقيدة الجبر واحدة من أسباب تخلف المسلمين في العلوم والمجالات الأخرى. وتناولوا هذه القضية في كتبهم بتفصيل. فتناولها السيد جمال الدين الأفغاني في مجلته "العروة الوثقى" والسير سيد أحمد خان الهندي في مجلته "تهذيب الأخلاق" والشيخ محمد عبده في كتابه "رسالة التوحيد"، وعبد الرحمن الكواكبي في كتابه "أم القرى". وهذه الورقة تحاول دراسة العقيدة الجبرية منذ ظهورها حتى شيوعها في العالم الإسلامي مع التركيز الخاص على تأثيراتها السلبية على الأمة المسلمة.
مدخل المقال:عقيدة الجبرية ظهورها وشيوعها
يعتبر شيوع العقيدة الجبرية بين العلماء أولا ثم بين المسلمين أحد الأسباب لانحطاط العلوم الإسلامية وفتور المسلمين: وقد توصل الشيخ محمد عبده إلى هذه الحقيقة فيقول في كتابه الشهير "رسالة التوحيد" :"عقيدة الإذعان للقدر، حسبتُ من أسباب الانحطاط عند الشرقيين عموما وعند المسلمين خصوصا؛ لأنها نزعت بالأمم المعتقدة بها إلى الكسل، انتظارا لما يأتيهم من الغيب، وبسطت أيدي أغنيائهم في الإسراف، اتكالا على ما يسوقه عالم الغيب. ولكن ذلك سوء فهم، سببه سوء فهم أهل هذه العقيدة. الاعتقاد بالقدر مما يلهمك الصبر على ما نزل، ويذلل لك إلى ما ستعمل." [2]
وأماعقيدة الجبرفهي الإيمان بأن الإنسان مجبور محض، كريش في مهب الريح، وليس له قدرة على عمله. كما يقول الشهرستاني: "الجبر: هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الرب تعالى؛ والجبرية (لها) أصناف: فالجبرية الخالصة: هي التي لا تثبت للعبد فعلاً ولا قدرة على الفعل أصلاً والجبرية المتوسطة: هي التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة أصلاً فأما من أثبت للقدرة أثراً ما في الفعل وسمى ذلك كسباً فليس بجبري." وأول من قال بالجبر هو جهم بن صفوان الذي قتله "سالم بن أحوز المازني" في آخر ملك بني أمية. واتبعه في هذا القول كثير من الناس، فاشتهر مذهبهم بالجبرية بالنسبة إلى عقيدتهم الجبرية.
غير أن المعتزلة قد استنكروا هذه العقيدة الجبرية ونقدوها نقدا لاذعا، وخالفوها مخالفة شديدة، وقالوا بحرية الإنسان في أعماله وإرادته وقدرته. لأجل ذلك جعله الله مسئولا عن عمله. ففي قدرة العباد أن يفعلوا أعمالا وأن يتركوها من غير دخل لإرادة الله. ولولا ذلك ما كان التكليف، إذ لم يكن قادرا على الفعل وعدمه، ما صح أن يقال له افعل ولا تفعل ولا مدح بفعل ولا ذم بترك، ولا كان معنى للأنبياء. و"حمل كلمة القدر خيره وشره على البلاء والشدة والرخاء والمرض والشقاء والموت والحياة إلى غير ذلك من الأفعال التي لا يقدر الإنسان على القيام بها دون الخير والشر، الحسن والقبح الصادرين من اكتساب العباد."[3] واستدل على ذلك بعدد كبير من الآيات القرآنية كأمثال: "من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره." و "إما هدينا السبيل إما شاكرا أو إما كفورا." "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر." "ومن يعمل سوءً أو يظلم نفسه ثم يستغفرالله يجد الله غفورا رحيما." وبذلك هذا الأصول من حرية الإنسان في عمله قد استمد الأصول "الوعد والوعيد". فمازال المسلمون على هذه الحالة من الإيمان بعقيدة الجبر وبحرية الأنسان حتى نُكل بالمعتزلة على يد المتوكل.
ثم علا بعد المعتزلة نفوذ المحدثين وهم جماعة المحافظين، فتوقفوا عن البحث والتفكير في القدر ومسألة قدرة الإنسان في عمله، وآمنوا بظاهر النص بدون التعمق في النصوص الواردة في هذا الباب. غير أنهم رووا أحاديث تثبت عقيدة الجبر. كمثل حديث رواه: مسلم عن حذيفة بن أسيد، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال "يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين، أو خمسة وأربعين ليلة. فيقول: يا رب! أشقي أو سعيد؟ فيكتبان. فيقول: أي رب! أذكر أو أنثى؟ فيكتبان. ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه. ثم تطوى الصحف. فلا يزاد فيها ولا ينقص".[4]
ويبدو من دراسة هذا الحديث بامعان وتعمق النظر فيه أن الجبريين قد وضعوه في دعم نظريتهم الجبرية. فالحديث يقدم نظرية الجبرية أكثر من تقديمه نظرية المحديثن. وهي أن الإنسان مجبور محض ليس له قدرة حتى على أعماله التي يقوم بها. وهي مخالفة للعقل الإسلامي. وكذلك أنها مخالفة لعقيدة المحدثين. فإن المحدثين يؤمنون بالقدر خيره وشره بهذا المعنى أن الله تعالى عالم الغيب فهو عالم بما كان وما يكون، لا بهذا المعنى أن الإنسان مجبور محض. كما يقول ابن حجر العسقلاني في كتابه الشهير" فتح الباري" والمراد (تؤمن بالقدر) "خيره وشره وحلوه ومره" أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل محدث صادرعن علمه وقدرته وإرادته، هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية، وعليه كان السلف من الصحابة وخيار التابعين، إلى أن حدثت بدعة القدر في أواخر زمن الصحابة."[5]
وعلم شيء لا يسلب الاختيار. كما يقول الشيخ محمد عبده: "ثم علم الواجب محيط بما يقع من الإنسان بإرادته، وبأن عمل كذا يصدر كذا في وقت كذا. وهو خيار يثاب عليه، وأن عملا آخر يعاقب عليه، عقاب الشر والأعمال في جميع الأحوال حاصلة عن الكسب والاختيار، فلا شيء في العلم بسالب للتخيير في الكسب."[6] فمعرفة الله بما كان وما يكون لا تسلب قدرة الإنسان، بل الله تعالى منح الإنسان قدرة التخيير. فالحديث مخالف لعقائد المحدثين. ولكن المحدثين آمنوا بالنص الظاهر للحديث كما رووه أوسمعوه بدون التعرض للبحث والتفكير، لأن البحث عندهم في مثل هذه المسائل المعقدة كان بدعة. فاستمر الناس إما في عقيدة أهل الحديث وهي عدم التعرض للبحث والمباحثة على هذه العقيدة أو في عقيدة المعتزلة بحرية الإنسان حتى جاء الإمام الأشعري، وقدم نظرية جديدة في هذا الباب.
وكان الإمام الأشعري ربيب المعتزلة فقد تربى عليهم وأخذ عنهم الكلام ثم صار إماما لهم، وأقام على الاعتزال أربعين سنة، ثم تحول من المعتزلة وقدَّم مذهبا جديدا، خالف فيه كثيرا من آراء المعتزلة، ومنها مخالفته المعتزلة في قولهم بحرية الإنسان وقدرته على عمله. فقال: "إن الله تعالى خالق أفعال العباد، وهو مريد كل ما يصدر منهم من خير أو شر، فعلمه تعالى وإرادته وقدرته متعلقة بجميع أفعال العبد." وكما ينقل الشهرستاني مسلك الأشعري مسلكه: "وإرادته: واحدة قديمة أزلية متعلقة بجميع المرادات من أفعاله الخاصة وأفعال عباده من حيث إنها مخلوقة له لا من حيث أنها مكتسبة لهم. وعن هذا قال: أراد الجميع خيرها وشرها ونفعها وضرها وكما أراد وعلم وأراد من العباد ماعلم وأمر القلم حتى كتب في اللوح المحفوظ فذلك حكمه وقضاؤه وقدره الذي لا يتغير ولا يتبدل."
ولو قلتم: إن ذلك تكليف مالا يطاق، إذ لا يقدر العبد أن يخرج عما أريد منه. قال الأشعرية أن لا مانع من تكليف ما لا يطاق، وإذا كان العبد يحس بقدرته، فقدرته لا تأثير لها في خلق الأحداث، ولكن الله تعالى أجرى سنته أن يخلق الشيء عند القدرة الحادثة من العبد. وإذا أراد العبد شيئا وعزم عليه وتجرد له خلقه الله. غير أن للعبد شيئا سمى كسبا، وفسروا هذا الكسب بأنه : الاقتران العادي بين قدرة العبد والفعل، فالله يخلق الفعل عند قدرة العبد وإرادته لا بقدرة العبد وإرادته. وبعبارة أوضح أن الكسب هو الشعور بالاختيار. ولذلك كانت مسألة الكسب من أهم المسائل عند الأشعرية، وعليها يقع العقاب أو الثواب."[7]
في الحقيقة إن الإمام الأشعري قد قدم نظرية الجبر في الناس في لباس جديد وهو الكسب. واما الكسب فهو ليس بشيء إلا الشعور بالاختيار، وكما أنه جرد الأفعال من تأثيرها من خلال تقديم مسألة "الاقتران العادي". لذلك نحن نرى أن "تكليف مالا يطاق" جائز عند الأشاعرة، كما نقلت عن الشهرستاني في الفقرة الأولى، وهي عقيدة خلاف للقرآن، فالقرآن يصرح : "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ." ويقول الشيخ محمد عبده بصدد هذا: قد خاض فيه أي في اختيار العبد الغالون من كل ملة، خصوصا من المسلمين، والمسيحيين، ثم لم يزالوا بعد طول الجدال وقفوا حيث ابتدأوا. وغاية ما فعلوا أن فرقوا وشتتوا. فمنهم القائل بسلطة العبد على جميع أفعاله واستقلالها المطلق، وهو غرورظاهر، ومنهم من قال بالجبروصرح به، ومنهم من قال به وتبرَّأ من إسمه، وهو هدم للشريعة، ومحو للتكاليف، وإبطال لحكم العقل البديهي، وهو عماد الإيمان."[8] ولذلك قد انتقد على صاحب القول الأخير كثير من الناس. كما يقول الشيخ محمد عبده: "إلى أن جاء الشيخ أبو الحسن الأشعري في أوائل القرن الرابع ، وسلك مسلكه المعروف وسطا بين السلف، وتطرف من خالفهم، وأخذ يقرر العقائد على أصول النظر، وارتاب في أمره الأولون وطعن كثير منهم على عقيدته وكفره الحنابلة واستباحوا دمه."[9]
وقد شنع عليه في الأندلس الإمام ابن حزم وسلقه بلسان حاد في كتابه "الملل والنحل". ثم إن إمام الحرمين الجويني- وهو من أتباعه- قد خالفه في هذه العقيدة، "وتخطى عن هذا البيان قليلا، وقال: أما نفي هذه القدرة والاستطاعة فمما يأباه العقل والحس، وأما إثبات قدرة لا أثر لها بوجه. فهو كنفي القدرة أصلا. وأما إثبات تأثير في حالة لا يفعل، فهو كنفي التأثير خصوصاً والأحوال على أصلهم لا توصف بالوجود والعدم. فلا بد إذا من نسبة فعل البدع إلى قدرته حقيقة لا على وجه الإحداث والخلق، فإن الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم، والإنسان كما يحس من نفسه الاقتدار، يحس من نفسه أيضا عدم الاستقلال. فالفعل يستند وجوده إلى القدرة، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب كنسبة الفعل إلى القدرة وكذلك يستند سبب إلى سبب آخر. حتى ينتهي إلى مسبب الأسباب فهو: الخالق للأسباب ومسبباتها المستغني عن الإطلاق فإن كل سبب مهما استغنى من وجه محتاج من وجه والباري تعالى هو الغني المطلق الذي لا حاجة له ولا فقر."[10]
في الحقيقة إن الإمام الجويني قد قدم نظرية المعتزلة في الفقرة المذكورة، وهي حرية الإنسان في إرادته وعمله وقدرته، و قد منحه الله هذه القدرة، فلذلك يُجازي الإنسان ويعاقب. وهذا الكون مقيد بقانون وضعه الله وهو قانون العلة والسبب عند الجويني. فكل عمل له سبب يأتي بالمسبب، والله مسبب الأسباب. وعلى العباد أن يتبعوا هذا القانون والناموس للنجاح في الدنيا والآخرة، لأن هذا القانون لا يتبدل ولا يتغير. فمن اتبع هذا القانون قد نجح ومن خالفه فشل. والدليل في ذلك قوله تعالى: "قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين." (الفتح:23) وقوله تعالى: "سنة الله في الذين خلفوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا." (الرعد:11)
وبالرغم من ذلك أن عقيدة الجبر الكسبي قد انتشرت بسرعة فائقة. وقد ساعد على انتشارها أمران: الأول: إن أبا الحسن الأشعري قد رزق بأتباع أقوياء. أخذوا مذهبه ودعوا إليه ودعموه بالأدلة والبراهين، وكان في طليعتهم: اسفراييني والباقلاني والإمام الغزالي. وكان لكل هؤلاء العلماء منزلة رفيعة، ونظرا إلى مكانتهم العظيمة رغب الناس في الدخول في الأشاعرة وبدأوا يبتعدون عن الاعتزال والمذاهب الأخرى. والثاني: إن الوزير نظام الملك في الدولة السلجوقية التركية قد أنشأ مدارس كثيرة من أشهرها المدرسة النظامية في بغداد، ومدرسة في نيسابور ومدرسة في هراة إلى آخر مدارس أخرى. وحشر في هذه المدارس العلماء العظام من الأشاعرة - مثل أبي حامد الغزالي - يدرسون على مذهب الأشاعرة. فانتشر مذهب الأشاعرة في كل أنحاء العالم.
من مظاهرانتشار عقيدة الجبر إهمال العقل الإسلامي وسد باب التحقيق والتفكيروإخضاع العقل للأشياء التي لا يقبلها وفتح الباب للخرافات والأوهام في لباس التصوف الذي قد أيده تأييدا كبيرا كبار العلماء من الأشاعرة مثل أبي حامد الغزالي. فبدأت عقيدة الجبر تعمل عملها السلبي وتؤثر تأثيرا سلبياعلى العلوم الإسلامية حتى انحطت العلوم الإسلامية، ومعها تخلف المسلمون في جميع المجالات من العلوم والسياسة والإقتصاد؛ لأنهم قد تركو العمل والمحاولة اتكالا على القضاء والقدر بمعنيهما الجبرية، واستمروا في هذا التخلف حتى وقعت النهضة الحديثة بفضل جهود المصلحين. فحاول المصلحون المخلصون المعرفة بأسباب انحطاط العلوم الإسلامية وأسباب تخلف المسلمين وفتورهم في جميع المجالات. فتوصلوا بعد التحقيق والبحث العميق إلى أن عقيدة الجبر واحدة من أسباب تخلف المسلمين في العلوم والمجالات الأخرى. كما يقول الشيخ محمد عبده: "عقيدة الإذعان للقدر، حسبتُ من أسباب الانحطاط عند الشرقيين عموما وعند المسلمين خصوصا؛ لأنها نزعت بالأمم المعتقدة بها إلى الكسل، انتظارا لما يأتيهم من الغيب، وبسطت أيدي أغنيائهم في الإسراف، اتكالا على ما يسوقه عالم الغيب. ولكن ذلك سوء فهم سببه سوء فهم أهل هذه العقيدة. الاعتقاد بالقدر مما يلهمك الصبر على ما نزل، ويذلل لك إلى ما ستعمل."[11]
وبالنظر إلى أهمية مسألة اختيار العبد وخطورة عقيدة الجبر أن الشيخ محمد عبده قد تناول هذه المسألة في البحث والتحقيق في رسالته الشهيرة بعنوان "رسالة التوحيد"، ويقال إنه من خلال هذه الكتب قد أثار نفس المسائل الجدلية التي كان أثارها المعتزلة قبله في العصر العباسي وحاول تجديد علم الكلام. ويحلو لنا أن نقدم بعض الاقتباسات من هذه الرسالة الشهيرة لكي نعرف مدى محاولة الشيخ محمد محمد للقضاء على هذه العقيدة الجبرية غير الإسلامية. فهو يكتب بصدد هذا: "كما يشهد سليم العقل والحواس من نفسه أنه موجود، ولا يحتاج في ذلك إلى دليل يهديه ولا معلم يرشده، كذلك يشهد أنه مدرك لأعماله الاختيارية، يزن نتائجها بعقله، ويقدرها بإرادته، ثم يصدرها بقدرة ما فيه. ويعد إنكار شيء من ذلك، مساويا لإنكار وجوده في مجافاته لبداهة العقل. كما يشهد بذلك في نفسه، ويشهد أيضا في بني نوعه كافة، متى كانوا مثله في سلامة العقل والحواس. ومع ذلك، فقد يريد إرضاء خليل فيغضبه، وقد يطلب كسب رزق فيفوته، وربما سعى إلى منجاة فسقط في مهلكة، فيعود باللائمة على نفسه، أن كان لم يحكم النظر في تقدير فعله، ويتخذ من خيبته أول أمره مرشدا له في الأخرى، فيعاود العمل من طريق أقوم وبوسائل أحكم. ويتقد غيظه على من حال بينه وبين ما يشتهي، إن كان سبب الإخفاق في المسعى منازعةُ منافسٍ له في مطلبه، لوجدانه من نفسه أنه الفاعل في حرمانه، فينبري لمناضلته، وتارة يتجه إلى أمر أسمى من ذلك، إن لم يكن لتقصيره أو لمنافسة غيره دخل فيما لقي من مصير عمله، كأن هب ريح فأغرق بضاعته، أو نزل صاعق فأحرق ماشيته، أو علق أمله بمعين فمات، أو بذي منصب فعزل. يتجه من ذلك إلى أن في الكون قوة أسمى من أن تحيط بها قدرته، وإن وراء تدبيره سلطانا لا تصل إليه سلطته.[12] فإن كان قد هداه البرهان وتقويم الدليل إلى أن حوادث الكون بأسره مستندة إلى واجب وجود واحد، يصرفه على مقتضى علمه وإرادته، خشع وخضع، ورد الأمر فيما لقي. ولكنه مع ذلك، لا ينسى نسيبه فيما بقي. فالمؤمن، كما يشهد بالدليل وبالعيان أن قدرة مكون الكائنات أسمى من قوى الممكنات، ويشهد بالبداهة أنه في أعماله الاختيارية، عقلية أو جسمانية قائم بتصريف ما وهب الله له من المدارك والقوى فيما خلقت لأجله. وقد عرف القوم شكرالله على نعمه، فقالوا: هو صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله. على هذا قامت الشرائع، وبه استقامت التكاليف. ومن أنكرشيئا منه فقد أنكر مكان الإيمان من نفسه، هو عقله الذي شرفه الله بالخطاب في أوامره ونواهيه.
ودعوى الاعتقاد بكسب العبد لأفعاله يؤدي إلى الإشراك بالله، وهو الظلم العظيم، دعوى من لم يلتفت إلى معنى الإشراك على ما جاء به الكتاب والسنة. فالإشراك: اعتقاد أن لغير الله أثرا فوق ما وهبه الله من الأسباب الظاهرة، وأن لشيء من الأشياء سلطانا على ما خرج عن قدرة المخلوقين. وهو الاعتقاد من يعظّم سوى الله، مستعينا به فيما لا يقدر العبد عليه، كالاستنصار في الحرب بغير قوة الجيوش والاستشفاء من الأمراض بغير الأدوية التي هدانا الله عليها، والاستعانة على السعادة الأخروية أو الدنيوية بغير الطرق والسنن التي شرعها الله لنا. هذا هو الشرك الذي كان عليه الوثنيون ومن ماثلهم. فجاءت الشريعة الإسلامية فمحوه، ورد الأمر فيما فوق القدرة البشرية والأسباب الكونية إلى الله وحده، وتقرير أمرين عظيمين هما ركنا السعادة وقوام الأعمال البشرية: الأول: أن العبد يكسب بإرادته وقدرته، ما هو وسيلة لسعادته. والثاني: أن قدرة الله هي مرجع لجميع الكائنات، وأن من آثارها ما يحول بين العبد وبين إنفاذ مايريده. وأن لا شيء سوى الله يمكن له أن يمد العبد بالمعونة فيما لم يبلغه كسبه. جاءت الشريعة لتقرير ذلك، وتحريم أن يستعين العبد بأحد غير خالقه في توفيقه إلى إتمام عمله، بعد إحكام البصيرة فيه، وتكليفه بأن يرفع همته إلى استمداد العون منه وحده، بعد أن يكون قد أفرغ ما عنده من الجهد في تصحيح الفكر وإجادة العمل ولا يسمح العقل ولا الدين أن يذهب إلى غيرذلك. وهذا الذي قررناه، قد اهتدى إليه سلف الأمة، فقاموا من الأعمال بما عجبت له الأمم، وعوّل عليه من متأخري أهل النظر إمام الحرمين الجويني، رحمه الله، وإن أنكر بعض من لم يفهمه."[13]
خلاصة المقال:
تُعَدُّ عقيدة الجبرأحد أسباب انحطاط العلوم الإسلامية وفتور المسلمين. وإن المصلحين أمثال السيد جمال الدين الأفغاني في مجلته "العروة الوثقى" والسير سيد أحمد خان الهندي في مجلته "تهذيب الأخلاق"والشيخ محمد عبده في كتابه "رسالة التوحيد" وعبد الرحمن الكواكبي في كتابه "أم القرى" تناولوا هذه القضية بتفصيل وألقوا الضوء الكاشف على سلبياتها وسعوا للقضاء على هذه العقيدة غير الإسلامية، لكنها حتى الآن توجد لدى المسلمين ولاسيما لدى العلماء الهنود الذين يعتبرونها عقيدة إسلامية ويرمون بالزندقة والإلحاد ويتهمون بالكفر والضلالة من يخرج على هذه العقيدة قيد شعرة، ويدعو الناس إلى العقيدة الإسلامية بحرية الإنسان في أعماله وفي إرادته وقدرته وإلى إتباع الأسباب الظاهرة التي قد أودع الله فيها القوة للنفع والضرر مع الإيمان بقوة الله فوق كل قوة وبسلطان الله فوق كل سلطان. وخير تطبيق على هذه الحالة السيئة قول الفاضل الشامي الذي اخترعه عبد الرحمن الكواكبي في ذهنه لتصوير الأحوال السيئة للمسلمين وعقيدتهم الجبرية السائدة في الأيام الحاضرة بينهم: فيقول الفاضل الشامي "إني أرى منشأ هذا الفتور هو بعض القواعد الاعتقادية والأخلاقية مثل العقيدة الجبرية التي من بعد كل تعديل فيها، جعلت الأمة جبرية باطنا قدرية ظاهرا." [14] فالأمة المسلمة في هذه الألفية الجديدة في أمس حاجة إلى مصلح ينفخ فيهم روح العمل مع إجراء الإصلاح في عقيدتهم الجبرية.
أستاذ المساعد في قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة كشمير، سرينغر، الهند.
[1] أنظر:أمين، أحمد، ضحى الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، الطبعة السابعة 1973م، ج3، ص 68
[2] الأعمال الكاملة لمحمد عبده، تحقيق: الدكتور عمارة، ج 3 ،ص507،
[3] الشهرستاني، الملل والنحل،
[4] رواه البخاري ومسلم
[5] فتح الباري، ص 118، ج1
[6] الشيخ محمد عبده، رسالة التوحيد، ص 56
[7] ظهر الإسلام، ص 78 ج 4
[8] والمراد بالأول: المعتزلة والثاني الجبرية والثالث الأشاعرة. أنظر:الأعمال الكاملة لمحمد عبده، تحقيق: الدكتور عمارة، ج3 ص 412،
[9] الأعمال الكاملة لمحمد عبده، تحقيق: الدكتور عمارة، ج3 ص 412،
[10] الشهرستاني " الملل والنحل،مكتبة انجلو المصرية، ص90
[11] الأعمال الكاملة لمحمد عبده، تحقيق: الدكتور عمارة، ج 3 ،ص507،
[12] ومن ذلك يثبت وجود الله، وقدرته، ولذلك في القرآن دعي الناس إلى النظر في الكون ونظامه. ولومنح الإنسان قدرة على القيام بكل عمل، فلا يريد الإنسان أن يموت، وكذلك لايريد أيضا أن يحكم عليه أحد، وربما يدعى أنه الله كما ادعى فرعون والقارون وغيرهما من عباد الله، فيكون هناك تصادم بين القوى حتى ينتهى الأمر إلى الفوضى، فلذلك لم يعط الله الإنسان كل نوع من القدرة، وبل أعطاه القدرة التي تتناسب مع العبد فقط. وكذلك هذا العجز والنقص في قواه يؤدي إلى معرفة بوجود الله وقوته. وإن الأعمال التي لا يقدر الإنسان على القيام بها كالموت والحياة والشفاء والبلاء والشقاء وغير ذلك، فلا تقع إلا تحت نظام وضعه الله في الكون في الأسباب الظاهرة، فعلى الإنسان أن يتخذ هذه الأسباب الظاهرة في هذه الأعمال أيضا، ولا يجلس مكتفي الأيدي اتكالا على القضاء والقدر. فإن الله تعالى فهو الذي أعطى الدواء قوة الشفاء.وكل شيء قوته لأجله خلق. وهذا هوالسبب قال النبي "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل." وقال ابن قيم الجوزية في تشريح هذا الحديث وأمثاله:"فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، و إبطال قول من أنكرها، وأن يكون قوله "لكل داء دواء" على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة، والأدواء التي لا يمكن لطبيب أن يبرئها، ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها، ولكن طوى علمها عن البشر، ولم يجعل إليه سبيلا. لأنه لا علم للخلق إلا ما علّمهم الله. ولهذا علّق النبي صلى الله عليه وسلم الشفاء على مصادفة الدواء للداء. فإنه لا شييء من المخلوقات إلا له ضد، وكل داء له ضد من ادواء يعالج بضده." .......................... – وعلى جملة أخرى أن يقال- "وهو أن الله قدر كذا وكذا بهذا السبب، فإن أتيت بالسبب حصل المسبب وإلا فلا." (ابن قيم الجوزية، الطب النبوي، منشورات دار ومكتبة الهلال، بيروت، عام 1983م، ص 14)
[13] الأعمال الكاملة لمحمد عبده، تحقيق: الدكتور عمارة، ج 3، ص410-إلى ص 412،
[14] أم القرى، عبد الرحمن الكواكبي، ص 23