يتناول الكاتب المصري هنا الفرق بين تجربتين شعريتين في تناولهما لمحنة المرض، من خلال شاعرين كبيرين عاشا هذه المحنة حتى الموت. ويحد أن السياب قد رضي بمحنته وتقبل الآلام وعايش المرض بينما زاد دنقل على نفسه آلاماً نفسية أخذت تتنامى كلما استشعر طول الرحلة.

أصداء الألم والأمل .. بين السياب ودنقل

السـيد عبد العليم

 

هناك الكثير من وسائل التعبير عن الذات وعن التجارب الإنسانية. من هذه الوسائل: الفنون بأشكالها المتعددة. ومن أهمها الأدب: فهو بحق مرآة للواقع الإنسانى بكل ما يحمله من معاناة وآلام. ومنذ عرفت الإنسانية الأدب كوسيلة تعبير والبشر يتناقلون تجاربهم ومعايشاتهم للأجيال المتعاقبة. ومنها تجربتين لشاعرين معاصرين، هما بدر شاكر السياب (1964 -1926) و أمل دنقل (1983 - 1940 كلاهما برع فى شعر التفعيلة، عاشا تجربة واحدة (المرض) واختلفت رؤية كل منهما لمعاناة آلام المرض، فلنتتبع التجربتين ونتلمس ما فيهما من مشاعر:

ففى قصيدته بعنوان (سفر أيوب) يرى السياب المرض نعمة والآلام هدايا الحبيب فيبدو راضياً صابراً:

لك الحمد مهما استطال البلاء

ومهما استبدّ الألم

لك الحمد، إن الرزايا عطاء

وإن المصيبات بعض الكرم

ألم تُعطني أنت هذا الظلام

وأعطيتني أنت هذا السّحر؟

فهل تشكو الأرض قطر المطر

وتغضب إن لم يجدها الغمام؟

ولطول معاناته يستحضر السياب نبي الله أيوب (عليه السلام) لا مشبهاً نفسه به ولكن مستدعياً تجربته في مواجهة المرض لتلهمه (الصبر) لعبور الأزمة:

شهور طوال وهذي الجراح

تمزّق جنبي مثل المدى

ولا يهدأ الداء عند الصباح

ولا يمسح اللّيل أوجاعه بالردى

ولكن أيوب إن صاح صاح:

لك الحمد، إن الرزايا ندى

وإنَ الجراح هدايا الحبيب

أضم إلى الصدر باقاتها

هداياك في خافقي لا تغيب

هدايا مقبولة . هاتها

في المقابل يعيش أمل دنقل لحظات المرض وكله مرارة وأسى، يستشعر أنه أسير الفراش الذي يلازمه حد التوحد، فلا تبدو نبرة الرضا حاضرة، وإنما يحل محلها شيء من الحزن الممزوج بيأس مرير، نراه يقول في قصيدة بعنوان (السرير):

أوهموني بأن السرير سريري

سوف يحملني عبر نهر الأفاعي

لأولد في الصبح ثانية

أوهموني فصدَّقت..

(هذا السرير)

ظَنني - مثله - فاقد الروح

فالتصقت بي أضلاعَه

والجمادَ يضم الجمادَ ليحميهَ من مواجهة الناس

(صرت أنا والسرير..)

طول الليلات الألفِ

والأذرعةُ المعدن

تلتفَ وتتمكن

في جسدي حتى النزف

نعود للسياب الذي يرى رقاده اختيارا إلهيا وعليه التسليم. لذا يتعايش مع الليل والفراش ويستشعر سعادة الرضا لدرجة أنه يطلب من زائريه أن يحسدوه على النعمة التي أنعمها الله عليه .... فالمرض عنده (منحة لا محنة).. يقول:

أشد جراحي وأهتف بالعائدين:

ألا فانظروا واحسدوني

فهذى هدايا حبيبي

أما أمل دنقل فيدخل في حوار مع السرير الذي يتحداه – في حوار فلسفي- ويحسده على مجرد تحريك يديه:

صرتُ أقدر أن أتقلبَ في نومي واضطجاعي

أن أحركَ نحو الطعام ذراعي

واستبان السرير خداعي

فارتعش!

وتداخل - كالقنفذ الحجري - على صمته وانكمش

قلتَ: يا سيدي.. لمَ جافيتني؟

قال: ها أنت تكلمني

وأنا لا أحب الذين يمرُّون فوقي

سوى بالأنين

فالأسرة لا تستريح إلى جسد دون آخر

الأسرة دائمة..

والذين ينامون سرعان ما ينزلون

نحو نهر الحياة لكي يسبحوا

أو يغوصوا بنهر السكونَ

وبينما نرى الرغبة في التعايش مع المرض يصل عند السياب حد اعتياد الظلمة وسهر الليالي العليلة، بل يألف الأجواء، ويرى جمالاً في كل ما حوله وهو ساهر يعاني آلام المرض؛ فيصغي السمع لحركة الكون ويتوحد مع الوجود؛ ويحس جماله فتغمره السكينة..

جميل هو السهدَ أرعى سماك

بعيني حتى تغيب النحوم

ويلمس شباك داري سناك

جميل هو الليل:

أصداء بوم وأبواق سيارة من بعيد..

وآهاتَ مرضى، وأم تُعيد.. أساطير آبائها للوليد

ومن خضم مشاعر وتجربة المرض وتمسكه براحة النفس وصفائها يخرج السياب من طوق ألمه بإحساس (قرب الشفاء) ممنياً نفسه:

وإن صاح أيوب كان النداء:

لك الحمد يا رامياً بالقدر

ويا كاتباً، بعد ذاك، الشفاء

نرى في المقابل أمل دنقل وأين أوصله هذا الإحساس اليائس، وتذكره الدائم لثيمة الموت وحضوره الطاغي؛ لدرجة الانحدار المؤلم لحافة استدعاء لحظات الموت وحضور المعزين.. ليصل للتساؤلات الحائرة حول مدلول الألوان خاصة اللون الأبيض - لون الصفاء المعتاد - إلا أنه يبعث في نفسه الوهن؟!

في قصيدته بعنوان (ضد من؟!) يحتار دنقل بين السواد والبياض ومدلولاتهما وهو على سرير المرض، ولكنه يستقر أخيراً على لون الحقيقة .. لون تراب الوطن الذي يشعر دنو اتحاده مع جسده بالدفن:

في غرفة العمليات

كان نقاب الأطباء أبيض، لون المعاطف أبيض

تاج الحكيمات أبيض، الملاءات، لون الأسرة، أربطة الشاش والقطن

قرص المنوم، أنبوبة المصل، كوب اللبن

كل هذا يشيع بقلبي الوهن...

كل هذا البياض يذكرني بالكفن

فلماذا إذا مت...

يأتي المعزون متشحين بشارات لون الحداد؟!

هل لأن السواد هو لون النجاة من الموت؟!

لون التميمة ضد الزمن؟!

بين لونين استقبل الأصدقاء

الذين يرون سريري قبراً... يرون حياتي دهراً

وأرى في العيون العميقة لون الحقيقة

لون تراب الوطن

وهنا يكمن الفارق في أثر التجربة: الرضا الذي نلمسه لدى السياب يجعله يتقبل الآلام ويعايش المرض بل ويصادقه... أما أمل دنقل فيزيد على نفسه آلاماً نفسية تزيد آلام جسده ويقولب نفسه في خيمة من الهم والأسى الذي يتنامى كلما استشعر طول الرحلة..

وأياً ما كان فنحن أمام تجربة إنسانية خالصة، تعري النفس البشرية بلحظات ضعفها وانكسارها وصبرها ورضاها..

ويذهب الإنسان بكل ذلك ويرحل.. وتبقى خطواته وآثاره يتردد صداها.. إلى الأبد...

 

كاتب وناقد من مصر