تقدم الكاتبة هنا قراءة لمؤلف الباحث اللبناني الذي أرخ للفن التصويري في الثقافة العربية منذ الحكم العثماني إلى المد الكولونيالي الذي نقل إلينا هذه الثقافة البصرية. وتناول السيرورة التي أدت إلى انتشار ثقافة اقتناء اللوحة فنية، والسجالات الاجتماعية والدينية حول الفنون التصويرية.

تاريخ اللوحة في الفن العربي الحديث

كما يرويه شربل داغر

هويدا صالح

 

التأريخ لظهور اللوحة، أو الفن التشكيلي الذي يحول الموضوعات إلى لوحات زيتية تعلق على الجدران، هو موضوع كتاب «الفن العربي الحديث - ظهور اللوحة» للشاعر والروائي شربل داغر (المركز الثقافي العربي، بيروت/ الدار البيضاء). يأتي الكتاب مدعماً بالصور ليؤرخ لظهور اللوحة منذ بدايات الحكم العثماني البلدان العربية، وظهور المد الكولونيالي الذي نقل تلك الثقافة البصرية إلى عالمنا العربي.

لم تغب عن المؤلف الإشارة الدالة إلى الوعي العربي الأصولي الذي كان يرفض الفنون الزيتية، بخاصة فنون البورتريه انطلاقاً من التحريم الديني للرسم والنحت وغيره، باعتبار أن تجسيد الأرواح ممنوع ومحرم. يقول داغر في مقدمة الكتاب أنّ اللوحة الزيتية انتقلت، أو استُوردت، إلى هذه البيئات من خارجها (من المدن الإيطالية، بداية)، من هنا «تتبع الكتاب وفحصَ دخول هذا العمل الفني الجديد إليها، من المغرب الأقصى إلى إمارات الخليج. فتحقق العمل من أن دخول هذه القطعة لم يكن بالسهل أو بالهين، إذ «استقبلتْها» (أو اعترضت استقبالها) مواقف وقيم واعتيادات وسلوكات، متأتية من أن الصورة، لا سيما التمثيلية، تحولت إلى «مسألة» إسلامية، على مرِّ العصور، في أحكام الفقهاء قبل سياسات الخلفاء أو الولاة. لهذا، فإن «ظهور» اللوحة عربياً لم يكن فقط بالظهور الفني، بل كان أيضاً ظهوراً سياسياً واجتماعياً؛ وما رافق هذا الظهور من أحوال قبول واعتراض يعود إلى أسباب دينية واجتماعية، قبل أن تكون تقنية أو مهنية أو جمالية».

يرى داغر أن ظهور اللوحة ارتبط في البدء بالقصور والبيوت، فلم تكن ثقافة المتاحف والمعارض معروفة بعد في منطقتنا العربية. بل أيضاً عرفت اللوحات الفنية من خلال كتابات الرحالة والمؤلفين من أوروبيين وعرب قبل المؤرخين الفنيين.

يسعى الكتاب إلى التعرف إلى الكيفية التي انتشرت بها ثقافة اقتناء لوحة فنية أولاً، ثم معرفة الفنانين العثمانيين والعرب بهذا النوع من الفن الذي كان محرماً في المجتمع في عهود سابقة. وأصبح ظهور اللوحة متجاوزاً فكر أن الفن اقتصر - بحسب الكاتب - على «قطعة» مربعة أو مستطيلة أو طولية، ملونة، فوق جدار، أو تُطوى وتَخفى عن الناظرين، حين يستنكر المجتمع الذي يرى فيها خرقاً لقيمه الدينية والأخلاقية. فجاء ظهور اللوحة وتقبل المجتمعات لها بطيئاً، محفوفاً بالاختلافات والارتدادات؛ وما بدا مطلوباً أو ميسَّراً في نطاق، مثل القصر أو القنصليات أو الكنائس أو بيوت الأمراء والأعيان، كان مكروهاً فى نطاق آخر، لا سيما بين الفقهاء، أو في «علانية» المجتمع.

وفي مشهد استعاري، يرى الكاتب أن اللوحة أو تلك القماشة المشدودة أو المثبتة فوق إطار خشب تكشف التحولات التي أصابت وعي المجتمع بالفن، ورؤيته الجديدة التي أزاحت فكرة التحريم التي التصقت بالفن طويلاً. فظهور اللوحة في هذه الحالة أشبه بمرآة عريضة مبسوطة بين أطراف المجتمع، وتعرض بالتالي أحواله ورؤية هذا المجتمع لتطلعاته أو حتى لما لا يرده من قيم أو تصوراته عن نفسه، فلم يكن انتشار الرسم بين الفنانين وبالتالي اقتناء اللوحات بين أفراد المجتمع إلا تغيرات حقيقية في وعي المجتمع. وبدأ المجتمع في طرح أسئلة وجودية من قبيل: أتكفي المسلم، والعربي، اللغة العربية بتعبيراتها المختلفة، من دينية إلى أدبية، ولا يريد منافستها بغيرها أم إن محاربة الديانة الإسلامية للعقيدة الوثنية في الجاهلية، المتمثلة في نصب وتماثيل وصور فنية، بقيت فاعلة، وأساساً فقهباً وقيمياً، بعد قرون وقرون على انتهاء العهد الوثني؟ أليست هناك فوارق بين الصورة الوثنية والصورة الفنية؟ ماذا عن «ظهور» اللوحة عربياً: أَظَهرتْ وفق أحكام الفقهاء أم وفق متطلبات أخرى؟ هل كان مسارها واحداً في مجتمعات عربية متباينة السياقات والأحوال؟ أعانت هذه كلها من المصاعب عينها؟ ماذا عن حضور الصورة الفنية القديمة بين الجماعات المسيحية العربية، من أيقونة وغيرها؟ أَبَقيتْ على حالها القديمة أم «تكيفت» مع متوجبات اللوحة الزيتية؟

يتكون الكتاب من ثلاثة أبواب وعشرة فصول حاول فيها الكاتب أن يقدم رؤية تاريخانية لعلاقة الدول العربية والدولة العثمانية التي كانت تحكم كثيراً من هذه الدول، فضلاً عن المغرب الذي كان خارج السيطرة العثمانية، بالفن التشكيلي.

حاول الكاتب أيضاً أن يتعقب الأعمال الفنية في بداياتها، ويعرف القارئ بفنانيها الأوائل والمؤسسين. وهذا الفحص التاريخي للفن كانت له أوجه اجتماعية كذلك، إذ يرصد الأحوال والسلوكات والتمثلات، من دون تغييب الجدالات التي رافقت أو اعترضت هذا «الظهور» الطارئ. فما بدأ في قصور، انتقل إلى الدُّور؛ وما تعين في لوحة وجهية («بورتريه») انتقل بل تمدد إلى أنواع وموضوعات فنية أخرى؛ وما كان مهنة وأفعالًا يقوم بها أجانب، أصبح مهنة محلية، ذات جاذبية، حتى لأبناء الأسر الميسورة، بمن فيهم ضباط سابقون أو قضاة.

يتناول الكتاب إذاً مقاربات مختلفة ومتعالقة في الوقت عينه. وقد عالح الباحث في الباب الأول الظهور التاريخي للوحة في النطاقين العثماني والعربي، فتبين الدورات المختلفة لهذا الفن في المجتمعات المعنية، في وتائرها المتباينة، بلوغاً إلى دورتها الأخيرة – دورة الذيوع والتأكد – في الخليج العربي.

أما الباب الثاني فقد عالج التغيرات المجتمعية التي أحدثتها هذه الثقافة الفنية الناشئة في اللغة كما في الخطاب العربيين: فقد بان، في أكثر معجم أوروبي - عربي (ابتداء من القرن السادس عشر)، أن لفظ (art) بات يوازي لفظ «فن» العربي، بخلاف ما هو عليه في العربية القديمة. أهذا ما «ظهر» في معجم أوروبي وبقي في متنه، أم انتقل إلى معاجم عربية أيضاً (في القرن العشرين)؟ وماذا عن غيره من الألفاظ الاصطلاحية المناسبة لنطاق الفن ومتعلقاته، لفظاً ومفهوماً ودلالة؟ أبقيتْ على حالها القديمة أم تغيرت «حمولاتها» أيضاً؟ ذلك أن سؤال اللغة عما تسجله وتحفظه وتنشره بين مستعملي اللغة وكاتبيها سؤالٌ في الفن أيضاً، ما يدلُّ على معانيه، بين فلسفته ومفاهيمه ودلالاته. وماذا عن الخطاب العربي نفسه، ألا يدلُّ بدوره، في مادته التأليفية، عما تسجله الكتابة وتحفظه وتنشره من حدوثات في الفن؟ هذا ما سعى إليه أحد الفصول، في هذا الباب الثاني، فتوقف عند «قاموس» آخر، عربي، موضوع في نهايات القرن التاسع عشر، وتنبّهَ فيه إلى تغيرات وانتقالات أصابت «الصناعات» المتوارثة ونقلتها إلى ميدان «الفن». وهو ما يستكمله هذا الباب بسؤال الخطاب الديني، الفتوى حصراً، عما فعلته، عما «أجازته» في العلاقة بين الصورة واللوحة.

أما الباب الثالث فاستجلى فيه الباحث الوجود الفني للوحة، في السياق العثماني كما العربي، فتوقف عند «المدارس» والأنواع والموضوعات والأساليب التي اتَّبعَها أوائل الفنانين والرواد، وما اشتملت عليه معالجاتهم هذه من خبرات ومهارات وكفاءات، وما قامت عليه هذه في عمليات قبول وتحوير واستبدال وغيرها. هذا ما طلبَه البحث في أكثر من تجربة فنية، وفي أكثر من نوع فيها، متوقفاً، في الفصل الأخير، عند تجربة فنان بعينه: جبران خليل جبران، لما فيها من مسعى متلاقٍ ومتمايز عن أقرانه الأوائل.

إذاً، يحتاج الفن العربي الحديث إلى تاريخه (وهو، في جانب منه، أوروبي وعثماني)، وإلى اندراجه في الثقافة المحلية، وفي تطلعات اجتماعية وخيارت ذوقية لدى نخب محلية، خصوصاً، أن هذا الفن عرفَ نقلة قوية في العقود الأخيرة، تمثلتْ في حضور متزايد لأعمال الفنانين العرب، في منتديات سوق الفن العالمي وفي متاحفه الكبرى. كما تمثَّلتْ، قبل ذلك، في قيام متاحف لحفظه وعرضه في العالم العربي، فضلًا عن صالات العرض، وفي نشوء مجموعات متعاظمة لمقتنيه، لا سيما في بلدان الخليج.