يكشف الباحث المغربي عن طبيعة آليات عمل التكثيف الدلالي في الشعر، وكيف نظّر لها المنظرون الغربيون المحدثون، وجذور الكثير من أفكارهم ومصلحاتهم لدى عبدالقاهر الجرجاني في (دلائل الإعجاز)، وكيف أنه تناول أثر ترتيب الألفاظ في نفوس المتلقين، وهذا يعني أنه تناول الظاهرة من جانبيها: جانب الإنتاج وجانب التلقي.

آليات التكثيف الدلالي في الدراسات الأسلوبية

عبد السلام المرضي

 

توطئة
لعل أصل التكثيف الدلالي يكمن في الشعر في حد ذاته، أي في لغته لا في المتلقي بمفرده. على أنه إذا كانت اللغة ذات وجه تركيبي وآخر استبدالي، فإن للتكثيف الدلالي أيضا هذين الوجهين. ولهذا عمدنا في دراسة التكثيف إلى تناول آليات اشتغاله من خلال ما يشكل وجهه الاستبدالي متمثلا في التشبيه والاستعارة. فما هو مفهوم هذه الآليات في الشعريتين القديمة والمعاصرة؟ وكيف تتحقق الشعرية في النصوص؟

1. نظام ترتيب عناصر الكلام
أ— مفهوم التقديم و التأخي
ر
حظي «التقديم والتأخير» باهتمام جل الدارسين على اختلاف تخصصاتهم وتوجهاتهم العلمية. فقد تناوله النحويون واللغويون والمفسرون والمتكلمون والبلاغيون، إلا أنه استأثر باهتمام النحاة والبلاغيين أكثر من غيرهم. على أن فكرة التحفظ منه راودتهما معا، وراودت النحويين على الخصوص. فإذا كانت الدراسات النحوية بما تحمله «من نظام نحوي صارم لطالما اختلف في شأنه النحاة في تراثنا العربي، فقد كانت ظاهرة التقديم و التأخير بما يتولد عنها من خرق لترتيب عناصر الكلام من أهم القضايا التي طرحت على بساط الجدل. أما التراث البلاغي بشقيه الكلامي والأدبي والتراث النقدي، فأجاز هذه الظاهرة نزولا عند فكرة الإعجاز القرآني أو الإبداع الأدبي أوهما معا»1 وقد ذكر عبد القاهر الجرجاني أن من عيوب الدراسات النحوية السابقة على دراساته في هذا المجال هي عدم تدقيقها في تناول التقديم والتأخير وعدم سبرها لمعانيه، حيث ظل بابه بابا ناقصا. يقول الجرجاني: «ولقد وقع في ظنون الناس أنه يكفي أن يقال إنه قدم للعناية ولأن ذكره أهم، من غير أن يذكر من أين كانت تلك العناية ولما كان أهم. ولتخليهم ذلك صغر أمر التقديم والتأخير في نفوسهم. وهونوا الخطب فيه حتى أنك لترى أكثرهم يرى تتبعه والنظر فيه ضربا من التكلف ولم تر ظنا أزرى على صاحبه من هذا وشبهه.» ويضيف أن ذلك له أثر على معرفة البلاغة وكشف أسرارها: «لاجرم أن ذلك ذهب بهم عن معرفة البلاغة ومنعهم أن يعرفوا مقاديرها، وصد أوجههم عن الجهة التي هي فيها والشق الذي يحويها والمداخل التي تدخل منها الآفة على الناس في شأن العلم، ويبلغ الشيطان مراده منهم في الصد عن طلبه».2 والكلام هنا على النحويين الذين تحفظوا من التقديم والتأخير بتقصيرهم في دراسته.

وقبل أن نعرض لمفهوم «التقديم والتأخير» لغة واصطلاحا لا بـأس من الإشارة إلى أنه يتضمن مصطلحين متلازمين، إذ بمجرد وجود أحدهما افتراضا يوجد الآخر بالضرورة، والعكس صحيح، ولهذا فإنهما «مفهومان متواشجان في حقيقة اللغة، وفي أذهان الناس. إذ يقتضي التفكير في أحدهما حضور الآخر في الذهن.»3 ولكننا نلاحظ أن اهتمام البلاغيين انصب أكثر على التقديم ولذلك كان ذكر هذا المصطلح أكثر ورودا من مصطلح التأخير لدى الدارسين. وهو الأمر الذي يشير إليه الجرجاني: «ولاتزال ترى شعرا يروقك مسمعه ويلطف لديك موقعه، ثم تنظر فتجد سبب أن راقك ولطف عندك أن قدم في شيء، وحول اللفظ من مكان إلى مكان.»4 متحدثا عن روعة الشعر ولفظه بالتقديم منفردا دون ذكر التأخير، حيث يتم الحديث عن التقديم بأنواعه كما يلاحظ في كتاب (علوم البلاغة) لمصطفى المراغي و (معجم البلاغة العربية) لبدوي طبانة، مما جعل دراسة التقديم والتأخير مختصرة في التقديم فقط. وبفضل ذلك نرى الجرجاني في مقارنته بين بعض الجمل التي تحتوي تقديما وتأخيرا والأخرى التي لاتحتويه، يذهب إلى تفضيل الأولى، معللا ذلك بكونها تضم تقديما. كما أنه في تحليل قوله تعالى: «وجعلوا لله شركاء الجن» يذهب إلى أن في تقديم «شركاء» حسنا وروعة ... سبب ذلك هو الفائدة الشريفة والمعنى الجليل الذي في التقديم والذي لاسبيل إليه مع التأخير».5

فالتقديم إذن في التعريف اللغوي «مصدر للفعل قدم، وهو في اللغة خلاف تأخير»6 أما في التعريف الاصطلاحي، فقد صنفه البلاغيون في علم المعاني، الذي عرف نهضة شاملة على يد الجرجاني بعدما كان مجالا راكدا. ويعتبر كتابه )دلائل الإعجاز( في علم المعاني «كتابا رائدا في هذا المجال. وقد وردت في هذا الإطار عدة تعاريف للتقديم والتأخير لمختلف الدارسين البلاغيين يلاحظ من خلالها أنها لاتتعارض فيما بينها، بل تتشابه من خلالها أرائهم مع تميز وفرادة دراسة الجرجاني، وعدم مخالفتهم له، ولا زيادة على آرائه. وأهم ما تتشابه فيه آراؤهم هو أن الكلام لا ينطق به المتكلم دفعة واحدة، لذلك لابد فيه من «تقديم وتأخير»، كما اتفقوا على أن الكلمات في الجملة تتخذ ترتيبا طبيعيا بحسب ترتيبها في النفس، لكنها في بعض الأحيان تتخذ ترتيبا مغايرا، فيصبح المقدم مؤخرا، ولذلك إذا كانت «الألفاظ قوالب المعاني، فيجب أن يكون ترتيبها الوضعي بحسب ترتيبها الطبيعي»7. فكان أن وضعت في نظام ترتيب أصلي، وأصبح «من البين أن رتبة المسند إليه التقديم لأنه المحكوم عليه ورتبة المسند التأخير، إذ هو المحكوم به، وما عداهما فتوابع ومتعلقات تأتي تالية لهما في الرتبة».8 وهي قاعدة يبدو أنها، من حيث رتبة المسند إليه والمسند، تنحصر في الجملة الإسمية المكونة من مبتدأ وخبر:

مسند إليه (مبتدأ) + مسند (خبر)

على أن رتبة المسند في الجملة الفعلية من خلال المحفوظ النحوي هي التقديم، في حين أن رتبة المسند إليه التأخير، ثم تليهما التوابع والمتعلقات :

مسند(فعل) + مسند إليه (فاعل) + متعلقات الفعل .

لكن بما أن الكلام لا يعرف الثبات ولا يستقر على حال، فإن المتكلم يغير في ثوابته بتغير المواقف وتباينها فـ«قد يعرض لبعض الكلام من المزايا مما يدعو إلى تقديمه وإن كان حقه التأخير فيكون من الحسن تغيير هذا -الثابت- ليكون المقدم مشيرا إلى الغرض الذي يراد، ومترجما عما يقصد منه»9؛ مما يفسح المجال أمام انزياح كل من المسند والمسند إليه عن رتبتهما ويخرجهما عن وظيفتهما النحوية إلى الوظيفة البلاغية، ولعل إدراك البلاغيين لهذه الحقيقة النحوية، «أتاح لهم أن يضيفوا إلى مباحثهم بعدا جماليا في تركيب الكلام من خلال العدول عن الترتيب المألوف إلى ترتيب آخر يتميز بقدرته على إبراز الدلالة بتقديم جزء على آخر أو تأخيره عنه»10. ومن الواضح أن «التقديم والتأخير» يعرض لدراسة وجهين: الأول نحوي والثاني بلاغي، لكن الدارس النحوي يكتفي بتعيين مواطن التقديم ومواطن التأخير في الجملة وذلك لغرض نحوي صرف، فينحصر عمله في ما يسمى لدى النحويين بالرتب المحفوظة، وقد يتجاوز في صرف عمله هذا الحد- وهو نادر- إلى إثارة الأغراض والغايات من تقديم بعض العناصر وتأخير أخرى، لكن ليس من الضروري أن يتطرق إلى ذلك. أما الدارس البلاغي فإضافة إلى تناوله جانب الأغراض والغابات فيفترض فيه أن يكون عالما بالوجه النحوي، ذلك أن معرفة مواطن «التقديم والتأخير» في الكلام تقتضي معرفة موضع المسند إليه والمسند ومتعلقات الفعل حتى يتسنى له الحكم بتقديم أو تأخير ومن ثم اشترط الجرجاني على دارس النظم معرفة علم النحو مخاطبا إياه «واعلم أن لبس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه النحو، وتعمل على قوانينه وأصواله»11. وكذلك يشير تعريف مجدي وهبة وكامل المهندس في تعريفهما للتقديم إلى الترتيب النحوي الذي يراعي الغرض البلاغي، فيريان أنه هو «تغيير مواضع الألفاظ في الجملة تغييرا يخالف الترتيب النحوي المألوف لغرض بلاغي كالقصر وإظهار الإهتمام»12.

ب – مفهوم الاعتراض:
لقد أثيرت قضية نظام ترتيب الكلمات في سائر اللغات، وهي قضية متعلقة بترتيب الكلام. ولذلك يرى محمد الهادي الطرابلسي أنه «مما يميز فصائل اللغات بعضها عن البعض نظام ترتيب العناصر من ناحية وألوان تغيير الترتيب من ناحية أخرى».13 لهذا نلاحظ استعمال «التقديم والتأخير» في سائر الكلام نثريا كان أو شعريا، بنسب متفاوتة وبطرق مختلفة كذلك. كما نلاحظ أنه في الدرس البلاغي الفرنسي إشارة إلى إدراج الاعتراض أيضا في الحديث عن نظام ترتيب الكلام ضمن ما يسمى بالقلب L’inverssion (أي التقديم والتأخير)، وذلك ما يتبدى في إشارة «ج. مولينو» و«ج. تامين» في قولهما: «لقد جمع فونتانيي Fontanier هذين الشكلين (L’hyperbate الاعتراض L’anastrophe= القلب) تحت نفس التسمية: القلب. وقد عرفاه في علاقته بالترتيب المنطقي للأفكار، وليس في علاقته بالترتيب الأصلي للجملة: ذلك أن الترتيب الفرنسي SVO يعكس الترتيب المنطقي للتفكير في نظر عدد من النحويين و الفلاسفة»14، وهذا ما جعل القلب L’inversion (أي التقديم والتأخير) يعرف توسعا باعتباره قضية شاملة لترتيب الكلمات بحيث يضم الاعتراض ضمن نفس التسمية كما جاء في تعريف «فونتانيي». الشيء الذي حدا بـ«جون كوهن» إلى تخصيص فصل لدراسة ترتيب الكلمات ضمنه نوعين من عمليات الترتيب هما: القلب والاعتراض مشددا على أنه «ينبغي لأجل أن ينتج القلب كامل أثره، أن نعطيه ذلك الاتساع الذي تشير إليه البلاغة باسم الاعتراض»15. وهو الأمر الذي أشار إليه محمد الهادي الطرابلسي معتبرا الاعتراض وجها من وجوه ترتيب الألفاظ فيقول: «إن الاعتراض والزيادة في بعض وجوهها من مظاهر تغيير الترتيب في عناصر الجملة. فالاعتراض يكون بتغيير الترتيب أي بتحويل أحد عناصر التركيب عن منزلته وإقحامه بين عناصر من طبيعتها التسلسل، كما يكون بزيادة عنصر أو أكثر من عنصر أجنبي تماما عن التركيب يقطع هذا التسلسل»،16 مما يعني إدراج الاعتراض ضمن آليات تغيير نظام ترتيب الكلمات التي يعتبر «التقديم والتأخير» واحدا منها، حيث يشترك معه في هذا التغيير الذي يكون إما بالفصل بين العناصر في حالة الاعتراض، وإما باستبدال المواقع في حالة «التقديم والتأخير».

يعتمد الاعتراض في علم الأسلوب الحديث من حيث اشتغاله على الفصل بين الكلمات المتتالية لزوما، لاتلك التي لا تستلزم التتالي. وقد اعتبره البلاغيون محسنا بلاغيا يزيد الكلام وضوحا لأنه يتممه، وفي هذا الصدد يقول بدوي طبانة: «الاعتراض: ذكره ابن المعتز في محاسن الكلام، قال: ومن محاسن الكلام أيضا والشعر اعتراض كلام في كلام لم يتمم معناه، ثم يعود إليه، فيتممه في بيت واحد كقول بعضهم :

«فظلوا بيوم - دع أخاك بمثله على مشرع يروي ولما يصرد.»17

وعلى خلاف علم الأسلوب الحديث الذي يرى أن الاعتراض من أنماط تغيير نظام ترتيب الكلام، فـإن البلاغة القديمة تضعه ضمن الأمور التي يتم بها الإطناب في الكلام، إذ هو «من ضروب الإطناب»18 كما هو الحال لما يسمى عند البلاغيين «بالإيضاح» و«ذكر الخاص بعد العام» و«التكرار».

والمقصود بالاعتراض لدى هؤلاء هو الجملة الواقعة بين عارضتين والتي لامحل لها من الاعراب فاصلة بين كلامين متصلين من حيث المعنى. وفي هذا يقول أحمد مصطفى المراغي: «الاعتراض هو أن يؤتى في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنى بجملة أو أكثر لامحل لها من الإعراب»19. إلا أن هذا التعريف يحمل في طياته بعض الهفوات التي من شأنها الإخلال بمقصود الأسلوبية الحديثة من الاعتراض، والإخلال بالتالي بالهدف المرسوم لمحور الاعتراض في هذه الدراسة. ويمكن إجمال مواطن الهفوات في النقط التالية:

1- أن الاعتراض الذي يؤتى به «في أثناء الكلام» كما يقول المراغي، قد لا يكون فاصلا بين عنصرين متلازمين، لهذا لا يمكن اعتباره اعتراضا، وذلك أن خاصية «الفصل» هي المسعى الذي من أجله سمي اعتراضا، فإذا انتفى هذا المسعى انتفى مفهوم الاعتراض. ومن هنا ركز «مولينو» و«تامين» على هذا المسعى في تعريفهما للاعتراض، يقولان «الاعتراض هو فصل كلمتين موحدتين من حيث التركيب بشكل دقيق، وذلك بواسطة إدراج كلمة أو مجموع كلمات تختلف وظيفتها التركيبية».20 حيث يختلف تعريف المراغي عن تعريف «مولينو» و«تامين» بوضع الثاني عملية الفصل موطن الشاهد في وقوع الاعتراض، وذلك ما استدركه المراغي في قوله: «أو بين كلامين متصلين»، لكن قوله هذا يفسح المجال الاختياري على مصراعيه، بين كون الاعتراض قد يكون فاصلا أو غير فاصل، وهو الأمر الذي دقق فيه «مولينو» و«تامين».

2- وإذا كان تغيير نظام الترتيب خروجا عن النمط العادي الذي وضعت فيه اللغة، إن قول المراغي: «متصلين معنى»، لم يشر فيه إلى الاتصال التركيبي كما أوضح قول «مولينو» و«تامين» حيث يقولان: «من حيث التركيب» ذلك أن الاعتراض مرتبط أشد الارتباط بالتركيب أولا قبل ارتباطه بالمعنى.

3- كما أن عبارة «بجملة أو أكثر» تقلص من دائرة الاعتراض بغير الجملة مما يدخل في عناصر تكوينها من كلمات كالجار والمجرور أو الظرف مثلا. ولذلك لم يحدد «مولينو» و«تامين» عملية الاعتراض في الجملة، وإنما ذكر «كلمة أو مجموع كلمات» أي كلمة مفردة أو جملة مؤلفة من عناصر مختلفة.

4- و أخيرا فإن قول المراغي: «لا محل لها من الاعراب» يستنتج منه تأكيد تقليص دائرة الاعتراض السابقة الذكر. إذ حسب هذا القول، فإن الجملة يجب أن تقع بين عارضتين حتى تشير إلى انعدام وظيفتها النحوية. في حين أن «مولينو» و«تامين» يشيران إلى أن ما يُعترض به له وظيفة تركيبية دون أن يذكرا مباشرة ما إذا كان له محل إعرابي أو لم يكن. إضافة إلى إشارتهما إلى أن هذه الوظيفة «تختلف بحسب موقعها النحوي في الجملة، وهذا ما جعل محمد الهادي الطرابلسي يرى أن الاعتراض قد يكون بعنصر من عناصر التركيب أو بعنصر خارج عنه: «فالاعتراض يكون بتغيير التركيب أي بتحويل أحد عناصر التركيب عن منزلته وإقحامه بين عناصر من طبيعتها التسلسل، كما يكون بزيادة عنصر أو أكثر من عنصر أجنبي تماما عن التركيب يقطع هذا التسلسل».21

وقد سارفي نفس الإتجاه الحديث عن الاعتراض «ر. جاكبسون» أحد رموز الشعرية المعاصرة، معرفا إياه بكونه «فصلا بين كلمتين موحدتين عن طريق التركيب»22، لكن دون أن يتطرق في هذا التعريف إلى الوسائل التي يتم بها الاعتراض.

ج – جمالية الانزياح
لقد فطن البلاغيون إلى أن الكلام في بعض الأحيان يستدعي تغيير نظام ترتيب الكلمات. فكان أن تصدوا لبعض مظاهره مستخلصين بعض الغايات والأغراض منه، موجهين بذلك عنايتهم إلى كيفية حسن تأليف الكلام وإخراجه بحسب مقصد المتكلم تحسبا لأي زلل أو لبس في بعض الاستعمالات. وهذا ما يبدو جليا من خلال الغرض من علم المعاني الذي «هو قواعد يعرف بها كيفية مطابقة الكلام مقتضى الحال، حتى يكون وفق الغرض الذي يسبق إليه، فيه تحترز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، فتعرف السبب الذي يدعو إلى «التقديم والتأخير»، والحذف والذكر و الإيجاز حينا والإطناب حينا آخر ... فمتى وضع المتكلم تلك القواعد نصب عينيه لم يزغ عن أساليب العرب، ونهج تراكيبهم وجاء كلامه مطابقا لمقتضى الحال التي يورد فيها.»23

ولكن البلاغيين لم يفطنوا إلى توسيع مجال البحث في جمالية تغيير الترتيب في عناصر الكلام إلا ما كان من دراسة عبد القاهر الجرجاني. ويعتبر علم الأسلوب الحديث أن الكلام يتشكل من محورين: الأول سياقي، والثاني إستبدالي. فإذا كان المحور الأول يتوقف على العلاقة بين الكلمات في تسلسلها بحيث تنتظم على المستوى الخطي، فإن المحور الثاني الذي تتداعى فيه الكلمات يتوقف على إمكانية استبدال كلمة بأخرى، بحيث تتداعى الكلمات في المستوى الخطي مع الكلمات الموجودة في الذهن، وعليه، فإن المبدع يختار أيضا من بين الإمكانيات اللغوية التي التي يمنحها المحور الاستبدالي ليؤلفها في نظام معين، كما يختار أيضا بين عدة إمكانيات على المحور السياقي ليركبها في نظام معين. وبهذا الاعتبار، ترددت مقولة: «الأسلوب اختيار»، تلك المقولة التي تدور حول «الفكرة التي أضافها أوهمان إلى البحث الأسلوبي التوليدي وهي تعريف الأسلوب باعتباره اختيارا بين مجموعة من البدائل والإمكانيات»24. ومن ثم أعتبر علم الأسلوب الحديث أن قضية تغيير الترتيب قضية تركيبية خاضعة للاختيار، واعتبر أن «التقديم والتأخير» والاعتراض قضيتان انزياحيتان متعلقتان بالتركيب بخلاف الإستعارة التي تتعلق بالمحور الاستبدالي، ولذلك رأى الأسلوبيون أن «التركيب يمثل عصب اللغة الشعرية فيما يأتيه من عدول»25، أي في ما يقوم به من انزياح يشكل فيه تغيير نظام الترتيب النموذج الذي ندرس، والذي يعتبر فيه «التقديم والتأخير» واحدا من أبرز مظاهر العدول في التركيب اللغوي، لأنه يحقق من الأساس غرضا نفسيا ودلاليا، ويقوم بوظيفة جمالية»26، والذي يعتبر فيه كذلك الاعتراض كما يرى ب. باكري Patrick Bacry عاملا لتغيير تركيب الجملة كذلك، إذ بعد تحليله لمثل اعتراضي يذهب إلى «أن تغيير نظام الكلمات –الاعتراض- لايمس ترتيبها فحسب، وإنما يتجاوزها إلى تغيير تركيب الجملة نفسها»27. مما يعني أن التماس شعرية الخطاب يتمثل في مستواه التركيبي أيضا إلى جانب إلماسها على مستويات أخرى: إيقاعية وصرفية ومعجمية .. وغيرها.

وإذا كان تغيير نظام الترتيب خروجا عن النمط العادي الذي وضعت فيه اللغة، فإن «التقديم و التأخير» والاعتراض يعتبران انزياحا عن ذلك النمط. ولما كان الانزياح أحد الأعمدة الأساسية في اللغة الشعرية المعاصرة، فإن «التقديم و التأخير» والاعتراض بدورهما مكونان أساسيان لهذه اللغة، ذلك ’’أن انتهاك قانون اللغة المعيار- الانتهاك المنظم- هو الذي يجعل الاستخدام الشعري للغة ممكنا، وبدون هذا الإمكان لن يوجد الشعر»28. وبخاصية الانزياح هذه، الضرورية للشعر، أصبح أسلوب الشعر يعرف بكونه انزياحا ذا قيمة جمالية متميزة، وغدا الأسلوب لدى جون كوهن «كل ما ليس شائعا ولا عاديا ولا مطابقا للمعيار العام المألوف. ويبقى مع ذلك أن الأسلوب كما مورس في الأدب، يحمل قيمة جمالية، إنه انزياح بالنسبة إلى معيار»29. وهكذا فإن تغيير نظام الترتيب يتحول إلى مؤشر أسلوبي في النصوص الشعرية بالنظر إلى كونه انزياحا أولا، وبالنظر إلى نسبة وروده ثانيا، عملا بالمبدأ القائل بأن الانزياح وثرته يعمقان شعرية النص، وهو المبدأ الذي جعل جون كوهن يحكم بشعرية اتجاه أدبي بما يرد في شعره من نسب عالية في مخالفة الترتيب من خلال النعت والصفة، وانطلاقا من الإحصائيات المستشهد بها في الخانات. فاعتبر على سبيل المثال أن الشعر الرومانسي الذي بلغت فيه نسبة النعوت غير التقييمية المقلوبة إلى 52،4 في المائة، أشعر من الشعر الكلاسيكي الذي بلغت فيه نسبة ذلك النعت 11،5 في المائة، وهما معا أي الشعر الرومانسي والشعر الكلاسيكي أشعر من لغة النثر العلمي الذي تنعدم فيه نسبة ذلك النعت. وقد أدرك أراغون شعرية تغيير نظام الترتيب في مقدمته ل (عيون إليزا)، مفسرا سر ذلك بجمالية الانزياح فيه، إذ يعيد فيه المبدع خلق اللغة، ويكسر فيه القواعد والقوانين معتبرا أنه «لا يتحقق الشعر إلا بقدر تأمل اللغة، وإعادة خلق اللغة مع كل خطوة. وهذا يفترض تكسير الهياكل الثابتة للغة وقواعد النحو، وقوانين الخطاب»30.

إن جمالية الانزياح في تغيير نظام الترتيب، تتبدى واضحة بشكل كبير في لعبة الانتقال بين عناصر الثبات وعناصر التغيير، حيث «يتمثل الثبات في تواجد أطراف الإسناد وما يتصل بها من متعلقات، أما التغيير فيتمثل في تحريك بعض هذه الأطراف من أماكنها الأصلية التي اكتسبتها من نظام اللغة، إلى أماكن جديدة ليست لها في الأصل»31. وبالانتقال من عناصر الثبات إلى عناصر التغيير، ينتقل التغيير من المستوى النثري إلى المستوى الشعري، إذ أن النثرية تبقي التعبير في حدوده الضيقة، لأنها تنطلق من أن اللغة ذات أهداف تواصلية بالأساس، ولذلك تظل مقننة بالرتب النحوية المحظوظة، ولهذا فإن «العدول عن هذه الرتب يمثل نوعا من الخروج عن اللغة النفعية إلى اللغة الإبداعية»32، تلك اللغة التي تبغي الإثارة وخلخلة مخيلة المتلقي.

ويقوم «التقديم و التأخير» والاعتراض في هذا الإطار بتلك الوظيفة التي يبرز من خلالها التناقض بين عمل اللغة في النثر العلمي أو في لغة التخاطب بصفة عامة، وعملها في الشعر بفضل «التقديم و التأخير» من جهة، إذ «تعمل اللغة على ضمان سلامة الرسالة بترتيب الكلمات حسب مقتضيات قواعد اللغة، ويعمل الشعر على تشويشها بالتقديم والتأخير»33، وبفضل الاعتراض من جهة أخرى، حيث نبه تودوروف و دوكرو إلى هذه الخاصية مقررين «أن جملة القلب Inversion متعارضة مع نفس الجملة لكن بدون قلب»،34 والسبب هو أن الأولى تتضمن انزياحا، ولذلك فهي عبارة شعرية، أما الثانية فلا انزياح فيها، ولذلك فهي عبارة نثرية. إن الأولى ذات مؤشر أسلوبي دال، ذلك انها تمثل انتقالا من المستوى النثري التقريري إلى المستوى الإيحائي.

ويمكن القول إذن إن «التقديم و التأخير» والاعتراض من الوجهة الأسلوبية انزياحان تركيبيان مترتبان عن عملية اختيار المبدع، يتخذ النص بفضلهما طبيعة جمالية، وتترسخ فيه صفة الشعرية، مما يجعله ذا قيمة و أهمية فنيتين. فما هي أهمية «التقديم و التأخير» والاعتراض في اللغة الشعرية ؟

د - أهمية تغيير نظام الترتيب وقيمته:
تسترعي اهتمام الباحث الأسلوبي بعض ظواهر الأسلوب سواء أكانت متعلقة بالإبداع الشعري، أم بالإبداع التخاطبي. وتغيير نظام ترتيب عناصر الكلام لكونه يشكل ضالة الباحث الأسلوبي، يستعمل من قبل المبدعين في الإبداعين معا. ولذلك اتخذ صفة ظاهرة أسلوبية. وعلى الرغم من هذه الصفة الشمولية المشتركة بين لغة الشعر ولغة التخاطب، فإن استعماله في الشعر بشكل لافت للنظر إلى الحد الذي يعتبر فيه مؤشرا أسلوبيا، يخلع عليه صفة شعرية، ولذلك «اعتبر القلب في ترتيب الكلمات خاصة في الشعر، الأداة الأكثر طرافة، والأكثر انتشارا بالنظر إلى أدوات الترتيب الأصلي للكلمات ... ولهذا فإن استعمال القلب في النثر استعمال عادي ومحدود»35 ومن ثم تحددت أهميته وقيمته في الشعر على الخصوص.

إن ترتيب الكلمات بشكل مغاير لترتيبها الأصلي، لا يعد بأي حال من الأحوال، من قبيل الاستعمال الاعتباطي، ذلك أن الشاعر يعي كل الوعي ما ترسمه كلماته وما يهدف إليه من وراء أي استعمال للغة، إذ أن فكرة الاختيار تؤكد منحاه هذا، بل إن «التقديم و التأخير» والاعتراض اللذين يجمعهما فونتانيي تحت تسمية القلب، يعدان ميزة الشعر «إذ رغم استعماله من قبل الخطباء والناثرين، فإنه يعد بالنسبة إلى المنظرين الكلاسيكيين الجدد علامة الشعر»36، تلك العلامة الضرورية له، والتي لا يعرف الشعر إلا بها ذلك أن الاحتكام بين الشعراء عند العرب لا يتم إلا بشرط التقديم والتأخير. وفي هذا يقول ابن رشيق القيرواني: «ورأيت من علماء بلدنا من لا يحكم للشاعر بالتقديم، ولا يقضي له بالعلم إلا أن يكون في شعره التقديم والتأخير»37 الذي يعتبر أهم عنصر من عناصر تغيير نظام الترتيب.

وبهذا الاعتبار فإن تعبيري «التقديم و التأخير» والاعتراض القائمين على التغيير، ليسا ظاهرتين شاذتين، بل هما من الظواهر التي يقتضيها الشعر، ذلك أن «التغيير ليس مجرد عارض في ترتيب العناصر، وإنما هو مطرد، بل إنه قوام أغلب الكلام تتجسم فيه أية لغة من اللغات»38. ولما كان الأمر كذلك، فإن تغيير نظام ترتيب الكلمات هو توظيف إبداعي من لدن الشعراء الذين يعتبرونه وسيلة فنية أساسية، إذ كان أن اتخذ بفضله بيت شعري- كما يرى ’’كوهن’’- صفة أشهر بيت في الشعر الفرنسي، وهو:

تحت جسر ميرابو يتدفق السين39.

كما كان أن جعل عبد القاهر الجرجاني «التقديم و التأخير» بسببه أول أسلوب في علم المعاني تناوله بالدرس والتحليل تناولا مفصلا ينم عن أهميته وقيمته في الدرس البلاغي. وقد عقد له حيزا مهما فجمعه في فصل خاص تحت عنوان: «القول في التقديم والتأخير». إضافة إلى إشارته بين الفينة والأخرى إلى قيمته الأسلوبية في بعض الوجوه البلاغية كالتشبيه والاستعارة مثلا.

وحيث إن قوة الشعر تكمن في قوة الأسلوب، فإن قوة هذا الأخير تكتسب من عنصرين أساسيين هما: قوة التركيب، وقوة الصورة. هذا في رأي أحمد الشايب الذي يذهب إلى أن «هناك قاعدتين لتحقيق القوة الأسلوبية، نذكرهما في ما يلي: أولا: قوة الصورة، ثانيا: قوة التركيب»40 مضيفا في المركز الأول «التقديم و التأخير» الذي تتحقق به قوة التركيب. وقد نبه ر. جاكبسون أيضا إلى أهمية وقيمة التركيب ملاحظا أنه «نادرا ما تعرف النقاد على المنابع الشعرية المستترة في البنية الصرفية والتركيبية للغة، أو باختصار على شعر النحوومنتوجه الأدبي، أي نحو الشعر، كما أن علماء اللغة كادوا يهملونها نهائيا. أما الكتاب المبدعون، فعلى العكس من ذلك تمكنوا في الغالب من أن يستخلصوا منها فوائد جمة»41. ولعل عدم إدراك أولئك النقاد وعلماء اللغة لتلك المنابع الشعرية، يعكس بوضوح هدم وعيهم بطاقات التركيب في الشعر، وبطاقات «التقديم و التأخير» والاعتراض بشكل أخص.

إن ظاهرتي «التقديم و التأخير» والاعتراض تبرزان خاصيات الشاعر التركيبية ومميزاته، وخواصه الأسلوبية بصفة عامة من خلال استغلال إمكانيات اللغة اللامتناهية، ولذلك فإن ميشيل ريفاتير يرى أنه «من الأوضح والأدق أن نقول إن الأسلوب هو البروز الذي تفرضه بعض لحظات تعاقب الكلمات في الجمل على انتباه القارئ بشكل لا يمكن حذفه دون تشويه النص ولا يمكن فك شفرته دون أن يتضح أنه دال ومميز مما يجعلنا نفسر ذلك بالتعرف فيه على شكل أدبي أو شخصية المؤلف أو ما عدا ذلك»42. إن ظاهرتي «التقديم و التأخير» والاعتراض تمنحان الشاعر حرية لغوية كاملة، يحقق عبرها ذاته، لأنها تمكنه من ترجمة أفكاره وخوالجه النفسية في تحولاتها المتأثرة بمحيطها، إلى لغة حية، وبذلك يمكن القول إن العلاقة التي تقيمها الكلمات فيما بينها تعكس رؤية الشاعر للكون، ورؤيته للعلاقات التي يقيمها بين الأشياء فيه، ذلك أن الألفاظ على حد تعبير الجرجاني تابعة للمعاني، ومن ثم كان ترتيبها في الوضع تابعا لترتيبها في النفس. وبهذا ف «إن اللفظ تبع للمعنى في النظم، وأن الكلم تترتب في النطق بحسب ترتيب معانيها في النفس، وأنها لو خلت من معانيها حتى تتجرد أصواتا وأصداء حروف لما وقع في ضمير ولا هجس في خاطر أن يجب فيها ترتيب ونظم، وأن يجعل لها أمكنة ومنازل، وأن يجب النطق بهذه قبل النطق بتلك»43.

وقد بلغت أهمية ترتيب الكلمات، أن جعل منها الجرجاني مقياسا يحكم على أساسها بين نظمين، وهو ما يسميه «شرف المعنى» الذي لا يكون إلا بظرف اللفظ. وقد وجد أن النحويين الذين سبقوه هونوا من شأن أساليب علم المعاني عامة حيث يقول: «وليت شعري إن كانت هذه امور هينة (أي أمور التقديم والتأخير والحذف ... مما يسمى علم المعاني)، وكان المدى فيها قريبا، والجدى يسيرا، من أين كان نظم أشرف من نظم، وبما عظم التفاوت، واشتد التباين، وترقى الأمر إلى الإعجاز، وإلى أن يقهر أعناق الجبابرة»44. وعلى هذا النحو، لكي تتحقق فكرة الشرف لدى الجرجاني في الإبداع، فإن الأمر يقتضي ترتيب الكلمات ترتيبا لطيفا متماشيا مع ترتيبها في النفس. إلا أن الجرجاني لم يذكر الاعتراض من بين أساليب ترتيب الكلام، على أن ما يلفت النظر في مناقشته للنظم أنه يقرنها غالبا بالحديث عن ترتيب الكلمات.

إذا ربطنا تغيير نظام ترتيب الكلمات بالدلالة فسنخلص إلى أن هذه الاخيرة تتغير بدورها، وتنتقل من مستوى إلى آخر بحسب تغيير النظام، إذ أن «النظر إلى ما ترتب على التقديم والتأخير ينبه إلى عظم شأن النظم، وكيف يؤثر ذلك في المعنى تأثيرا بالغا بحيث يمكن أن نستخلص مما سبق أن أي تغيير في النظام التركيبي للجملة يترتب عليه بالضرورة تغير الدلالة وانتقالها من مستوى إلى مستوى آخر»45، أي من المستوى التخاطبي إلى المستوى الإيحائي والتأثيري.

إن أهمية وقيمة تغيير نظام ترتيب الكلمات في آخر المطاف، تتمثل في أنه يقوم يدور أساسي في تكثيف دلالة النص، وذلك عبر آليتي «التقديم و التأخير» والاعتراض بما يتميزان به من خصوصيات تركيبية. إذ أن «إوالية التكثيف ... يمكن أن تخص المكونات الدلالية-التركيبية أيضا»46 بما فيها «التقديم و التأخير» والاعتراض. مما يتطلب دراستهما في إطار مساهمتهما في بلورة شعر تكثيفي وذلك بالنظر إلى «أن تكثيف الطاقة الإيحائية في الخطاب لابد أن يتم وفقا لنواميس اللغة. ولذلك فإن دراسة الهياكل اللغوية ضرورية في المستوى التركيبي»47 لأن هذا المستوى يختزن طاقات شعرية منها الطاقة الإيحائية التي يصير بها نص ما نصا شعريا.

ه - تلقي صورة تغيير نظام ترتيب عناصر الكلام
تهدف الإرسالية العادية في لغة التخاطب إلى توصيل فكرة معينة إلى المتلقي، وذلك بأبسط الوسائل اللغوية. في حين أن الإرسالية الشعرية لا تبني جسورا أمنية للمتلقي، لأنها بقدر ما ترمي إلى التوصيل، تحاول إثارة المتلقي واستفزاز أحاسيسه وتفكيره بشتى الوسائل الممكنة، ولهذا كانت هذه الإرسالية الأخيرة حاملة لصفة تكثيفية أضفت تلك المميزات. وقد ذهب الباحث الأسلوبي عبد الله صولة إلى «أن الجرجاني وغيره من القدماء كثير، اعتبارا منهم لضرورة استقامة المعنى وبيان الشعر وقفوا من قضية التقديم والتأخير، على إجلالهم لها، موقف التحفظ بل والتقبيح، وذلك في صورة ذهاب المعنى والانتهاء إلى التعقيد، وذلك كان موقف المرزباني والجرجاني وغيرهما»48. وموقفهم هذا صادر من أن المعنى يجب أن يصل إلى المتلقي واضحا بينا رغم ما يحدثه المبدع من تصرف في النظم. ولعل هذا المبدأ يتناقض تماما مع مبدا الشعرية المعاصرة خاصة مع مبدأ كوهن في الانزياح كما يرى عبد الله صولة، ويتناقض أيضا مع مبدأ الانزياح لدى جون مولينو وج. تامين اللذين يتبنيان تعريف الصورة البلاغية بالشكل الذي أوردها فونتانيي، لأنه تعريف يخدم مصالحهما من حيث الأثر الذي تحدثه الصورة البلاغية. إن هذه الأخيرة لديهما هي «الأشكال والملامح أو الطرق المتمايزة في الظهور، والمتمايزة أيضا في الاثر الذي تحدثه، والتي يبتعد بواسطتها الخطاب عما يشكل تعبيرا بسيطا ومشتركا في تعبيره عن الأفكار والمعاني والأحاسيس.»49

وهو تعبير صريح عن كون تغيير نظام الترتيب الذي اعتبراه صورة من الصور البلاغية التي درساها، يشدد على عنصري البساطة والمشترك المشكلان لنظام الترتيب العادي ينحو التعبير إلى ما ينتزع عنه صفة الانزياح، مما يكون سببا مباشرا في تلاشي التأثير. وبكلمة أخرى فإن «التقديم و التأخير» والاعتراض آليتان من آليات التكثيف في الشعر، لأنهما يعملان على اجتثاث العبارة من أحقيتها في التقرير إلى قدرتها على خلق الإيحاء، وهي بذلك قدرة على توليد وإضاقة دلالات جديدة تجعل حظوظ الفهم ضئيلة»50 أمام المتلقي، بحيث تغدو الصورتان البلاغيتان الناتجتان عن «التقديم و التأخير» والاعتراض من العناصر التي تعمل على «تفكيك العوامل المبنينة للنص، ذلك التفكيك الذي يؤدي إلى غاية واحدة هي تكسير بنية الرسالة»51 بما يجعل منها رسالة شعرية، قادرة على إثارة متلقيها بتلك العناصر البلاغية.

وبهذه العوامل التي تتحول بفضلها الإرسالية من طبيعتها العادية، فإنها تفرض على المتلقي أن يتحول بالدلالة من المعنى الأول إلى المعنى الثاني، من أجل البحث عن المعاني الثاوية خلف المعاني الظاهرة، ذلك أن «المعاني المقصودة هي في الحقيقة طاقات تعبيرية جديدة تلحق المعاني الظاهرة، فتزيدها تدقيقا وتأكيدا»52 مما يعمل على خلق متعة ولذة فنيتين يظل المتلقي عبرهما «مشدودا لا إلى المعاني القريبة البسيطة التي تحملها الكلمات بحكم وضعها اللغوي، بل يكون انفعاله وسر دهشته إلى دلالات أخرى تستتبع المعاني البسيطة الأولى، وهي التي تمتع الأديب ويهش لإدراكها، والوقوف عليها»53، وهذا ما يعتبر سرا من الأسرار في تغيير نظام ترتيب الكلمات.

فكما أن عبد القاهر الجرجاني تحدث عن ارتباط ترتيب الألفاظ بالحالة النفسية، فإنه كذلك أولى عناية لأثره في نفوس المتلقين، وهذا يعني أنه تناول الظاهرة من جانبيها المهمين: جانب الإنتاج وجانب التلقي، ويتبين الاهتمام بالجانب الثاني لديه في أنه جعل الظاهرة، خاصة «التقديم و التأخير»، من أسباب الإعجاز القرآني مثلها مثل الحذف أو التشبيه وغيرهما. ولعل الإعجاز مرتبط أشد الارتباط بالمتلقين الذين أعرضوا عن القرآن ورفضوه وادعوا قدرتهم على أن يأتوا بمثله. لكنه، أي القرآن تحداهم بإعجازه. ولذلك رأى الجرجاني أن «التقديم و التأخير» من الادوات التي «ترقى الأمر بها إلى الإعجاز وإلى أن يقهر أعناق الجبابرة»54.

 

الهوامش :
-1- عبد الله صولة:’’فكرة العدول في البحوث الأسلوبية المعاصرة’’ دراسات ’’سال’’ ع:1 خريف 1987. ص:88.

-2- ع. القاهر الجرجاني:’’ دلائل الإعجاز في علم المعاني’’ تصحيح الأستاذ محمد عبده والشيخ محمد رشيد رضا. دار الكتب العلمية . بيروت. لبنان. دون تاريخ.ص:85.

-3- أحمد درويش’’دراسات الأسلوب بين المعاصرة والتراث’’ ص: 124.

-4- ع. القاهر الجرجاني:’’ دلائل الإعجاز’’ ص:83.

-5- عبد الفتاح لاشين:’’التركيب النحوي من الوجهة البلاغية عند العرب’’ دار المرية.السعودية .دون تاريخ. ص:93.

-6- إبن منظور :’’لسان العرب’’ ’’مادة قدم’’ : 467|12

و’’كشاف مصطلحات الفنون’’. ص:68.

-7- أحمد مصطفى المراغي :’’علوم البلاغة:البيان والمعاني والبديع’’ دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان.بدون تاريخ.ص:92.

-8- تفسه. ص:92.

-9- نفسه .ص:92.

-10- محمد عبد المطلب ’’البلاغة والأسلوبية’’ سلسلة دراسات أدبية. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1984. ص:255.

-11- عبد القاهر الجرجاني :’’دلائل الإعجاز’’ ص:64.

-12- مجدي وهبة وكامل المهندس: معجم المصطلحات العربية في اللغة والآداب’’ ص:116.

-13- الدكتور محمد الهادي الطرابلسي :’’ خصائص الأسلوب في الشوقيات’’ منشورات الجامعة التونسية .المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية. 1981. ص: 283.

-14- JEAN MOLINO ET JOELLE TAMINE : »INTRODUCTION A L’ANALYSE LINGUISTIQUE DE LA POESIE » P.U.F. 1èr éd.Press universitaire de France. Paris. P : 129.

-15- جون كوهن ’’ بنية اللغة الشعرية’’. ترجمة د. محمد الوالي و د. محمد العمري. سلسلة المعرفة الأدبية. دار توبقال للنشر. ط: 1. 1986. ص:188.

-16- الدكتور محمد الهادي الطرابلسي ’’ خصائص الأسلوب في الشوقيات’’ ص:290.

-17- الدكتور بدوي طبانة :’’معجم البلاغة العربية’’ دار المنارة. جدة. دار ابن حزم .بيروت لبنان. ط:4. 1997. ص:413.414.

-18- نفسه.ص:414.

-19- أحمد مصطفى المراغي: ’’علوم البلاغة’’ .ص:178.

-20- J.MOLINO ET J.TAMINE « INTRODUCTION A L’ANALYSE LINGUISTIQUE DE LA POESIE » P :129.

-21- الدكتور محمد الهادي الطرابلسي ’’خصائص الأسلوب في الشوقيات’’ ص:290.

-22- PATRICK BACRY : « LES FIGURES DE STYLE ET AUTRES PROCEDES STYLISTIQUES » Edition : Belin. 1992. P :125.

-23- أحمد مصطفى المراغي: ’’علوم البلاغة’’ ص:42.

-24- الدكتور صلاح فضل:’’علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته’’ منشورات دار الآفاق الجديدة. بيروت ط:1. 1985. ص:101.

-25- عبد الله صولة:’’فكرة العدول في البحوث الأسلوبية المعاصرة’’ ص:88.

-26- الدكتور علوي الهاشمي :’’قانون التناسب:حازم القرطاجني:بنية الإيقاع والتركيب اللغوي’’ مجلة الحياة الثقافية. عدد:45. نونبر1987. ص:191.

-27- P . BACRY : « LES FIGURES DE STYLE » P :126 .

-28- يان موكاروفسكي :’’اللغة المعيارية والغة الشعرية ’’ ترجمة وتقديم:ألفت كمال الروبي. مجلة ’’فصول’’. محور الأسلوبية. المجلد الخامس.عدد:1. أكتوبر-نوفمبر-ديسمبرز1984. ص:42.

-29- جون كوهن :’’بنية اللغة الشعرية’’ ص:15.

-30- نفسه. ص:176.

-31- محمد عبد المطلب :’’البلاغة والأسلوبية’’ ص:252.

-32- نفسه. ص:248.

-33- الدكتورمحمد الوالي و د. محمد العمري. ضمن تقديم ’’بنية اللغة الشعرية’’ ل’’جون كوهن’’. ص:7.

-34- T. TODOROV ET O.DUCROT » DICTIONNAIRE ENCYCLOPEDIQUE DES SCIENCES DU LANGAGE ». Edition.Seuil.Paris.1972. P ;349.

-35- P.BACRY »LES FIGURES DE STYLE » P :118.

-36- J.MOLINO ET J.TAMINE « INTRODUCTION A L’ANALYSE LINGUISTIQUE DE LA POESIE » P :190.

-37- إبن رشيق القيرواني ’’العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده’’ تحقيق محمد قرقزان. ط: 1. دار المعرفة. بيروت. 1988. ص:261.

-38- الدكتور محمد الهادي الطرابلسي ’’ خصائص الأسلوب في الشوقيات’’ ص:283.

-39- جون كوهن :’’بنية اللغة الشعرية’’ ص:188.

-40- أحمد الشايب :’’الأسلوب دراسة بلاغية تحليلية لأصول الأساليب الأدبية’’ مكتبة النهضة المصرية. ط:5. بدون تاريخ. ص:195.

 

-41- R.JAKOBSON:”ESSAIS DE LINGUISTIQUE GENERALE

TRAD.N.RUWET. Edition de MINUIT. 1963. P:224.

-42- الدكتور صلاح فضل:’’علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته’’ ص:98.

-43- عبد القاهر الجرجاني :’’دلائل الإعجاز’’ ص:45.

-44- نفسه.ص:85-86.

-45- محمد عبد المطلب ’’البلاغة والأسلوبية’’ ص:250.

-46- JULIA KRISTEVA : »LA REVOLUTION DU LANGAGE POETIQUE ». COLLECTION « Tel quel ». Aux éditions du SEUL. 1974. P :234.

-47- توفيق الزيدي :’’أثر اللسانيات في النقد العربي الحديث من خلال بعض نماذجه’’ الدار العربية للكتاب . 1984. ص:75.

-48- عبد الله صولة:’’فكرة العدول في البحوث الأسلوبية المعاصرة’’ ص:89.

-49- J.MOLINO ET J.TAMINE « INTRODUCTION A L’ANALYSE LINGUISTIQUE DE LA POESIE » P :123.

-50- جون كوهن :’’بنية اللغة الشعرية’’ ص: 189.

-51- نفسه. ص:189.

-52- الدكتور محمد الهادي الطرابلسي ’’ خصائص الأسلوب في الشوقيات’’ ص:286.

-53- عبد الفتاح لاشين :’’التراكيب النحرية من الوجهة البلاغية عند الجرجاني’’ . دار المرية .ص:92.

-54- عبد القاهر الجرجاني :’’دلائل الإعجاز’’ ص:85-86.

 

باحث من المملكة المغربية .

 

توضيح هام:

هذا البحث هو جزء صغير من أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه ، تمت مناقشتها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس سنة:2003 ، وذلك تحت عنوان: (شعرية التكثيف الدلالي في شعر المهدي أخريف). والأطروحة لم تعرف بعد طريقها للنشر إلا هذا الجزء الذي يرسل لأول مرة، والذي أتمنى خالصا أن يجد مكانا بين عدد من الدراسات الأدبية.