العقل "قلعة أثرية" تعود قُبَّتها إلى العصر الحديث، أما لبِنَاتها الأولى فتعود إلى عصر أقدم. والقلب موطن رومانسية تمشي على ثلاث. والعصر الحالي هو "عصر الجسد". فعلى الرغم من الازدراء والتحقير الذي تعرض لهما من قبل آباء الكنيسة، الذين سعوا، دون ادخار أي جهد، إلى اماتته، وجعله تابعا للروح، وخادما لها، وعلى الرغم من معاناته الشديدة من القمع، والتعنيف، والترهيب، طيلة قرون عديدة، لم تنكسر شوكة الجسد، ولم تمُت جذور الثورة في عروقه أبدا. وعندما ارتأى أن الظروف مواتية، استنهض هِمم جيوشه، فنفضت عنها الرماد، كالعنقاء، وهاجمت بقوة، مكسّرة كل الجدران، ومتجاوزة كل الحواجز القديمة، ولم يستطيع أن يوقف زحفها أي شيء، أو أي أحد.
كان شباب ماي 1968 على رأس تلك الجيوش الجرّارة. لقد حمل هؤلاء أرواحهم فوق أكتافهم، ولافتات فوق رؤوسهم ضمّنوها مطالبهم ومن بينها الانصات إلى الجسد، ورفع الاقصاء والتهميش عنه، وهتفوا بشعارات صاخبة، ما يزال صداها يتردّد حتى اليوم، بل ويزداد رجع الصدى مع مرور الوقت قوة. في كل مكان تذهب إليه يمكنك أن تسمع الشعارات نفسها تزداد صخبا: "يحيى الجسد".. "يحيى الجسد".. "يحيى الجسد".. وبما أن العصر عصره، فلا تحتاج لأن تبحث عنه. سيأتي إليك بنفسه، ومن تلقاء ذاته، وفي كامل أناقته وزينته. يمكنك أن تراه في كل مكان يمشي متبخترا، يفيض حيوية، ويتدفق صحة ورشاقة، وكل جزء من ملامحه الطاعنة في الإغراء والفتنة تشي بجبروت لا يُقهر.
وكأي امبراطور جديد يحتاج الجسد إلى طقوس جديدة للاحتفاء به، وللاحتفال بتنصيبه. لا يُمكن أن يمر تنصيب امبراطور جديد في غياب الطقوس. أبدع الجسد طقوسه، التي بخلاف الطقوس القديمة، ليس لها وقت محدد، ولا مكان محدد، كما أنها تتجدَد باستمرار. الطقوس الجديدة تُجرى في كل الأوقات، وفي كل فصول السنة. إنها لا تحتاج إلى مساجد، أو بِيَع، أو كنائس، أو معابد قديمة، وإنما يمكن أن تُقام في عيادات التغذية، وفي مصحات الجراحات التجميلية، وفي صالونات الحلاقة والتزيين، وفي الأندية الرياضية، وفي دور الأزياء والموضة.
وتلك هي "المعابد الجديدة":
كانت المعابد في السابق خاصة بدين معين، ولا تهم إلا من يؤمنون بذلك الدين، ولا يذهب إليها إلا المؤمنون. أما المعابد الجديدة فهي معابد مفتوحة في وجه كل من يستطيع إليها سبيلا. وبلغة عسكرية، يمكن القول إنها معابد عابرة للثقافات واللغات .. وحتى الأديان. يبدو الامبراطور الجديد مشغولا بنفسه على الدوام. والجميل في الأمر هو أنه صريح للغاية، ولا ينكر نرجسيته، وليس له وقت يضيعه في سماع هتافات المؤيدين لحكمه، ولا صراخ المعارضين. إنه لا يأبه للصراع الدائر بينهم البتة. فلا شيء من هذا يعنيه. لا يعنيه من يقول: إن الإنسان إنسان بجسده أولا وقبل كل شيء، وهلاك الجسد يعني هلاك الإنسان. ولا يعنيه، من جهة أخرى، من يتساءل سرّا، أو بصوت مسموع: هل ما تزال هناك رائحة "طبيعية"؟ أو عينين "طبيعيتين"؟ أو شفاه "طبيعية"؟ أو قوام "طبيعي"؟ وأين يمكن العثور على كلام "طبيعي"؟ وعلى سلوك "طبيعي"؟ وعلى نظرة "طبيعية"؟ وعلى لمسة "طبيعية"؟ وعلى حضن "طبيعي"؟ ... وعلى قبلة "طبيعية"؟
إن الجسد كائن مُتعبّد على خلاف ما يشاع عنه. وفي الحقيقة، لا يمكنه، بأي حال من الأحوال، أن يكون ملحدا أبدا. ليست المسألة هنا مسألة اختيار. إن وجوده كله كامن في تديّنه. فهو ما أن يخرج من معبد حتى يتجه إلى معبد آخر. وبطبيعة الحال، إن المعابد الجديدة مثلها مثل "المعابد القديمة"، ليس لها بعد واحد، ووظيفة واحدة، كما يمكن أن تُتناول انطلاقا من مجموعة من الجوانب منها:
*الجانب الاقتصادي: إن المعابد الجديدة ليست من ذلك النوع من المعابد، التي كانت، فيما مضى، تقوم، وتستمر، على ما يهبه الناس لها. إن "كهنة" المعابد الجديدة (أصحاب شركات الأزياء والماكياج مثلا) أصحاب ثروة، ويستثمرون في مؤسسات عملاقة، تسجل في كل سنة رقم معاملات بالملايين من الدولارات. ومن جهة أخرى، تشترط هذه المعابد في من "يزورها"، من الجنسين، أن يكون مستعدا للإنفاق بغير حساب. وبهذا فهي لا تقبل بالجميع، وإنما بصنف محدد من "المؤمنين" فقط. ويُطلق على هؤلاء في أدبيات هذه المعابد اسم "زبناء". وهذه الصفة ليست تحقيرا لهم، أو تنقيصا من شأنهم. فهم، كما يقال عنهم، ولهم، عادة، إنهم هم "الملوك" (Kings) .
*الجانب النفسي: توفر المعابد الجديدة لزائرها، رجلا كان أو امرأة، الإحساس بالسلام الداخلي. إنها لا تَكّف، في البداية، عن اقناعه بأنه "قبيح"، و"غير مرغوب فيه"، إلى أن يقتنع تماما. بعد ذلك، تعِدُه بـ"الخلاص"، وهي التي "تبيع" صكوكه في نفس الوقت. من يزورها لا يمكنه، في النهاية، إلا أن يُحب نفسه، ويحب الآخرين، ويحب الحياة نفسها. لا يمكن لمن "يحُجّ" إلى هذه المعابد أن يكون إلا "شخصا مُحبا ومحبوبا أيضا". إنها تفتح أمامه الطريق إلى السعادة. ولن يتساءل هذا "الحاج" أبدا عن "أصالة" سعادته، لأنه سيلقّن أن ما يعيشه هو سعادة حقيقة، وليست هناك سعادة أخرى غيرها.
*الجانب الاجتماعي: إن المعابد الجديدة تحارب الوحدة والعزلة، وتعِد بالانخراط الايجابي في المجتمع. إنها تلعب دورا أساسيا في التفاعل الاجتماعي. وكلما انخرط شخص ما فيها كلما ازدادت الفرص المتاحة أمامه لبناء علاقات اجتماعية جديدة. علاقات اجتماعية كثيرة من جهة، وناجحة من جهة أخرى. أليس هذا بالضبط ما تقوله، وتظل تردده، الإعلانات الكثيرة التي تنشرها تلك المعابد في الناس، في أي مكان يمكن أن يوجدوا فيه؟!
*الجانب الديني: لقد أعادت المعابد الجديدة نظام "القبيلة" إلى الوجود. كانت حياة القبيلة القديمة تتمحور، كما يؤكد ذلك علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا (أو البعض منهم على الأقل) حول "الطوطم" (Totem). وحتى "القبيلة المعاصرة" لها طوطمها، الذي قد يكون ممثلا سينمائيا، أو لاعبا رياضيا، أو مغنيا شهيرا، إلخ. ولابد لهذا الطوطم من أن يلتزم ببرنامج صارم في حَجّه المستمر إلى تلك المعابد. وهي تسهم في جعله قادرا على أن يخلق لدى "أتباعه" "حالة روحـــية"، و"جذبة جـــماعـــية" (Transe collective) مثل تلك التي كانت تُخْلق أثناء الطقوس الطوطمية القديمة.
*الجانب السياسي: يمكن للمعابد الجديدة أن تجعل الأفراد يشكلون فيما بينهم شبكات اجتماعية، قد تتحول، مع مرور الوقت، إلى "حركات اجتماعية" قائمة بذاتها، تناضل من أجل قضايا محدَدة، وببرنامج محدَد، ولغاية محدَدة هي تحصيل حقوق معينة. ومن هذه الحركات، على سبيل المثال لا الحصر، حركات "المثليين الجنسيين". والملاحظ أن العديد من الحركات الاجتماعية المعاصرة تنشأ في البداية في "العالم الافتراضي" ثم تنتقل، بعد ذلك، إلى العالم الواقعي.
مآل القول، إن الجسد يحتاج إلى بحوث عميقة، ليس في المجتمعات الغربية وحدها، وإنما حتى في المجتمعات الأخرى كالمجتمعات العربية. إن الجسد "منتوج سوسيوثقافي". وعليه، فمعرفة التغيرات التي طرأت على النظرة إلى الجسد، والموقف منه تقود إلى معرفة "التغير الاجتماعي" في أي مجتمع. إن الجسد ظاهرة معقدّة ومركبة، وتستحق أن تكون موضوع بحوث ودراسات علمية كثيرة، ومن زوايا نظر علوم متعددة ومختلفة، من بينها العلوم الاجتماعية كعلم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا.