1- مقدمة
علاقة ظاهرة المسرح بالنص اللغوي أو الأدبي، وربما باللغة بصفة عامة، هي أمر فريد ومثير للدهشة، فقد انبثقت ظاهرة المسرح النصي في بدايتها لمواجهة هذا التضخم الهائل لأفق التجريد الذي أنتجته الكتابة الصوتية، وذلك عبر استردادها أو إعادتها وجلبها داخل إطار التعيّن الحسي. فحين كانت الحضارة الإنسانية برمتها تندفع بجنون من الشفاهية إلى التدوين، ظهر "المسرح النصي" ليسير في الاتجاه العكسي ويقوم بتحويل النص المدوَّن إلى حالة عابرة ومتبددة هي أقرب إلى الشفاهية. وعندما كانت موجات الحداثة تتحرك منذ بداية القرن الماضي تجاه إعلاء النص اللغوي بوصفه الوعاء الوحيد للفكر والشكل الجوهري لكل تواصل معرفي في العالم، أو باختصار: بيت الوجود كما يقول هيدجر؛ كان المسرح يتحرك -بعنف ضارٍ- بعيدا عن نصه الأدبي إلى أن أنزله من "تعاليه" -مرة واحدة وإلى الأبد- ليصبح مجرد عنصر ضمن مجموعة كبيرة من العناصر المسرحية التي يتكون منها العرض.
ولكن، إذا كان "المسرح النصي" قد انبثق بوصفه نوعا من التحدي لذلك العالم المتفاقم التجريد الذي أنتجته الكتابة الصوتية، فهذا لا يعني أنه قد خرج من جعبة اللغة أو الأدب كما يفترض البعض، فالمسرح هو الذي قام باستدعاء الخطاب الأدبي أو الشعري وعمل على مَسْرحته ثم تطويعه إلى أن تم استحداث نوع أدبي جديد بناء على متطلبات المسرح ذاته.
ولعل قدرا من المقارنة بين حدثي ظهور المسرح وظهور السينما قد يكون مفيدا في إضاءة هذه النقطة، فنحن نستطيع أن نتفهم بسهولة أن ظاهرة السينما لم تخرج من جعبة السيناريو (اللغوي)، بقدر ما قامت باستحداثه وتطويره ليعمل لصالحها بوصفه خطة تمهيدية وتنفيذية مفصّلة تتيح تطوير الحالة السينمائية الأولية إلى كيان جمالي أعقد متمثلٍ في الفيلم السينمائي، وهو ما تم قديما مع المسرح؛ فالمسرح لم يعدِّل نفسَه ليستقبل النص، بقدر ما أجبر اللغة الأدبية على تعديل نفسِها كي تتوافق مع متطلباته الخاصة وتسعى إلى تحقيقها.
ولكن، إذا كان من الميسور الحديث عن متطلبات السينما بوصفها نتاجا مباشرا لطبيعة هذه التكنولوجيا وتقنياتها وحدودها الحسية وضروراتها العملية -التي أدت إلى فرض علاقة شِبْه مستقرة بين الفيلم والسيناريو أصبح على إثرها السيناريو محايثا للفيلم وممهدا له دون أن يكتسب سلطات النوع الأدبي المستقل بذاته- فإن تحليل علاقة المسرح مع نصه اللغوي -منذ لحظة ظهوره حتى الآن- هو أمر أصعب وأعقد بما لا يقاس، فقد شهدت هذه العلاقة العديد من التقلبات والإزاحات والانقلابات، بالإضافة إلى أن الأشكال والمسارات التي اتخذتها تمر وتتقاطع مع مسارات تطور أشكال التجمّع الإنساني ومع حراك الأفق الإبستيمولوجي الذي يعيد باستمرار رسم حدود معرفتنا بالعالم، إن لم نقل يعيد خلقه.
وسنحاول هنا طرح بعض التحليلات والتأملات الأولية حول الفعل المسرحي وعلاقته بمكوناته، ومنها النص.
* * *
2- من نظرية المسرح إلى تأسيس فينومينولوجيا المسرح
ثمة إشكالية منهجية هائلة تواجهها نظرية المسرح؛ فالظاهرة المسرحية تكاد ألا تتطابق أبدا مع ذاتها على أي مستوى من مستويات "حدوثها" أو ظهورها، فالعمل المسرحي هو فعل متقطع في الزمان، ومتبدد وعابر؛ أي إن لحظة ظهوره هي مجرد انفتاح مؤقت بين لحظة "عدم وجوده" ولحظة اختفائه أو انعدامه. ولذلك، يُستنفَدُ جزء كبير من مسارات هذه الظاهرة في خلق أفق حضور يُمكِنُه استقبال هذا الفعل وإعادة إنتاجه وحفظ "أثره" وإتاحة إمكان تكراره. وعدم التوقف أمام تلك المسارات هو ما أدى دائما إلى انفلات هذه الظاهرة أمام كافة المداخل الجمالية التي تتناول "الحضور المسرحي" بوصفه واقعة بسيطة ومألوفة، أو معطىً مطروحا سلفا على نحو لا يستدعي التساؤل عن مصدره أو كيفية حدوثه وظهوره. يصدق هذا المنحى بالطبع على كافة المقاربات المسرحية التي كانت تستمد مفاهيمها وإجراءاتها من "نظرية الأدب"، مثلما يصدق على النموذج السيميولوجي الذي ظل يُوالِي الالتفاف حول فرضياته الخاصة على نحو أحبط الكثير من الآمال التي انعقدت عليه بعد تراجع النموذج الدرامي المهيمن منذ أرسطو، وصولا إلى المدخل الأدائي- الصاعد بشدة منذ تسعينيات القرن الماضي- الذي رغم التفاته إلى الفعل المسرحي باعتباره ممارسة أو "أداءً" performance، إلا أن منجزه النظري لا يكاد يتراكم إلا حول اقتطاع بعض تَبدِّيات هذا الفعل بوصفها عينة تحليلية يتم فحصها من أجل الكشف عن مكوناتها وعلاقاتها الاجتماعية –أو حتى الأنثروبولوجية- أكثر مما يتم المضي معها في اتجاه تقصي الظاهرة المسرحية نفسها!
ولا يقدم تيار الدراسات الفينومينولوجية في مداخلاته المسرحية ما يتجاوز كثيرا هذا المشهد النظري المرتبك، فالتأطير الفينومينولوجي التقليدي للعالم داخل حدود الوعي كان يعمل دائما بمثابة حاجز يحد من تحليل حالات "الحدوث" و"الظهور" في علاقتها بمفاهيم "الحضور" و"الاستحضار"، وهي العلاقات التي تنتج العالم كما هو معاش، مثلما تنتج الفعل المسرحي بوصفه معاشا!
وفي هذا الإطار، تأتي مهمة "إعادة تأسيس فينومينولوجيا المسرح" بوصفها مشروعا يهدف إلى وصف هذه الظاهرة ككل في علاقتها بالعالم. وقد ناديتُ في تحليلات سابقة بأن المضي في اتجاه هذه المهمة يَتعيّن عليه أن يبدأ -كخطوة أولى- من التأطير العام لكل ما هو مسرحي بوصفه حالة خاصة من الممارسة الاجتماعية التي تستهدف إنتاج العالم، وذلك ليس لأن هذه الممارسة هي ما تنتج الفعل المسرحي فقط، بل لأنها هي ما تقوم باستعادته وإعادة إنتاجه في كافة مراحل تَبدِّياته أيضا، وبمعنى آخر يكاد هذا الفعل لا يوجد مستقلا قَط عن هذه الممارسة عبر كل لحظات ظهوره أو حضوره، ومن ثم يتيح هذا التأطير الفرصة لمعاينة أفق انتشار ما هو مسرحي وحضوره ككل في الفضاء الاجتماعي مثلما يكفل إمكان رصد عمليات ظهوره وحضوره في العالم عبر كافة تبدياته الاجتماعية والجمالية.
أما الخطوة الثانية فتمثلت في إعادة تحليل ما هو مسرحي (بداية من الحالات الأولية بسيطة التكوين، وصولا إلى العرض المسرحي بالغ التركيب) بوصفه ظهورا لحزم من "الأداءات المتعيَّنة" المتتالية والمتشابكة التي تمثل استجابة غير مباشرة وغير محددة في علاقتها بأفق ما هو مجرد على نحو يسمح بتمييزها عن كل من الأداءات اليومية (الإجرائية والمباشرة) والأداءات الطقسية "الغرضية" التي تنبني على توالي الاندفاع تجاه تجريد محدد يعمل بمثابة خط النهاية أو نقطة الوصول لكل ما يقدمه الطقس من تعينات حسية.
أما هنا فسنحاول أن نخطو خطوة إضافية نحو تقديم وصف فينومينولوجي أوّلي لعلاقة ما هو مسرحي بمكوناته أو عناصره، وهو ما سيتيح لنا- ضمنا- تأسيس الأرضية المنهجية التي تسمح بمقاربة تلك العلاقة الإشكالية بين المسرح ونصه "اللغوي".
* * *
3- "الكوجيتو المسرحي": تدريب ديكارتي على علاقات المسرح والحضور
وقبل أن نبدأ هذا التدريب الديكارتي يَتعين علينا أن نرسم الحدود المنهجية للفضاء "الفينومينولوجي" الذي يمكن له أن يسري داخله، إذ تهتم الفينومينولوجيا الكانطية بتحليل "وَقْع" ما يظهر داخل فضاء الحضور (أو ما يمكن تسميته بظل أو أثر الشيء في ذاته)، وتهتم الفينومينولوجيا الديكارتية الهوسرلية أولا بالوعي باعتباره ما يحضر دوما دون انقطاع (ديكارت)، وثانيا بردِّ أنماط هذا الحضور ذاته ووصفه (هوسرل)، فيما تولع التحليلات الفينومينولوجية عند هيدجر بما ينكشف بوصفه ما يؤسِّس أو يُعيد تأسيسَ ميدان الحضور. ومن ثم، فهذه المقاربات تترك تحليل الظهور وما يظهر خارج إطار التفكير إلى حد ما باعتباره مجرد معطى أولي (وأحيانا قبلي). وهو ما يسبب الكثير من المشاكل للفينومينولوجيا أمام "المسرح" الذي هو في المقام الأول لعب في إطار ما يظهر، وليس في إطار ما يحضر فقط (مثلما هو الحال في بعض الممارسات الجمالية الأخرى)، فالعمل المسرحي يستهدف في الأساس "إظهار" مجموعة من الوقائع المتتالية على نحو منتظم ويمكن تكراره.
ولنبدأ تدريبنا بسؤال يتقصى مبدأ التعليق الفينومينولوجي عبر طرح أو إسقاط كل ما يمكن فصله أو مباعدته في ظاهرة المسرح: فهل يتضمن الفعل المسرحي مادة بعينها أو مكونا أصليا لا يمكن الاستغناء عنه؟ وهل توجد نقطة أصل أو "فعل إصدار" أو فاعل مؤسِّس، بحيث يختفي أو يتلاشى كل ما هو مسرح تماما باختفاء أو حذف أي منها أو جميعها؟
ولسنا هنا بحاجة إلى تعداد "المكونات المسرحية" وتصنيفها من أجل فحص مدى ضرورة أو لزوم ارتباطها بالفعل المسرحي أو إمكان حذفها منه، فهذ المكونات أيا كانت لا تظهر إلا داخل مجال حسي، وعادةً ما يَستخدم الفعل المسرحي حاستي البصر والسمع ليصنع عبر تداخلهما المتزامن مجال ظهور مركب يستخدمه بوصفه منصة حضور للتعيُّنات التي يقدمها، غير أن الأمر لا يسير دائما على هذا النحو، فنحن نعرف أن بعض "اللحظات المسرحية" تتضمن فترات من الانقطاع الحسي (اظلام، صمت) سواء للحاستين معا، أو لإحداهما دون الأخرى، وبالتأكيد فهذا الانقطاع للمجال الحسي يؤدي إلى اختفاء كل التعيُّنات الحسية المحمولة عليه، وصحيح بالطبع أن هذه الانقطاعات المؤقتة يجري وصلها داخل أفق الحضور الذي يخلقه الفعل المسرحي لنفسه، ولكن هذا يعني أيضا أن الفعل أو "الحدث" المسرحي -كما نعايشه- لا يتطابق دائما مع مكوناته الجزئية ولا يتوقف عليها، أيْ لا يظهر بظهورها ويختفي باختفائها.
ومن جهة أخرى، وفي حالات مسرحية بعينها سنشهد انقطاعا كاملا أو اختفاءً دائما لحاسة بعينها، مثلما نجد في حالات مسرح "المايم" مثلا أو المسرح البصري الخالص بشكل عام، حيث يتم الاستغناء تماما عن حاسة السمع، مقابل المسرح الإذاعي الذي يسقط حاسة الإبصار بالكامل. وبغض النظر عن مدى تقييمنا لاكتمال أو ابتسار هذه الحالات المسرحية فهي مطروحة ومنتشرة بهذه الدرجة أو تلك، ناهيك عن أن ثمة "فعل مسرحي ما" هنا لا يمكن تجاهله أو نفيه باطمئنان.
والآن: بما أن كل ما يمكن اعتباره مكونا أو مادة مسرحية لا يظهر إلا محمولا على مجال حسي بعينه، بحيث يعني انقطاع ذلك المجال اختفاءَ أو انعدام تلك المادة، وبما أن الفعل المسرحي يمكنه الاستغناء عن أي من مجالاته الحسية الأساسية (السمع والإبصار) بكل ما يتضمنه هذا المجال من مادة أو مكونات أو عناصر مختلفة ومتباينة، فهذا يعني أنه لا يوجد ضمن هذه "المادة" ما يمثل ضرورة مطلقة للفعل المسرحي، وهو ما يشمل كافة العناصر المسرحية التي تم اكتشافها وتطويرها عبر التاريخ، بداية من الممثل والنص اللغوي، وصولا إلى السينوغرافيا والميزانسين... إلخ.، بحيث سيبدو واضحا "هنا" أن هذه المادة هي مجرد "أعراض ثانوية" أو غير جوهرية، يستخدمها الفعل المسرحي بوصفها نقطة بداية لا أكثر ثم يصبح بمقدوره التحرك بعيدا عنها، إنها محض أداة يستخدمها الفاعل المسرحي لملء المجال الحسي بما يظهر تمهيدا لتأسيس فضاء حضور مسرحي يمكنه حفظ ذاته حتى عند اختفاء أغلب هذه المادة، وهو ما ينقلنا من تحليل مكونات الفعل/ الظهور إلى تحليل الفاعل المؤسس للحضور.
ونحن نعرف بالطبع أن الفاعل "المؤسِّس" في بعض العناصر المسرحية (مثل عنصر النص المكتوب، أو عنصر الإخراج) لا يكون كذلك إلا على نحو غير مباشر ومن خلال فاعلين آخرين (الممثلين) يظهرون في حالة تعيُّن حسي، ولكن في بعض الحالات المسرحية قد لا يكون هناك أي ظهور حسي لفاعل مباشر على وجه الإطلاق، وهو ما نجده مثلا في مسرح الدمى حيث يتعيَّن الفعل المسرحي أمامنا عبر تحريك تلك الدمى فيما يتوارى الفاعل تماما.
وإذا ما قمنا بتوسيع دائرة التحليل قليلا لتشمل تلك التكوينات المسرحية التي تستجيب لتكنولوجيا التدوين الحداثية (مثل التسجيل الصوتي وأشرطة أو ملفات الفيديو أو السينما) فسنجد أنفسنا أمام فعل غير مباشر يقوم على استحضار "حدث" ظهور سبق تسجيله، وهو ما يعني أنه لا توجد ضرورة تُحتّم تطابق لحظة حضور الفاعل المسرحي مع لحظة حضور فعله، كما أن الفعل نفسه يمكن أن يتحول إلى محض "استحضار" عبر الفصل بين لحظة وقوع الفعل ولحظة حضوره، وهو ما يسري على حالة استخدام هذه التكنولوجيا بوصفها أحد عناصر الفعل المسرحي داخل مشهد بعينه، أو بوصفها أداة لتخزين الفعل المسرحي أو تدوينه بأكمله.
وهكذا، فالتدريب الديكارتي الذي نحاول إنجازه هنا يذهب بنا إلى إمكان الانخلاع أو التباعد بين ما هو مسرحي وبين عناصره أو مادته التكوينية حينا، وفاعله وواقعة فعله حينا آخر، طالما أنه قد تم تأسيس أفق حضور يسمح بذلك، وهو ما يعني أن تحقيق أو إحداث وحفظ هذا النمط من "الحضور" هو جوهر أو أصل "استمرارية" كل ما هو مسرحي، أو بتعبير آخر هو ما يمنح كل ما هو مسرحي حق الاحتفاظ بهذه الصفة، وكما أسلفنا فإن أفق ما هو اجتماعي هو الأرضية التي يتم عبرها ظهور ما هو مسرحي وحضوره وحفظه واستعادته.
إن العلاقة بين "حدث" الظهور، وأفق الحضور الذي يخلقه هي ما تشكل عالمنا بوصفه كذلك، وفي الفينومينولوجيا التقليدية- كما ذكرنا- لا يتم مقاربة حدث الظهور إلا بوصفه معطى خارجيا يطرح نفسه أمام الوعي، أما في المسرح فلا يمكننا الإقرار ببساطة بهذا الأمر، فواقعة ظهور ما هو مسرحي ليست معطى بقدر ما هي فعل إنساني يتلاعب أو على الأدق يلعب مع ما يطوله من أنماط وقواعد ظهور العالم عبر استخدام أو جلب مكونات أو عناصر هذا العالم إلى "حدث الظهور" وإخضاعها لعملية تحويل تتيح خلق مجال "الحضور المسرحي"، وتلاقي حدث الظهور مع مجال الحضور يفضي أحيانا إلى عملية "الانكشاف" على النحو الذي حلله "هيدجر"، والانكشاف هو اللحظة التي يصبح فيها حدث ظهور "ما هو كائن" محفزا أو ممهدا لاستحداث ترابطات جديدة متعلقة به في ميدان الحضور. ولذلك، فحالة الانكشاف إما أن تدفع مجال الحضور إلى التغير وإعادة ترتيب مكوناته أو علاقاته، أو تدفعه على الأقل إلى تمديد هذه العلاقات. وبهذا المعنى، فالانكشاف "المسرحي" هو أحد أهم نتائج تلاقي ما هو متعيّن مع ما هو مجرد داخل الفعل المسرحي.
وما إن تتم هذه العملية حتى يكون بمقدور مجال الحضور الذي خلقه الفعل المسرحي أن يتحرك بعيدا عن حدث ظهوره بكل ما يتضمنه من مكونات، ومن يتضمنه من فاعلين؛ بحيث يذهب إلى "التلاقي" والتماهي أكثر فأكثر مع الفضاء العام لحضور العالم. وبالنسبة إلى كل فعل أو حدث مسرحي مفرد فإن هذا التلاقي يفضي عادة إلى الذوبان في العالم بشكل أو بآخر، غير أنه حين تتراكم فعالية "الانكشاف" التي ينتجها هذا التلاقي في بقاع بعينها من فضاء حضور العالم فإن هذا قد يؤدي إلى انبثاق ظواهر معرفية أو إبستيمولوجية -آن الكشف عنها- مثل "الاستباق" anticipation المسرحي، و"الجاهزية" dispositif المسرحية. وكلاهما يمثلان الأثر الأخير -والأكثر تجريدا- الذي يتبقى من الفعل المسرحي الذي يبدأ بوصفه حسيا ومتعيَّنا.
و"الاستباق" المسرحي، هو آلية إبستيمولوجية يمكن استخلاصها من بعض تحليلات السير فرانسيس بيكون حول "وهم المسرح" بوصفه ما يقود الفكر غير العلمي (التجريبي) ويعطيه تصورا استباقيا لما لم تثبته أي تجربة، ومن ثم فإذا ما تغاضينا عن اللعنات التي يطلقها بيكون على هذه الآلية وواصلنا استدراج أفكاره إلى منتهاها، فهذا الاستباق يقوم على اصطناع صورة للعالم تبدأ مما قد يبدو أن هذا العالم يكونه "مسرحيا" ثم تنطلق نحو ما هو في سبيله إلى أن يكونه في الزمان؛ وهذه الاستباقات الخاطفة التي تظهر وتختفي باستمرار تعطي -في حالة توافقها وتراكمها- شكلا اتجاهيا داخل فضاء العالم، أو بمعنى آخر تُعبِّدُ أمامنا طرقا للذهاب إلى العالم.
ومقابل هذا الاستباق الذي يحاول التلاقي مع العالم كما قد يأتي في المستقبل عبر بناء جسر أو منبر يسمح لنا باستشرافه، فإن تراكم حركتنا فوق هذا الجسر قد ينتج عنها انبثاق سلسلة من الترابطات المعرفية المحددة والمتماسكة يجلب بعضها بعضا، وترتكز على صورة العالم كما تمّ تمثلها مسرحيا، وهذه الترابطات يمكن استخدامها بوصفها منصة لإعادة استحضار العالم الذي كان! -أي تدعونا إلى الانفتاح على ماضي العالم- وفي استحداث توافق بين العالم كما هو كائن وبين تمثله المسرحي، وهو ما أطلق عليه الجاهزية dispositif المسرحية (وهو مصطلح استخدمه ميشيل فوكو، ويمكن اعتباره أحد الاشتقاقات الممكنة لتحليلات هيدجر حول التقنية). هذه الجاهزية هي ما تمكننا -على سبيل المثال- من التفكير في العالم بوصفه مسرحا حاضرا أو قيد الظهور، أو التعاطي مع ذواتنا وذوات الآخرين باعتبارها أدوارا مسرحية راسخة ومنقضية أو قابلة للعب والتبدُّل والتبادل والانقلاب والاختراق.. إلخ.، أو إعادة تمثل حياتنا برمّتها أو لحظاتها المعاشة وكأنها مجرد مشاهد مسرحية -منتهية أو مستمرة- يمكننا أن نندمج أو نتماهى فيها ونصبح جزءا منها مثلما يمكننا أن نخطو بعيدا عنها بحيث نتخارج منها ونتأملها وكأنها لا تخصنا، وكلها أمثلة تتجاوز حدود ما يمكن أن تسمح به البنية الإستاتيكية للاستعارة البلاغية التي عادةً ما يتم طيُّ هذه الحالات تحت عباءتها.
ومع نهاية هذا التدريب، ربما يتضح أمامنا أنه ليس من قبيل المماحكة الفلسفية -إذن- الحديث عن "كوجيتو مسرحي" يمكن صكه في عبارة مقتضبة أو مبتسرة مثل: "المسرح يحضر، إذن هو موجود!"، أو في صيغة أكثر شكلية مثل: "أينما كان هناك حضور يمكن ردُّه إلى ما هو مسرحي، فثمة مسرح أو أثر مسرحي". ورغم ذلك، لا يزال أمام هذا التحليل الكثير مما يجب عليه إنجازه حتى يتحول من مجرد تدريب ديكارتي إلى تأسيس فينومينولوجيا مسرحية تتخطى المدارات التقليدية للفينومينولوجيا العامة.
وعموما، يمكننا القول إن ما هو مسرحي يبدأ بوصفه استحداثا للظهور عبر تبدِّيات متعيَّنة حسيا وينتهي إلى حضور أكثر تجريدا يندمج بشكل أو بآخر في حضور العالم على نحو يسمح بانفتاحه على ذاته في اتجاهي الزمان القادم والماضي، أي نحو ما كانه هذا العالم وما قد يكونه، ولذا المسرح هو أحد مؤسسات إنتاج العالم. والمسافة الفاصلة بين لحظتي ظهور-أو ما قبل ظهور- ما هو مسرحي، ولحظة دمج حضوره في العالم، تمتلئ بما لا حصر له من عناصر ومواد وأفعال وفاعلين... إلخ.، وبعضها مجلوب من العالم مباشرة وبعضها قام المسرح على مدى تاريخه بتطويره، ورغم ذلك لا يوجد ما يخص المسرح هنا بصفة مطلقة سوى تلك الرحلة التي يقطعها من الظهور إلى الحضور أو من التعيُّن إلى التجريد، فالمسرح في جوهره هو حركة أو عملية "تحويل"، وكل تحويل لا يجد ما يخصه إلا في مساره لا في مادته أو موضوعه. وصحيح أن هذه النتيجة قد تأخذنا إلى أفق قريب من عتبة الجماليات أو الإستطيقا الكانطية التي قد تبدو "صورية" أكثر مما ينبغي بالنسبة إلى المسرح، ولكنها أيضا تفتح التحليل على الظاهرة المسرحية بوصفها كيانا يتحرك في التاريخ أيضا، وباعتباره كذلك فهو متغير وقابل للانقراض أو الانمحاء في العالم مثلما هو قابل للاستبدال أو التقاطع والتماهي والذوبان في أي ظاهرة أخرى تستخدم نفس آلية التحويل التي يقوم عليها.
ولكن إذا لم يكن للمسرح- نظريا- ما يخصه بصفة مطلقة أمام أي ظاهرة قائمة أو ممكنة، فعلى النحو نفسه ليس لدى أي ظاهرة ما يخصها أمام المسرح، بمعنى أن المسرح يمتلك إمكان التقاط مفردات أو مكونات أي ظاهرة وإخضاعها لعملية التحويل المسرحي، مثلما يمكن لأي ظاهرة التقاط ما تم تخليقه أو تطويره داخل المسرح والتعاطي معه وكأنه يخصها بما في ذلك آليته التحويلية. والواقع أن حركتي جلب ما هو في الخارج إلى فضاء المسرح ثم إزاحة ما هو مسرحي إلى خارج ذاته، تمثلان معا حالة من السريان في العالم لم تتوقف أبدا طوال التاريخ الذي عاشه المسرح، بل تصل أحيانا إلى حد يصعب فيه التمييز بين ما يعود إلى المسرح وما يعود إلى غيره من الظواهر. إلا أن المطالبة بالبحث عن الفواصل المطلقة بين ظواهر العالم وكأنها كيانات مفارقة لبعضها بعضا، أو اللهاث وراء التعريفات الجامعة المانعة التي ترغب في تحقيق ما هو أكثر من التمييز بين الظواهر على نحو يسمح بتصنيفها، هي كلها هواجس نظرية لطيفة مبنية على افتراضات ميتافيزيقية لم يعد لديها ما تقدمه.
ويبقى هنا أن نتوقف قليلا أمام آلية التحويل المسرحي التي تنتج لنا كل ما هو مسرحي بوصفه كذلك، فهذه الآلية تعمل على عدة مستويات سنهتم هنا باثنين منها.
المستوى الأول: هو التأطير المسرحي، أو استحداث "الظهور المسرحي" عبر جلب ما هو في العالم إلى حالة من التعيّن داخل إطار فعل مسرحي يفتح أفق علاقات الحضور التي تحول تلك التعيُّنات إلى مكون أو مادة مسرحية على النحو الذي نألفه، وهذا المستوى يكمن وراء ما أطلق عليه قديما "المحاكاة" المسرحية، وأيضا بعض مقاصد أو تضمينات مصطلح "المسرحة" أو التمسرح الأكثر حداثة.
المستوى الثاني: يمكننا أن نطلق عليه "التطويع المسرحي"، وهو يقوم على خلخلة تركيب مجال الحضور الذاتي لهذه المكونات على نحو يجعلها أكثر توافقا- أو حتى تضاربا- مع مجال الحضور العام للعمل المسرحي، بحيث إن أي مكون يمتلك وجودا يخصه خارج المسرح (النص مثلا أو الموسيقى، أو أي مكون أدائي آخر) سيتباعد عن قيمه أو تضميناته وعلاقاته وارتباطاته الذاتية التي يمتلكها في العالم، مقابل إعادة دمجه في علاقات أو ترابطات مسرحية تكسبه نمط حضور طارئ ومختلف عما كان عليه في حالته ما قبل المسرحية وصولا إلى إعادة إنتاجه على نحو قد يقطع تماما بينه وبين حالته الأصلية، وبعبارة أكثر اختزالا فما يدخل في الفعل المسرحي سيكتسب جمالياته وقبحه من داخل هذا الفعل نفسه، بغض النظر عن حالته خارجه.
* * *
4- ظهور الفعل المسرحي
إن كل ما يوجد أو يظهر أو يحضر هو في التحليل الأخير حالة من حالات استجابة القوى لذاتها طبقا لاختلافاتها وحسب مساحة اللعب التي تفتحها لنفسها داخل أو خارج عمائها الخاص: أي حيث لا يمكن التمييز بين ما يكون وما لا يكون. ولا يختلف الفعل الإنساني كثيرا في هذا الصدد باستثناء أن مساحة اللعب التي يسري فيها (أي احتمالات الإمكان وعدم الإمكان) هي أكثر اتساعا ورحابة وانفتاحا على عماء الوجود. أما الفعل المسرحي بوصفه لعبا مع حالات ظهور القوى التي يُفترض أنه نتج عنها منذ البداية، فهو الاستجابة الأكثر تراكبا وتعقيدا للعب القوى.
ولكن كيف يمكن الالتفاف حول تفاعلات القوى بحيث يصبح إمكان الظهور الذي هو خاصّتُها الرئيسية في التفاعل مع نفسها مجرد عامل أولي أو فضاء أصلي في مدار ألعاب الفعل الإنساني مع ذاته؟
إن لعب القوى هو تلك المسافة المنفتحة بين اختلافاتها المستقرة واستجاباتها الأكثر ترديدا، وهو الفضاء الذي تطورت داخله عمليات استحداث تلك الكيانات المتحركة التي تملك إمكان الفعل، بداية من الفعل المباشر واللحظي، وصولا إلى سلسلة الأفعال المباشرة ذات الترابط المنقوص الممتلئ بالفجوات التي يتوقف استكمال ظهورها في كل مرة على الاستجابة المباشرة للعالم- أو ما هو في الخارج -لأفعال بعينها في هذه السلسلة، بحيث إنه إما أن تحدث استجابة ترأب هذه الفجوات فتستمر السلسلة نحو نهايتها، أو أن تُترك فجوة أو أخرى على حالها دون استجابة فتنقطع استمرارية ظهور السلسلة، وهذه الآلية هي التي أنتجت الفعل الإجرائي الذي يحتل المكانة الأولى-والأولية- في استجابة "الكائنات الحية" للعالم.
أما عندما تستمر هذه السلسلة دون انتظار أي استجابة خارجية لأفعالها، أي عندما تكتسب القدرة على اللامبالاة أو تَجاهُل فجواتها الخاصة، فهنا نكون أمام تجلي "الفعل الأدائي"، وهو أصل الفعل الطقسي وكل الأفعال الجمالية بما فيها المسرح، وهو بداية للابتعاد عن ارتباط الفعل الإنساني بالاستجابة المباشرة التي يستهدفها أو ينتظرها، لصالح الإيغال في فتح مسافة اللعب بين الأفعال، إذ إن إزاحة الاستجابات الداخلية الجزئية التي كان يتطلبها المرور من فعل إلى آخر بحيث تتراكم خارج سلسلة الفعل الأدائي هو البذرة أو الأرضية التي تم عبرها خلق مجال الحضور بوصفه في الأصل انصهارا أو تلاقيا لاستجابات "مؤجّلة"، قُدِّرَ لها أن تظل غير مشبعة وغير منتهية على النحو الذي قد يولع جاك دريدا بوصفه وتحليله.
وهكذا، يمكن تمييز الأفعال اليومية "الإجرائية" المعاشة عن الفعل الأدائي الأولي باعتباره يقوم على تأخير "ظهور الاستجابة" المصاحبة للأفعال الجزئية المكونة له.
استبصار باربا:
ولكن ما الذي يدشن ظهور الفعل المسرحي في المقام الأول؟
للبدء في تحليل هذا السؤال علينا التوقف أمام ملاحظة استثننائية لـ يوجينيو باربا حول التباين الملحوظ في كمّ الطاقة الإنسانية التي ينفقها الممثل في الفعل المسرحي مقابل ما يُبذل لتنفيذ الفعل نفسه في الحياة اليومية، وتنطوي هذه الملاحظة على استبصار يشمل الفعل المسرحي بصفة عامة وليس فن الممثل فقط، وهو استبصار يمكن الارتقاء به تحليليا ليصير بمثابة الفرضية الأساسية التي تفسر ظهور الفعل المسرحي، أو بمعنى آخر "فعل الظهور المسرحي"، أيا كانت طبيعته أو امتداداته في الزمان أو مدى بساطته أو تركيبه وتعقيده.
وطبقا لهذه الفرضية، يتميز الفعل المسرحي بميل واضح إلى السخاء المحسوب في إنفاق الطاقة داخل إطار لعبة استحداث ظهور تعيُّناته، وهو ابتكار يعود إلى اقتصاد "الفعل الطقسي" الذي كان يتركب عادةً من سلسلة أداءات محددة ومحدودة نسبيا تكاد تقتصر على بعض إيماءات حسية وحركية محددة ومحدودة يجري تكرارها وتأكيدها المرة تلو الأخرى على نحو مفرط لصالح "غرض" بعينه.
وبصفة عامة، الفعل الطقسي هو النقطة التي تتقاطع عندها -على نحو ما- ظاهرتا الفعل المسرحي والفعل اللغوي، ومن ثم يمكن استخدامه بوصفه نقطة جيوديسية لوصف بعض الخواص أو التباينات المشتركة والمتداخلة بين هذه الظواهر. وتقنية النقطة الجيوديسية (أو الإحداثي المرجعي) هي منهجية وصفية تعتمد أولا على تحديد نقطة أو مساحة ذات إحداثيات معروفة أو يمكن تمييزها، ثم استعمالها لوصف نقاط أو مساحات أخرى تشاطرها الفضاء نفسه، وتمتاز هذه التقنية بأنها لا تشترط أي مفاهيم أو متطلبات نظرية من قبيل الأصل أو المركز أو السبب والنتيجة.. إلخ، فهي تستطيع أن تعمل على أي فضاء يتضمن نقاطا يمكن تمييزها.
واقتصاديات الفعل الطقسي هي الملمح الأبرز في تمييزه عن الفعل الأدائي البسيط الذي تطور عنه، فالاستجابة المؤجّلة التي كان هذا الفعل يضعها خارج تكوينه ستتحول مع الطقس إلى "غرض" يستعيد شيئا من قوة حالة التطلب المباشر التي كانت تُكسب الفعل الإجرائي تماسكه، بحيث يصبح هذا الغرض بمثابة نقطة النهاية التي تتوجه إليها كافة التعيُّنات التي يقدمها الفعل الطقسي. وقد تطور تركيب الغرض الطقسي من حالة التطلب البسيط المُشْرَعة في وجه العالم -مثلما نرى في طقوس الصيد أو المطر.. إلخ.- تجاه تطلبات أكثر تجريدا، مما أدى إلى إنتاج الأسطورة المفسرة بتكوينها اللغوي متزايد التجريد، والتي كانت تعيد باستمرار تركيب علاقات التطلب الطقسي بتعيناته على نحو يتعالى -المرة تلو الأخرى- على الغرض البسيط الذي ينتظر استجابة العالم له، بحيث أصبحت الأسطورة في النهاية تُحيل إلى تطلُّب العالم لذاته أكثر مما تؤكد على تطلُّب بعينه في العالم، وهو ما تَرافق مع انتشار الكتابة الصوتية التي أدت إلى تزايد نمو الأسطورة حول الطقس وبموازاته.
وهكذا، فالطقس هو في الأساس علاقة رأسية أو هيراركية بين تعيُّنات محددة وتطلُّب مجرد، أي يعمل بمثابة جسر أو طريق ضيق -بقدر ما هو متماسك- يصل بين ظهور ما هو متعيَّن وحضور ما هو مجرد، وهذا الترابط الاستثنائي هو ما جعل الفعل الطقسي بمثابة الشكل الوحيد حصريا للممارسات التعبُّدية في كل الثقافات الإنسانية على مرّ التاريخ، باعتباره بوابة أو عتبة أي ميتافيزيقا أو أسطورة مفسِّرة تسعى إلى الحضور في الواقع. وبمعنى آخر، كانت اقتصاديات الفعل الطقسي، بما جلبته من ألعاب الظهور، هي العامل الأساسي في إعادة خلق العالم الإنساني على نحو يتجاوز حدود ما يظهر، وبذلك كانت ضربةَ البداية التي وجهت ألعاب الظهور لصالح إنتاج فضاء حضور أكثر اتساعا واتصالا في العالم.
وانطلاقا من تقنية الوصف الجيوديسي، نستطيع عبر مرجعية الطقس رصد ظهور الفعل المسرحي بوصفه ما تكوَّنَ ببطء عبر التباعد المتوالي عن التطلُّب الضيق الذي يتسم به الطقس، في اتجاه التطلب المنفتح نحو العالم الذي خلقته الأسطورة والذي خضع لعملية إعادة تكوين داخل النص اللغوي الذي اصطنعه المسرح لنفسه، على حين تكاثرت -من جهة أخرى- دائرة التعيُّنات التي يمكن استخدامها في خلق حدث الظهور حتى أصبحت بلا حدود تقريبا، إذ لم تعد هذه التعيُّنات تستهدف المطلب الطقسي بل تستهدف تعيين النص المسرحي بما يقدمه من مساحات متداخلة لعلاقات الحضور في العالم.
* * *
5- المسرح والنص: مراكز الفعل وفعاليات التحويل
وهكذا، فقد ظهر "النص المسرحي" بوصفه استجابة لقدرة الفعل المسرحي على التعاطي مع دوائر أكثر اتساعا من الأحداث المتعينة مقارنةً بالفعل الطقسي، وهو ما جعل المسرح قادرا على اقتحام ذلك الأفق التجريدي الذي خلقته الكتابة الصوتية وإعادة تشكيل النص اللغوي الذي تقدمه بحيث يصبح حاملا لمساحة -غير محدودة نظريا- لما هو "حاضر" في العالم، بحيث يستطيع الفعل المسرحي استخدامها بوصفها نقطةَ انطلاق أو منصة يتم عبرها ممارسة ألعاب الظهور الخاصة به.
وهو ما يعيدنا إلى "فرضية باربا" التي تحكم ظهور الفعل المسرحي المتعيَّن، فطبقا لتلك الفرضية يتم تخزين أو تجميع الطاقة وإنفاقها أو بالأحرى توزيعها على عناصر الظهور المسرحي، وهذا التوزيع عادةً ما يكون متباينا على نحو يسمح باشتقاق أنماط وصيغ جزئية تشمل عناصر بعينها دون أخرى، وهو ما يمكن استعماله لوصف مستويي التحويل المسرحي اللذين سبق ذكرهما.
فمثلا، بالنسبة إلى عناصر مثل مفردات الديكور وقطع الملابس- والنص في بعض مراحله التاريخية -سنجد أنها تكتسب ظهورها في توقيت ما قبل العرض المسرحي، على حين لا تتغير حالتها كثيرا بعده، أي إنها- بشكل ما- تتمتع بوجود موازٍ للعرض، مثلما تبقى على نحو ما بعد اختفائه، ومن ثم فهي عناصر يتم تجميع الطاقة اللازمة لظهورها في مرحلة ما من مراحل العمل المسرحي، ثم يجري التعامل معها بعد ذلك بوصفها عناصر مستقرة يمكن توزيع الطاقة نحوها أو حولها لتشكيل تعيُّنات الظهور المسرحي، أي لتحقيق المستوى الأول من التحويل المسرحي.
وبعبارة أخرى، يتعامل نمط التوزيع هنا مع هذه العناصر بوصفها عاملا يستخدم لاستحداث ترابطات وعلاقات متعيَّنة دون أن ينتهك تركيبها الذاتي، وبذلك فهي أقرب إلى ما يصفه هيدجر بـ"شيئية العمل الفني".
ولكن، برغم أن نمط التوزيع قد يكون هو نفسه بالنسبة إلى كل العناصر، فقد يَنتج عنه آثار هائلة الاختلاف إذا ما وضعنا في الحسبان قدرة كل عنصر منها على استقبال تَراكُم الحضور المسرحي، فالعناصر الأكثر تعيُّنا من الزاوية المادية -مثل مفردات الديكور والملابس- تتحول إلى ما يشبه المهملات فور خروجها من الفعل المسرحي، على حين يختلف الأمر تماما بالنسبة إلى عنصر أكثر تجريدا مثل "النص"!
فالنص "اللغوي" ليس شيئا على الإطلاق سوى غمغمة صوتية أو خربشات مرئية إن لم يتأسس في مجال حضور عام ومشترك، لذا يأتي هذا النص إلى منصة الفعل المسرحي محمولا بالضرورة على أفق حضور ما، وعندما يتم إخضاعه لألعاب الظهور المسرحي فإن تفاعل حدث ظهور النص بوصفه تعيُّنا حسيا سيتفاعل مع مجال حضوره على نحو يؤدي إلى إطلاق عملية "الانكشاف" بما يستتبعه ذلك من إعادة ترتيب علاقات الحضور.
وهذه الآلية قد نتج عنها أحد أكثر الاضطرابات دويًّا في حقل الجماليات، فما يحضر-بحكم التعريف- هو ما يبقى أو ما يمكن استبقاؤه من حدث الظهور، والنص اللغوي- كما ذكرنا- هو واحد من العناصر التي تبقى بعد الفعل المسرحي، ولكنه يمتلك خلافا لغيره من تلك العناصر مجال حضور يخصه قبل هذا الفعل، ولذا كان أفق الحضور الذي يخلقه المسرح يتضايف عادةً مع مجال الحضور السابق للنص، مما أدى إلى تعاقب عصور تاريخية توارى فيها الفعل المسرحي ذاته خلف حضور النص الذي بات يمتلك استقلالا يخصه بوصفه نوعا أدبيا في المقام الأول! ومن أجل محاولة تخطي أو تجاوز حضور النص على حساب الفعل- أو بالأحرى من أجل إعادة فتح مجال التفكير في المسرح بوصفه فعلا مباينا لعلاقات اللغة- تم ابتكار "التحليل الدرامي" وتطويره بوصفه محاولة لاشتقاق أشكال انتظام سلاسل الفعل المسرحي في علاقتها بالعالم.
وعلى هذا النحو، تطور عنصر "النص" في البداية بأسرع مما تطور الفعل المسرحي الذي عاش لفترات طويلة بوصفه مجرد ظل حسي لحضور النص، وهو ما ترسَّخ أكثر عبر هيمنة الأفق الميتافيزيقي الذي كان يَعتبر النصَّ/ الكلمة بمثابة أصل العالم، وهو المفهوم الذي بلغ ذروته مع القرون الوسطى.
ويمكننا تفسير هذا التطور اللامتكافئ من خلال تحليل علاقات مراكز الفعل المسرحي، فهذا الفعل هو في مجمله ممارسة جماعية واجتماعية، على حين يوجد النص على الجهة المقابلة بوصفه ما ينحدر من فرد بعينه، وهذه الفردية يجري منازعتها دائما من قِبل مراكز الفعل الأخرى داخل مجموعة العمل المسرحي، مثلما يتم "تهديدها" من قِبل تلك الذات الجمعية "التوافقية والمؤقتة" التي تتخلّق أثناء مجريات الإعداد للعرض عبر التفاعل بين فريق العمل بأكمله ومجتمعه المحيط. وهذه التنازعات أو التفاعلات المتكسِّرة والمضطربة بين هؤلاء الفاعلين كانت تجد غالبا رهانا يجمعها حول إمكان تسوية تعارضاتها- المرة تلو المرة- في إطار مجال حضور النص، ولصالح المؤلف الفاعل، بحيث يتحول العرض بأكمله إلى مجرد تَبَدٍّ أو حتى تَجَلٍّ لإرادة المؤلف الغائب والكامنة في نصه، على نحو يجعل المركز الفردي للمؤلف بمثابة أفق ميتافيزيقي ومتعالٍ بالنسبة إلى العرض الذي أصبح يَتعيَّن عليه أن يستمد قيمته بمقدار قدرته على التحرك إلى خارج ذاته نحو هذا الأفق الغامض والمتباعد، وهنا يتحول "النص المسرحي" من مجرد كونه خطة تنفيذ أولية يتجمع حولها فريق العرض لبدء رحلته المسرحية إلى كيان "ميتافيزيقي" مهمته الأساسية (التي يفترض أنه قد قام بأدائها بالفعل) هي اقتطاع شريحة ما-متسعة قدر الإمكان- من علاقات العالم وجلبها إلى فريق العرض ليتقافز الفريق حولها أو يتسلل إلى داخلها، أو ينظم إقامته بين جنباتها، بحيث يكتسب العرض قيمته وتماسكه الذاتي من قدرته على مقاربة النص واستحضاره، ومن ثم يصبح الانكشاف الذي ينبثق أثناء العرض أمرا لا يخص فاعله بقدر ما يخص علاقة النص بالعالم الذي يقدمه، مما يؤدي إلى حالة من التخارج المستمر للفاعل المسرحي عن فعله على نحو يُباعِدُ الترابط بينهما ويعوق تطورهما معا.
وربما نتيجة لهذا الأمر نشأت بعض الحالات المسرحية –الأكثر شعبية- التي تكرِّس ما يمكن تسميته بـ"النكوص النصي" عبر الاعتماد على نصوص (أو حتى مجرد مواضيع درامية أحيانا) ذات درجة أقل من التماسك وتغطي مساحة أكثر ضآلة من علاقات العالم، وحافلة بالانقطاعات التي يَتعيَّن على الفاعل المسرحي (الممثل عادةً) أن يملأها بما يخصه. وبرغم أنه كان يتم عادةً حذف أو تجاهل هذه الحالات القائمة على إضعاف (متعمد أو شِبْه متعمد) لعنصر النص من قبل التاريخ الرسمي للمسرح، فقد كانت بمثابة الوعاء الحاضن لتطور الفاعل المسرحي غير النصي على نحو أدى- فيما بعد- إلى تغيُّر مركز النص وخَفْض موقعه المتعالي أمام العرض. وهو ما ينقلنا إلى تحليل المستوى الثاني من التحويل المسرحي: أيْ "التطويع المسرحي" في علاقته بالنص.
* * *
6- التطويع المسرحي وتراجع هيمنة النص
مع استحداث أي فاعل أو عنصر مسرحي جديد (المخرج، الدراماتورج، السينوغراف، الكريوجراف،... إلخ.) تتزايد رهافة تقسيم العمل المسرحي ودقته على نحو يستلزم إعادة التوازن للنقطة المرجعية التي يتم على أساسها تسوية تنازعات هؤلاء الفاعلين. ولآماد طويلة كان النص هو ما يقوم بهذا الدور. أما مع الحالات المسرحية التي تأسَّست على "النكوص النصي" فكان الممثل أو الممثلون هم مَن يحتلون هذا المركز انطلاقا من علاقتهم المباشرة مع جمهورهم، وصولا إلى صعود "المخرج" بوصفه الفاعل الرئيسي للعرض. وبصفة عامة، فثمة علاقة بين مثل هذه التسويات وطبيعة التحويل المسرحي التي يخضع لها كل عنصر على حدة، فكلما ابتعد هذا الفاعل أو ذاك عن احتلال مركز النقطة المرجعية تزايد احتمال خضوعه لفعالية "التطويع المسرحي"، بمعنى مباعدته عن حضوره الخاص أو تركيبه السابق أو الموازي للعرض وإعادة تركيب علاقاته الداخلية المكوِّنة له بحيث يصبح في النهاية أقرب إلى أن يكون شيئا مسرحيا محضا وكأنه وُلِدَ لأول مرة داخل العرض المسرحي على نحو لا يتيح ردَّه بسهولة إلى ما كان عليه قبل تلك اللحظة.
وعلى سبيل المثال، الممثل الخاضع لعملية التطويع المسرحي تتباعد المسافة بينه وبين شخصيته المعاشة في الحياة اليومية، على حين تتقلص المسافة نفسها عند الممثل الذي يحتل مركزا مرجعيا في الفعل المسرحي سواء بين حضوره في العرض مقابل حضوره اليومي، أو بين حضوره من عرض إلى آخر (لنفكر مثلا في الكوميديا ديلارتي، أو ظاهرة مسرح النجم الممثل، الذي يكون هو ذاته دائما بغضّ النظر عن تغاير المسارات الدرامية من عرض إلى آخر). وإذا طبقنا "فرضية باربا" حول الطاقة اللازمة لخلق المسافة بين ما هو مسرحي وما هو يومي على هذه الملاحظة، فهذا يعني أن خضوع عنصر للتطويع المسرحي الذي يوسع أو يباعد المسافة عما هو معاش يتطلب إنفاق قدر أكبر من الطاقة، وهو أمر يتزايد أكثر فأكثر مع ارتقاء تقسيم العمل المسرحي الذي يكفل تنظيم تدفق طاقة الفاعلين على نحو متزامن تجاه عنصر بعينه أو مفردات بعينها. ولذلك، فالتطويع هو الحالة الأكثر اكتمالا لفعالية التحويل المسرحي. وهنا ينبغي أن نتوقف عند مفارقة هامة، فالعنصر الذي يحتل مركزا مرجعيا في الفعل المسرحي سيحظى عادة بنسبة اقل في أي زيادة مستحدثة للطاقة المسرحية، فيما ستذهب النسبة الأعظم لبقية العناصر التي يتعين عليها دائما أن تتحرك تجاه نقطة توازن أو توافق معه، وبالتالي تصبح هذه العناصر أكثر قابلية للتطور واكتساب إمكانات جديدة في علاقتها بالفعل المسرحي وبالعالم، بحيث أنه في لحظة بعينها قد ينقسم إلى عدة عناصر كل منها له وظيفة متمايزة ومستقلة، وهو ما نجده -مثلا- في وظيفة "الخوريجوس" اليوناني القديم، أي ذلك المواطن المكلف من سلطات المدينة بتنظيم وتنفيذ العرض المسرحي، فعلى مدى التاريخ تطورت هذه الوظيفة -التي قد تبدو خارجية أو هامشية للغاية من وجهة نظر توزيع الطاقة المسرحية- تحت ضغط حاجتها المتزايدة للتوازن مع مقتضيات ومتطلبات العرض المسرحي بحيث انبثقت منها وظائف عديدة مثل المنتج والمسوق والمنتج -أو المدير- الفني والمخرج والدراماتورج..إلخ، إلى أن تطور "المخرج" من وظيفة مسرحية إلى عنصر مسرحي فاعل تمكن فيما بعد من إزاحة عنصر النص واحتلال مركز المرجعية النهائية للعرض. وهذه الآلية في تفاعل وتخليق، وإزاحة العناصر المسرحية لبعضها البعض والتي تنشأ من تباين أنماط ومستويات توزيع الطاقة المسرحية يمكن أن تجد ما يشبهها في جدلية السيد والعبد الهيجلية.
وعموما، فمع النصف الثاني للقرن التاسع عشر تمكن الفعل المسرحي من إنتاج وتوزيع طاقة متزايدة على عناصره مما جعلها أكثر خضوعا لفعالية "التطويع" وهو ما أفضى إلى تدشين دور المخرج بوصفه المرجعية الأساسية لكل مسارات أو تنازعات العرض، بحيث تم إحلال هذا الفاعل غير المباشر- ولكن الحاضر- محل المؤلف (أي ذلك الفاعل غير المباشر والغائب). ومن منظور أكثر عمومية، يمكننا أن نجد في هذا التبديل تناغما مع صعود النزعة الإنسانية بوجهها الحداثي، ولكن مسرحيا كانت هذه الخطوة نتاجا لتطور التقنيات المسرحية وتطور وتكاثر الفاعلين المسرحيين وتعقّد علاقات التوازن بينهم داخل العرض.
وقبل أن نحلل أثر موجة التطويع هذه في مكانة النص ودوره، سنتوقف أولا عند مثال دالٍّ على فعالية التطويع المسرحي على عنصر الموسيقى الأكثر رسوخا واكتمالا من الزاوية التاريخية، ففي معركة شهيرة اتهم نيتشه فاجنر بأنه أخضع الموسيقى للمسرح على نحو أدى بها إلى "أن لا تكون موسيقى، ...، بل خادمة للدراما"، وبرغم اعتراف نيتشه بأن هذا التطويع المسرحي لم يفتقر إلى نتائج موسيقية ملحوظة باعتباره قد "ضاعف إلى ما لا نهاية من القدرات التعبيرية للموسيقى" إلا أن ذلك أدى إلى تحويلها إلى مجرد "بلاغة مسرحية" أي أن المسرح هنا -طبقا لنيتشه- استحدثَ فعلا موسيقيا مندمجا في الفعل المسرحي وأجبره على أن يعمل لصالحه أكثر مما يعمل لصالح ذاته، وبمعنى آخر: فقدت الموسيقى خصوصيتها واستقلالها لصالح المسرح وأصبحت تستمد جماليتها منه لا من تركيبها الداخلي، وهو ما يلخصه نيتشه بقوله: "والموسيقى الفاجنرية عندما لا تكون مدعومة بحماية الذوق المسرحي...، هي بكل بساطة موسيقى رديئة". وهذه المعركة كانت تتم معالجتها عادةً بعيدا عن المسرح بوصفها خلافا فكريا بين الرجلين محوره رؤية كل منهما للموسيقى، إلا أنه من الواضح أن نيتشه كان يراقب بقلق بالغ حالة صعود المسرح في أواخر القرن التاسع عشر، ويعاني من جزع شديد أمام آثار التطويع المسرحي على الفن والعالم، فهو يتخوف من أن "يصبح المسرح سيدا على الفنون"، ويندد بـ"حماقة الإيمان بريادة المسرح، وبحق المسرح في السيادة على بقية الفنون، على الفن عامة" معتبرا أن "المسرح شكل من التخريب في مجال الأشياء التي تتعلق بالذوق"، وصولا إلى التحذير من تناقض علاقة ما هو مسرحي بما هو حقيقي: "يكون المرء مسرحيا عندما تكون له هذه الرؤيا التي يمتاز بها عن الآخرين والقائلة: ما يريد أن يبدو حقيقيا، لا ينبغي له أن يكون حقيقيا"!(1). وهنا، نستطيع أن نلاحظ ذلك التوافق بين نيتشه وفرانسيس بيكون، فكلاهما استبصر تأثير ما هو مسرحي في علاقته بحقيقة العالم بوصفه خطرا، خطرا على العلم عند بيكون، وخطرا على أخلاقيات الحقيقة عند نيتشه.
ولم تكن ردود أفعال معركة تطويع "النص" لصالح العرض المسرحي اقل عنفا مما رأيناه مع الموسيقى، فهذا القلق -الممزوج بالاحتقار أحيانا- من العرض المسرحي سيظل ملحوظا ولافتا وبخاصة في تأثيره على النص حتى فترة ما بين الحربين، فكاتب مثل سترندبرج (في مقدمة مس جوليا) يرى أن العرض المسرحي "يخدم هؤلاء الذين لا يمكنهم قراءة ما هو مطبوع، ...، مثل الشباب وأنصاف المتعلمين، والنساء اللاتي ما زلن يمتلكن قدرة فطرية على خداع أنفسهم"، على حين يرى بيراندللو أن العرض المسرحي ترجمة للنص "وشأنه شأن أي ترجمة أخرى أدنى مرتبة من الأصل"، وهي تعليقات تشير إلى لواذ هؤلاء المؤلفين بالجانب الأدبي للنص المسرحي بحيث يصبح العرض إما شيئا أقل على الدوام، أو مجرد خدمة تجعل "النص المكتوب متاحا على نحو ما لمن لا يتاح لهم قراءته، أو الذين لا يستطيعون القراءة أصلا" كما يقول الفيلسوف كروتشه(2).
أما بريخت المنظِّر والمخرج والمؤلف المسرحي، فقد حاول في شبابه إعادة غرس بعض التقاليد الأدبية داخل العرض عبر بثّ العلامات الإرشادية واللوحات التوضيحية المماثلة للهوامش الشارحة في الكتاب. بالإضافة إلى محاولة أخرى أكثر خفةً ونزقا تهدف إلى جلب "قارئ الأدب" نفسه بعاداته القرائية إلى صالة العرض عبر السماح للمشاهدين بالتدخين! "لأنه من العبث أن يحاول المرء أن يسحر رجلا يقوم بالتدخين، أي رجلا كفاه انشغاله بنفسه، وبهذه الطريقة نصل إلى ملء قاعات المسارح بالاختصاصيين، وليس من المعقول أن يحاول ممثلون أن يدسوا لأمثال هؤلاء المشاهدين هذين الفلسين من المحاكاة الرخيصة التي يسمحون الآن لأنفسهم القيام بها"(3).
وربما كانت هذه المحاولة الأكثر طرافة لبريخت هي آخر نقطة استطاع بلوغها تيار مقاومة هيمنة العرض المسرحي على نصه "الأدبي"؛ بحيث لم يعد العرض بديلا للمطبعة، أو أداة للقراءة المسموعة لمن لا يجيدون أو لا يريدون القراءة، ولم يعد الفعل المسرحي يتخفى ليدفن داخله لحظات انكشافه أو يقمعها لصالح النص، بل بات أكثر انفتاحا على مبادرات وتوافقات مبدعيه الحاضرين، حتى ولو أتى هذا على حساب تماسك أو تمزيق علاقات أو جمل وشخصيات النص وإعادة تكوينها. وإجمالا، خضع النص لعملية تطويع حوّلته إلى كيان محايث للعرض يكاد لا يوجد خارجه، بحيث تباعدت المسافة بين النص المسرحي الأدبي المكتوب أو المطبوع سلفا، وبين النص نفسه عندما يصبح عنصرا أو مادة في الفعل المسرحي.
* * *
إذن، اجتاز المسرح الكثير من المراحل في علاقته بنصه، بدءا من خلقه وتطويره، مرورا بالتواري خلفه والتماهي معه، ثم الاحتفاء بحالات مسرحية تقوم على "النكوص النصي" أو الإضعاف المتعمد للنص لصالح منح مساحات أوسع لعناصر أخرى، وصولا إلى تراجع النص وتطويعه ليصبح عنصرا داخليا في الفعل المسرحي ينمو ويتطور معه وفي نفس اتجاه حركته، بحيث لا يمكن فصله عنه وكأنه لا وجود له تقريبا خارجه. ومقابل ذلك، بات على كُتّاب النص المسرحي إما أن يتعاملوا معه بوصفه نوعا أدبيا له قراؤه والمهتمون به بمعزل عن العرض، أو أن يقبلوا لعب دور أشبه بدور كاتب السيناريو فيصبحون ضمن فريق عمل يُلزِمهم بمتطلباته وتوازناته.
* * *
(النسخة الأولية من هذه الدراسة كانت ورقة قدمت إلى الملتقى الفكري بالمهرجان القومي للمسرح، الدورة الحادية عشرة، 2018)
الهوامش
(1) انظر نيتشه: قضية فاغنر، ويليه نيتشه ضد فاغنر، ترجمة على مصباح. ألمانيا: منشورات الجمل، 2016. والاقتباسات على التوالي من صفحات: 42، 43، 59، 64.
(2) هذه الاقتباسات أوردها مارفن كارلسون في: "العرض المسرحي، رسم توضيحي أم ترجمة أم تحقق، أم إضافة"، ترجمة حازم عزمي، مجلة فصول، العدد 62. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003. ص ص 181-188.
(3) انظر: "ملاحظات بريخت على أوبرا القروش الثلاثة وطريقة قراءة الدراما"، ضمن أوبرا القروش الثلاثة -لوكلوس– بعل"، ترجمة عبد الرحمن بدوي. الكويت: سلسلة المسرح العالمي، يوليو 1977. ص ص 142-143.