ترجع بداية العمل الذي بين أيدينا؛ «الأنفس الميتة»؛ إلى العام 1835 حين أرسل مؤلفها «اللغز»، كما كانوا يسمونه، نيقولاي غوغول إلى صديقه ألكسندر بوشكين يطلب منه موضوعاً لمسرحيته المقبلة «المفتش العام». فكان أن عرض عليه بوشكين فكرةً كان ينتوي كتابتها بنفسه على شكل قصيدة، لكنه آثر صاحبه على نفسه فكانت بداية انطلاقة «الأنفس الميتة» وأصبح بوشكين بمتابعتها خطوة بخطوة عرّاب الرواية «القصيدة» كما كان يحب غوغول أن يسميها.
وذكر غوغول ذلك في كتابه «اعترافات مؤلف»، كما ذكره مرة أخرى حين علم بمقتل بوشكين قائلاً: «لم أكن أقدم على شيء من دون نصيحته، وعملي الحالي المُوحى منه، هو إبداعه». انتهى غوغول من العمل في المجلد الأول من هذا العمل في عام 1840 لكنه واجه اعتراضاً من الرقابة على نشره بسبب اسمه إذا قال أحد المراقبين: «الأنفس خالدة ولا يمكن أن توجد نفوس ميتة، إن المؤلف يحارب الخلود». وحين حاول توضيح أن المقصود بها الأقنان المسجلة في الإحصاء كنفوس مازالت على قيد الحياة، زاد غضبهم وانزعاجهم لأن ذلك يعني الخروج على نظام القنانة الذي كان معروفًا آنذاك في دول عدة، منها روسيا. لكن غوغول لم ييأس وتمكن من نشر قصيدته عام 1842 في كتاب، وذلك تحت عنوان «مغامرة تشيتشيكوف، أو الأنفس الميتة. قصيدة ن . غوغول».
وجدير بالذكر أن الكتاب الذي بين أيدينا والصادر حديثاً عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة» في القاهرة ضمن سلسلة «آفاق عالمية»، ترجمه إلى العربية عبد الرحيم بدر، وهو الجزء الأول من ثلاثية كان غوغول ينوي إكمالها لتكون العمل الأهم في حياته. فهو العمل الذي كان يريد له أن يشكل طرحاً جديداً لفكرة «الكمال الإنساني». ربما أراد بهذا أن يصنع «يوتوبيا» روسيا لهذا كان لا يكف عن القراءة والإطلاع والتمحيص والدرس في المراجع الدينية والكتابات المقدسة وغيرها، وكان دوماً يراسل أصدقاءه ويناقشهم في أفكاره، حتى توصل إلى استحالة الفكرة، إذ وجدها خيالية ولا تتفق مع الواقع. لكنه لم يغض النظر عنها نهائياً، بل عدَّلها وقوّمها ليضع كتاباً في النثر الفني الاجتماعي بعنوان «مختارات من مراسلات مع الأصدقاء» والذي كان يضم أفكاراً كثيرة تدور حول الفكرة ذاتها الواردة في «الأنفس الميتة». وهذا جعله يتوصل للبناء الفلسفي والأخلاقي لإكمال «الأنفس الميتة»، فقد آمن أن الطريق إلى خلق روسيا جديدة لا يكمن في هدم نظام الدولة، بل في البناء الأخلاقي لكل فرد فيها. هذا ما كان سيؤول إليه الجزءان الآخران. لكن أين ذهبا؟ للأسف لم يريا النور، فقد اكتمل الجزء الثاني وكان العالم ينتظر طباعته ونشره، غير أن غوغول أقدم وهو في حال نفسية سيئة على حرقه في عام 1852، علماً أنه مات في العام ذاته.
في هذا الجزء (الأول والوحيد) من ثلاثية «الأنفس الميتة»، كان نيقولاي غوغول شديد الحرص على أن يُظهر روسيا بجوانبها وتفاصيلها كافة، متمثلة فيه أو في بطله «تشيتشيكوف». وهو كغيره من الكتّاب الروس، يعتني بكل تفصيلة أو ملمح يمر عليه، لكنه على رغم ذلك لا يثير في نفس القارئ الشعور بالملل. ذلك أن روح السخرية والفكاهة كانت تعتني بتفاصيل الرواية كامل الاعتناء، بل جعلت من تفاصيله وتشبيهاته وتعليقاته عليها، مادة شيّقة وممتعة للقارئ. لم يكن يترك قارئه وحيداً أمام الأحداث بل يشاركه في قراءتها ومتابعتها والدهشة من عجائبها والتساؤل عن مكامن شخوصها ودواخلهم وطبائعهم وانفعالاتهم، وكأنه لم يكن يوماً جزءاً من صناعة هذا الحدث أو تلك الشخصية. كأن يقول: «الله وحده أعلم بكذا وكذا»، «لا أحد يدري بماذا كان يفكر فلان حين فعل كذا وكذا». وهكذا نجد القارئ والكاتب معاً، يجلسان على الطاولة ذاتها، أو لنقُل يقفان على مسافة واحدة من الأحداث والشخصيات في هذه الرواية القصيدة.
وقد يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال ملحّ عن ماهية هذه الأنفس الميتة، وما الذي جعل منها محور رواية بحجم ثلاث مجلدات كما كان يُنتظر منها؟ في الحقيقة ما كانت الأنفس الميتة إلاّ وسيلة لبلوغ الهدف من كتابة هذه الرواية، ألا وهو الوقوف على البعد الإنساني للمجتمع الروسي وكيف تغلغل الفساد في أركانه وأفراده، على رغم ظهور السطح الناعم المنمّق الجميل في كل شيء (الكلام واللغة والملابس والبيوت والعلاقات الإنسانية والأفكار). كل شيء أصابه العطب ومازال سطحه جميلاً، ويقول غوغول معلقاً: «هم لا يفكرون في أن يتجنبوا فعل ما هو شائن، بل في أن لا يتحدث الناس عن كونهم يقومون بهذا الفعل الشائن».
«الأنفس الميتة» تلك التي قضت نحبها من الأقنان (العبيد) ولم يتم تسجيلها بعد في سجل الوفيات لدى الدولة. فالعبد كأي شيء يملكه صاحبه، يدفع عنه الضرائب ويطعمه ويأويه ويهتم بصحته، لكن إن مات، لم يسجّل في سجلات الدولة إلاّ آخر العام أو عند كل إحصاء. ولكن ما أصاب الناس بالدهشة وبعضهم بالذعر أن بطل الرواية «تشيتشيكوف» كان يسعى إلى شراء هذه النفوس الميتة. بعضهم رحّب بالفكرة على رغم غرابتها؛ لأنه سيتخلص من الضرائب التي يدفعها عن هذه النفوس، لكنها أرعبت البعض الآخر. وما ان انتشر خبر هذا المشتري في مدينة (ن) حتى تحوّل في أعين الناس من رجلٍ فاضلٍ إلى مجرم مطلوب للعدالة بين ليلة وضحاها.
وبصرف النظر عمّا كان يريد أن يفعل «تشيتشيكوف» بهذه الأنفس الميتة، إلا أنه ما يهمنا هنا هو ماذا أراد غوغول ذاته بها في هذه الرحلة؟ كل قارئ ستكون له زاويته التي ينظر منها إلى الأمر، تماماً مثل شخوص الرواية الذين اختلفوا في أمر هذه النفوس الميتة، فتباينت أفكارهم ورؤاهم نحوها ونحو تشيتشيكوف نفسه. وكلّ منهم بدأ يحيك في خياله قصة ويصدقها ويتناقلها في المدينة على أنها الحقيقة المطلقة. وبينما هم يفعلون ذلك تتسرب إلى ذهنك فرضية أخرى نحو غوغول ذاته، ماذا لو أنه قصد بالنفوس الميتة الأحياء وليس الأموات؟ تلك النفوس التي فقدت محتواها وماهيتها ومعنى الحياة فيها؟ تلك النفوس تأكل وتشرب وتتناسل كأي كائن حي بلا هدف ولا جدوى. وربما أراد من خلالها الغوص في أعماق النفس البشرية التي هي بحر لا يجوز الجزم بخيره أو شرّه. ذلك أن الإنسان كائن متقلب بطبعه كالبحر، يحمل في داخله الحياة والموت، والخير والشر، القديس والشيطان. يقول غوغول: «ما من شيء في شخصية الإنسان إلا وهو قابل للتبديل والتغيير في طرفة عين، لا شيء فيها إلا وقد تنبثق منه سوسة أكّالة تمتص منها العصارة الحية في لمح البصر».
هكذا كان غوغول يسعى إلى تحريك المياه الراكدة في نفس الإنسان، عن طريق روايته القصيدة التي تتسرب إلى نفس القارئ كشلال يحفر الصخور ببطء شديد ولكن بقوة هائلة.
جريدة الحياة الدولية