يصور القاص المغربي أيمن قشوشي في نصه جواً موحشاً ورجل ينزل في محطة شاردا يستعيد حياته الخاوية، كأي مسالم لا يدخل صراع، فيجد نفسه مهجوراً حتى من زوجته التي تركته، محطة، وظلام، وساعة متأخرة، عالم داخلي وخارجي ساكن و موحش، ثم يفجر هذا السكون بالفعل من خلال تدخله لإنقاذ امرأة من اغتصاب.

عاد من جديد

أيمن قشوشي

 

كان جالسا يراقب ساعته اليدوية الأنيقة ويسجل عدد الوقفات التي يقوم بها القطار. اتصلُتْ به ليلة الأمس. جاءه صوتها قريبا كأنه منبعث من تحت وسادته. سنتان رتب فيهما حياته وأيامه، وضع لها قواعد بسيطة وصارمة. فضّل لو أنها رحلًتْ دون وداع، وتمنى أن ينتظر ساعة عودتها إلى أن يعتاد على غيابها.

نزل بسرعة، الليل مهيب وهدير القطار يبتعد. كانت المحطة على الجانب المقابل. الظلام كثيف ومحبط كقهوة سوداء باردة. أخرج محموله ليضيء به مسار خطواته المترددة. انبعثت من البناية رائحة رطبة لم يستطع أن يحدد موقفه منها والمواقف أوهام ممتدة، صارخة لكنها ضرورية للحياة. كان السقف قريبا جدا، تلمسه بيديه والتصقت بكفه عناكب صغيرة تداعبه. قطط نائمة في زوايا المكان ونباح بعيد تزداد حدته إلى أن يموت بغتة.

القطار الذي ينتظره سيأتي بعد ربع ساعة وهو من النوع الذي يمتلكه خوف وقلق إن تغيرت الملامح التي اعتادها والعيون التي ألفها. فكر في أنه لا يمكن أن ينزل من القطار بمفرده وبدأ الشك يقتحمه. هل أخطأ في المحطة؟ لقد عد مرات وقوف القطار بدقة وسأل وتأكد لكنها لعنة البشر فعندما يكون الإنسان وحيدا في الكون المظلم يتمنى لو كان الشيطان بشرا.

هربت القطط بسرعة وعلا نباح شديد. ركض خارج المحطة بقوة مدفوعا برعشة الخوف. ظلال تطير أمامه. اقترب ورآهما يجرانها. كانت تصرخ وتمسك بقدم أحدهما، ترجوه بنباح مبحوح أن يساعدها. انتبه إليه أضخم الظلال واتجه نحوه. ركض من جديد اتجاه السكة، يحرك أطرافه بعنف كبير وعيناه دامعتان. كان لا يتقن في حياته إلا التواري والانخساف.

كان يحس مثلها إلا أن نباحه كان مكتوما، كان مستترا واختفى في ضجيج الأيام. تركته ذات صباح صيفي ساخن. أنا راحلة سأغادر. حاول أن يمنعها، أمسك بكل قطعة في جسدها، توسل روحها. لهذا أتركك. توقف فالذكرى تخدر العضلات ويتشربها الجسد ببطء كترياق يرفع الروح إلى السماء قبل أن يعيدها إلى الأرض.

عاد من جديد، ليفكر في إنقاذها. ليسا إلا رجلين وان تدخل قد يعلو اللغط فيرتبكان ويغادران وقد يأتيه الدعم من حيث لا يحتسب، قد يرسل الله طيوره مطره وحجره ولن يكون وحيدا.

توقفت عن المقاومة، تعبت مفاصلها وارتخت، تدلى حذاؤها من قدمها وتبعثر شعرها الكثيف. اقترب أكثر، اتضحت ملامحها وظهرت تفاصيل وجهها الدائري واقتحمت حياته الآن، أصبحت جزءا منها. لا يعرف هل يستطيع العيش بلا ندم بعد ما رأى شكل أذنيها واعوجاج أنفها. كان الندم يرافقه، لم يكن ندما هادئا باردا، يتذكره الإنسان قبل النوم كما يتذكر غسل أسنانه ليصبح طقسا من طقوس الليل، ولا ندما يفتخر به ويجعله يؤمن أنه إنسان بقلب يصلح لجميع أشكال الطبخ ويتسع لكل أنواع التوابل . كان ندما ممزوجا بالغضب، يأكله ويعذبه، ندما مذنبا يؤدي إلى الانتحار أو القتل، لا يتخلص منه إلا أن سقاه بالألم والدم.

كانت تبكي وتشهق كما كان هو منذ سنتين، فلتت منه ابتسامة محتشمة لجمها بقوة. نظر إلى ساعته وعكس ما كان يعتقد، تمنى أن يتأخر القطار وأن لا يضيء الكون. كان ألمها كبيرا ولن يماثله ندم، لن يستطيع نسيانه بماء الحياة والعقاقير الطبية. كان يعي أنه لن يستطيع أن يعيش بمثل هذا الندم.

أدرك أنه أمام اغتصاب جماعي على الساعة الواحدة ليلا، يعيش أدق تفاصيله دون أن يتعاطف مع أحد. سيمر زمن وتنسى الفتاة وربما يقابلها في متجر لبيع العطور، قد تحبه وتشتهيه وقد يهديها عطرا برائحة السكر المقرفة لكن أن تعاطف مع جسدها الآن فلن يعيش إلى أن يقبل شفتيها.

حركت رأسها والتقت عيناهما. هل كانت تنظر إليه؟ هل رأته فعلا؟ ارتفعت حرارة جسده فللعيون ناموس وقاموس لا يفهمهما إلا المنهزمون.

اقترب أكثر، الفضاء مفتوح أمامه، انتبه إلى أنه الأقوى. هي الآن تئن، ولا تتحرك تكتفي بثني أصابع قدميها إلى الأمام وهما يعبثان بأوراق جسدها. تقدم، صرخ وضرب يمينا وشمالا وانتهى الأمر بنقط دم قرب شفته العليا. كان ذلك سريعا، سهلا وبسيطا. جلس على الأرض الباردة وهو يفكر في عدد المرات التي اختار فيه أن يتوارى كفأر حتى نسي مذاق الدم.

كانت أمامه تجمع شتاتها وتعيد تصفيف شعرها، تخرج مرآة صغيرة وتثبت عدساتها اللاصقة. يتحرك صدرها بعنف وتشنج كبيرين والعناكب في يديه تريد أن تبني عشا بين نهديها.

التقت عيناهما من جديد، كانتا متقدتين تحرقان الظلام، نظرة هجينة فيها لؤم المحقق وحرارة المتهم. طلبت منه سيجارة، كان لا يدخن. أحس بإهانة ثقيلة، في الواحدة ليلا ولا رجل غيره وهو لا يملك سجائر. خزي مضحك يغتاله. تنهدت وبصقت جهته بعنف هو الذي أنقذها من أجل سيجارة تهينه. كان يكره شفاه المدخنات، كانت زرقاء لا كالماء أو السماء. زرقاء قاتمة زرقاء سوداء لا حزينة ولا غاضبة زرقاء متسخة زرقة رضيع ميت ووشم قديم لقيط. شفاه محفورة خشنة ككدمة ملاكم. تنسى في حضور المدخنات أن لهن فما إلى أن يفتح التنين فكيه ويطلق القطار دخانه وصفيره. لو كان للدخان نفس التأثير على العيون لما هجرته زوجته.

أحس بحضوره ثقيلا ودون معنى، أدى مهمته الإنسانية وعليه الانسحاب. السيجارة كانت ستدخله إلى عالمها، كان سيبدو أخف وأقرب. لا زالت خمس دقائق والفراغ مرادفه ليلا الغواية. تقدم ليكسر الرتابة ويلون الذكريات برائحة السكر.

مر القطار سريعا أمام الموقف ونام أخيرا، أغنية تمتد

وتمتد.