تقرير يتأمل صور متفرقة تلامس في العمق بعض من حالات إبداعنا العربي، ومن خلال العودة لأحد رموز الحركة الشعرية العربية المعاصرة والذي خلف منجزا شعريا لافتا ومهما، يتوقف الشاعر والكاتب والفلسطيني عن بعض المفارقات اللافتة اليوم في الكتابة الشعرية العربية لبعض رموز الجيل الجديد، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالقصيدة العمودية.

في محبة القصيدة

نمر سعدي

 

في الثالث من آب عام 1999 رحل عبد الوهاب البياتي وأظنه كان يوم أربعاء أيضا.. أحببت البياتي حبا روحيا وانشددت أكثر للسياب ولكن شيئا ما في قصيدة البياتي جعلني أتعاطف معها.. السياب في كلِّ استدعاءاته للمرأة أو تبرُّمهِ بمرضهِ كان يبكي بانفعال وغضب بينما البياتي في كلِّ تجليَّاتِ حبِّهِ كان ينتحب بأناقة وزهوّ وكبرياء، مرة سألت الشاعر الكبير سميح القاسم عن الفرق بين البياتي والسياب فقال لي أن البياتي طوَّر أكثر في أساليب كتابة القصيدة العربية الشيء الذي لم يتح للسياب لقصر حياته مع أنه كان أكثر موهبة واحتراقا بنار الشعر ولكنه مات في أوج شبابهِ وعنفوان قصيدتهِ.. البياتي يشبه محمود درويش في نقطة مهمة جدا، أنه لم يكتسب أهميته الشعرية إلا في مرحلتهِ الشعرية المتقدمة أي أن دواوينه المبكرة برأي النقد لا تنطوي على اجتراح تغيير درامي وحقيقي أو زعزعة جذريَّة في بنيةِ الشعر العربي حينذاك.

ماذا يبقى من البياتي اليوم؟ يبقى منه كل شيء، خصوصاً الشغف الفطري بالحياةِ وجماليات النحيب الإنساني في كل ما كتبَ بدءاً من أواخرِ الستينيات حتى رحيلهِ.

*

 

غالبا ما تشكِّل الكتابة توازناً روحانياً لي أو تبديداً لطاقةٍ غيرِ مرغوبٍ بها إذا احتبست فانها لا ريب ستكون ضارَّةً.. عندما تحتبس قصيدةٌ ولا أستطيع كتابتها لأيامٍ أو ربما لأسابيع على الرغمِ من تمايلِ أطيافها في مخيِّلتي فإنني أُرهق نفسي بالأعمال الشاقة حول البيت.. أخلق عملا من لاشيءٍ.. أو أذهب مشياً على الأقدام في رحلة إلى وادي صفوريَّة الذي يبعد عن بيتي حوالي سبعة كيلومترات وأعود.. ثم أخلد بعدها للنوم وأنا منطفئ من التعب.

إذا احتبست القصيدة أياما فأنت ستقاتل الهواء من العصبية بلا سبب.. حتى من غير أن يقلِّد أحد الأشقياء الصغار صوتَ الكلب قريباً من نافذة نومك.. أو يمازحك أحد الأصدقاء باتصال عبثي وهو يرغي كلاما غير مفهومٍ.. أو يقضُّ راحتكَ معتوهٌ آخر عبرَ إتصال مزعج في السادسة صباحاً بصوتٍ يشبه زعيق صفارةِ الإنذار.

*

لماذا يصرُّ بعض(الشعراء) الذين لا يعرفون البحور والأوزان على كتابة القصيدة الموزونة؟ طالما أنك لا تعرف البحر الكامل من البحر المتوسط لماذا تكتب عشرة أسطر على إيقاع الكامل وفي السطر الحادي عشر وبطريقة فجائية من دون سابق إنذار تصدمنا بجدار نثري سميك وغير موزون..؟ يا رجل إرحمنا.. هلكتنا.. كرهتنا بالبحور والأوزان.. تسوق بنا وكأنك في سباق رالي متهور.. تخفض من الغيار الخامس إلى الأول فجأة وتفرمل وأنت في أقصى سرعة.

*

أحبُّ الشعراء إلى نفسي الصعاليك بقلوبهم حتى لو كانوا أرستقراطيين، فالصعلكة الحقيقية هي صعلكة القلب.

*

هذه التفاصيل الصغيرة جداً ..جداً .. لامرأة تحملُ طفلتها التي لا تتجاوز السنتين بحمَّالةٍ قماشيَّةٍ ملوَّنةٍ على صدرها وهي تمسكُ بكلتا يديها روايةً من رواياتِ البيست سيلر وتتصفَّحها بشغفٍ سريع وهي تنظرُ في ساعة اليد مرَّة وإلى الطفلة الشقراء مرَّة أخرى، هذه التفاصيلُ الصغيرةُ جداً.. جداً.. ليتني أملكُ الأعصاب الباردة والنفس الكافي لكتابتها.

*

لماذا يصرُّ بعض(الشعراء) الذين لا يعرفون البحور والأوزان على كتابة القصيدة الموزونة؟ طالما أنك لا تعرف البحر الكامل من البحر المتوسط لماذا تكتب عشرة أسطر على إيقاع الكامل وفي السطر الحادي عشر وبطريقة فجائية من دون سابق إنذار تصدمنا بجدار نثري سميك وغير موزون..؟ يا رجل إرحمنا.. هلكتنا.. كرهتنا بالبحور والأوزان.. تسوق بنا وكأنك في سباق رالي متهور.. تخفض من الغيار الخامس إلى الأول فجأة وتفرمل وأنت في أقصى سرعة.

*

سؤال منطقي.. ما فائدة أن يكتب الشاعر قصيدة تفعيلة أو قصيدة عمودية طالما أن الأغلبية الساحقة لا تعرف البحور الشعرية العربية والأوزان والايقاعات ولا تفرِّق بين قصيدة النثر والشعر الموزن وبين الرمل والسكَّر.. ومن المستحيل في النهاية أن تقنع أحدهم بأن ما تكتبه موزون؟

*