أمران كشفتهما المعركة الانتخابية الأخيرة في إسرائيل:
الأول هو إجماع جميع الأحزاب الصهيونية على بقاء الاحتلال في القدس والضفة الغربية، كما أن بقايا اليسار الصهيوني بشقّيه العمل وميرتس، تحالفت مع قوى يمينية خوفاً من عدم تجاوز نسبة الحسم الانتخابية، فصار المشهد الإسرائيلي اليهودي صفاً واحداً بعدما قام اليمين القومي بابتلاع اليسار.
الثاني هو وجود أزمة عميقة على المستوى السياسي، في الأحزاب العربية التي تسعى لتمثيل الفلسطينيين، أصحاب البلد الشرعيين. وهذه الأزمة تتجاوز المماحكات بشأن مواقع ممثلي الأحزاب في القائمة المشتركة، لتشير إلى أن فلسطينيي داخل الداخل يواجهون أزمة بلورة خطاب وممارسة جديدين، وهم في هذا جزء من مأزق سياسي فلسطيني عام.
انهيار اليسار الصهيوني والتحاقه باليمين ليس مفاجئاً، فمنذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى واجه حزب العمل أزمة التناقض العميق بين خطابه وممارساته. فالحزب الذي بنى الدولة العنصرية حاول، وبنجاح جزئي، الإيحاء بأن حرب النكبة كانت دفاعية، ونفى طويلاً التطهير العرقي الذي مارسته الهاغاناه قبيل وبعد تأسيس الدولة العبرية. هذا الحزب الذي أسس الاستيطان الكولونيالي في الضفة الغربية ورعاه، وفي صفوفه تبلورت عنصرية تلبس قفازات ناعمة، وجد نفسه في مأزق لغوي وأيديولوجي، ذلك بأن التوليفة القديمة القائمة على تراث اشتراكي ديمقراطي كولونيالي أوروبي لم تعد قابلة للحياة أمام حقيقة الاحتلال. وبعد انهيار مفاوضات كامب دايفيد قبيل الانتفاضة الفلسطينية الثانية، أعلن زعيم العمل إيهود باراك عدم وجود شريك فلسطيني. وهكذا سقط اتفاق أوسلو، وسلّم باراك الراية لخرّيج آخر من مدرسة حزب العمل هو شارون الذي أعلن استئناف حرب النكبة.
إن الانهيار المتسارع لليسار الصهيوني منذ اغتيال يتسحاق رابين، في 4 تشرين الثاني / نوفمبر 1995، مثير ويستحق الدراسة، لأن ما قام به شارون حين تزعّم حزب “كاديما” الذي مات بموت مؤسسه في 11 كانون الثاني/ يناير 2014، كان محاولة دمج مثيرة بين شخصيتين بدتا عصيّتين على التلاقي، جابوتنسكي من جهة، وبن – غوريون من جهة ثانية. هذا الدمج الذي بدا هجيناً ومستحيلاً لحظة ولادته، تحوّل بعد وفاة شارون إلى الطموح الأقصى لليسار الذي شاهد كيف ابتلع شبح جابوتنسكي شبح بن – غوريون على يد بنيامين نتنياهو الذي تعلّم من بن – غوريون فن المراوغة، ووضعه في خدمة خطاب الجدار الحديدي الذي أسسه جابوتنسكي.
عادت “الديمقراطية” الإسرائيلية إلى شكلها الغالب: حكم الحزب الواحد الذي تخوض أجنحته معاركها الانتخابية بأسماء مستعارة. وهذا الواقع يشير إلى أن بنية الدولة الكولونيالية الاستيطانية هي بنية استبدادية في جوهرها، وأن ديمقراطيتها ليست سوى قناع يقوم بتغطية طبيعتها التمييزية شبه الفاشية.
في سيرته الروائية “حكاية عن الحب والظلام”، رسم عاموس عوز، وهو آخر “أنبياء” اليسار العلماني الإسرائيلي، صورة عن الصراع بين جناحَي الحركة الصهيونية. إن قراءة متأنية لهذا العمل الأدبي تكشف لنا أن الصراع بين الجناحين كان صراعاً لغوياً ثقافياً بين اتجاهين قوميين: اتجاه يستلهم الفاشية، وآخر يستلهم تراث الأممية الثانية الكولونيالي. الفرق اللغوي لم ينتج منه سوى فرق شكلي في الممارسة، فمذبحة دير ياسين الذي نفذها التيار التصحيحي لا تختلف عن مذابح الطنطورة وسعسع وعين الزيتون التي نفذتها الهاغاناه، وهي بالتأكيد لا تصل إلى همجية مذبحة اللد التي قادها يتسحاق رابين.
وفي المقابل، فإن هذا الخلاف اللغوي والثقافي أدى دوراً أساسياً في الاصطفافات الاجتماعية التي جعلت الليكود ينجح في استمالة اليهود العرب والشرقيين إلى صفه، جرّاء الممارسات العنصرية البيضاء ضد اليهود الشرقيين التي قام بها المباي.
هذا الاصطدام بواقع الاحتلال والاستيطان ضيّق المسافة بين الجناحين، على عكس ما يبدو على السطح السياسي، فالثنائي رابين – بيريز صاغ اتفاق أوسلو بناء على الخطوط التي رسمها بيغن في اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية. فاتفاق أوسلو لم يَعِد بأكثر من حكم ذاتي، وهنا وجد إيهود باراك المبرر لإعلانه أن لا وجود لشريك، لأن قيادة ياسر عرفات كانت تظن نفسها شريكاً في السلام، لا في الاحتلال، وتتصرف على هذا الأساس.
هزيمة الانتفاضة الثانية على يد سفاح صبرا وشاتيلا، ثم استشهاد ياسر عرفات في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2004، قادا الوضع الفلسطيني إلى مسارات سياسية كارثية أوصلت الحركة الوطنية الفلسطينية، مع سلطتَي رام الله وغزة، إلى جدار مسدود.
إن الإجماع الإسرائيلي على ديمومة الاحتلال، وخطاب ضم المستعمرات، و/ أو استمرار الوضع الراهن القائم على التوسع الاستيطاني والقمع، هدفها الوحيد هو إعادة الفلسطينيين إلى مربع الحكم الذاتي الذي يعتقد الاحتلال أنه صار يملك مقوماته الاقتصادية والاجتماعية والطبقية وأجهزته الأمنية أيضاً، ويشاركه في ذلك الأميركيون بصفقة قرنهم المدعومة بانزلاق أنظمة الثروة النفطية إلى هاوية التحالف مع إسرائيل، في مواجهة إيران التي يعتبرونها خطراً استراتيجياً ومذهبياً على أنظمتهم.
وكون الانتخابات الإسرائيلية تجري في إطار حزب واحد بأجنحته المتعددة، لا يعني أن انتقال إسرائيل إلى دولة تمييز عنصري سافر سيكون سهلاً وسلساً، فاستبدال قناع أيديولوجي قديم بقناع جديد يستلزم تغييرات بنيوية كان قانون القومية علامتها الأولى، والذي ستتبعه معارك معقدة تمسّ البنى الدولتية الحقوقية والقضائية والسياسية.
ربما كان موت عاموس عوز (2018) الذي كتب وصيته في روايته “يهوذا”، معلناً فيها حيرته أمام تأويلات الخيانة، هو العلامة الأخيرة لموت مشروع اليسار الثقافي الإسرائيلي. فهذا اليسار الثقافي الذي بنى افتراضه الأيديولوجي على الصراع بين حقّين مطلقين في أرض فلسطين: الحق اليهودي والحق الفلسطيني، وجد نفسه عاجزاً عن إيجاد حلّ لمعضلة القوة التي جعلت “الحق اليهودي” يدمّر حق سكان البلد الأصليين في وطنهم.
وكانت نقطة ذعر هذا اليسار هي حق عودة اللاجئين، فأمام مفارقة رفض حق العودة والتمسك بقانون العودة (أي حق عودة اليهود إلى فلسطين بلا قيد ولا شرط)، أثبتت مقولة الحقّين المطلقين بطلانها، لأنها رضخت لمنطق القوة الذي جعل من الحق الفلسطيني مجرد شعار فارغ من المعنى.
ومن أجل أن نفهم التحول الأيديولوجي المتسارع في المجتمع الإسرائيلي، يجدر بنا مقارنة الخطاب المعقّد الذي صاغه عوز ويهوشع بالخطاب التبسيطي الذي صاغه روائي إسرائيلي من أصول تركية يدعى بِني تسيفر يعمل حالياً محرراً ثقافياً لصحيفة “هآرتس” اليسارية. وقد أشار المعلّق الإسرائيلي جدعون ليفي في مقالته التي تحمل عنوان: “إذا كان هناك شيء يدعى ثقافة قتل فهي موجودة في إسرائيل” (“هآرتس” الإنجليزية، 29 آب/ أغسطس 2019) إلى تعليق كتبه تسيفر في صفحته في الفايسبوك بعد زيارة تعزية قام بها في مستعمرة عوفرا. يقول النص الحرفي الذي كتبه تسيفر: “في الطريق شاهدت القرى الفلسطينية إلى جانب التجمعات اليهودية، وفكّرت كيف أن الجريمة والقتل هما بالنسبة إلى الفلسطينيين نوع من الرياضة أو المتعة، أو ربما يكونان تعويضاً إيروتيكياً. ومن هذا المنظور لن يكون هناك أي مشترك ثقافي بيننا وبينهم.”
وتابع تسيفر: “بالنسبة إلى هذا الشعب الذي لا يتحلى بالوقار والمقيم بيننا، فإننا نشتاق إلى أن تقوم الأرض بتقيّئه لأنه لا يستحق هذه الأرض المليئة بالدم اليهودي المسفوك.”
صحيح أن من الظلم مقارنة عاموس عوز بكاتب متواضع مثل تسيفر، إلاّ إن المسألة اللافتة هي أن هذا الكاتب يدّعي أنه يساري، ويقدّم نموذجاً صارخاً للفضيحة الإسرائيلية الأدبية والثقافية، وقد سبق أن أطلق إدوارد سعيد صفة مثقفي الضواحي، حين حلل بؤس الثقافة الإسرائيلية السائدة، وعدم جواز نسبتها إلى الثقافة اليهودية التي يمثلها أدورنو ووالتر بنجامين وحنّة أرندت.
لا يكتفي الكاتب الإسرائيلي بتجاهل حقيقة أن آلة القتل في فلسطين هي آلة إسرائيلية صهيونية، بل يكذب أيضاً حين لا يسمّي المستعمرات أو المستوطنات باسمها، مطلقاً عليها اسم التجمعات.
وهذا الكاتب يكشف عن عنصرية كامنة تعلن التفوق اليهودي، وتدعو الأرض التي زرعها الفلسطينيون بعرقهم وجهدهم منذ مئات السنين، ودفنوا فيها آباءهم وأجدادهم، إلى تقيّؤ أبنائها.
هذه هي لعبة الحقّين عندما تصل إلى يد مَن وجد في انهيار الكوابح الأخلاقية، مناسبة لإطلاق غرائزه العنصرية التي تشكل فضيحة لغوية فاقعة، فانتفى الحقّان معاً، وجاءت العنصرية لتعلن انتصار حق القوة على قوة الحق.
المشهد الانتخابي الإسرائيلي واضح المعالم: هو صراع بين الليكود والليكود بعدما ابتلع شبح جابوتنسكي شبح بن – غوريون، وأعلن الحزبان الرئيسيان: الليكود وأبيض أزرق، أن الفرق بينهما لا وجود له، إلاّ على المستويات الشكلية التفصيلية التي من الخطأ إهمال دلالاتها في المجتمع الإسرائيلي، أو التعويل عليها في إطار المشكلة الكبرى، أي مشكلة الاحتلال والموقف من التمييز العنصري ضد الفلسطينيين داخل الخط الأخضر وفي الضفة وغزة والمنافي.
من جهة ثانية، فإن ابتلاع الخطاب القومي اليميني للخطاب الصهيوني في إسرائيل والعالم بدأ يهدد التراث الثقافي اليهودي الإنسانوي، ليجد اليهود أنفسهم في خندق واحد مع الفاشيين والعنصريين في الغرب، معلنين ولادة أزمة ثقافية بدأت ملامحها بالتبلور عبر انحياز متعاظم للديمقراطيين في العالم إلى قضية الشعب الفلسطيني، وعبر التأييد المتنامي الذي تتلقاه حركة المقاطعة.
وفي المقابل، هناك أزمة فلسطينية عميقة ميزتها الرئيسية هي غياب الوعي بدلالات التحولات التي جرت وتجري في إسرائيل والولايات المتحدة والعالم.
صحيح أن صعود شعبوية التفوق الأبيض هي مدار صراع داخلي كبير في الولايات المتحدة وأوروبا، إلاّ إن مؤشرات هذا الصعود، سواء أعيد انتخاب ترامب أم لا، وسواء أكان الشعبويون في السلطة أم لا، بالغة الأهمية والخطورة، لأنها سمحت لإسرائيل بنزع قناعها والتصرف بصفتها أحد قادة هذا الصعود في العالم.
كما أن الانهيار العربي الشامل الذي صنعته الديكتاتوريات والأصوليات، أخرج الأنظمة العربية من معادلة الصراع مع إسرائيل، بل قام بدفع بعض الأنظمة المذعورة إلى التحالف مع إسرائيل والترويج لمشروعها الاحتلالي.
هناك شعور إسرائيلي عارم بأن العالم يعطي الاحتلال الإسرائيلي الضوء الأخضر للقيام بما يشاء، فالظرف اليوم مشابه للظرف الذي سمح بتأسيس الدولة العبرية في سنة 1948، وهو أكثر حرية لأنه متحرر من الضوابط الإنسانوية التي اجتاحت أوروبا بعد المحرقة النازية، ومتحرر أيضاً من الخطاب اليساري الذي فرضه الاتحاد السوفياتي الذي اعتقد، عن سوء تقدير على الأقل، بأن رفاقه في الحزب الشيوعي وأصدقاءه في “المبام”، سيأخذون إسرائيل إلى موقف ضد الإمبريالية، ويفرضون عليها ضوابط في تعاملها مع سكان البلد الأصليين.
يبدو أن الشكل الجديد الذي تتخذه النكبة اليوم هو أنها بلا ضوابط، فالجيش الإسرائيلي يتصرف على أنه مطلق الصلاحية في الأراضي المحتلة، وليس مستغرباً أن تنتقل الممارسة العنصرية ضد الفلسطينيين في أراضي 1948، إلى مستوى جديد سبق أن اختبره الفلسطينيون في تظاهرات دعم الانتفاضة التي قُمعت بلا رحمة، وذهب ضحيتها 13 شهيداً في تشرين الأول / أكتوبر 2000.
السؤال موجّه إلى قادة القائمة المشتركة الذين كان آخر همومهم بعد تجربة التراجع في الانتخابات الماضية، هو صوغ رؤية سياسية تواجه الخطر الحقيقي الذي يتهدد الشعب الفلسطيني، وخصوصاً بعد قانون القومية.
والمؤسف أن الحياة السياسية الفلسطينية انصبّت على توزيع المقاعد، كأننا نعيش في ديمقراطية حقيقية، الأمر الذي يعني أن المأزق ليس انتخابياً، وإنما هو مأزق سياسي، ليس بعيداً عن المأزق الذي تواجهه السلطة الفلسطينية العاجزة عن بلورة أي ردّ على موت أوسلو، سوى على المستوى الخطابي.
عندما أعلن شارون بعد انتخابه في 6 شباط / فبراير 2001، وسط حمّى الانتفاضة الثانية، أنه قرر أن يستأنف حرب 1948، لم يصدّقه الفلسطينيون. وعندما انتقل صدى هذا الإعلان إلى كبير المؤرخين الإسرائيليين الجدد بِني موريس، الذي قفز من اليسار الثقافي إلى اليمين الفاشي داعياً إلى وضع الفلسطينيين في أقفاص، ومُخطِّئاً بن – غوريون لأنه لم يحتل الضفة الغربية في سنة 1948، قوبل إعلانه هذا بالاشمئزاز، من دون أن نعي أننا أمام فصل ثانٍ كبير من فصول النكبة المستمرة.
الفصل الجديد من النكبة صار واضح المعالم، وإذا كانت آثاره ملموسة وصارخة في الضفة وغزة والشتات، فإن إرهاصاته داخل الخط الأخضر تشير إلى أن فلسطينيي الداخل سيواجهون أوضاعاً صعبة ستذكّرهم بزمن الحكم العسكري البشع.
تحديات فلسطينيي الداخل بالغة الصعوبة والتعقيد، لكن تجاهل الواقع، والتصرف كأن الأمور على ما يرام، وإهمال بناء إطار سياسي ثقافي وموحد لفلسطينيي 1948، لا تعني سوى الخراب.
إن مأزق الحركة الوطنية في ظل شبح الفصل الجديد من النكبة، لا يحتاج إلى تفكير فقط، بل إلى العمل أيضاً، وأولى علامات هذا العمل يجب أن تكون تأكيد البديهيات، وبناء الأطر الفعلية لخوض معركة النضال ضد نظام الأبارتهايد الزاحف في أراضي 48 وفي الضفة وغزة والقدس والشتات. ولعل صرخة مخيمات لبنان المليئة بالأسى واليأس من الأطر السياسية الراهنة، علاوة على مشهد تهديم البيوت في وادي الحمّص، يدقّان ناقوس الخطر، مشيرَين إلى أننا في حاجة إلى احتضان تجربة باسل الأعرج كي نستعيد الوعي، وإلى صرخة حرية جديدة تدعو إلى “دقّ جدار الخزّان” كي نستفيق من هذا السبات الذي يشبه الموت.
هذه مجرد نقاط للتأمل والعمل، أمّا النص فلن يبدأ إلاّ حين تولد فكرة فلسطين من جديد.
* افتتاحية العدد الجديد من “مجلة الدراسات الفلسطينية”.