*صامويل دوك : فاجأني في فرنسا، غياب الفضول أو كراهية الأجنبي، من خلال اللامبالاة، نحو شبابكم الذي قضيتموه في بلغاريا، باعتباركم طفل زمن الحرب.
*جوليا كريستيفا: وأنا صغيرة، استمعت باستمرار لهذه الأغنية الروسية:
"يوم 22 يونيو، على الساعة الرابعة تحديدا
قصفوا مدينة كييف
وأبلغونا بأن الحرب قد انطلقت".
ولدت بعد بداية الحرب بيومين. حين بلوغي سن الرابعة أو الخامسة أدركت أن ولادتي ارتبطت بإيقاع عظيم لنزاع عالمي، ثم في نهاية المطاف، الإحساس بكوني مٌستهلكة ضمن سياق انفجار: لايوجد مكان بالنسبة ''إلي''، سوى شظية وسط عالم يكابد التخريب. فيما بعد، حدث انكفاء بلغاريا خلف الكتلة الشيوعية، إعادة البناء، العوز، الاستبداد والوعود، الحرب الباردة … كنا نعيش إذن في سليفن مسقط ولادتي، مدينة تقع في الجنوب الشرقي من بلغاريا، بالقرب من البلقان. أدركت صغيرة، أننا نخوض حربا. بحيث نسرع دوما إلى الاختباء داخل قبو، ونستمع إذاعة (BBC). نترقب الجلجلة الصوتية لراديو لندن، أشاهد الكبار يستمعون، الوجه متوتر، رسائل ملغزة، خوفهم يصيب بالعدوى. تقطن أسرتي عند مدرِّسين شيوعيين ومقاومين، يعيشون في ظل السرية. يتجول في المكان ضابط ألماني بلباسه العسكري، يخيم سواد الليل بينما نهرول نحو الدروب بحثا عن ملجأ، تمزق طلقات البندقية السماء للتحذير من القصف: أحقّا ذكريات طفل في عمر ثلاث سنوات؟ أو شُيِّدت انطلاقا مما سمعته بعد ذلك؟ إذا استحضرت هذه المشاهد السريعة، بالرجوع إلى الماضي، فلأنه قد تمحورت حولها وضدها صلابة العلاقة الأسرية.
*صامويل دوك: أثرتم دائما الانتباه، إلى عِطر نهر روز، وكذا مُتع البحر الأسود، فبلدكم بمثابة مَهْد رائع، تستحضرونه بشبقية. غير أن الذكريات، المشار إليها أعلاه، المنطوية على صبغة أكثر قتامة، لم نطلع عليها سابقا. يظهر لي بأنكم تكشفون عنها للمرة الأولى.
* جوليا كريستيفا: بدون شك لأني صرت حاليا أكثر ارتياحا مع جوانبي الخفية والمجزَّأة… تماما كشخصية "نيفي"Nivi ، في روايتي الأخيرة: ساعة الحائط المبتهجة، والتي تجسِّدني بشكل صادق أكثر من أي شخصية ثانية.
*صامويل دوك: يجد هذه التشظّي بدايته في تلك الصدمة الأولى، ثم تطور عبر تجليات أخرى، سنتحدث عنها لاحقا. بالموازاة، تنطوي مع ذلك تلك الطفولة الصغيرة المصطدمة مع التاريخ، على أوليات التماسك المطمئنة أتمنى الوقوف عليها.
*جوليا كريستيفا: رغم كل شيء، صارت بفضل أبي وأمي، فترة آمنة جدا. صورتان تهيمنان على الذكريات، توقظان أيضا أحاسيس تنضاف إليها، ثم تتدفق الطفولة الصغيرة.
بخصوص الصورة الأولى: أنزلوني من عربة الطفل، أرتدي حذاء صغيرا أسود، ثم وقفت جانبا على منشفة بيضاء. توخى والداي تخليد هذه اللحظة بحيث استطعت الوقوف لأول مرة! أمي كريستين، خلفي. يرافقني عِطرها دائما، غِشاوة من الحرير وكُنْه الورد، ثم ملاطفة فستانها الأزرق الداكن. تقف ورائي، يسندني حضورها، وتدثرني مثل حِضْن كوني، الأنوثة الأمومية أساسية. أمي، تابعت دراسات في البيولوجيا، ثم اختارت عدم ولوج سلك التدريس حتى تتفرغ لأطفالها، بدون تحسر على الأقل ظاهريا. حتما، لازلت أتذكر الصمت، الذي يغمر ابتسامتها، عندما نتحدث عن سنواتها الجامعية، شيء من الاحباط، ثم الإقرار في نهاية الأمر بالوضع، حسب اعتقادي. سيرى البعض في ذلك طابع روحية، وكذا تعقّل المقدس. هكذا، ببساطة ورثت عن أمي بأن الأنوثة تشمل الارتباط الأمومي لكن دون حرمان من حق أو شعور بذنب. لم أفهم قط لماذا يقبل النساء العيش مثل ''جنس ثان". بالنسبة إلي، تجسِّدُ الأنوثة اليقيني والحتمي في الحياة. بالمطلق، عفويا، ودون مجهود. مثلما فعلت أمي.
أما بخصوص الصورة الثانية، وهي متأخرة أكثر إلى حد ما، فقد كنت في العالم وأمام هذا العالم، بمعنى أمام مصور فوتوغرافي. أتبضع، صحبة أبي، ستويانStoyan . نحمل فاكهة الشمام، وبطيختين. طواني أبي تحت ذراعيه بحيث أعشق هذا الملاذ الذكوري بثقة مذهلة تستبعد أدنى أثر للعزلة. لا أستسلم للآخر، نحن كيانان يتعذر اقتسامهما، لكني أبتسم من ابتسامة أبي. يعتبر هذا الاندماج في الذكورية الأبوية، هزليا قدر كونه بسيطا وغير مشروط، هي أيضا صلابة أسست شخصيتي مثلما أنا، فيما وراء المنافي والهزات النفسية.
*صامويل دوك: تم تحديدكم مرارا بالسفر، والحركة، والاغتراب … أليست هذه الثقة الأبوية المتينة من خولت لكم التحليق نحو أبعد الحدود، الجغرافية أو النفسانية، وكذا التمكن من عرض فكركم؟
* جوليا كريستيفا: صفة المعالج النفساني لديكم من تتكلم هنا! نعم الخلاصات التي وقفتم عليها انطلاقا من أحاديثي تعتبر صائبة، لكني أفضل البقاء عند السرد، حيث لا تؤكد الوقائع بهذا الصدد ولا تلغي الهشاشة أو المكابدة، لكن على الأكثر تضع إشارة تحت لحظة مؤجلة… فأن أشرع في الحكي عن تحليلي ثم أتوقف، لا شكرا، أحاول ملاحقته حاليا من الجانب الآخر للأريكة، إنه حيوي.
*صامويل دوك: مثلما يروق لكم تحكون بكثير من المحبة في عملكم: اندفاعات الزمان، عن حفل الأبجدية في بلغاريا والذي شاركتم فيه وأنتم طفلة صغيرة. خلال العرض، أوكل لكم دور تجسيد وتمثيل حرف، هل تأتى نزوعكم المبكر نحو اللغة، ابتداء من ذلك اليوم؟
*جوليا كريستيفا: شغلت الثقافة، موقعا مركزيا داخل أسرتنا. الكتب، البيانو، الغناء، المسرح، الأوبرا والرياضة كذلك. فقد كان أبي أيضا شغوفا بـ"الثقافة البدنية". هل شكَّل وضعنا استثناء؟ ليس كذلك. هذه الخصومة -هروبا؟ مقاومة؟- بدت لي مشتركة بشكل واسع في هذه المنطقة من أوروبا التي تعتبر بمثابة تبادل لتأثيرات، وتمزقات، وحروب. تبقى بلغاريا بلد ملتقى طرق، غير معروف على الرغم من دخوله إلى السوق الأوروبية. اليوم كذلك، لازال البلقانيون مرادفين لـ"صانعي المتفجرات"، ويتجه التفكير نحو سراييفو. في نفس الوقت، وربما مبرر إضافي، فشعيرة الآداب، والأبجديَّة، دعمت الشعوب ولاسيما البلغاريين على امتداد تاريخهم. الاقتراب من ''المعجزة الإغريقية" ساهم بدوره في هذا الإطار: مثل نموذج ينبغي تجاوزه؟ تعتبر بلغاريا في حدود معرفتي البلد الوحيد في العالم الذي خلَّد يوما عالميا للاحتفال بالأبجدية. يوم 24 ماي، احتفاء بذكرى الأخوين كيرلس وميثيوديوسيس، وقد صار ''عيدا للثقافة".
*صامويل دوك: أود منكم معلومات عن هذين القديسين المنتسبين للكنيسة الأرثوذوكسية.
*جوليا كريستيفا: لقد اختلفت الأبحاث المعاصرة حول أصلهما (هل كانا سلافيين أو إغريقيين؟)، لكن نحن البلغاريين، نتحدث عن ولادتهما من والدة سلافية وأب بيزنطي شغل منصبا وظيفيا رفيعا. تلقى الأخوان تربية منقطعة النظير، ثم، صارا متدينين، وقد بعثهما الأب أدريان، للتبشير، لدى الشعوب السلافية في منطقة مورافيا. بالتالي، حتى يؤديا جيدا مهمتهما، فقد أبدعا أبجدية قصد ترجمة الكتابات المقدسة إلى اللغة السلافية القديمة. في عملي: اندفاعات الزمان. استحضرت تفاصيل تاريخهما: صعوبات مع الفاتيكان (نحن الآن في القرن التاسع، قبل الانفصال الكبير عن الكنيسة الرومانية سنة 1054) توفي كيرلس وسيدفن تحديدا في الفاتيكان، أما ميثيوديوسيس، فقد عاد صحبة أتباعه إلى الأرض البلغارية، وهكذا أخذت محاربة الأمية انطلاقتها من بلغاريا، قبل امتدادها إلى روسيا، إلخ. اليوم، تحمل جامعة صوفيا اسم كلميمينت الأوخريدي، الأكثر شهرة ضمن صفوف هؤلاء المبشرين بالكتابة. شاركتُ في ذاك الاحتفال الرائع، بين سنوات السابعة والرابعة والعشرين، مع كل "شعب الثقافة" : التلاميذ، يصفق آباؤهم (يقفون في صف متراصّ على الأرصفة)، لكن كذلك المدرِّسون، الطلبة وأساتذتهم، الكتّاب، الصحفيون، الناشرون، الكتبيون، الفنانون والرسامون … يعرض كل طفل تمثيليا حرفا من الحروف الألفبائية، وسط أعلام وباقات ورود، في شوارع تغمرها الأضواء، وتكتسحها الموسيقى، وعبق العطور، والكلمات. تارة تطفو الحروف مع الأجساد المتحركة، وتارة يعبِّرون بشعارات، وأبيات شعرية، وأسماء كبار الأدباء المؤرخِّة للذاكرة الثقافية.
* صامويل دوك: ما هو الشعار الذي لوحتم به؟
*جوليا كريستيفا: لقد تغير حسب السنوات. تسكنني هذه الذكريات دائما. خارجيا ، أعلم أنه من الصعب فهم كيف يمكن للحياة العائلية بأكملها الترسخ في هذه الأبجدية المقدسة، التي ابتدأت دينية، ثم صارت مطلقا لائكية بل ونواة ميثاق اجتماعي وسياسي. يعمم الحفل نفسه بداهة، ويقينا مطلقا: لكي تكون، يلزمكَ حتما أن تأخذَ موقعا ضمن الأبجدية بالنجاح في المدرسة، والجامعة، إلخ. لكن كذلك وفي نفس الوقت، ينادى عليكم بنفس الأداة الثقافية، كي تلعب على ملمس لوحة آلتها الكاتبة، والقول ''أنا'' ثم تمتلكون الحروف، من خلال الكتابة.
* صامويل دوك: بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بادر والدكم، غير المتفق تماما مع التصورات المثالية للنظام الشيوعي، نحو توجيهكم إلى دراسات اللغات الأجنبية، وكذا نوع من الفلسفة العالمية.
*جوليا كريستيفا: لقد أعلن بأن هدفه في هذا الوجود ينصب على: "انتشال ابنتيه من مصير الجحيم"، تعبير مجازي متشائم نحو بلدنا: "لا توجد وسائل أخرى للقيام بذلك سوى تعلم لغات، هل الأمر واضح، عليكما التحدث بلغات أجنبية. وأن تتمتعا طبعا، باستقلال مادي". يقول أبي بأنه تصور تضمنه الإنجيل، لكني صادفته فقط عند دانتي، في الترتيل الأخير من القصيدة الملحمية الجحيم، تحديدا الدائرة التاسعة: (burella) باللغة الايطالية، من خلال صورة ''قلب ممزق'' المنتشرة فوق الأرض. هل شكَّل ذلك هاجسه، وكذا "روايته العائلية" السرية؟ بالنسبة لأبي، يعكس ''كريستيف'' أي لقب أسرتنا، المعنى الحرفي لـ"الصليب". يقول: "اسم لم يتم أبدا ابتداعه، بل تأتى لنا من المحاربين الصليبيين الذين خاطوا صليبا على ملابسهم، نعم، لقد ثبت عبور هؤلاء منطقة التراس (القرية التي ولد فيها)، ابتداء من القرن الحادي عشر!" تكشف ايماءاتي عن تشكيك في روايته، مما "يغضبه غيظا''، فيضيف: "لست محتاجا إلى أرشيفات كي أعرف تلك المعطيات! على أية حال، لقد اختفوا منذ قرون عدة، أعلم ذلك، هذا كل شيء". بالنسبة إلي، هذا الاعتقاد دون دلائل تاريخية يفاقم حالته، مع ذلك، أثار شعوري اشتقاقه الافتراضي. إلى حد أني استعدت ذلك في عملي: قَتْلٌ في بيزنطة!
*صامويل دوك: كان السياق الثقافي لبلغاريا مواتيا، والاحتفال بعيد الأبجدية، تحريضا مؤسساتيا على القراءة والكتابة. أيضا، يبدو لي أن أسرتكم لعبت دورا كبيرا فيما يخص توجهكم الثقافي. كتب دانييل سيبوني ما يلي: "يقرأ طفل عندما يرتبط بشخص يحب القراءة". هل كان يقرأ لكم والديكم حكايات؟ كيف تأتى لكم بفضلهما عشق الحروف، أي ما سيشكل علَّة وجودكم؟
*جوليا كريستيفا: بالقراءة تحديدا. فأن تقرأ اعتُبر أساسيا. نعم، كانا يقرآن لنا والدفع بنا نحو قراءة حكايات من الكلاسيكيات البلغارية، وكذا النصوص الكبرى من الأدب الروسي. نتكلم ونحن على الطاولة، عن عملنا المدرسي، وكذا دروسنا الروسية والفرنسية. لقد درس أبي اللاهوت، ثم الطب، بعد ذلك، وكان شغوفا بالأدب. مباشرة بعد الحرب، أرسلت الحكومة الشيوعية كل طبيب شاب للممارسة في القرية. لكن أبي فضَّل التنازل عن الطب والبقاء في صوفيا، كي تتمكَّن ابنتاه من القيام بدراسات جيدة. ثم نظرا لشعوره الديني القوي، فقد انتمى إلى إدارة الكنيسة، مما ضمن الحد الأدنى من الحيوية لأسرته، بحيث انكب على أعمال عدة تهم إعادة الكتابة، وكذا النشر والترجمة عن الروسية من أجل توفير حاجيات ميزانية نهاية الشهر. لم يتوقف عن الغناء في حفل القُدَّاس وكذا صحبة العديد من الأجواق الدينية والعلمانية. لذلك، مثَّل بالنسبة إلي أذني الموسيقية، أما أختي إيفانكا Ivanka، فقد ورثت منه هذا الجانب بكيفية مذهلة. هذا البعد الروحي الذي توخى هيمنته على جماعة أفراد أسرتنا، سيتصادم مع العقلانية العلمانية جدا، عقلانية أمي العلمية، والتي بحكم دراساتها البيولوجية، ما فتئت تدافع عن أفكار داروين، خلال "سجالاتنا الثقافية" على طاولة الأكل. مع ذلك، لم يكن متوقعا أن امرأة بمثل تربيتها قد تذهب غاية التشاجر مع زوجها. كنت أنا من يأخذ مشعل الجدال! وصفتُ هذا الأب العزيز، بالديناصور، والمتخلف، والمتحجر. أوصاف تشعره بإساءة بليغة، فتندلع شرارة المعركة (قهقهات). تكتفي أختي بإقرار انتقاداتي وتبدو أقل حدة مقارنة معي. ثم أتلقى وحدي الضربات العقابية! في زاوية من الغرفة، أجثو على ركبتيّ! متَّهمة، لكني أشعر داخليا بالفخر، فقد لعبت دور الطفل المتمرد على "العمى الأبوي''. ولا شيء أقل من ذلك! تستنكر أمي تجاوزاتي بيد أنها لم تكن مستاءة، في قرارة نفسها، مادامت ابنتها تجرَّأت على أن تجسد الصوت المدافع عنها. فيما بعد، مع أنها تكابد مرارة العزلة- حينما غادرت ابنتاها بلغاريا –عملت على تشجيعي وأنا في باريس قصد التمسك باختياري المتمثل في العيش كامرأة متحررة. لقد اعتقدت بأني رحلتُ نتيجة غضب أبي ومعاقبته للفتاة الصغيرة التي ''لاتتوانى عن إبداء معارضتها''. لم تتخيل قط أن علاقتي بأبي يسندها حب غاية الموت!
* صامويل دوك: من لا يثور يعتبر ميّتا نفسيا.
* جوليا كريستيفا: بالضبط. لا أستطيع البقاء هادئة، رغبتُ في الافصاح عن اعتراضي. تعلمون، كان الجو عندنا ثقافيا جدا، لكن ليس قطعا تقليديا، بل بالأحرى مرسِّخا للفكر النقدي. يتماهى أبي مع اللعبة ويمنح أهمية إلى حماقاتي كمراهقة عنيدة، حدَّ إخفاق ردة فعله، العاطفية، في إخراسي، وتأخذ المواجهة أشكالا محتدمة يلزمني، أن أستوعب، لاواعيا، بأنَّ هذا الاهتمام الأبوي المتظاهر فوَّض من بعض النواحي معارضتي، ومن ثمة التصعيد.
* صامويل دوك: على العكس من ذلك، أظهرت كتاباتكم ثورتكم تلك، بصيغة أكثر رزانة مقارنة مع أختكم.
*جوليا كريستيفا: ولدت إيفانكا حينما كنت في عمر الثالثة ونصف. لقد حملت الاسم الشخصي لجدي من جهة أمي، إيفانIvan . كان البلد سنة 1945، شيوعيا ثم غادرنا مدينة سليفن. قبل القدوم إلى صوفيا، مررنا عبر يامبول، مسقط رأس أمي حيث يعيش جدي وجدتي من جهة أمي. أما أبي، الذي فقد والديه، فقد عاش يتيما، وتربى في كنف جوردانا، سيِّدة أرملة، صديقة للعائلة، كانت مربيتي أيضا. جوليا، اسمي الشخصي، يمثل اعترافا من طرف والديّ، تحديث الاسم الشخصي لهذه الجدة المتبنية، جوردانا، بحيث يعود الاشتقاق إلى اسم النهر التوراتي، جوردان.
* صامويل دوك: هل ''فقدتم''، على نحو ما، والدتكم؟
*جوليا كريستيفا: لا تعلمون إلى أي حد، صواب ملاحظتكم هذه! كانت أمي في البيت، تكابد مخاض وضعها لأختي، لذلك أرسلتني كي ألهو في منزل الجيران صحبة آنAnne . صديقتي التي كرهت والدتها، سيدة أنيقة وفاترة، أظنها معلِّمة، حريصة على تغنِّجها في الوقت الذي يتضخم بطن أمي. أستعيد المشهد ثانية: حدث أني كنت ظمئة جدا، ورغبتُ في تناول كوب ماء كبير، لكن "الساحرة'' أجبرتني على الارتشاف بملعقة صغيرة. تقريبا قطرة قطرة. أمر غريب، أليس كذلك؟ هوس امرأة شديدة الاحتراس، شعرت معها بالحنق ذاك اليوم؟ أيعتبر هذا ذكرى؟ أو مجرد تأمل شارد يخفي إحباطي الناتج عن ولادة أختي؟ أشعرتني العودة إلى لحظة الرضاعة، بالغضب، فدفعتُ بعنف الملعقة المتجهة صوب فمي ومعها السيدة، التي اشتكت من أمري إلى أبي. بالتالي، الفضيحة !تعرضتُ لتوبيخات عنيفة في المنزل، لكن على أية حال نجحتُ في جعلهما ينسيان للحظات معينة المولود الجديد. رفضت طيلة يومين، تناول الماء. مزهوة بغضبي وكذا السيطرة على عطشي. لازلت في حدود ثلاث سنوات ونصف، ثم أتحدى ''الساحرة'' والرمي بملعقتها الصغيرة؟ أهملتني أمي واهتمت بـ''منح الثدي'' إلى الدخيل. لم يغضبني أبدا موقفها، بل انتقدت نفسي. لكني انتقمت من الجارة.
مشهد ثان، ضمن سياق ذلك. كنا نتجول في صوفيا، بين ممرات حديقة وادي الورود، ثم تخلصت من أمي، وشرعت أجري بسرعة كبيرة، وقعت، جرحت ركبتاي، أترنح، تمسِكُ بي ثانية، شاحبة، مذعورة: "ماذا بكِ؟ أتركيني أرى! "لم أبكِ قط أو أشتكي: "لا شيء، لا شيء أبدا، أمي؟ "ستصبح هذه الإجابة أسطورية داخل أسرتنا.
*صامويل دوك: تكون الفتاة، على سيرة أمها؟ تماثل، انعكاس، نزوع وامتنان، ترميم للسيئ…
*جوليا كريستيفا: تشبعت كثيرا بتصرفها الأمومي الكٌلِّي، وكذا كمية العِطْر والتيقظ المعقلن، ثم تأثري بالتفضيل الصلب لأبي، بحيث لم أحس بأنه قد اهتز نتيجة قدوم الصغيرة ''الجديدة''. في المقابل، يُفترض أن وضعيتي باعتباري الطفلة البكر، التي تشد انتباه الآباء، ستشكل بالنسبة إليه ضغطا ثقيلا، وأيضا على "الصغيرة". كنت وأبي قريبين جدا من بعضنا البعض، ينتزعنا التواطؤ أكثر من المنافسة. تمكنت مبكرا جدا، بفضل علاقتي مع أختي، من تقدير مواهب امرأة أخرى، دون غَيْرة، تفوقت علي. نعم، والحال كذلك! لقد امتلك أبي صوتا جميلا جدا لكنه لا يعزف على أي آلة. بفضله انتقل إلينا الولع بالموسيقى. هكذا اقتحمتُ بلهفة دروس الغناء لكن نتائجي افتقدت لدرجة التفوق الذي حققته في المجالات الأخرى. صراحة، وجدتُها محزنة! (قهقهات). مقابل هذا، أبانت أختي إيفانكا عن براعة. امتلكتْ مطلقا أذنا موسيقية، مثلما سيحصل مع ابني دافيد. اشترى لها والداي آلتي بيانو وكمان، ثم قُبِلت في ثانوية للموسيقى بمدينة صوفيا، دقيقة الانتقاء، حيث يطور الشباب الموهوبون ملكاتهم، باتباعهم لبرنامج مدرسي إلزامي. قدمتْ حفلات، تابعناها بانتظام، وكانت مدهشة! أصفق لها، وأستحسن صنيعها. لازلتُ غاية اليوم، أصغي إليها حينما تتمرن على آلة الكمان استعدادا لحفلها المقبل: نيكولو باغانيني، يوهان باخ، دميتري شوستاكوفيتش.
*صامويل دوك: ربما لأنكم أقمتم باطمئنان، داخل مساركم الخاص.
*جوليا كريستيفا: أن يوجد عالم آخر غير عالمي، غريبا ومنيعا، يملؤني بالاحترام، وكذا نوع من الامتنان، أعتقد ذلك، دون أدنى ارتياب في نشوب نزاع ما. طيب، ضايقني، عزفها آلة الكمان باستمرار داخل الغرفة المجاورة، مما يشوش على أفكاري، لأني أفتقد حينئذ إلى الهدوء! تخاطبني أمي: "لامجال للكره لديكِ". كلامها صائب، لكنها صفة لم تمثل قط ميزة، حسب اعتقاد أمي، بل تبقى ضعفا أيضا، وأنا أتبيَّن شخصيتي، فيما بعد، حيال الهجومات التي أجبرتُ على مواجهتها، بحيث يكمن ربما مصدر ذلك، في غياب الحَسَد حينما أصغي لإيفانكا وهي تعزف السمفونية الخامسة لموزارت.
* صامويل دوك: هل ظلت أختكم في بلغاريا؟
*جوليا كريستيفا: لا. لقد تابعت دراستها في موسكو وتحديدا معهدها الموسيقي، بجانب موسيقيين كبار، ضمنهم إيغور أويستراخ. ثم سويسرا، حينما ساعدنا بيير بوليز (مؤلف موسيقي) كي تحصل على منحة لولوج معهد مدينة بازل. أنجزت أختي أطروحة للدكتوراه في علم الموسيقى، قبل أن تصبح أستاذة في جامعة باريس - سان- دونيس، كمتخصصة في الموسيقى الكلاسيكية، والحديثة والمعاصرة.
*صامويل دوك: تقاسمت على أية حال أختكم مع والدكم مجالا لم تستطيعوا أنتم الولوج إليه. ماهو الموقع الذي شغلته ضمن الديناميكية الأسروية؟ أنتم جسدتم، ''الصبي" المتمرد، لكن بالنسبة إليها؟ كيف نسجت علاقتها مع الأب والأم؟
*جوليا كريستيفا: لأني شغلتُ أساسا هذا الدور، لم ألاحظها في الواقع شخصية متمردة، بل أكثر تكتما وحدسا، وحساسية وملحاحية، تشهر حريتها، بين برلين وباريس، ضد التقاليد، بكثير من القوة والشجاعة. بعد مسار اهتمت في إطاره على العزف، انتقلتْ إلى حقل الاهتمام بالتنظير للموسيقى، عمل شخصي جدا وفي غاية الدقة، تحت اسم لقبها كمؤلفة: إيفانكا ستويانوفا.
* صامويل دوك: نشعر أحيانا بأن الأب يحتل مكانة مهمة جدا بين طيات كتاباتكم، لقد تأثرت كثيرا وأنا أقرأ المقاطع المتعلقة بهذا الأب، في كتابكم: قَتْل في بيزنطة. وقد منحتموه تقديرا مدهشا: "ولجتُ المقبرة، تغمرني الدموع ويستغرقني الصمت. الوجه الليلي لصمتنا الشمسي. لأن أمي كانت امرأة تقبع داخل هذا الصمت الذي أحاول أن أخبركَ عنه. أكثر النساء تحفظا، وسيقول البعض أقل هستيرية، ولم تكن قط مكتئبة: أتعتقدُ بأن هذا غير قائم أبدا؟ لكن، إن كانت هذه المرأة موجودة بل وأمي، فلا تتفاجأ أبدا بالفعل المتجلي وفق صيغة الحاضر، إنها هنا، بيننا. صمتنا جدّ شفاف بحيث أعتقد أني لم أختبر ضرورة أن أحدثكَ عنها، أو ليس بما يكفي، ربما. إذن سأرحل ، حسب ما يلزم من الصمت، ولا جدوى، كما قلت، من إخبارها بذلك. نكتب إبان حالة حداد، ما نعجز عن قوله، فيمثل ذلك مزيدا من الصمت، وأعلم بأنكَ ترخي السمع إلي".
*صامويل دوك: كيف تصفون والدتكم: كريستين كريستيفا؟
*جوليا كريستيفا: كانت قليلة الكلام، ودودة جدا، تحب ملاطفة ابنتيها، متأنقة كذلك، طاهية ماهرة، ثم إلى جانب مختلف ذلك بارعة في علم الرياضيات! عشقت الأرقام، بحيث تساعدني في حلِّ تمارين الرياضيات والهندسة المعقدة جدا، مع أنها منكبة على شؤون البيت، المطبخ أو التطريز. أمي، ألهمتني مشروعي المتمثل في الذهاب إلى الاتحاد السوفياتي قصد دراسة الفيزياء الفلكية، بالتالي توخيها الضمني بلورة أمنية تهمها شخصيا: تطلٌّع طوباوي لم تحققه أبدا، لكني عشته إلى جانبها، حين مساعدتي في التحضير لأولمبياد الرياضيات. كريستين، الغامضة جدا، المحتفظة بكل شيء داخلها، كانت أيضا رسامة بارعة. تدرك يداها فعل كل شيء، بما في ذلك حياكة أقمصة صوفية، وخِياطة فساتين جميلة لابنتيها، حتى يظهران مثل أميرتين حقيقيتين وسط الأطفال الآخرين، خلال تلك الحقبة التي أعقبت الحرب، المتسمة بالعوز. خلال معرضي في متحف لوفر: رؤى أساسية، الذي أهديته إليها، استحضرتُ في تقديم لفهرسه ذكرى "أساسية" بالنسبة إلي. كنتُ وأختي، بصدد الاستماع إلى برنامج يعرضه المذياع للأطفال، والزمان شتاء، قارس جدا، جالسين قرب مدفأة متوقدة. انتهى البرنامج بمسابقة، طرحت التساؤل التالي: "ماهي وسيلة النقل الأسرع في العالم؟''، مع ضرورة رسم الجواب. أجابت أختي : "الطائرة". في حين قلت أنا: "سبوتنيك" (قمر صناعي أطلقه الاتحاد السوفياتي). أمي بجانبنا تطهو الطعام، والجو دافئ، فأجابت بدورها: "الفكر''. لأني اعتدتُ دائما على الإدلاء بالكلمة الأخيرة، سارعتُ إلى تقويض جوابها، بحجة استحالة رسم الفكر. بيد أنها لم تتردد في تأكيد جوابها ثانية: "سَتَرَيْنَ!". فبادرتْ إلى رسم شخص من الثلج أمام الشمس. شعاع يقطع رأسه، وينحني. في الزاوية اليمنى، عند أعلى الرسم، يدور سبوتنيك حول القمر. فالإنسان عرضة للتلاشي، لكن فكره يعانق السماء. بعثنا بهذا الرسم وكُنْتُ الفائزة بالجائزة.
*صامويل دوك: طفلة صغيرة مبتهجة بجائزتها الأولى، ضمن سلسلة طويلة جدا! ربما هي الأقل قيمة، مجرد مسابقة عبر الأثير، لكنها حتما الأكثر أهمية وتقديرا، قياسا مع كل مثيلاتها.
*جوليا كريستيفا: هل رأيتم، كيف أن هذه الحكاية الصغيرة تختزل الجوهري لدى أمي. قد يرثي البعض لحالها، لكونها انزوت، وتحولت إلى سجينة لمنزلها، مكتفية بأطفالها. لكنه، إشكال غير مطروح بتاتا لدى كريستين؛ لأنها كانت سعيدة بوضعيتها تلك. لم يحدث لها بين طيات هذا المشهد الكوميدي، ''محو'' كي ''تخلي'' المكان إلى ابنتها. والأخيرة لم تسرق الجائزة كي تحقق الانتصار بدل أمها. لقد ربحت الجائزة ما دمت قد فزتُ بها. تحول جوهري مدهش، شكَّلنا وحدة في إطاره، مع احتفاظ كل واحدة منا بموقعها. لكن من الناحية الجسدية، أشبه أبي.
*صامويل دوك: لنتحدث عنه. قلتم بأنه أورث لديكم "خفة التعبير". حظي الأب بأهمية قصوى، في كتاباتكم، الواقعية أو المتخيلة، التي تروم أحيانا داخل نفس الكتاب نحو العديد من الصيغ، بناء على سلطته ووظيفته، لكن أيضا بكيفية أكثر حميمة ووجدانية. بحيث كشفتم، بين طيات رواياتكم وحواراتكم، عن بعض الذكريات المتعلقة بالأب، مثل مباريات كرة القدم، التي تابعتموها جماعة. هل بوسعكم إعادة تقديمه مرة ثانية؟ وقد أخبرتموني، بأنه كان أحد يتامى الحرب….
*جوليا كريستيفا: تستعيدون جينيالوجيا صادمة يسميها علماء النفس حاليا كما تعلمون، بالعابرة لمختلف الأجيال. كان جدي من جهة أبي ضابطا خلال حرب 1912، المعروفة بحرب البلقان. قُتِل هناك، وأبي باعتباره آخر أطفاله، لا يذكر من وجوده شيئا. أيضا، توفيت أمه ميترا Mithra، بعد ولادته مباشرة، خلال الوضع. لم يبق له في هذا العالم غير أخت وأخوين. عاش أبي يتيما، من جهة أمه ووالده، واهتمت بتربيته جوردانا، التي تكلمنا عنها سابقا. إذن، استمر هاجس الموت والخوف من الفقد، حاضرين لديه، يحجبهما هذا التقارب القوي للطفل الصغير مع تلك الأم البديلة، فارتبطت الأرملة باليتيم، أحدهما مع الثاني، عبر وشائج قوية. إذن، هذا التعلُّق المبكر بالأنثوي، فيما وراء الفراغ الذي خلفه وفاة الأبوين، إضافة إلى بصمة مرتكِبِ المحارم طورا لدى الرجل حساسية مرضية وبالتأكيد انجذابه المفرط نحو الفن، وكذلك صوب العالم الآخر.
خلال مراهقته، تحتم عليه الاختيار بين منحة الولوج إلى المدرسة العسكرية أو مدرسة إكليريكية. بيد أن أسرته اختارت الاتجاه الأخير. كان موقفها صائبا. انضم اليتيم– هكذا يحب وصف نفسه- إلى المدرسة الإكليريكية، قبل انقلاب اهتمامه صوب اللاهوت والطب.
*صامويل دوك: كان يفترض أن يصير راهبا. فلماذا حدث تغير في التوجه؟
*جوليا كريستيفا : تساءلت باستمرار عن ذلك. فأكد لي دائما بأنه ترك طريق الدين كي يتزوج وينجب أطفالا. مع أن الكنيسة الأرثوذوكسية تجيز لكهنتها الزواج. أعتقدُ بأنه أراد الانفصال عن التجانس الممركز، وقد اختنق، بأجواء العالم الديني. لقد شَخَّص فرويد، تأصّل جنسية مثلية، داخل الجيش، والكنيسة، والمدرسة، والتي كي تغدو تأسيسية للرابطة المجتمعية، يحتمل أن لا تكون مع ذلك، أقل إخضاعا، عقائديا واستبداديا. نعم، تخلى أبي عن الكهنوتية، بيد أنه رغم ذلك لم ينته مع الإيمان، بل استمر يؤدي الصلاة في الكنيسة، قارئا للتوراة والأناجيل، ويكتب أعمالا تيولوجية. أتاح له الطب فعالية مجتمعية وإنسانية لم يصادفها ربما بكل بساطة في الدين. أيضا ساعده التكوين العلمي والإكلينيكي كي يتقارب مع أمي وكذا عقلانيتها العلمية، البرغماتية. كذلك، فرضت عليه فظاعات الحرب، والشيوعية رؤية مفجعة للتاريخ الإنساني، وكذا موقعه ضمن اضطراباته. أحد أصدقائه المقربين، وقائد كبير في مجال الطب، تحدث عنه أبي دائما، سبق له أن شارك في بعثة للمثقفين، أبان عن تضامنه خلال لحظة من اللحظات، بحيث بادر إلى الالتماس من الملك بوريس الثالث كي يمنع إبعاد اليهود مثلما فكرت بهذا الخصوص الحكومة المناصرة للنازية. بحيث أكد أعضاء الائتلاف إلى جانب رئيس أساقفة صوفيا، استعدادهم كي تمر المواكب فوق جثتهم، في حالة عدم تحقيق مطلبهم. لكن يهود بلغاريا هربوا من مخيمات الإبادة، وليس من القوانين المناهضة لليهود. في نهاية المطاف، تحتم على أبي اختيار الاحتماء خلف رمزية اللاهوت، كي ينبعث في ظله ومن خلاله.
*صامويل دوك: لقد توخى الأب أن تنزعوا نحو ''فلسفة الروح المقدسة"…
*جوليا كريستيفا: هل اكتشفتم ذلك! نعم كان شغوفا بالغنوصية. أشارت الكلمة الإغريقية (pneuma)(فلسفة) خلال القرن الثاني، إلى مختلف ماينتمي للفكر المقدس. لم يرغب أبي، لحسن الحظ، أن أصبح غنوصية، لكنه تصور ابنته مفتقرة إلى كمال فِطري وكذا فكريا، فقط مجرد هذا! تطلَّع على الطريقة الإغريقية-اللاتينية صوب الاعتناء بتثقيف نفسي، وأمتلك حياة داخلية ثرية وجسدا متناغمين. خلال كل فصل صيف، نذهب بالطبع إلى البحر بهدف قضاء العطل، ثم الجبل- ضمن هذا الإطار وليس تحقيقا لدافع ثان!- قصد "الاستئناس على تعقِّد الطبيعة"، وتفعيل المثال القائل: "العقل السليم في الجسد السليم''! تتخيلون الأثر أمام رفاقنا الصغار في بلغاريا! يلزم أن تمشي، تركض، وتسبح ثم تقرأ العديد من الكتب تحضيرا للدخول المدرسي المقبل وكذا المستقبل! منذ عمر السابعة والثامنة، وأنا أستيقظ باكرا وأبادر إلى تقديم التحية للشمس الهندوسية واليوغا! أؤكد لكم، ينبغي القيام بذلك! لقد ثابرت وأختي، على ممارسة ذات الأمر، وبعد الانتهاء من التمرين، نطلق العنان لضحكنا! أحببت الأمر، ثم مع مرور الأيام وجدته عاديا، ومسليا.
*صامويل دوك: الأب المؤمن، الذي تعشقونه كثيرا، سعى إلى أن يبعث لديكم القيم التي تحظى لديه بالاعتبار. بعدها بوقت طويل، ستشكل ''الحاجة إلى الاعتقاد" تيمة متواترة ومهمة بالنسبة لتأملكم. هل يتعلق الأمر بانبثاق أم اكتشاف؟
*جوليا كريستيفا: أنْ تبدع أو تكتفي بمصادفة ما تدوول سابقا؟ يظل السؤال الذي تطرحه عنا كل واقعة تاريخية، ثقافية، وفكرية، وعاطفية، أليس كذلك؟ حينما تناولتُ ثانية التفكير في ''الحاجة إلى الاعتقاد"، مفهوم اشتغل عليه مختصون نفسانيون آخرون بكيفية مسهبة، وأيضا مع ارتباط اهتمامي أكثر بالسياق السياسي الراهن، أفكر حتما في أبي. إبان حياته، وكما أشرتُ سابقا، خضتُ بصدق حربا ضد نزعته الدينية المستمرة خلف مظاهره المتحرِّرة! أومن دائما بضرورة الصراع ضد تجاوزات الأديان، من خلال الانقلاب على الإرث التقليدي، لكن وفق ''معرفة السبب''. أي بدراسة تداخل هذه الاعتقادات، ولاسيما باقتراح إعادة تشكيل مستمرة للإنسانية. تعرفون موضوعي المفضل، الذي يطمح إلى الاستعاضة عن "مرض المثالية'' التي هي الأصولية بمشاريع وأهداف نوعية: بالنسبة للمراهقين، والنساء، أمام التحولات المتعلقة بالأبوَّة، وكذا بالنسبة لأشخاص يعيشون وضعية إعاقة، أو الفترة الأخيرة من حياتهم.
خلال طفولتي، لم يظهر لي فقط إيمان أبي غير مفهوم، بل عتيق بكيفية مطلقة ولا جدوى من معرفته أو حتى مساءلته. فيما بعد، وحده الاكتشاف الفرويدي، أضاء دربي بخصوص الارتباط بين الإيمان والعقل. خلال تلك الحقبة، شعرت بسذاجة أنَّ اعتقاد أبي يجسد صيغة ثورية ضد "النظام القائم"، المتعلق بالمادية التاريخية، الذي صار شموليا، وضد الوجود عموما، ثم يعكس هذا ضمن مجريات ممارسته اليومية. استمر لدي هاجس كون أبي حين ممارسته لشعائره الإيمانية يجازف بشكل حقيقي جدا كي ينتهي به المآل إلى السجن أو معتقل غولاغ. بيد أنَّه لم يكن بطلا ولا ضحية. أخذت لدينا، النقاشات حول الموضوعات التيولوجية الصيغة البلاغية لطقس ذهني؛ لأنه من جانبه، لا يلح كثيرا في خلق الشيزوفرينيا داخل ذهني، أخذا بعين الاعتبار ما نتلقاه في المدرسة. لقد تمسك أبي باحترام قناعاته، ثم لا يحاول في نفس الآن دحض قناعاتي. نوع من "اللائكية/ العلمانية"، على طريقته وضمن سياق شيوعي.
*صامويل دوك: سابقا، أشرتُمْ إلى أجدادكم من جهة الأم، حين سفركم من مدينة سليفن إلى صوفيا، نهاية الحرب. هل يمكنكم تقديم مزيد من المعطيات حول الجماعة الموسعة لعائلتكم، وكذا أصولها؟
*جوليا كريستيفا: لقد هيأ أبي خريطة جينيالوجية لأسرته، كتَيِّب ضم خمسين صفحة. أعترفُ بأني لم أطلع عليه غاية الآن: لست متيقنة من خضوعي لهذه ''الأصول"، أو لأيِّ "مابعد-الأسرة'' الرمزية لأصدقاء أو الشركاء. أنا مرتابة جدا بخصوص ''الجمعي"؟ ومعتادة جدا في الاعتماد على ''قدراتي الذاتية''؟ بلا شك، يمثل هذا عيبا إضافيا يلزم التوضيح بأننا لم نكن قط مرتبطين جدا مع ''العشيرة'' الأبوية أو الأمومية، عشائر واجهت الصعاب والشتات نتيجة الحروب، والهجرات ثم ''الترحيل'' كما يقال حاليا. رغم ذلك، أمكنني الالتقاء ببعض أبناء العم من جهة أبي، بينهم ستويان بالوف Palov، شخص ودود جدا، شهم، أضحى صاحب مرتبة عليا داخل الجيش البلغاري وظل إلى جانب زوجته وأسرته، قريبا جدا من والداي حينما هاجرتُ وأختي نحو الخارج. بحيث اهتم كثيرا برعاية شيخوختهما، لذلك أتطلع إلى الالتقاء به من جديد بشغف شديد لحظات أسفاري النادرة إلى بلغاريا.
تقول جدتي من جهتي أمي، المزدادة في مدينة جاكوفا، الترجمة المحلية ليعقوب، بأن اليعقوبيين المنتسبين إلى أثر شخصية شبتاي تسيفي، المدعي للنبوَّة، ولم يكن ليتحولوا وجهة إسلام العثمانيين، بل الإيمان الأرثوذوكسي. هذه الذاكرة اليهودية الإيبيرية المُفترضة الغامضة جدا والمتكتمة تتستر عليها مسيحية قديمة تعود لبضعة قرون، لكنها سطحية جدا، تُمارس بين الفينة والأخرى ودون اعتقاد. الأخ الوحيد لأمي، خالي بانويت Panaiote، كان محاميا واشتراكيا، منتميا إلى تيار ''اشتراكي موسع'' حسب التعبير السياسي البلغاري، لا ينبغي خلطه مع تيار ''اشتراكي ضيق''، أو الشيوعي. أجدادي من جهة أمي، مارسوا التجارة، وأبانوا فعلا عن ذهنيات منفتحة، شجعوا كريستين (أمي) و بانويت كي يتابعا دراسات عليا، بل وحتى السماح لأمي بتعلم رياضة المسايفة إلى جانب دراساتها البيولوجية. أمر لم يكن معتادا بالنسبة لبلغاريا سنوات (1920-1930). كنتُ مرتبطة جدا مع ابنة خالي بانويت، وابنة خالتي فينيتا Venetta ، التي تقاربني في السن. اعتُبِرت صديقتي الأولى بالمعنى الكبير للمفهوم فترة العطل ثم مؤتمنة أسراري بداية المراهقة. لكنها صداقة توقفت ما بين سن الخامسة عشر والسادسة عشر، ثم بعد ذلك ابتعد أحدنا عن الثاني تماما، نظرا لظروف دراستنا الجامعية، وكذا التطورات الخاصة بكل واحدة منا.
*صامويل دوك: أحاول تصور طبيعة حضوركم خلال فترة الطفولة. كيف كنتم؟ ماذا أحببتم؟ الاختصاصي النفساني الذي أتوخى انطلاقا منه مخاطبة الفتاة الصغيرة الناضجة قبل الأوان كما الشأن معكم والمتلهفة إلى الثقافة؟
*جوليا كريستيفا: منعزلة (حسب أمي) وعنيدة (وفق رأي أبي). أجدني ضمن تصنيف كلمة ''منعزلة''، لكن الزمان أنصف تصور أبي. قلة من الأصدقاء، محدودي العدد وأقوياء. أتذكر صديقتين، قريبتين جدا مني، خلال مرحلة التعليم الابتدائي والثانوي: إيميليا وليديا. ثم، بعد ذلك، إيلين وأناستاسيا، خلال فترة الجامعة. آثرتُ العلاقات الثنائية عن الجماعة. حقا أحببتُ حياة الدراسة كثيرا. كنت، مثلما صرحتُ سابقا، موهوبة في الرياضيات، لكن نزوعاتي حملتني بالأحرى نحو المواد المحفزة على الفهم والكتابة. ولأني كنت جيدة كفاية فيما يتعلق بالتأليف، فقد هيأت يوميات خاصة، حيث دونتُ بين صفحاتها بكيفية حرة دروسا تعكس مزاجي، وأصف علاقاتي مع صديقاتي والذكور. ثم لكوني حالمة، فقد تمحورتُ على داخلي، والاهتمام كذلك بهذه العوالم الجديدة التي اكتشفتُها في المدرسة مع العلوم والخيال. أستعيد خاصة من تلك السنوات الشعور بأني هُمِّشت. كنتُ من أفضل التلاميذ، في المقدمة دائما، لكن لايتم تقدير عطائي، بالكيفية المستحقة، لأن أبي غير محسوب على الصف الشيوعي. أتذكر حتى الآن، خلال الاحتفال بالثقافة، يوم 24 ماي، التخليد الشهير للأبجديّة، وكان من المنتظر أن يوكل إلي امتياز حمل العَلَم في المدرسة. لكنها، حتمية حولت طريقها نحو تلميذة أخرى مستواها المعرفي أقل مقارنة معي، وقد ظفرت بهذا الشرف نظرا لانتماء أبويها إلى ''الحزب''. لم يكن مطروحا سواء التشكي، أو مناقشة الأمر داخل المنزل، بحيث "استوعبتُ ذلك". بل ولا حتى مجرد الإفصاح عن كونه غير مقبول.
ضمن نفس سياق هذه المعطيات، بادرتُ إلى تدبيج طلب ألتمس من خلاله الانتماء إلى فصول الثانوية الانجليزية، حيث يتوجه أفضل التلاميذ والأطفال المصنَّفين. تأخر الرد ثم ازداد قلقي. ذات يوم، لمحتُ رسالة موجهة إلى أبي، بدا لي أنها تطوي الجواب الذي ترقبتُه طويلا. أسرعتُ إلى فتحها، لكن مضمونها يجزم بعدم إمكانية التسجيل في الثانوية الانجليزية، نظرا لأن أسرتي غير منخرطة أبدا في المثل العليا الشيوعية. استشاط أبي غضبا بسبب جرأتي على فتح رسالة خاصة به، ثم في ذات الآن، كشف عن مشاعر الحزن الشديد حيال هذا الرفض، سواء بالنسبة إليه وكذا أفراد العائلة قاطبة.
لحسن الحظ، حققتُ بعض النجاح مع الأصدقاء الذكور! فحبيبي خلال مرحلة التعليم الأولي، يدعى سيميون Siméon، يطاردني كي يشد شعري ويعمل على إثارتي: سيميون يحصل على أفضل النقط في الفصل، وأظهر مستوى قويا في الرياضة، وألعاب القوى، وكرة السلة. لم أكن صاحبة عضلات بارزة ولا ضخمة جدا، مع ذلك استطعتُ الدفاع عن نفسي. الحب نتيجة التباري.
*صامويل دوك: سلامٌ إلى الشمس التي سددت التكاليف!
*جوليا كريستيفا: تماما !في كل الأحوال، ادعى قدرته على الركض أسرع مني، وبوسع الذكور التفوق جريا مقارنة مع الفتيات. ألححتُ في مخاطبة ذاتي: "تصور أبله، يدعو إلى السخرية!"، وطبعا، وافقتُ خوض سباق ضده. هكذا تطلعتُ كثيرا نحو الفوز، مما أرغمني على الاندفاع بحيث أخذتني حماستي أبعد من خط الوصول، ولم أنتبه إلى وجود دكة، فأصبتُ بجروح على مستوى الفخذ. المهم، تمكنتُ من تحقيق الفوز! ثم غاضبة، قررتُ الافتراق عن المدعو سيميون.
خلال الطور الثانوي من مساري الدراسي، كان حبيبي هذه المرة مختلفا جدا. أتحدث هنا عن أنطون Anton ، يدرس في الصف الأعلى، تلميذ لامع جدا. بعد حصوله على الباكالوريا، اختار طريق مدرسة كبرى للمهندسين، ثم بعد ذلك، واصل تكوينا دقيقا داخل إحدى المدن العلمية المغلقة، المتواجدة بالاتحاد السوفياتي، يقال سيبيريا تحديدا أو مكانا ثانيا، لم أعرف قط بالضبط. أنهى ذهابه شغفا كبيرا. بعد مرور سنوات، التقيته ثانية في باريس، وقد أصبحتُ أستاذة في الجامعة. دائما يقظا جدا، مرهف الحس، مشغول البال. حينئذ، أفصح عن مخاوفه بخصوص احتمال أن تشكل مقابلتنا تلك آخر لقاءاتنا، لأن الحرب بين المعسكريين بدت له وشيكة الوقوع، استحضرت لديه بناية الحرم الجامعي جوسيو، مخبأ مقاوما للسلاح الذري. تبيَّن بأن أنطوان يبالغ في التأويل، بحيث حول صدمة انفصالنا إلى قَدَر لنزاع سياسي.
إبان زيارتي الأخيرة إلى بلغاريا، شهر نونبر 2014 ، استُقبلتُ بحفاوة، أحسن بكثير من السابق. ربما لأن هذه المرة عملتُ على ترجمة مداخلتي وتحدثتُ بالبلغارية؟ تكلمتها بطلاقة، لكن قد يحدث معي البحث عن كلمات أثناء محادثة عادية. فلغتي الأمومية مغايرة تماما للغتي الفكرية، لأن جل نشاطي الذهني، وكذا أحلامي، تشكلا بين طيات اللغة الفرنسية. ترجم أصدقاء بلغاريون، أوفياء يتكلمون اللغة الفرنسية، مداخلاتي، وانطلاقا من ذلك، عثرتُ ثانية على اللسان القومي، وأصبحتُ قادرة على تقديم مداخلة به، ثم حاولتُ إدراج أسلوبي ضمن هذه اللغة ''الأخرى'' التي تمثل لغة مسقط الرأس. عند نهاية المحاضرة، بقيتُ في المنصة. تقدم نحوي أفراد محمَّلين بباقات ورود، يلتمسون توقيعات بخط يدي. وقف وسط الجمع، رجل وقور جدا، مترقبا، جامدا، هادئا وصامتا. يتناول صورة شخصية لي وأنا في سنِّ السادسة عشر. مفاجأة، شكرته كثيرا، فتلك الصورة تهمني، لأني لا أتوفر عليها، بالتالي أحببت الحصول على نسخة منها. بادرته بالسؤال: "كيف وصلتم إلى هذه الصورة؟". صمت برهة، ثم أجاب: "أنا أنطون". اهتز كياني.
شرع التلفيزيون البلغاري يهيئ برنامجا وثائقيا حولي، فاتصل بي مسؤول هاتفيا كي أرخص لهم، قبل البدء في استجوابي. دائما نفس اللطف. بالتأكيد، أين المشكلة؟ مؤخرا شاهدت الفيلم: "اكتشفتُ أني عاشقة لإلهة"، كما جاء على لسان الرجل الخجول. استعدتُ ثانية ما شعرت به وأنا تلميذة في سلك الثانوي، ولم أقف طبعا، على أي صلة بإلهة ما، لكنه إقرار لم يثر أبدا سخريتي. شكرته لأنه عَظَّم بطريقته أهواء المراهقة لمن استغرقتهم الحياة.
* صامويل دوك: أفهم دهشتكم، صدمتكم أمام هذا الفَقْد الماثل. لقد احتفظ بصورة لكم منذ حقبة انفصالكما نتيجة عمله في الاتحاد السوفياتي، ثم عودته، متغيرا جدا، ودون قدرة سواء على نسيانكم أو ملاقاتكم ثانية.
* جوليا كريستيفا: يتكلم أنطون اليوم فرنسية لاتشوبها شائبة. ذكَّرني ثانية بالحقبة التي تابعنا معا خلالها دروسا في مدرسة الرابطة الفرنسية. واصل بهذا الخصوص تحسين مستواه اللغوي، الصلة الوحيدة التي استمرت جامعة بيننا. بالتأكيد، تزوج بإحدى الروسيات، وقد حدثني عن ابنه. تتحدى قوة الودّ العقل وتبقي على البشر أحياء. رغم توترات التاريخ القاسية، التي تصير معها الأجساد مترهلة، لكنه مصير لا يؤثر بأي شكل من الأشكال على المشاعر.
*صامويل دوك: مابين سن الرابعة والخامسة، بادر الأب والأم نحو أخذكم إلى حضانة فرنسية. هناك شرعتم في إنشاد أغاني باللغة الفرنسية، وكذا التمكن من تعلم كيفية الصلاة بالفرنسية، وتحديد الساعة.
*جوليا كريستيفا: تماما. نعم تنبَّه أبي وأمي لهذه الفكرة الرائعة، كانت المعلمات متدينات. اعتقدتهم راهبات دومينيكيَّات. لكني علمتُ مؤخرا أن الأمر يتعلق على الأرجح بأفراد كرسوا أنفسهم للرهبنة مؤمنين بعقيدة صعود العذراء، جماعة لائكيين يقومون بأنشطة دينية لكن دون الانقطاع إلى ذلك تماما. لقد أبانت تلك الراهبات عن صرامة كبيرة وفق التصور، الماثل عند أفراد رهبان. هكذا منحن أهمية قصوى للنظام، الانضباط ، الصرامة، الاحترام، وإظهار الاحترام. نستظهر معهن حكايات لافونتين، ثم أداء بعض الصلوات. شكَّل الاحتفال بميلاد المسيح، يوما لتقديم الهدايا، دون إقامة أي قداس. لكن مع الأسف، بعد انقضاء سنتين، طردن من البلد، بعد اتهامهن بالتجسس. أشعرني رحيلهن بحسرة كبيرة، لكن أعمالهن تدوولت ثانية داخل فضاء مدرسة الرابطة الفرنسية، حيث واصلتُ تعلم اللغة الفرنسية، مدة ساعتين خلال ظهيرتين أو ثلاثة أسبوعيا، بالموازاة مع مساري في المدرسة العمومية.
يعتبر النظام الدراسي في بلغاريا، قريبا جدا من المدارس الألمانية: دروس خلال الصباح، ثم وقت فراغ فترة الظهيرة أو العكس، بحيث يخصص إلى مجالات أخرى: دروس في اللغة، الأنشطة الفنية أو الرياضية. يتدخل الآباء في اختيار الطفل. انصب اهتمامي الشخصي على اللغات الأجنبية فتعلمتُ الروسية، ثم الفرنسية والانجليزية. كنت شغوفة أيضا بالألعاب الرياضية البدنية، وألعاب القوى، وكرة السلة، والسباحة، ثم فيما بعد كرة المضرب، صحبة فيليب سوليرز … سيتوضَّح لكم، بما أن أختي إيفانكا، انكبت على الغناء وعزف آلتي البيانو والكمان؛ فقد كنتُ بمثابة الجمهور، داخل قارتنا تلك.
*صامويل دوك: مثابرة أذهلتني، بحيث يبدو أنه لم يكن بوسع أي شيء الوقوف أمامكم رغم الصعوبات، والحدود وكذا الموانع التي يفرضها النظام. رغم ذلك استطعتم التكيف، وعثرتم على الخيارات البديلة، ثم تساميتم، وتطورتم.
*جوليا كريستيفا: لابديل عن ذلك؟ هل لأن السياسة، حاضرة جدا في بلد شيوعي، دون مراعاتها قط للطفولة؟ بخصوص ما يحيط بي، أعلم بوجود فواجع كثيرة أكثر جسامة، تنشغل النقاشات بالنزاعات العالمية، بينما لا تمثل مآسي الصغيرة أية أهمية، هكذا جرى الوضع: إما أن تسير أو تموت. أختزل بنوع من الفظاظة، لكن، بالعودة إلى الماضي، ظهر أني كنت محظوظة أو بدافع الغريزة حينما راهنتُ على السير نحو الأمام. ليس الوضع أبدا على مايرام؟ إذن، ماذا نفعل؟
لقد كانت حقبة سبوتنيك (أول قمر اصطناعي)، وكذا غزو الفضاء. أقرأ مختلف ما يقع بين يداي. ثابرتُ بكيفية لابأس بها استعدادا لأولمبياد الرياضيات وتطلعتُ إلى مصاحبة صديقي أنطون في مغامراته السوفياتية التي تخيلتها متعلقة بالنجوم والكواكب. لكن، واحسرتاه، لم يكن ذلك ممكنا. ترددتُ لحظة بخصوص اختيار مجال الطب : أولى الدروس داخل مستودع الأموات أشعرتني بالتحجّر! لذلك ارتأيتُ التحول وجهة عالم العلوم الإنسانية.
* صامويل دوك: هل شجعكم الوالدان رغبتكم المتطلِّعة إلى ميدان البحث الفضائي؟
*جوليا كريستيفا: نعم، بالنسبة لأمي. أما أبي فصراحة أقل، نظرا لمعرفته بأنَّ الشيوعية ستقف حائلا بيني وتحقيق هذا الطموح. أيضا أعتقد أن فكرة إمكانية رحيلي تؤلمه. مع توخيه في ذات الوقت تخلصي من الجحيم.
*صامويل دوك: شعرتم إذن مبكرا جدا بتعطُّشٍ للهروب. إنْ عجزتم عن تحقيق سعي كهذا من خلال العلوم، فقد تأتى لكم ذلك بالقراءة. إنها سفر واغتراب لانهائيين بواسطة الكتب. اطلعتم على نصوص كبار الكتَّاب، يصعب الاقتراب منهم، وأنتم لازلتم في مقتبل العمر: دوستويفسكي، فيكتور هيغو، وآخرين. هل تستعيدون ذكرى أول كتاب قرأتموه؟
* جوليا كريستيفا: سأبقى دائما معترفة بفضل أستاذ اللغة الفرنسية الذي صاغ ذوقي نحو الأدب والثقافة الأوروبيين خلال القرن العشرين. أقصد تحديدا شخص سيريل بوغويافلينسكي، روسي من الحرس الأبيض، أرستقراطي انتهى به المطاف إلى مدينة صوفيا. تابعتُ بانتظام خلال سنوات مراهقتي، دروسه في اللغة الفرنسية داخل مؤسسة الرابطة، حيث تواجد كذلك أساتذة آخرون رائعون، غير أني أستحضر باستمرار وجهه ونبرة صوته، عندما أغمض عيناي. كنتُ المفضلة لديه، لماذا! في حين يعجز رفاقي عن استيعاب أي شيء بخصوص تطابق اسم المفعول، أتماهى بوضوح مع شروحات الأستاذ. كان المسكين مرهقا من هؤلاء البلغاريين الصغار، ويشرع في مسح جبينه بمنديله الحريري الأبيض، ثم يبتلع أقراصا بكوب ماء ويطلب مني متنهِّدا أن آخذ مكانه أمام السبورة. استلهمتُ منه جديا التشوق إلى فرنسا. فالأدب الفرنسي الذي اكتشفته بفضله قادني ثانية نحو سحر اللغة الفرنسية الذي لامسته سابقا في الحضانة، أضحى منذئذ عالَما جديدا، يقتضي بشكل مهول مع أنه قريب، انسياب الأحلام.
درسنا في المدرسة، الكتَّاب البلغاريين وكذا ''الأدب العظيم'' بوشكين، تشيخوف، تولستوي: إلى جانب طبعا ''الواقعية الاشتراكية'' لمكسيم غوركي، ألكسندر فادييف، إلخ. وقد جذبني ولع أبي بليسكوف ودوستويفسكي. هكذا قرأتُ الجريمة والعقاب لدوستويفسكي، باللغة البلغارية فترة مراهقتي، ثم رواية البؤساء لفيكتور هيغو، الكاتب الذي حثنا أستاذ الفرنسية بوغويافلنسكي على قراءته وإعادة استنساخه، بدا لي أسطوريا ومع ذلك سهل الاقتحام.
*صامويل دوك: وصلتم إلى فرنسا وأنتم تتأبطون كتابي البؤساء ومغامرات شخصيات خرافية.
*جوليا كريستيفا: كان مثيرا الصعود، صحبة طفلين صغيرين، نحو داخل بطن فيل ساحة الباستيل، "خشن، مَرْبوع، سمين، ثقيل، قاتم، مشوه تقريبا، لكنه يقينا، عظيما وموسوما بنوع من الجاذبية البديعة والمتوحشة"، مع أنه عُوِّضَ بصنف موقد هائل يُزيِّن خرطومه، "مثلما حلت البورجوازية محل الإقطاع". شعرتُ بالارتباك، حين لقائي ثانية بشخصيتي رواية البؤساء ماريوس وكوزيت في حديقة لوكسمبورغ: "كشف ماريوس كل روحه للطبيعة، لا يفكر في أي شيء، يعيش ويتنفَّس، يمر بالقرب من هذا المقعد، رفعت الفتاة الشابة عينيها نحوه، ثم التقت نظراتهما. ما الذي تخفيه هذه المرة نظرة الفتاة الشابة؟ افتقد ماريوس لجرأة استفسارها. لم تضمر أي شيء بل عكست كل شيء. إنه بريق غريب".
احتفظتُ خلال فترة طويلة، بدفتر نصوص، زاخر بجمل مستنسخة ثانية بالريشة، تعكس نوعية خطي وأنا فتاة صغيرة تحاول المثابرة. عندما وصلتُ إلى باريس، لم يكن في وسعي منع نفسي من إعادة تمثُّل حضور أبطال البؤساء بجوار الفيل المفقود، والإحساس ثانية بـ"التأثير الذي يمكن للامتناهي في الكِبَر أن يحدثه على اللامتناهي في الصغر". بحثتُ في حديقة لوكسمبورغ عن المقعد الذي التقت عنده كوزيت وماريوس. مع ذلك، فأنا حتما واقعية، فأول قطعة شعرية لقَّنتها لابني دافيد تعود إلى فيكتور هيغو: "عند مِتْراس، وسط الرصيف"، ولازال يرددها، بكيفية تتأرجح بين الشجن والكوميديا:
"لكن الضحك توقف لأن ذاك الطفل الشاحب،
ظهر ثانية بغتة مزهوا مثل فيالا Viala،
أتى ثم استند على الحائط وقال لهم: ها أنذا.
أحس الموت الأبله بالخجل ثم عفا عنه الضابط".
*صامويل دوك: يبدو أن مدرسة الرابطة الفرنسية ساعدتكم على تكوين ثقافة فرنسية موثوق بها أكثر قياسا لتلك المتوفرة اليوم للأطفال الفرنسيين؟ ثقافة ثورية، وواقعية في ذات الآن، بناء على فكر لاذع، أخرجكم من ضيق الشيوعية؟
* جوليا كريستيفا: فعلا. كان الأستاذ بوغويافلنسكي معجبا بموليير، البارع على مستوى السخرية المحرِّرة، الفرنسي التلقائي، المرِح، الطفولي، على مقربة جدا من البلاهة، لأنه عند درجة الوضوح تلك، تحاذي البلاهة العقل، تعادله، تخفيه، إذا لم يكن على الأقل العقل بلاهة وفق البرهان: وحده موليير استطاع الولوج الى ذلك. لنأخذ مسرحية المريض بالوهم، وكذا طوانيت في دور الطبيب: لقد خلقت اللغة الفرنسية عقل ديكارت ورئة طوانيت/ موليير. العِلم والعبث: العلم هو العبث، والعكس صحيح. تحتَّم على يونسكو وبيكيت الكتابة باللغة الفرنسية، كان ذلك شبه إلزامي، ووجب ترقب غاية سارتر، موليير الجدي هذا، فيلسوف العبث. الكوميديا الفرنسية عظيمة، إنها تسخر من العدم. حسب نبرة أقلّ تهريجا، لكنها على أية حال تهكُّمية، بروست، الذي فكّ شِفرة تفاهات وكذا شرور فترة الحقبة الجميلة، بواسطة جُمَله المنعرجة، اللاهثة … القَلِقة يُجَمِّلها انشراح حسي، لامتناهٍ، تأخذ شكلا حلزونيا مرتهنا، بحيث تهشِّم الزمان الحسي إلى شظايا.
* صامويل دوك: أكدتم في إحدى، حواراتكم: "أنا محض نتاج للفرنكفونية".
*جوليا كريستيفا: بالتأكيد، لكن في المقابل، دون أي إيديولوجية مضمرة. تذوقتُ الأدب الفرنسي بفضل اكتشافات مدرسية، شعرتُ بأني حرة كي أعشقه أو أرفضه، ثم خاصة الاستمتاع بما يعجبني. لم أشعر قط بأنه لوْح منحوت حسب جزء واحد. بالتالي، كانت مرجعياتي ''الكلاسيكية الكبيرة''، وستظل بمثابة أجزاء مُرْبِكة متعددة الأشكال يمارس في إطارها كل كاتب لعبته. مع مرور الوقت، توصلتُ إلى قناعة مفادها عدم وجود أدب، بل تجربة متخيلة تشتغل ضمن تعدد الأساليب، والأجناس ثم أذواق، حيث يكمن المبرر الوحيد لوجودها في الاعتراض على الفكر الأحادي المميز لمختلف التوتاليتاريات. تفهمون أن شعوري المطلق بكوني فرنسية، لا يحظر الحلم!
*صامويل دوك: لقد اكتشف دونالد وينيكوت Winnicott بأنه يلزم التخلي عن الموضوع الانتقالي لصالح استثمار نفساني للعالم الخارجي. يمكن أن تأتي بعد المنطقة الوسيطة بين الأم والطفل منطقة ثقافية. أشعر بأنكم اختبرتم هذه التجربة باكرا جدا.
*جوليا كريستيفا: ربما، لم أفكر في هذا الأمر… لقد نسيتُ إخباركم: لم تكن لدي سوى دمية، سرعان ما استبدلتها بمجموعة رفوف كتب. هكذا رتبتُ كل لعبي داخل حقيبة ثم وضعتها تحت سريري. لم يحدث قط أنِّي انجذبتُ، كما الأمر بالنسبة لصديقاتي، نحو عربات الأطفال، والدمى وكذا مأدبات الأطفال! لكن لازالت تلك الدمية الأولى تحظى بحلَّة جيدة، وقد اكتشفتْها أمي ثانية داخل دولابي ثم اصطحبتها معها إليَّ بمناسبة إحدى زياراتها الباريسية. لاتزال تحافظ على مظهر نظيف جدا، فهي مصنوعة من مادة السيليوليد . كانت هدية لأمي من طرف جدتي بمناسبة بلوغي سن الرابعة. ثم حينما أدركتُ سبع سنوات، وضعتها ثانية داخل درج. خلال فصل الصيف، أسافر لقضاء العطلة عند جدتي. أختبئ في أعلى مكان من شجرة الخوخ تجنبا لنظامها الذي يقتضي مني الولوج إلى المطبخ أو تنظيف البيت (قهقهات). في المقابل، أخبئ دفاتري بين طيات الجيوب الفضفاضة لسروالي، ثم أجلس كي ألتهم روايات سيدوني كوليت أو فيكتور هيغو، وأنا أقضم فاكهة الخوخ الأخضر. تصرخ أمي نحوي لأتوقف عن تقمص شخصية الذَّكر والنزول على وجه السرعة من فوق تلك الشجرة! تعقِّب على كلامها جدتي، جازمة بأنه إذا تواصل الأمر بهذه الكيفية، فلن تتزوج الطفلة أبدا!
* صامويل دوك: لكن على أية حال امتلكتم نوعا من الحس التنافسي … بدءا من التباري مع ذاتكم.
* جوليا كريستيفا: نعم أجاري ذلك دون معرفة مآل المنتهى.
*صامويل دوك: طورت كثيرا أبحاثكم حول المراهقة فهمنا الطبي لهذه الفترة من الحياة. كتبتم حديثا في عملكم اندفاعات الزمان: "المراهق مؤمن مُبَطَّن عن شخص عدميّ. كلّنا مراهقين حينما نغدو عاشقين". فكيف عشتم هذه الفترة بعد طفولة منعزلة؟
*جوليا كريستيفا: ديناميكي فضولية كتومة. حكيت في مذكرتي الشخصية عن صراعاتي مع أسرتي، مسألة تظل عادية، ثم ضد المجتمع، وقد كانت أكثر مجازفة. بقي هذا ''العمل" سرِّيا بكيفية خطيرة، ولم يكتشفه والداي سوى بعد مرور فترة طويلة على مغادرتي مدينة صوفيا : ''أنا رومانسية بكيفية لاتصدق"، على حد تعبير مارلين مونرو، بحيث أتبنى قولتها في هذا المقام، مما سيثير دهشة ابني دافيد. لقد خلقتُ فضاءات حرة بفضل الصحافة وكذا أسبوعية: "راية تلاميذ الثانوية''. في هذا السياق أتذكر أنّنا شكَّلنا تجمّعا من الشباب، يؤطره فريق صحفي محترف، قصد القيام بمهام البرمجة، الكتابة، النشر ثم الطبع! أول "مهنة" مارستها، فضلا عن ذلك، الحصول على مكافأة متواضعة، جعلتني أشعر بفخر شديد، بحيث أعود إلى المنزل بشيء من النقود، رفض والداي تسلمها لكن في المقابل بادرا إلى ادخارها لصالحي في حساب التوفير (لم أبلغ بعد حينئذ سن الرشد)، فالصحافة مهنتي الأولى. يؤدى عن كل روبورتاج صحفي: بوسعي إنجاز تحقيقات حول الحياة المدرسية، صعوبات المراهقين وكذا أنشطتهم الترفيهية وهلم جرا، لكن أيضا ما تعلق ببعض الموضوعات القومية، التربوية أو ذات الاهتمام العام، وطبعا قراءات في مضامين الكتب الصادرة حديثا. أيضا، نشرتُ في الجريدة أولى نصوصي السردية، والقصصية. أنا شغوفة بالمقابلات الصحفية، بحيث تستهويني أحاديث الشباب أو الفتيان، شخصيات مشهورة أو مغمورة، ذكية أو بلا كفاءة، سطحية أو تتمتع بحس نقدي، لا أضجر من إجراء حوارات. حينما، يقولون لي اليوم، بأن نوعية المثقف المفترض أنِّي أجسِّده، سيداهمه شعور الانزعاج لحظة سماعه كلاما من طرف الذين لا يمتلكون ''نفس اللغة"، و"نفس المسار"، أندهش، مادمت لا أفهم شيئا من تقييمات كتلك. فأنا مصابة بعلَّة الفضول وأطالب به. ربما نزوع ترسخ منذ حقبة صحافة جريدة "راية تلاميذ الثانوية"، حينما، استأنست ضمنيا تحت سقف الخطابات الرسمية، بلعبة تحقيقات صحفية، منذهلة بأحاديث عفوية لكل واحد والعمل على ''تمريرها''، بهدف تقويض القوالب القائمة ومعها الرقابة.
*صامويل دوك: هل شَكَّل انتقالكم إلى كلية اللغات الأجنبية التابعة لجامعة صوفيا خيبة أمل أخرى لكم بعد الأولى المرتبطة باستحالة دراستكم لعالَم الفضاء، ثم ممارستكم للصحافة كمجرد هواية أو فقط السبيل الوحيد المتبقي؟
*جوليا كريستيفا: كنتُ فعلا طالبة غريبة الأطوار في شعبة ''الفيلولوجيا الرومانية". مثَّلت الفرنسية اللغة الأولى، والانجليزية ثانية، ثم تتويج مختلف ذلك مع الأدب المقارن. لأنِّي مزدوجة اللغة، بعد السنوات الطويلة التي قضيتها في مدرسة الرابطة الفرنسية، فقد كان سهلا، فيما يخصني، بل سهلا جدا مواصلة دروس الفرنسية في الكلية. أيضا، وبهدف تعميق مهنتي الصحفية، واصلت بهذا الصدد، تعليما جامعيا عن طريق المراسلة. التحقتُ بـ''اليومية الوطنية للشباب''، ثم "الشباب الشعبي" التي حظيت بتقدير كبير، حيث تواجدت مقراتهما وسط بناية كبيرة للصحافة فخمة جدا، تضم جلّ ما يدخل في نطاق الجرائد المهمة. تعاملتُ بما يكفي من الجدية مع هذا المسار المزدوج باعتباري طالبة وصحافية بأجر، فأصدرتُ مقالاتي وتحقيقاتي ضمن الحيز المعنون بـ"تربية"، وأكتب كذلك دراسات نقدية على صفحات "ثقافة". اتسع مجال استقصائي، فصرتُ أتوجه باستمرار في مهمة سواء إلى المقاطعات والأرياف. أضحت الحوارات أكثر ذاتية، وحميمة، وسياسية كذلك: التكوين الثقافي لشباب البادية، الروابط بين الطلبة والعالم القروي، تأطير التلاميذ من طرف الطلبة إبّان مخيمات العطل الصيفية… ونظرا لكوني أتحدث الروسية، والفرنسية، والانجليزية، فقد حظيت بفرصة إجراء حوارات مع شخصيات أجنبية، زارت بلغاريا: فالديك روشي، أول أمين عام للحزب الشيوعي الفرنسي؛ هنري مارتان، جندي البحرية الأمريكية والشيوعي الشهير، الذي تمرد على "قذارة الحرب'' الفيتنامية؛ فالنتينا تريشكوفا ويوري غاغارين، أول كائنين بشريين سافرا إلى الفضاء. أيضا، بعد ذلك قليلا، أجريتُ لقاءات مع المنشقين داخل بلدان المعسكر الشرقي، مثل أنطونان جاغوسلاف ليهم، الباحث اللامع ورئيس تحرير الجريدة التشيكية: "اللائحة الأدبية"، الرجل الذي سيلعب دورا أساسيا خلال "ربيع براغ". ارتبطت وأنطونان وزوجته ميرا Mira، بصداقة مميزة، عندما هاجرا إلى باريس، ثم استعنتُ بإرشاداتهما فترة إقامتي في نيويورك وكذا تقديمي إلى فيليب روث (الروائي الأمريكي).
*صامويل دوك: تحيا دائما شخصية الصحفي داخلكم وأتخيل بأن الجلوس لمحاورة يوري غاغارين وفالنتينا تريشكوفا اللذين جَسَّدا حلمكم بأن تصبحوا في يوم من الأيام رائدة فضائية، عَكَسَ لحظة كبيرة قياسا إلى رحلة حياتكم. هل عشتم التجربة التي تسمى ابتذالا بأزمة سن المراهقة؟ هل اختبرتم لحظة تمرد؟ انفجار؟ وكذا مجابهة صريحة مع المحيط الأسروي؟
* جوليا كريستيفا: ليس تماما. لقد عرفت بلغاريا باستمرار وضعية مأزومة، ثم مجهودات، وتضحيات وكذا طفرات محتملة؟ ساد هذا المناخ المتقلِّب البلد عامة، ثم المنزل، بكيفية أخرى. تجلت ثورتي عبر صفحات مذكراتي السرية، التي أخبرتكم بها سابقا، ولم تنكشف "ظاهريا". بل ترشح من خلال شعار أبدعته، وعدت إليه ثانية فيما بعد، لما عهد إلي جاك شيراك برئاسة المجلس الوطني للإعاقة. التقيتُ حينها وزير الصحة، البروفسور جان فرانسوا ماتي الذي استمع إلي بانتباه شديد، أو ارتياب بالأحرى، قبل أن يخلص إلى القول : "مع المعوقين، لاشيء يمكن القيام به، سيدتي". أنعمتُ فيه النظر، ثم استحضرتُ ثانية شعاري : "نعم، لقد أصبتم السيد الوزير. لاشيء يمكن القيام به : إذن، ما العمل؟" سيمثل هذا المبدأ الجوهري مسلكا لوجودي.
*صامويل دوك: وأنتم طالبة سنوات 1960 في مدينة صوفيا؟ هل بقيتم تعيشون دائما في منزل العائلة؟ هل تسافرون خلال العطل؟ ما طبيعة انشغالاتكم آنذاك؟
*جوليا كريستيفا: نعم مكثت دائما عند والداي. بعد أن قطننا وسط صوفيا، بجوار كنيسة القديس دومينيك، بحيث اشترينا منزلا في حي "اتسم بطابعه الثقافي". خلال ذاك الزمان، كان غير وارد مغادرة ''بيت الأهل'' قبل الزواج. في كل الأحوال، حتى وإن أردت خلاف ذلك، كانت تعوزني بكيفية مهولة الإمكانات المادية. في المقابل، ستهيئ لي، على أية حال، أسفاري باعتباري مترجِمة وصحفية، انفتاحا أساسيا نحو العالَم، مقارنة بتلك الحياة الضيقة التي عاشها شباب جيلي. أيضا، أودُّ الإشارة إلى مهمتي، لم أحدثكم بعد عنها، كمرشدة لـ''الرواد" في مخيمات العطل الدولية، خلال فصل الصيف، على شاطئ البحر الأسود. هؤلاء الأطفال المترواحة أعمارهم بين السابعة والثلاثة عشر، القادمين من فرنسا، وبلجيكا، وإيطاليا، والصين، وفيتنام، وإفريقيا، وأحيانا من كوريا الشمالية أيضا. لم ألعب بالدمية كفاية، فهل امتلكتُ "وَتَرا أموميا'' اقتضى فقط العمل على تحريكه في الهواء الطلق؟ بينما فضل أصدقائي القيام بـ"تدريبهم الصيفي" داخل ضيعات تعاونية في البادية. استأنستُ عفويا، على نحو مرح كثيرا، بلعبة الأخت الكبيرة والأم. فقد احتاج أغلب هؤلاء الصغار الأجانب المنحدرين من عائلات شيوعية أو متعاطفة معها، أحيانا فقراء جدا، إلى التقدير، والإصغاء. أتخاطب معهم بالفرنسية، لغتهم الأم، ونتسلى كثيرا ونحن نهيئ عروض المساء، بحيث يظهر كل فريق مواهبه. كان "فريق أطفالي"، متفوقا دائما، لاسيما عبر تقديمنا مثلا لحكايات لافونتين! نصمم الملابس، ثم نصنعها بالورق وكذا الكرتون الملون، نستظهر تلك الحكايات عن ظهر قلب، تغمرنا تصفيقات الجميع: "الغراب والثعلب"، "الذئب والحمل"، "القط والجرذ"، "البلوط والقصب"، "الفلاح وأطفاله''…
*صامويل دوك: في نهاية المطاف ماذا تستعيدون من هذه الطفولة والمراهقة تحت حكم الشيوعية؟
*جوليا كريستيفا: التيارات الغامضة لحياتنا الأسروية والمتناقضة، الملاذ الآمن والسند، لكن تعقدها أثار حيرتي وانفعالي. أبي، بإحساسه الجريح، السريع التأثر، فأضحى لديه مرضا فيزيولوجيا، ألزمه كي يكابد بشجاعة آلام قرحة المعدة ثم مقاومته التهميش نتيجة إيمانه الأرثوذوكسي. ساندته أمي كثيرا بحيث يسرت له مأمورية القيام بدور ولي الأمر، مع اكتفائها "بلعب دورها كامرأة''. في روايتي: الرجل الكهل والذئاب، التي تجري وقائعها خلال القرن الأخير من حقبة الإمبراطورية الرومانية، فقد اعتنى كلاروس باعتقاد عميق ضمن ضرورة وِثاق روحي. مخاطبا ابنته في هذا الاطار، بقولته "لقد أضعنا الوِثاق": "لاتعتقدون أنِّي أترافع لصالح العودة إلى الدين، المُتْعَب أو الفَتَّاك في وقتنا الحالي. فالرابطة التي ألهمت مدائح تيبول (شاعر روماني) أو حكايات أوفيد (شاعر روماني) كانت مقدسة بشغف. أريد القول: محترمة. لكنها حرة، مرتابة، مشكِّكة، روحية … لقد مثلت فاتحة للصلة. هذا ما نحتاج إليه. بالتالي، لا غطرستها ولا موتها أيضا. فجر الصلة، تلك اللحظة التي بحثت عنها طيلة حياتي". يعكس هذا المقطع عن قرب التصور الذي أوضحه لي أبي بخصوص عقيدته.
من جهة أخرى، أبان والدي في بعض الأحيان عن غيرة مدهشة، لاسيما عندما أُنجزُ مهامي كمترجمة أو صحافية مع البعثات الأجنبية. لا ينبغي العودة بعد الساعة التاسعة ليلا، سوى إذا غادرتُ لإتمام مهمة في الريف، استثناء أقرته هيئة التحرير المشرفة على الجريدة!
نتقاسم نحن الأربعة أبي وأمي وأختي، بزخم شديد، حياتنا العائلية. أتى عندنا غير ما مرة ضيوف كانوا ينتقدون الحكومة، أسترق السمع إلى حديثهم، خفية أنا وأختي. يروي لنا هؤلاء الإشاعات المتداولة في المدينة. الكهنة الذين رفضوا التحالف مع "الشيوعيين" شُنِقوا من اللِّحَى. سررتُ لأن أبي غادر الإكليروس. الأسوأ: انصبَّتْ على المعارضين إجراءات تعذيب حقيرة، دنيئة، مهينة، بل وداعرة. كانت حكايات تلك الاغتصابات تقض مضجعي ليلا. بهذا الخصوص، أتذكر مشهدين، عاديين جدا، قياسا لتلك الحقبة السياسية المضطربة.
بالنسبة للأول، كنتُ بصدد قضاء عطلة صحبة أمي وأختي. بعد نزهة، رجعنا إلى بيت جدتي. بدأ الليل يرخي ستائره، ولاوجود لأثر أيّ شخص في الشارع. فجأة صدح صوت مكبِّر الصوت معلنا بأن المعارضة سيمسح بها وجه الأرض، وسيُعدم نيكولا بيتكوف Petkov زعيم الحزب الفلاحي، ثم سمعتُ موجة من التصفيقات، ويلزم أنصاره وكذا الجماهير، يؤكد صاحب الصوت، وكذا الاستعداد لهذا الأمر. لكن التأهب إلى ماذا؟ أسرعت أمي وهي تدفع العربة بأختي الطفلة، مما أدى إلى سقوط الأخيرة على الرصيف، جُرِح مِرْفقها، أعدناها إلى وضعها، أركض، حزينة، كانت جدتي واقفة في الحديقة تترقب مجيئنا. بقينا صامتين، لا إحساس بالجوع، أو العطش، أو الرغبة في النوم.
المشهد الثاني، يعتبر أكثر حُلُمية. يروي أبي، أنه من أجل انتزاع اعترافات، يلجأ بوليس النظام إلى التعذيب بواسطة ''حوض الاستحمام''. بحيث يجثم رجال الشرطة على رأس المعتقل وسط مغطس يغمره البراز. لازمتني هذه الصورة لفترة طويلة، حينما أكون بصدد الاستحمام أو السباحة وسط الأمواج الضخمة للبحر الأسود.
*صامويل دوك: في إطار هذا المناخ الضاغط جراء تهديدات منتشرة، والاضطهاد الذي يمارسه النظام الشمولي، ألم تعيشوا نوعا من "الانشقاق" السري؟ وبكيفية ما، حالة اغتراب؟
*جوليا كريستيفا: لم تلمسنا تلك الفظاعات مباشرة، وقد استفدتُ من ملاذ أَبَوي، إلى جانب صلابة التعليم المدرسي والجامعي، الذي عَضَّد لدينا حس المجهود والمكابدة، والتضامن والمصلحة العامة، مع تثمينه أيضا لدور الثقافة والمبادرة، والخلق، في خضم تلك البنية التوتاليتارية وعلى الرغم كذلك من تصدعاتها. إذن هذه ''النزعة الإنسانية'' الشيوعية، التي تطلعتْ كي تصير "مهندسا للنفوس" حسب تعبير ستالين ربما، قادت إلى تشكيل العقول بقساوة. لكن في ذات الوقت لا يمكنها قط استئصال تفتّح الخصوصيات، التي وقع حجبها ومضايقتها، ويصعب حقيقة كبحها أو إخماد فورتها. لاتنسوا أن أوروبا قُسِّمت إلى شطرين بعد اتفاقيات يالطا، بالتالي فالجيل المنتسب إليه أبي لم يكن يتبيَّن مخرجا. تأثيرات، "ذوبان الجليد" المتتالية نتيجة الانتقادات الأولى المناهضة للستالينية، تجلى الإحساس بها بداية سنوات 1960: ظهرت انشقاقات بين المثقفين، ضمنهم عشيرة أصدقائي الصحفيين والكتَّاب المشرفين على بعض الهيئات التحريرية، وأتقاسم معهم آراءهم. يحس أبي بالابتهاج حينما أحدثه عن مختلف حيثيات ذلك، ونحن على طاولة الأكل، فقد اهتم والداي بمساعدتنا كي نتأمل التحول الجاري، مع حرصهم تماما على إذكاء التمرد في ذهننا، يعني أنا وأختي. تجلى الهاجس الأساسي لأبي وأمي، أن يتركا لنا ''إرثا ثقافيا'': الفرنسية، الانجليزية، الأدب، والموسيقى. في أفق تطوير أفكارنا، وتمثّلاتنا، ومواهبنا. بالنسبة لعائلة تقليدية، مثلما تصورت لاحقا، فقد كان والداي واثقين جدا في أسلوبنا الخاص كي نبني ذواتنا ونحدد اختياراتنا بكيفية مستقلة وحرة. تعلمنا منهما أنّ الرفض ملازم للحياة : تعايش جُزَيئي مع البقاء، مَثَّله وجودهما بكيفية متواضعة جدا، ثم عاد لي أمر تحقيقه على النحو الذي أريد.
*صامويل دوك: السعي الذي حققتموه، بكيفية لامعة. أود معرفة موقفكم بخصوص الاستحقاق الذي حظيتم به مؤخرا والمتمثل في توشيحكم يوم 18 فبراير 2015 بوسام جوقة الشرف. اعتراف بمثابة تثمين لمختلف نتاج عملكم، في السيميولوجيا، والتحليل النفسي والأدب، بحيث نقدر كثيرا مدى اتساع هذا المشروع، ونفاذ بصيرته وزخمه. فهل تلمسكم مواقف الاعتراف تلك؟
*جوليا كريستيفا: خاصة المكوِّن الأجنبي الذي يسكنني باستمرار، يتأثر بتقديرات الجمهورية الفرنسية. لأنِّي مهمومة بالاندماج في هذه المنظومة الفرنسية التي عشقتها منذ الحضانة لمَّا شرعت في تعلم اللغة الفرنسية؟ وإن كان أيضا جيدا نقدها، بل ورفض قبولها، مع ذلك أقدِّر هذه الطقوس المتعلقة بالأوسمة، وأنظر إليها بنوع من الاحترام. غير أنَّه، ينتابني اضطراب في كل مرة، مثلما يحدث حاليا جراء هذه المقابلة: من هي جوليا كريستيفا التي يتحدثون عنها؟ اسمحوا لي البوح لكم بالاعتراف التالي: لقد عجزت عن الحلول في "صورتي"، تلك الواردة من طرف الآخرين؛ أعيش كما لو أنِّي مسافرة: يشكل الماء الحي مادتي الأولى، ويكمن هدفي، في ملاحقة هذا التدفق، ثم تعبيد الطريق. لقد كتبت روايات كي أجعل هذه التجربة قابلة للتحقق، والتحويل.
*صامويل دوك: ماذا تترقبون من هذه البيوغرافيا؟ وماذا تتوخون تبليغه؟
* جوليا كريستيفا: ستكون طريقة لمجابهة ارتيابي في صورتي ثم اختبار إمكانية أن تصبح قابلة للإثبات. فما الذي يدهش أولئك المأخوذين بمشروعي منذ سنوات. في كل الأحوال، لا يتعلق الأمر بإجراء "تقييم عام" ، فقد تعلمت من عيادة التحليل النفسي أن كتابة الأفراد لِسِيَرهم الذاتية لايخلو من كَذِب، تبادر البيوغرافيات إلى تصحيحه. أحب بالأحرى أن يشكِّل هذا العمل "خريطة طريق" يوجه السفر ويضيئه. لهذا السبب قبلتُ هذا المشروع الافتتاحي بصوتين، وأربعة أيادي. يجمع بيننا مجال عملكم باعتباركم مختصا نفسانيا وطبيبا سريريا ثم شغفكم بالكتابة، في ذات الآن، يسوِّغ شبابكم حتمية تباعدنا. وضع يثير انتباها فضوليا. سنرى!
مصدر الحوار:
Julia Kristeva : Mémoires ; entretiens avec Samuel Dock ;Fayard 2016. PP/13-52.