مقدمة
فراغ الصورة هو ذلك المجال الذي يبدع فيه المصور عالماً آخر مواز للعالم المحسوس الذي يعيشه، ويستخدم المصور فراغ الصورة ليصيغ فيه عناصر مرئية تتخذ مواقع لها مسافات مختلفة، وهي بذلك تحقق بعداً حركياً يجعلها ممتدة في المكان الذي يحتوي هذا الفراغ، وسطح الصورة هو عالم الفنان الذي يتمتع بقوانينه الخاصة التي بلا شك ذات علاقة بمفاهيم الفنان عن العالم الذي يعيش فيه والتي تختلف في كل مرحلة زمنية عن الأخرى. وعلى الرغم من أن التصوير يصنف على أنه فن مكاني إلا أنه كان دائماً يتقصى عنصر الزمن الذي أسماه بالبعد الرابع وتجلى ذلك في بحثه الدؤوب في جميع مراحله عن وسيلة لتعيين هذا الزمن خلال التعبير عن الحركة.
وفي هذا يقول المصور ماكس بيكمان: الخبرة الساخرة الراسخة في نفسي هي خبرة تجسيم المكان بواسطة الخطوط والألوان. ومن خلال هذه الخبرة أحس بالبعد الرابع المجهول للأشياء والكائنات، ذلك البعد الذي أبحث عنه بكل عصب في روحي.
ويطغي البعد المكاني على لوحة التصوير التي تظل ساكنة لا تتغير، فهي مشروطة بمادتها الأولية من خط ولون، إلا أن الفنانين قد دأبوا على إبداع طرق لإضفاء الحركة على العناصر المصورة، أقدم هذه الطرق هي اللجوء إلى مجموعة من الصور المتتالية التي تحكي حكاية ما، مثل رحلة وفد الملكة حتشبسوت إلى بلاد بونت على الجداريات المصرية القديمة أو حكايات القديسيين في التصوير الأوربي، أو اللفائف السردية المصورة التي تضم كل منها حركة ومشَاهد وكأنها شريط سينمائي وعرفت في التصوير الياباني باسم الإيماكي، أو تثبيت الأشياء أو الأشخاص في لحظة معينة وقت تبديل أوضاعهم، والتوقف عند لحظة مميزة لحركة معينة من حركات الجسد، فنجد صورة على جدران الكهوف لصياد يقذف رمحه، وطائر مصور لحظة طيرانه على جدران جناح بمدينة الموتى بطيبة، ومعارك آشور بانيبال في نقش أشوري بارز، وغازلات الحرير لفلاسكز، وغيرها، ونفس الأمر نجده في فن النحت مثل تمثال رامي القرص لميرون وبوابة الجحيم لرودان. كلها كانت محاولات للفنان لتصوير الأشياء أو الناس في حالة حركة.
إن المصور يعزل في الزمان والمكان "فعلاً" يضيع عادة في ثنايا غيره من الأفعال. ومعنى هذا أن المصور هنا يقوم بعملية " تثبيت" Fixation. والمصورون العظماء وحدهم فيما يقول ألبير كامي: إنما هم أولئك الذين يوهموننا (كما في حالة بييرو ديللا فرانشسكا/ عصر النهضة) بأن عملية التثبيت لم تتم إلا منذ برهة وجيزة، وكأن جهاز الإرسال لم يتوقف إلا منذ لحظة قصيرة، ولعل هذا هو السبب في أن الشخصيات التي يقدمه لنا أمثال هؤلاء المصورين إنما تثير في نفوسنا الشعور بأننا أمام مخلوقات لازالت حية، وإن لم تعد خاضعة لحكم الفناء.
حركة عين الفنان والرؤية في فن التصوير
يرى الفيلسوف المعاصر ميرلوبونتي إن الرؤية في فن التصوير ليست فعلا ذهنياً أو منظوراً عقلياً، ولكنها في نفس الوقت ليست انطباعاً حسياً وإنما هي فعل للبدن الحي الذي يرى عالمه ويحدث تغييراً في هذا العالم المرئي من خلال حركته، فالمصور يصطحب بدنه معه عند رؤيته للعالم، لا باعتبار البدن قطعة ضئيلة من المكان أو حزمة من الوظائف وإنما باعتبار أن ذلك البدن هو نسيج محبوك من الرؤية والحركة، لأن البدن جهاز حي يرى ويتحرك وليس جهازاً فوتوغرافياً يسجل انطباعات: فعين الفنان ليست عدسة تؤدي نفس المهمة التي تؤديها الكاميرا، فالعين ترى الأشياء وتربطها في علاقات من خلال حركتها التي من خلالها تتشكل الرؤية.
لقد استطاع "سيزان" أن يحقق ذلك في تعبيره التصويري. فالجدل الذي كان "ميرلوبونتي" يحاول تجاوزه؛ هو نفس الجدل الذي يحاول سيزان تجاوزه عندما كان يتلمس اسلوبه في التعبير فهو لا يرى معنى للمفاضلة بين الحس والفكر ويرى أن الفن هو دراسة دقيقة للمظاهر. لذلك يقول "ميرلوبونتي" في مقالته "شك سيزان" "لأن سيزان ظل مخلصاً للظواهر في بحثه للمنظورات؛ فإنه قد استطاع أن يكتشف تلك القاعدة التي توصل إليها علماء النفس المحدثون، وهي: أن المنظور المعاش Lived perspective الذي ندركه حسياً بالفعل ليس منظوراً هندسياً وليس منظوراً فوتوغرافياً" فعين الفنان ليست عدسة تؤدي نفس المهمة التي تؤديها الكاميرا، فالعين ترى الأشياء وتربطها في علاقات من خلال حركتها، فمن خلال حركة العين يتشكل المنظور أو الرؤية. وحركة العين ليست مجرد انعكاسات أو مستقبل للأشعة الضوئية والخطوط والألوان، بل هي على حد تعبير ميرلوبونتي "آلات حاسبة للعالم". وعين الفنان تتميز بأنها عين تدرب نفسها دائماً على اكتساب أسلوب خاص في الرؤية، فالفنان من خلال احتكاكه الدائم بالعالم المرئي وتصويره له في لوحاته، يحاول أن يكون منظوراً خاصاً به في رؤية العالم.
ولذلك فإن عين الفنان ترى العالم، وترى نواحي القصور التي تمنع العالم من أن يصبح لوحة، ونواحي القصور التي تمنع اللوحة من أن تكون لوحة، والتي ينبغي أن تتلاشى كي تتم اللوحة. وكذلك تفعل العين في رؤيتها لأعمال الآخرين.
لذلك يتساءل ميرلوبونتي في صيغة استنكارية: "كيف ستكون الرؤية بدون حركة العين؟ وكيف يمكن للعين أن تربط الأشياء معاً، إذا كانت الحركة عمياء؟ إذا كانت مجرد انعكاس". إن عيوننا هي أكثر من مستقبل للأشعة الضوئية والألوان والخطوط. إنها تمتلك الموهبة والقدرة على رؤية المرئي. إنها آلات حاسبة للعالم".
إدراك المُشاهد للحركة
يُظهر العمل التصويري السمات المختلفة لشيء لا يمكن إدراكه في الحقيقة من نقطة معلومة في لحظة ما، (وكأنما يتحرك العنصر ليُظهر جميع جوانبه أو يتحرك المشاهد حول العنصر ليرى جميع جوانبه)، وذلك يُمثل طريقة أخرى للإيحاء بحركة المَشَاهد الفعلية بناء على مراحل متعددة في عملية إدراك الشيء المصور، وأعمال من هذا النوع تتطلب من المشاهد استغلال قدراته لإعادة تشييد حالة خاصة سبق للمصور التعبير عنها طبقاً لقوانينه الخاصة ورؤيته الذاتية للعالم، هذه الأعمال مثلت تياراً تعبيرياً ممتداً في تاريخ الفن بعصوره المختلفة مثل: الأيقونات البيزنطية، تصوير بوش، بروجيل، فرانز مارك، ليجيه، شاجال.
وتبدو تلك النزعة في أنقى صورها في التكعيبية في أعمال براك وبيكاسو التي تتطلب حركة تكاملية من جانب المشاهد. إن أول انطباع للمُشاهد عن تلك الأعمال يتأتى من النظر لخليط غير عادي لعناصر تشيديّة، ولبعض مظاهر الأشكال، فالفنان يحلل العناصر التي يصورها، فيحل عناصر الكتلة إلى مسطحات، وذلك بتفضيل بعض ما يختلف فيه من حيث الضوء والحجم والأبعاد، بما يسمح للمشاهد عقلياً أن يعيد تشييد تلك الحجوم، ولأن نتخيل الشيء باعتباره كامناً في المساحة.
وتتطلب هذه الطريقة اتجاهاً إدراكياً خاصاً لإعادة تشييد الأشياء تبعاً لرؤية الفنان الذاتية كما أعطاها، وهي وجهة نظر فريدة لمنظور واقعي تعطي اتجاهاً ذكياً للرؤية لا تتطلب إدراك الحركة فحسب ولكن تقتضي ضمناً الحركة المفضلة للمشاهد (الأوضاع المثالية). وبشكل عام يتطلب إدراك الحركة من العقل جهداً متجدداً مستمراً.
حركة عين المشاهد للوحة
والقول أنّ الرؤية هي فعل للبدن وليس للعقل، هو قول يسري على رؤية الفنان ورؤية المشاهد على السواء، فالمشاهد عندما يواجه اللوحة يمر بنفس تجربة الرؤية التي يجتازها الفنان، وينشغل الفنان دائماً بمسار عين المشاهد وكيفية تلقيها للعمل.
وعلى الرغم من أن الإدراك البصري هو إدراك مكاني، وعلى الرغم من أننا ندرك اللوحة في نظرة كلية في الوهلة الأولى يمر هذا الإدراك بعد ذلك بمراحل زمنية، فتنتقل العين من جزئية إلى جزئية في اللوحة ثم تعود إلى الكل، وحركة العين هذه تستغرق وقتاً من الزمن يطول أو يقصر، هذا الإدراك للكل والأجزاء معاً داخل اللوحة يوجهه تشكيل اللوحة، فالفنان عندما ينشىء لوحته يتحكم في حركة عين المشاهد بفعل تنظيم الخطوط والألوان والعناصر على اللوحة.
هذه الحركة التي هي عماد الخبرة الزمنية كانت هدف رسامي المناظر الطبيعية الصينيين، فكانوا يتطلبون من المشاهد أن يدخل في اللوحة ويتجول في الممرات، ويجلس بجانب البحيرة ويتسلق الجبال، وفي كل مرة يشاهد اللوحة كانت المشاهدة تبدأ من نقطة وتنتهي إلى نقطة مختلفة ن ولم تكن تلك الرحلة رحلة عادية ولكنها كانت رحلة روحية.
هذا المفهوم نجده أيضاً عند جيوتو، الذي كان الفراغ عنده يعني نقل الحركة الإنسانية والأفعال الاجتماعية إلى سكون الفن بطريقة تجعل العين وهي تتجول في كل شكل وتنتقل من شكل آخر تعيد خلق هذه الحركة.
وقد أثارت هذه المشكلة اهتمام الفنانيين وتعرض لها الكثيرون في كتاباتهم فمثلاً يقول بول كلي: "تظهر في العمل الفني مسارات مخططة من أجل عين المشاهد وهي تستكشف وتتحرك على السطح مثل الحيوان الذي يرعى في المراعي: إنه يقوم بهذه الحركة لا من أعلى إلى أسفل فقط بل من اليمين إلى اليسار أيضاً، وكذلك في جميع الاتجاهات التي ينجذب إليها، إنه يسلك الطرق المخطوطة في العمل الذي يشاهده وإبداعه نفسه مشروط بحركة معينة غير أن هذه الحركة تتوقف في لحظة ما في الزمان والمكان".
ولهذا المفهوم يمكن أن ينتمي المعرض الكبير "العين المستجيبة" the responsive eye الذي أقيم بمتحف الفن الحديث في نيويورك ومن خلاله طرحت الكثير من الاتجاهات التي تهدف للتأثير على عين المشاهد، ومنها اتجاه اقتصر على استخدام الأسود والأبيض، لأن تباينهما في مساحات متقابلة يولد انطباعاً بالحركة، أو استخدام مساحات ملونة ينتج عن تقابلها نوع من الحوار بين الألوان الحارة المتقدمة والألوان الباردة المتراجعة. أو التعبير عن الحركة الايهامية باستخدام أشكال خطية يولد تبدل مواقعها بصرياً إيهاماً بالحركة.
كما أكدت "جماعة تقصي الفن البصري" في بيانها "أطروحات حول الحركة" على أهمية العلاقة الدائمة بين العنصر التشكيلي والعين الإنسانية، وبحثت عن علاقة ثابتة تربط بين الصورة والحركة وعنصر الزمن.
ولنتوقف عند بعض مراحل تصوير الحركة في تاريخ فن التصوير
في عصر النهضة اكتشف فنانو ايطاليا منذ القرن الخامس عشر "الإنسان" وحللوا تركيبه الجسماني وطبيعة انفعالاته والجوانب المختلفة لاتجاهاته الذهنية ومثالياته الأخلاقية، كما حددوا مكانه من الطبيعة واهتموا بنطاقه المحيط واستعداداته للحركة والفعل، ثم علاقته بالبيئة الطبيعية. وقد كان هذا الاهتمام بمثابة رد اعتبار للإنسان والحياة بعد فترة العصور الوسطى التي أغفلتهما، من هنا سيطرت قوانين التجسيد والتكوين والحركة على صور عصر النهضة وأصبح الشكل الفني شكلا مفتوحا غير معزول عن البيئة الجوية المحيطة به بل مغمورا فيها.
وصور المكان في فترة عصر النهضة هندسيا وبيئويا ووضعت الأشياء من خلال نقطة نظر ثابتة ومحددة بالعلاقة مع مشاهد مثالي ولحظة فريدة لحركة أو فعل موحد واعتبر المنظور هو الطريقة المثلى لربط المشاهد والأشياء المصورة لبعضها البعض. وكانت نقطة التلاشي أداة جيدة لتوحيد المشهد ككل بالعلاقة مع عين المشاهد فالعمل الفني في عصر النهضة يكون عامة مستقراً ومواجهاً، فهناك فضاء فسيح يزود به الموضوع المراد تصويره، ويبدأ الحدث عامة في نطاق الإطار ويرتد مباشرة إلى الداخل، إلى النقطة التي تتركز فيها أهمية الموضوع. وعلى ذلك تنشأ الحركة التي يتضمنها العمل، لا بالفعل المادي ولكن بالتوتر الحادث بين الأشياء في علاقتها بالبنيان. وعلى ذلك يوصف العمل في عصر النهضة بأنه نظام ساكن لأشياء متماسكة متساوية التوتر، وكل شيء منها يشد سائر الأشياء، وتبقى كلها ساكنة ثابتة بفعل البنيان الكلي الذي يضمها.
وأحد حالات تصوير الحركة الرائع نجده في عصر النهضة عند المصور الإيطالي بوتشيلي حيث استعان بالحركة لتحقيق القيم الجمالية الشاعرية التي صور من خلالها موضوعاته الأسطورية كما نرى في عمله الشهير (مولد فينوس)، ففيها نرى فينوس وقد خرجت من صدفتها الشهيرة حيث ولدت من زبد البحر وهي تتوسط اللوحة بينما زفيروس إله النسيم والرياح ينفخ بملء فيه وهو يزفر بالهواء من أقصى يمين اللوحة، علي فينوس مانعاً المرأة الأخرى التي على يمينها من رد الغطاء عليها. ويظهر تصوير الحركة بشكل معبر في الحورية (كلوريس) التي يقبض عليها بين يديه حيث تذروها الريح. بينما تتطاير الزهور في قلب الصورة وتترقرق مياه البحر وتومض معبرة عن حركة متتابعة.
ونستطيع أن نتلمس القيمة الحركية التي صورها فن الباروك من خلال ما قام به من تفكيك للقالب المكاني الراسخ والتكوين المقفل الذي وضعته النهضة فسعى إلى خلق شيء متحرك محلق وإلى محو الحدود والخطوط الواضحة، وايجاد انطباع بوجود اللامتناهي وغير المحصور وغير المحدود، وتحويل الوجود السكوني الجامد الموضوعي إلى صيرورة. وابتعد الباروك عن المسطح في اتجاه العمق يعبر عن نفس النظرة (الدينامية) ونفس المعارضة لكل ما هو ثابت أو ما هو موضوع بصورة نهائية قاطعة أوله حدود ثابتة، وأخذ بنظرة للعالم يفهم فيها المكان على أنه دالة قابلة للتغيير.
عبر الناقد الإيطالي لويجي سالرنو عن المبدأ الأساسي في الباروك بقوله "لم تعد الصورة مجرد خطوط وألوان، فالفنان في هذه الحالة يريد أن يعرب عن شيء يتجاوز الخطوط والألوان والمنظور، ويمس مشاعر الرائي وخياله" وهو لكي يثير خيال الرائي سعى إلى تحطيم الحاجز الذي يقوم بين الرائي والعمل الفني وإلى إضفاء طابع من "اللامتناهي على الموضوع الذي يصوره"
وقد مثل كشف كبرنيكوس Copernicus عاملاً هاماً في تغير تصوير الحركة في عصر الباروك. فالنظرية القائلة أنّ الأرض تدور حول الشمس، بدلا من القول بأن الكون كله يدور حول الأرض –كما كان الاعتقاد من قبل– أحدثت تغيراً حاسماً في المكانة القديمة التي كان يحتلها الإنسان في الكون. وإذ لم يعد من الممكن من الآن النظر إلى الأرض على أنها مركز الكون، ولم يعد من الممكن النظر للإنسان ذاته على أنه هدف الخلق وغايته.
كذلك لم تكن النظرة (الكبرنيكية) تعني فقط أن العالم لم يعد يدور حول الأرض والإنسان، بل كانت تعني أيضا أنه لم يعد له مركزا على الإطلاق، وإنما هو يتألف فقط من عدد من الأجزاء المتجانسة المتكافئة، التي لا تتجلى وحدتها إلا في انطباق قانون طبيعي شامل عليها. فتبعا لهذه النظرية، أصبح الكون لا متناهيا ولكنه متجانس، ونسقا مترابطاً متصلاً منظماً على أساس مبدأ واحد وكلاً محكماً حيوياً.
أثرت هذه النظرية في فن الباروك ونقلته لمرحلة أكثر تحررا في تصوير الحركة فقد سعى إلى تفكيك القالب الراسخ التشكيلي والخطي إلى شيء متحرك، محلق في محاولة لإيجاد انطباع بوجود غير المحدود وغير المحصور واللامتناهي ولنقل صدى الفضاء والاتصال المتبادل من كل ما هو موجود وأصبح العمل الفني في كليته رمزاً للكون بوصفه كائناً عضوياً موحداً تشيع الحياة في كل أجزائه.
من ذلك نرى أن كل المحاور الجزئية، والتجسيمات المفاجئة والتأثيرات الضوئية والظلية المبالغ فيها والتي نجدها في تصوير الباروك، كل ذلك كان تعبيراً عن الحنين إلى اللامتناهي. فكل خط يقود العينين إلي المسافة، وكل قالب مشبع بالحركة يبدو أنه يحاول تجاوز ذاته، وكل الموضوع في حالة توتر وإجهاد وكأن الفنان لم يكن على يقين من النجاح الحقيقي في التعبير على اللامتناهى. كذا نجد في موضوعات الحياة اليومية التي صورها المصورون الهولنديون نفس القوة القاهرة للامتناهي فقد كانت هذه هي السمة المشتركة في فن الباروك عندما قام بتفكيك القالب المكاني الراسخ والتكوين المقفل الذي وضعته النهضة فسعى إلى خلق شيء متحرك محلق وإلى محو الحدود والخطوط الواضحة، وايجاد انطباع بوجود اللامتناهي وغير المحصور وغير المحدود، وتحويل الوجود السكوني الجامد الموضوعي إلى صيرورة. وابتعد الباروك عن المسطح في اتجاه العمق يعبر عن نفس النظرة (الدينامية) ونفس المعارضة لكل ما هو ثابت أو ما هو موضوع بصورة نهائية قاطعة أوله حدود ثابتة.
وإذا انتقلنا للفن الحديث وتناوله لموضوع الحركة في التصوير نجد أنه انتقل لنطاق أخر، وذلك بظهور التأثيرية التي كانت تمثل أهمية كبرى كحركة حيوية جديدة أوقفت حالة الجمود التي أصابت الفن الغربي في نهاية القرن التاسع عشر بعد فترة كان يصر فيها على الغزو المتزايد للواقع المرئي، ويمكننا رؤية التأثيرية كجزء من نهضة واعية بالقيم الشرق أقصية في الغرب. حيث وضعت التأثيرية فن التصوير الغربي على مشارف جديدة بعد التقائها الواضح بمفاهيم الفن الشرقي خاصة الفن الياباني؛ ويتضح ذلك فيما يتعلق بمفهوم الحركة، فالجمالية اليابانية تتمتع بشعور مرهف إزاء كل ما هو في ذروة حيويته من الأشياء العابرة، وما هو معبر عنه بدهشة عن طريق الارتجال والعفوية الشعرية. بأنهار المطر الذي يبعثر شمل جمع من الناس، والطائر الذي يحط برهة على غصن شجرة ويحركه، ورداء الثلج فوق أغصان نبتة، والحمالون الذين يتخلصون لحظة من أثقالهم ليتنفسوا، كل هذه لحظات أمكن القبض عليها وهي في أشد إيجازها، وأمكن جعلها محسوسة بمدلولات خاطفة أشبه ما تكون بالعفوية المرتجلة.
كذلك فإن التقنية التي استخدمها الفنان الياباني والتي تعتمد في معظمها على الوسيط المائي تفرض الإحساس الآني بالزمن ورصد المظاهر الخارجية بسرعة خاطفة لتأتي ضربة الفرشاة الدقيقة موازية لرؤية الموضوع ومستجيبة لمطالبه وقادرة على اقتناص ومضات الحركة بلمحات سريعة.
وقد كان الفنان التأثيري أيضاً يلاحق كل ما هو عابر ومتحرك في العـالم المرئي وبولوجه مسرح الضوء أصبحت مادته التصويرية مرتجفة مختلجة، وأصبحت موضوعاته الأثيرة. هي، الانعكاس، الماء، الدخان والغيم والإنسان والحصان وحـالة الحركة... أي باختصار كل حركة في الطبيعة، وأًصبح الفنان التأثيري وكأنه يعيش داخل "ثريـا" براقـة ومومضة ومـائجة ومن هـنا اسـتبدل التأثيـريون السـاكن بالمتحرك الخـاطف، والعمـودي والأفقي وهما الأساسيين في الصياغة الواقعية للمكان – باللمسة العفوية للون الصافي الذي يعادل البنية الذرية للضوء". "فكانت التأثيرية هي محاولة للاستحواذ على أحاسيس حركة الضوء العابرة بدلاً من الأشكالFORMS المحددة والمعروفة بشكل جامد مجسم.
ويعد الفنان التأثيري كلود مونيه (1840-1926) من أكثر فناني أوروبا تأثراً بالفن الياباني، وقد اقتنى مونيه بعض المطبوعات وأعمال التصوير اليابانية، وعلق أحدها -واحدة من سلسلة هوكوساي (الزهور الكبيرة)- في صالونه الخاص لأن هذا العمل كان يمثل تعويذة علاقته بالفن الياباني بشكل عام. وعلق عليها قائلاً "كم هو قوي هذا العمل الذي قام به هوكوساي: انظر لتلك الفراشة التي تكافح الريح وإلى الأزهار وهي تنثني. إنها نفس منظومة الحياة، وكتب يناقش مجموعته عن التصوير الياباني و يشير قائلاً: "انظر إلى هذه الزهرة ببتلاتها تتمايل في الرياح، أليست هذه حقيقة قائمة بذاتها؟ قالها الملون العظيم".
إلا أنه في الفن الحديث لم تعد المسألة مجرد تجميد لحظة ما في العملية الديناميكية، ولكن تمثيل للعملية ذاتها، بمعنى أن التغير المستمر لوضع ما في المساحة إنما ليؤدي وظيفة في العمل الفني، ويتضح ذلك في ظهور أساليب التصوير الذي اعتمدت على التوتر الدائم بين المسطحات المختلفة المتداخلة في العمل الفني، فقد ظهر الفن الحديث في فترة تاريخية شهدت واقعاً متغيراً لا يمكن التعبير عنه إلا بالفن الديناميكي المتغير وقد بدأ ذلك الاتجاه المدرسة التكعيبية التي اعتمدت على التقابل بين عناصر متميزة ومنفصلة في إطار علاقات ديناميكية متحركة، وكذلك فإن العناصر المصورة في اللوحة التكعيبية يحتويها إطار عام دائم الحركة حيث نرى المسطحات والخطوط تتشابك وتتفاعل لتخرج "تنظيماً للسطوح" يتسم بالتوتر الديناميكي.
ولكي ينقل التكعيبيون الحجم والبعد أو المدى إلى المساحة المسطحة من خلال فكرهم الجديد كانوا يركزون في نظرتهم للأشياء على صفاتها البنائية؛ فتتحول الأشياء إلى مجموعة من المكعبات في أحجام محددة في الفراغ تبقى مرسومة وفق واقع واضح أي ملتصقة بالعالم المرئي، ومختصرة إلى جوهر مبادئها البنائية. وبعد تحليلهم للشكل وإعادة بنائه مرة أخرى يحولون المكعبات إلى سطوح مستوية متراكبة، يتداخل بعضها في بعض، ثم تلعب الظلال دورا هاما في تحريكها إلى شتى الاتجاهات لتحقق بذلك نوع من الحركة الايهامية وهذا الإحساس بالحركة يوحي بدوره بالمكان الذي يحتوي هذه الحركة بأبعاده.
لقد كان أسلوب التكعيبيين في تصوير الأبعاد يتيح للمشاهد التوغل داخل المشهد ورؤيته من جميع الزوايا. وفي هذا يقول جارودي "لقد صورت التكعيبية الأشكال المرسومة على اختلاف أوضاعها المتتالية كما لو كانت معروضة أمام إنسان حي متحرك". وهذا يردنا إلى قول ميرلوبونتي "إن العين ترى الأشياء وتربطها في علاقات من خلال حركتها، فمن خلال حركة العين يتشكل المنظور أو الرؤية" فالتكعيبية في تفكيكها للشيء وتفتيته إلى أجزاء وإعادة تنظيمها جعلت هناك صعوبة في إدراك الأشياء المعروضة بشكل مباشر أو في نظرة واحدة، وبذلك أُشرك المشاهد في تصوير الأبعاد لأنه أصبح لابد له من أن يشترك بخياله ليعيد تجميع شكل الشيء وإدراكه وتصور طريقة بنائه والأبعاد التي يقع فيها ويُعرض من خلالها.
لا يصور الفنان التكعيبي الأشياء من الخارج، فهو لا يصورها باعتباره غريباً عنها بل يصورها من الداخل باعتبار أنه هو وهي كائن واحد، ولذلك فإن المصور التكعيبي يرفض النظرية السائدة في منطق الرؤيا من أن الإنسان لا يرى ولا يمكن أن يرى ذات الشيْ من أكثر من وجه في ذات اللحظة. لذلك صور الأشياء من كل الوجوه في ذات الوقت، متوصلا بذلك إلى صورة ديناميكية للموجودات. وهو ما أوصله إلى أن يحطم زمن اللوحة والمنظور التقليدي الذي كان سائدا منذ عصر النهضة. وقد ذهب المنظور التقليدي إلى افتراض ثبات العين التي ترى. ورفضت التكعيبيـة ذلك عارضة الأشياء في حالة من التتابع وفي أوضاع مختلفة، ومن زوايا متنوعـة كما تبدو لإنسان يحيا ويتحرك بل ويحلم ويتذكر.
ثم حدثت محاولة أخرى في المدرسة المستقبلية التي كان شاغلها الأول هو التعبير عن الحركة كرغبة في الإمساك بعنصر الزمن أو البعد الرابع في التصوير وأطلق المستقبليون بيانهم في تورينو في فبراير 1910، معلنين إعجابهم بنتاج العلم الحديث، كالسيارة، والقطار، والطائرة... التي باتت مصدر إلهام لعملهم الفني. وهو ما يفسر اهتمامهم الكلي بالحركة والسرعة كدليل على دينامية الحياة الحديثة، ومحاولتهم التعبير عن دوامة هذه الحياة، حياة الفولاذ، والحمى، والكبرياء، والسرعة الجنونية. فنادي البيان بأن الحركة التي يسعى إلى تحقيقها المذهب الجديد ليست حركة ساكنة، بل ستكون حركة ديناميكية تتضاعف على الدوام، ويتغير شكلها باستمرار مع اندفاعها. ونادوا بسقوط رواد الفن القديم حتى التكعيبيون لأنهم استمروا يرسمون أشياء مجمدة لا تتحرك، وكل المظاهر الساكنة في الطبيعة".
وكان إبداع المستقبليين وعلى رأسهم جينو سيفيرينـي، وجياكـومو بـالا، وبوتشيوني يعني في جملته اتجاه المخيلة إلى إظهار نـوع جديد مـن التعبير في فـن التصوير يجافي بطبيعته نقل صور الأشكـال في وضعها الثابت. من هنا فإن الحركة تبقي لدى المستقبليون، كما لاحظ "بوبير" Popper، في موقع وسط بين الحركة الموضوعية في الانطباعية والتكعيبية والحركة الذاتية في التعبيرية، في نطاق يمكن أن يسمى "حركة مفهومية".
وقد تأثرت المستقبلية في مفهومها عن الحركة بنظرية النسبية لأينشتين Einstein تلك النظرية التي أدت في مجملها إلى مفاهيم جديدة للزمان والمكان والحركة فقد أثبتت أنه في عالم يتحرك كل ما فيه لا يمكن القيام بأي حسابات أو تنبؤات بغير اعتبار موقف الملاحظ، فقياس المكان يختلف باختلاف حركة المشاهد وقياس الزمان يتأثر بالفترة التي تستغرقها الحركة في مسافة معينة، وهكذا بدا العالم على أنه كيان مكاني–زماني متصل، وتحولت المادة إلى طاقة.
وقد وعى الفن هذه النظرية العلمية الحديثة التي ادخلت الزمان بعدا رابعا إلى أبعاد المكان عندما قدم المستقبلية، التي قامت تغزو الزمان والمكان وتعكس في أعمالها الحركة كأهم قوانين الحياة والوجود فكل شيء يتحرك، يركض يتحول في سرعة، والمنظر أمامنا ليس جامدا قط، بل هو يبدو ويغيب، ونظرا لثبات الصورة في شبكية العين، تظل الأشياء المتحركة في تقلب دائم متغيرة في تلاحقها، كما لو كانت ذبذبات متدفقة في المدى الذي تجتازه، لذلك يجب رسمها وسط كل المناخ المحيط بها وبالتالي يشعر المشاهد أنه في وسط اللوحة مشترك في الحركة ومتوغل في أعماقها.
نجد صدى لبعض العناصر في النظرية النسبية في تصوير المستقبلين فالنسبية ترى أن الزمان ملازم للحركة وملازم أيضا للمكان الذي تشغله هذه الحركة فالزمان المطلق والمكان المطلق ليس لهما وجود، ذلك لأن هذا الإطلاق هو تصور وهمي فلا مكان إلا إذا احتلته مادة ولا زمان إلا إذا نمت فيه حركة. وهذا ما حاولت المستقبلية صياغته تصويريا. حيث اعتمدت على قانون الحركة الكونية في محاولتها للتعبير عن البعد الرابع الزمني في نطاق الفن.
وإذا انتقلنا إلى تصوير أخر للحركة قدمته التجريدية واختلف ما بين التجريدية الهندسية والتجريدية التعبيرية نجد أن مع السنوات القليلة التي سبقت الحرب العالمية الأولى ومع كاندينسكي Kandinsky (1866-1944)، وموندريان Mondrian (1872-1944) ولدت المدرسة التجريدية بقيمها الفنية الواضحة والحادة، فبدأت الطبيعة مع موندريان تختصر وتتحول تدريجيا إلى مجرد مجموعة من الخطوط الهندسية والألوان المسطحة ومن ثم إلى أشكال مجردة كليا من أي دلالة عن العالم المنظور أو الممثل وإن كانت تستند إلى قوانين هذا العالم. فبدلا من أن يستوحي موندريان قاعدته من الطبيعة، فقد التجأ إلى التعامل مباشرة مع قوانين الوجود: بالرأسي والأفقي، وما يحصرانه من فراغات، فيها المستطيلات والمربعات التي نسقت لتوضيح إيقاعات متتالية متنوعة تمثل الهندسة النظامية وراء كل الأشكال؛ ومن خلال استيعابه للنظريات العلمية الجديدة في إدراك اللون التي سبقت الإشارة إليه، قدم بعداَ حركياً في الصورة يعتمد على اختلاف الأطوال الموجية للألوان حيث تنتشر في أعماله المربعات والمستطيلات المختلفة المساحة، والتي تتجمع تارة وتتفرق تارة أخرى على أرضية الصورة. ولما كانت هذه الألوان ذات أطوال موجية متغيرة، اكتسبت بعض الوحدات بعدية تتجه إلى أمامية الصورة مثل الحمراء والبرتقالية والبعض الآخر يتجه إلى الداخل مثل الزرقاء مما جعل هذه الوحدات تبدو في حركة مستمرة كما لو كانت تسبح في فضاء خيالي.
كذلك حاول الفنان التجريدي ماليفيتش Malevich (1878-1935) التعبير عن الحركة من خلال التغلب على لا شخصية الاشكال الهندسية فنرى أنه جعل بعضها مختلف عن بعض بالألوان والأشكال محاولا أن يعطي لكل منها شخصية مميزة، ثم يجمعها بحرية، فيخلق بينها جوا من التوتر. وهو أيضا يجعلها توحي إلى الناظر بأنها تتحرك وتنتقل بسرعات مختلفة حسب ما تكون تلك الأشكال رفيعة أو عريضة، أفقية أو عمودية أو مائلة. هذا الإحساس بالحركة يجعل الأشكال وكأنها لا تنتقل في حيز ذي بعدين فقط بل في مجال ذي ثلاثة أبعاد رغم تجريديتها".
أما الطرف الآخر من التجريدية وهي التجريدية التعبيرية التي أطلق عليها في أميركا التصوير الحركي action painting بسبب حركة الفنان الانفعالية النشطة أثناء العمل، وفيها يدخل الفنان في اللوحة بحيث يصبح جزءاً منها، وبناء على ذلك يتكون الفضاء التشكيلي عند الفنان انطلاقاً من "الحدث البصري" الناجم عن الأشكال، والألوان المتداخلة وما تولده من سطوح وملامس متباينة العمق. ففي التصوير التحركي، أو التصوير الفعلاني action painting. نجد أن المصور يصب اللون أو يقذفه على سطح الصورة الذي غالباً ما تكون كبيرة الحجم وممددة على الأرض، بعد أن يضع اللون السائل في علبة مثقوبة القاع يمر بها الفنان ذهاباً وإياباً وفي كل الاتجاهات، وأحياناً يركض الفنان أو يقفز نحو اللوحة وحولها ليخط عليها ضربات سريعة خاطفة. وبهذه الطريقة يربط فناني هذه الحركة (إرنست، اندريه ماسون، جورج ماتيو، بوللوك) عملية التصوير بالقوانين الفيزيائية للحركة وبما ينتج عنها من خطوط متشابكة، دائرية أو بيضوية، متنوعة الكثافة والتناغم.
ولعل الهدف من هذه الطريقة هو، كما يقول بوللوك، الدخول في اللوحة بحيث يصبح الفنان جزءاً منها. وهي موجهة للإدراك البصري أكثر مما هي موجهة للمخيلة، وبناء على ذلك يتكون الفضاء التشكيلي هنا، انطلاقاً من "الحدث البصري" الناجم عن الخطوط المتقاطعة والمتشابكة، والألوان المتداخلة وما تولده من سطوح متباينة العمق، وتكون وفرة الأشكال لا علاقة لها بتسجيل حدث أرضي. فهي تسجيل لحركة؛ والحركة، إذن، هي خط له اتجاه فضائي وزمني تعبر عنه إشارته التصويرية. ويمكننا تتبع هذه الإشارة في مختلف اتجاهاتها ومن خلال الإشارة تشدنا الحركة لنقتفي آثارها الضائعة، ونتوقف عندها مع إعادة اكتشافها، وفي ذلك اكتشاف للغاية الاتصالية بين الفنان والمشاهد.
ولوحات جاكسون بولوك رائد هذا الاتجاه عن اللوحات التقليدي استعاض بالأرض الرحبة حيث يروق له وضع قماش الرسم فوقها وسكب الألوان السائلة من أعلى لتصنع بقعاً وخطوطاً وأشكالاً تبدو وكأنها تكشف عن النسيج المعقد المؤلف من أجناس شتى يشبه المجتمع الأمريكي الذي عكسه بولوك في أعماله.
وبانتقالنا لفن الخداع البصري، نجد معالجة مغايرة لموضوع الحركة، حيث استفاد فنانو الخداع البصري وعلى رأسه رائدهم فاساريلي بالظواهر البصرية وتأثيراتها الفسيولوجية والسيكلوجية. فعندما أدرك الفنان أن للعين صفات من خصائصها رد فعل التأثير الخارجي بطريقة تتفق مع الجهاز البصري نفسه من الناحية (الفسيولوجية) لجأ إلى تنظيم الوحدات والأشكال بدراية واعية، ففن الخداع البصري يعتمد على توظيف بعض الأنماط الشكلية الخادعة للبصر، بحيث تظهر هذه الأنماط متحركة للعين رغم ثبات مادة العمل الفني، هذه الأنماط تحدث مجموعة من التأثيرات البصرية المتذبذبة والمتوالدة. وقد صممت تلك الأنماط اعتماداً على نظرية استدامة الرؤية للعين البشرية، حيث أن صورة شكل ما تظل على شبكية العين لمدة عشر ثانية بعد إبعاد الشكل المكون للصورة، فإذا وضع شكل ثم رفع من أمام العين ووضع نفس الشكل في مدة لا تزيد عن عُشر ثانية ولكن بحركة مغايرة وهكذا فإنه يتم الاحساس بحركة هذا الشكل.
وعن طريق تكرار النمط الشكلي الذي تم تناوله في العمل الفني وتصغيره وتكبيره ما يلبث أن يؤدي ذلك إلى إحساس بتغيرات ذبذبية حركية للأشكال المنتظمة في العمل الفني وبالتكرار المتوالي للوحدات المتكررة أمام أعيننا خلال استمرار النظر اليها فتبدأ النقط تضطرب وتتحرك والخطوط تموج، والسطوح تعلو وتنخفض والألوان والأشكال النسجيّة للعمل الفني والتي تبدو في لحظة معينة موجودة، ما تلبث أن تختفي فجأة وحتى الألوان تتبدل وتتعدد وتنتقل من المساحات الموجودة بها إلى مساحات أخرى غير ملونة أصلاً.
وفي تقصيه لهذه النتائج في مجال الفن البصري، انطلق فازاريلي مهتماً بالحركة التي تأتي من سطح الصورة نفسه وتسبب اهتزاز شبكية العين، وقد الذي حدد مبدأ الوحدة الفنية على أساس أن الخلفية والشكل يتألفان من توترات متقابلة يكمل بعضها بعضاً، وذلك بالاستعانة بالإمكانات اللانهائية للتمازج الناتجة عن تباين الألوان المتجاورة وتناغمها، وتقابل المساحات المتألقة والمساحات الساكنة. وقام بعمل تصميمات بالأبيض والأسود ذات بنية هندسية، تعتمد على فكرة أن أي تحرك للمشاهد أمامها يقود إلى تحول دائم في الأشكال.
وفي نطاق الفن البصري، استخدمت أيضاً وسائل أخرى بهدف الوصول إلى ظواهر حركية مصدرها التداخل الناتج عن انحراف الأشعة الضوئية بالنسبة إلى الخط المستقيم المتوجه إلى العين. هذه الظاهرة هي النتيجة المباشرة لتجاور الخطوط وتراكم المساحات أو السطوح الشفافة وما يطرأ من تفاوت أو تعديل يُحدث حركة متموجة، مُضللة للعين.
ومن ذلك الحين دخل تعبير أوب أرت ومصدره optical art (الفن البصري)، الذي اعتمد على تراكم البنى الهندسية، وتجاور الخطوط وتوزيع الألوان المسطحة والمتفاوتة الأعماق مما يؤدي إلى التماعها وتوهجها وانتشارها وتمددها وتقلصها وما ينتج عنها من تباينات متزامنة ومتتالية وكل ذلك يقود إلى تنشيط الشبكية وتفاعلها وترددها بين حالات حركية متنوعة.
الحركة الفعلية في العمل التشكيلي
إلا أن الفنان في بداية العشرينات من القرن العشرين قد استطاع تقديم الحركة الفعلية فكان مولد الفن الحركي الذي حاول أن ينقل الفن من مجال الحركة الضمنية والايهاميّة إلى مجال الحركة الفعلية، وكذلك ما تلا الفن الحركي من فنون توسلت بوسائط تعبيرية مختلفة، إلا أننا هنا نكون خرجنا عن نطاق التصوير المسطح إلى نطاق فنون العرض والتعامل مع الأبعاد الحقيقية لمكان عرض العمل الفني".
وفي النهاية وكما يقول د/فيصل سلطان "لم تعد اللوحة مجرد بناء خطي ولوني وهندسي، وإنما لعبة لحركة افتراضية مليئة بالمفاجأت والحرية في استخدام التقنيات الجديدة في عوالم المؤثرات الكهربائية والسينمائية. فالمجد الجديد لم يعد لليد التي تخط الإشارات وإنما للقصائد البصرية التي حولت النص التشكيلي إلى لغة كونية تتخذ من الأرض والفضاء والجسد والأثير والتموجات الموسيقية والتأثيرات الضوئية لليزر، بناء ديناميكياً يرتكز على العلاقة بين الساكن والمتحرك وعلاقة الأمكنة بالطاقة لابتكار فضاءات جديدة".
فنجد الفنان "توشيو" قد خلق علاقة وطيدة بين حركة الموسيقى وحركة لأشكال كما في العمل الفني "Music Insects" عام 1992 حيث استخدام الأشكال الجرافيكية والاستجابات البصرية المتزامنة بشكل حقيقي مع الموسيقي. وكذلك في عمله "رنين لـ 4" 1994 حيث نجد التفاعل بين ما هو بصري وآخر سمعي عمل فني يتيح الفرصة لأربعة أشخاص التعاون في تأليف موسيقى كامل، حيث يحرك كل منهم النقط اللونية في الشبكة التي أمامه على الأرض (بالماوس) حيث أن كل شبكة لها درجات خاصة بها، للوصول إلى لحن موسيقى متناغم من خلال تغيرات متزامنة بينهم. ومن هنا نرى كيف استطاع الفنان "تحقيق الحركة من خلال سياق تقدمه التكنولوجيا" مما أتاح طرح أفاق جديدة للحركة في العمل الفني".
هذه إشارة سريعة لبعض ما شغل الفنانين فكرياً فيما يتعلق بمشكلة الحركة، إلا أنه يجب التأكيد على أن واحدة من هذه المحاولات لم تستطع الابتعاد عن الحلقة المفرغة للمساحة التصويرية. لقد تحدد المصير في مجال التصوير المسطح بالحركة الخيالية.
كانت تلك رحلة قصيرة تتبع بعض محاولات الفنانين عبر مراحل تاريخ الفن لجمع الزمان والمكان من خلال تمثلهم للحركة في العمل الفني التصويري.
(أستاذ مساعد بقسم التصوير، كلية الفنون الجميلة، جامعة الإسكندرية، جمهورية مصر العربية)