بإمكانك أن تجد في كل 100 كيلومتر مربع في الجزائر التي تقترب مساحتها من 2.4 مليون كيلومتر مربّع، جامعة بذلك بين البحر والسّهل والغابة والجبل والوادي والهضبة والصّحراء؛ نمطًا غنائيًّا وموسيقيًّا بكلّ ما يتبعه من أنماط في الأشعار واللّباس والطّقوس والمشاهد، فهي قارّة موسيقيّة بامتياز.
يأتي فنّ أهلّيل في طليعة الأنماط الغنائيّة والشّعرية والموسيقيّة الجزائرية، التي فرضت نفسها وحسّها، ليس على الجزائريين فقط بل على العالم كلّه، واستطاعت بعض هذه الأنماط الموسيقيّة أن تخترق الأجيال والجغرافيات، وتنضمّ إلى قائمة التّراث الإنسانيّ، فتنتشل نفسها من النّسيان والإهمال والاستبعاد، وتصبح وجبة يومية في حياة الجزائريين، فهم يتعاطونها في مناسباتهم المختلفة، ويستعرضونها أمام زوّارهم بصفتها واحدة من تجلّيات هوّيتهم الثّقافيّة والفنّية والرّوحية.
يأتي فنّ أهلّيل في طليعة هذه الأنماط الغنائيّة والشّعرية والموسيقيّة، التي فرضت نفسها وحسّها، ليس على الجزائريين فحسب، بل على العالم كلّه، حيث عمدت منظمة اليونيسكو عام 2005 إلى إدراجه ضمن القائمة التّمثيلية للتّراث الثّقافي اللّامادي للبشريّة، التّي تضمّ 90 من أبرز المأثورات اللامادية.
من عالم التصوف الروحانيات
خرج هذا الفنّ من منطقة قورارة وتيميمون الواقعة على مسافة 1400 كيلومتر إلى الجنوب من الجزائر العاصمة. وهي منطقة موغلة تاريخيًّا في عوالم التصوّف والرّوحانيات، إذ نجد طرقًا صوفيّة كثيرة ذات انتشار عالميّ ومحلّي، منها التّيجانيّة والقادريّة، وإليها يُنسب تذويب هذا الفنّ في الرّوح الإسلاميّة، بعد أن كان يُسمّى قبل دخول الإسلام إلى المنطقة في القرن الثّامن للميلاد بأزنّون.
واختلفت الرّوايات في معنى التّسميّة، غير أنّها لم تخرج عن كونها مشتقة من أهل اللّيل، إذ يُؤدّى هذا الفنّ ليلًا، أو أنه من تصغير الهلال، الذّي يُرافق هذا الطّقس، أو من التّهليل، إذ تغلب عبارة "لا إله إلا الله" على ما يقوله المؤدّون، الذّين يتكوّنون في العادة من سبعة منشدين، فيما يتفرّغ الآخرون للتّصفيق الموافق للألحان، وللعزف على آلات معيّنة، مثل الطّبلة وزمزاد وتمجا.
مع العلم بأنّ تسجيلات بالأبيض والأسود بثّها التلفزيون الجزائري، ظهر فيها الأهلّيل مجرّدًا من الآلات تمامًا، إذ كان ضبط الإيقاع يعتمد على التّصفيق وضرب الأحجار ببعضها، ممّا يدلّ على أنّه تعرّض لرياح العصرنة.
المرأة في فن أهليل
تسمح حلقة الأهلّيل للمرأة بالمشاركة، ذلك أنّ الثّقافة السّائدة في مناطق الأهلّيل تنتمي إلى الثقافات الآموسيّة، التّي تلعب فيها الأمّ دورًا مفصليًّا في الحياة العامّة.
ولأنّ فنّ الأهلّيل يُشكّل نظرة للوجود لدى المؤمنين به والمنخرطين فيه، فقد كان طبيعيًّا أن يظهر فيه عنصر التّأنيث. ويُشار هنا إلى أنّ الموضوعات المتناولة فيه، والتّي تُغنّى بالعربيّة وبالأمازيغيّة الزّناتيّة، ليست دينية بالضّرورة، بل تمتدّ إلى الحبّ والحرب والقيم الإنسانيّة المتعارف عليها.
ولم يكن فنّ الأهلّيل مذكورًا خارج النّطاق الجغرافيّ، الذّي طلع منه في الجنوب الجزائريّ، قبل كتاب "أهلّيل قورارة"، للكاتب والباحث المتخصّص في التراث الأمازيغيّ مولود معمري (1917 ـ 1989). وهو كتاب اعتمد على البحث والمعايشة الميدانيّين وعلى التأصيل الأنتروبولوجيّ واللّساني لهذه الظاهرة الفنّية والاجتماعيّة.
وقسّم مولود معمري الزمن الذّي يُؤدّى فيه أهلّيل إلى ثلاث مراحل، تُسمّى الأولى "المسرب"، تبدأ مع الغروب إلى منتصف اللّيل، ويغلب عليها التوسّل بالذّات الإلهيّة وبالرّسول محمّد وبالأولياء الصّالحين.
وتُسمى الثّانية "أوقروت" نسبة إلى الواحة، التّي تحمل الاسم نفسه، تمتدّ من منتصف اللّيل إلى الفجر، ويغلب عليها تناول الذّكريات والبطولات، فيما تُسمّى الثالثة "تيترا"، تبدأ من الفجر إلى شروق الشّمس، ويغلب عليها التّفاؤل والاستبشار.
تأسّس مهرجان الأهلّيل عام 2007. ولعب دورًا حاسمًا في ربط هذا الفنّ بقنوات السّياحة والإعلام، تزامنًا مع تصنيفه ضمن التّراث الإنسانيّ. وهو ما أدّى إلى انتعاش عدد الفرق المتخصّصة فيه، إذ وصلت إلى 50، منها فرقة "طمّين" وفرقة "مولاي يعقوب" وفرقة التّراث في أمان"، وذلك بعد أن كان يُؤدّى في العادة بشكل عفويّ من طرف السكّان. وباتت هذه الفرق مطلوبة خارج المنطقة، ضمن الأسابيع الثقافيّة داخل وخارج الجزائر.
تأمل بسيط في الحالات الروحية والشكلية لفن أهليل، يدفع للإدراك نحو أنه يختزل نظرة الجزائري الجنوبي في أبعاده العربية والأمازيغية والإسلامية، تأمّلٌ بسيطٌ في الحالات الرّوحيّة والشّكلية والزّماكانيّة، التّي تمثّلها حلقة الأهلّيل، يدفع للإدراك نحو أنّها تختزل نظرة الإنسان الجزائريّ الجنوبيّ في أبعاده العربيّة والأمازيغيّة والإسلاميّة والأفريقيّة، إلى ذاته وهي تنصهر في الزّمان والمكان والذّات العليا، فهو منفصل ومتّصل وهادئ وثائر وحالم وموجوع في الوقت نفسه، وهو ما يشكّل حالة إنسانيّة عميقة أهّلت هذا الفنّ لأن يكون تراثًا عاميًّا.