تمنيت ألا أنتهي من كتاب “فسيفساء لذاكرة حاضرة... حوار المستعرب الإسباني بدرو مارتينث مونتابث”، فقد أبعد عني ملل الاحتقان المروري في القاهرة، ورافقني ذات سفر خارجها. وبعد صحبة أعادت إليّ تعريف معنى “الونَس”، فاجأتني صفحته الأخيرة، وكدت أغار من المستعرب الإسباني بدرو مارتينث مونتابث، لولا شعوري بالخطأ في تأخر قراءة أعماله، وهو إثم يتقاسمه معي مترجمون كسالى، لم يواصلوا نهج أساتذتهم بالدأب نفسه، وإن كان البعض قد وجد إغراء في ترجمة نصوص وشهادات توثق جذور التراجيديا، كما في كتاب “حرب غرناطة” لأورتادو دي مندوثا (1503ـ1075)، وترجمته إيمان عبدالحليم وسلوى محمود (2008). وكان الأساتذة مهتمين بترجمة أعمال الرواد، فالدكتور محمود علي مكي ترجم أعمالا للوركا وإميليو غارثيا غوميث، وكان الدكتور الطاهر أحمد مكي يهديني كتبه المؤلفة عن حضارة وفنون العرب في الأندلس، وكذلك ترجماته ومنها كتابا “الفن العربي في إسبانيا وصقلية” و”الشعر العربي في إسبانيا وصقلية” لفون شاك، وكتاب “التربية الإسلامية في الأندلس.. أصولها المشرقية وتأثيراتها الغربية” لخوليان ريبيرا.
بمدّ الخيط على استقامته، كان على جيل جديد من المترجمين أن يواصل التعريف بجهود بدرو مارتينث مونتابث ومن جاء بعده، ولحسن حظ القارئ العربي أن تنجز الدكتورة أثير محمد علي كتابها “فسيفساء لذاكرة حاضرة.. حوار المستعرب الإسباني بدرو مارتينث مونتابث”، في سرد شفيف وشائق، تنسغ فيه الذات بالموضوع، فتختفي الحدود بين فنون المقابلة الشخصية وكتابة السيرة الغيرية والتاريخ الثقافي وتوثيق شهادة على مرحلة سياسية فارقة في التاريخ العربي.
على نهج الإبداعات السردية، لم تكتب أثير محمد علي مقدمة لكتابها الذي أصدرته الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، وكتب الدكتور صبري حافظ الذي قام بمراجعة الكتاب تقديما ضافيا، تحية للكاتبة وللكتاب وللرجل الذي قضى في مصر خمس سنوات (1957ـ1962)، وتمكن بعد تلك التجربة “من تغيير رؤيته للاستشراق نفسه من جهة، وللواقع الإسباني الذي عاد إليه قبل أن يكمل الثلاثين من عمره عام 1962 من جهة أخرى”، إذ أسس بدرو مارتينث مونتابث في كل من جامعتي إشبيلية وأتونوما بمدريد قسمي اللغة والدراسات العربية والإسلامية، “على أساس أنها لغة عملية وحيوية وحيّة”، وأعاد النظر في تاريخ إسبانيا وثقافتها وهويتها. وفي رأي مُراجع الكتاب أن هذا العمل يسدّ ثغرة تركها مونتابث “شاغرة؛ لأنه لم يولِ عنايته لتأريخ تجربته والحديث التوثيقي عنها”.
“فسيفساء لذاكرة حاضرة” حصاد عدة مقابلات بين المؤلفة وأستاذها مونتابث، ولكن الكتاب ينأى عن قوالب تقليدية للأسئلة والإجابات. وبتواضع وذكاء، اختارت أثير محمد علي أن تظل خارج إطار صورة يحتلها الرجل بفيوضات ذاكرته الباذخة، إلا أنها ترجمت “ما أبصرته من تعابير وانفعالات وحركة يد أو رجفة رمش”، ووصفت مكتبته وبعض محتويات بيته ومنها منحوتة لرأس بدر شاكر السياب للمثّال السوري عاصم الباشا، والتمثال هدية لمونتابث من ابنته المستعربة روسا-إيسابيل مونتابث ليو.
وانحازت المؤلفة إلى الإسبانية لغةً للحديث؛ لأنها “اللغة الأم لأستاذي، لأنها اللغة الأصدق تعبيرا عن تلك السرحات الشخصية، والانطلاقات الحكائية في الحارات الحميمة” التي شغلت كتابا يقع في 344 صفحة متوسطة القطع، وفيه يقول مونتابث إنه يجيد العربية بطلاقة.
ولد مونتابث في 30 يونيو 1933، وتوفيت أمه مع بداية الحرب الأهلية (1936ـ1939)، إثر ولادة متعسّرة ولد معها أخوه ميّتا، فاحتفظت طفولته المبكرة بالفقد ومأساة الحرب الأهلية، وهو يعتبر كل الحروب مدمرة ماديا ونفسيا، “وقذرة.. إلا أن الصيغة الأكثر سوداوية للحروب هي الحرب الأهلية”، ففي الضيعة الريفية رأى الجوع وجرّبه، وكانت العاصمة مدريد ساحة قتال وحشي. ومن آثار الحرب الأهلية سجن الأب الذي خاض الحرب إلى جانب الفريق الجمهوري، واستمرت محاولاته لإنقاذ مواطنين من الفريق اليميني، ثم فرّ بين تلال طليطلة، وقبضت عليه قوات الفريق اليميني، وأودع في السجن. فيما بعد قال الأب لابنه إنه نجا من الإعدام ثلاث مرات. ثم انتهت آلام الحرب ورحل الأب إلى مدريد، وتزوج من الممرضة “روساريو” التي كرّست حياتها لتربية الطفل بدرو.
يعترف مونتابث بأن الاستعراب مُجهد، فاللغة العربية لا تمنح نفسها بيسر، ولكن إقامته في مصر قرّبت إليه اللغة. وكان مونتابث يريد الالتحاق بكلية العلوم السياسية، فحذره والده الذي يدرك طبيعة حكم فرانكو: “هل أنت غبي!! في إسبانيا الفرانكوية لا يمكن أن تدرس العلوم السياسية”، وربما كان هذا التحول حسنة أسداها فرانكو بغير قصد إلى الدراسات العربية، إذ دخل الفتى كلية الآداب والفلسفة، وأحب زميلته مرثيدس، وتزوجا بعد التخرج عام 1956، وأثمر الزواج أربعة أبناء: سرخيو، بدرو-أنطونيو، روسا-إيسابيل، نتاليا. وحصل مونتابث على منحة دراسية في مصر، وأجّل العدوان الثلاثي (الإسرائيلي البريطاني الفرنسي) السفر إلى بداية عام 1957، وكانت مصر ثاني بلد عربي يزوره بعد المغرب الذي نشر فيه عام 1956 كتابه “المدرسة السورية-الأميركية”، أنطولوجيا لشعراء الرابطة القلمية، وهو أول كتاب بالإسبانية عن توجّه حداثي في الشعر العربي، وتبعه عام 1958 بكتاب “الشعر العربي المعاصر”.
ويرجع الفضل لأستاذه إميليو غارثيا غوميث في فتح ثغرة إلى العالم العربي المعاصر “الغائب بامتياز عن دراساتنا... هو حاضر أكرهنا على تجاهله”. ولهذا عمد مونتابث، في وقت لاحق، إلى نسف جدار أمام الدراسات العربية، وفتح الأبواب على مصراعيها أمام دراسة الأدب والفكر العربي الحديث والمعاصر.
وقبل التجربة المصرية كانت حدود معرفته بالعالم العربي محكومة بتصورات الدراسات القروسطية في الجامعة، “إلى درجة أننا لم نناقش حقيقة اللغة العربية كلغة حية تستخدم للحديث والتفاهم، وأن العرب يتواصلون بها إلى الآن”، وكانت الدراسات تفتقد التواصل مع الحاضر العربي، ففي العام الدراسي 1953-1954 درسوا مادة “الإسلام المعاصر” لمدة أربعة أشهر، “في هذه المادة لم يذكر لنا أحد أي شيء بشأن تأسيس إسرائيل”.
أما لماذا يدافع عن فلسطين؟ فيرد: “الإجابة بسيطة؛ لأنني أدافع عن الحرية... والكفاح في سبيل فلسطين بالنسبة لي هو كفاح في سبيل الحرية والكرامة الإنسانية، ومن وجوه عدة يمثل وضع الفلسطينيين أقصى حالات الاعتداء على الحرية والكرامة”، والأمر نفسه يخص لبنان حينما اعتدت عليه إسرائيل، وبالنسبة إلى العراق أيضا.
في فصل عنوانه “تخوم المعمورة الروحية تتسع في مصر” يقول مونتابث “أكدت باستمرار، وكل يوم تترسخ قناعتي بما أكدته سابقا، بأني أنا بدرو مارتينث مونتابث كفرد، ومستعرب محترف، وكائن إنساني، ورجل من زمنه لا يمكن أن أُفهم دون مصر، هذه هي حقيقتي التي تتوافق تماما مع سيرتي، فمن وجوه عدة تبلورت أناي بما قمت بمعرفته وإنجازه في الديار المصرية. اللقاء مع مصر كان أكثر من مجرد كشف، فسِفره يبوح بالتجلي حسب المعنى العربي للكلمة، ولكن روعة هذا التجلي لم تقتصر على لحظة الرؤية، وإنما استمر كتجليات واكبت زمني باستمرار ... أستطيع الحديث عن مصر لسنة كاملة دون أن أسدل ستار النهاية”.
يفخر مونتابث بأنه عرف مصر من الإسكندرية حتى وادي حلفا ومن السويس حتى سيوة، وأنصت إلى صخب الأغاني في الشارع، والباعة في سوق العتبة، وهدير محركات الحافلات، واقترب من روح البلد وأهله، واكتشف أن القاهرة التي يعرف تفاصيلها “شبرا شبرا” ليست مجرد مدينة، ولكنها مدن متعددة. وإلى الآن حين يزورها يتوجه إلى شارع المعز في القاهرة الفاطمية، فيشعر “بكثافة الحياة البشرية والفنية ... وأتلمس المقدرات الإبداعية الموجودة فيه كما لو كان سرة العالم، حيث يستطيع المرء هناك التعرف على ما تعنيه عبارة ‘أم الدنيا’، ويبصر المعنى ويتبصر فيه”.
وأما غوصه في المنطقة التي تضم مسجد الحسين والجامع الأزهر، وفيها دارت أحداث ثلاثية نجيب محفوظ، “فكانت بالنسبة لذلك الشاب الإسباني الذي كنته بمثابة صعق معرفي وجمالي استثنائي”. باختصار يقول إن القاهرة الأصلية، يقصد الفاطمية، “أذهلتني”.
ومن الأماكن إلى الرموز، يقول مونتابث إن العالم العربي آنذاك “كان بحاجة لشخص كعبدالناصر، شخص يستطيع أن ينفض عنه وعن معيشة شعوبه ما حل بها من سكونية”، ولا يغفل أخطاءه الكثيرة، ومنها عدم الوعي بالظرف الدولي، “حين ظن أنه يمكن أن يمرر مشروعه، وبأن الغرب يمكن أن يتغاضى عنه، أو حتى يقبل به، على الإطلاق فالغرب لم يكن ليقبل في أي لحظة بالمشروع الناصري.. مشروعه كان فوق ما هو متاح، وما هو مسموح به”.
ويخلص مونتابث إلى أن عبدالناصر شخصية تراجيدية إغريقية، وأن وجوده كان ضرورة مثل أي بطل تراجيدي يسير عكس التيار. وكان أول لقاء لمونتابث بعبدالناصر، أثناء زيارة ملك المغرب محمد الخامس للقاهرة، ولا يعرف ماذا جرى له أثناء المصافحة، “وكأن البكم أصابني! لم أقدر على التفوّه بأية كلمة ولا على الحركة، كما لو أن الشلل اعتراني”، وفي مناسبة تالية أتيح له تبادل الحديث مع عبدالناصر الذي يراه “الشخصية الأهم في العالم العربي المعاصر... شخصية جدلية بامتياز.
ومن وجهة النظر السياسية أسهم في تشكيل الكثير من أبعاد ومميزات التقدمات والتراجعات في سيرورة العالم العربي المعاصر، وألهج بالشكر لأنني خُضت تجربتي المصرية في تلك السنوات الناصرية... ساعدتني هذه التجربة الغنية على أن أكتشف العروبة، وأبعادا هامة أخرى سترافقني طوال حياتي”.
بعد هذا العمر، يعترف مونتابث بأن الاستعراب مُجهد، فاللغة العربية لا تمنح نفسها بيسر، ولكن إقامته في مصر قرّبت إليه اللغة، فأحب الثقافة العربية والعالم العربي، الذي طاف به من سامراء في العراق إلى شط العرب وصحراء الجزيرة واليمن، وأحب “بعمق سوريا” ومدنها: دمشق وحلب وتدمر واللاذقية.
وفي تلك الرحلة كان ينتمي إلى زمنه، قبل أن يكون مستعربا، وقد أفادته رحلته العربية في تجديد الاستعراب، ليشمل المنهجية التدريسية وجميع الحقول اللسانية والنظرية والاجتماعية، “فما رأيته وخبرته واكتشفته وتمثلته في مصر خاصة والمشرق العربي عامة برهن لي عن مدى جهلنا بهذا العالم الذي ندرسه”، واقتنع بضرورة وضع أصابع الديناميت في الاستعراب الإسباني التقليدي لتفجيره، والقطيعة معه، واقترح على نفسه وعلى مستعربين آخرين، منذ عودته من مصر وعمله في الجامعة المركزية بمدريد، أن يكون هذا التجديد جماعيا، “دون مفارقة الوعي بأن دراسة الأندلس في الاستعراب الإسباني هي بمثابة رؤية الإنسان الإسباني لنفسه بنفس الوقت الذي يرى فيه الآخر”.
يراقب مونتابث حصاد الاستعراب الإسباني فيجده “لم يتناول بجدية أو بعمق معنى الأندلس التاريخية، وما الذي عناه العصر الأندلسي وكل ما هو عربي إسلامي بالنسبة لنسيج وبنية إسبانيا التاريخية والثقافية، كذلك بالنسبة للصياغة المفترضة والمحتملة للهوية الإسبانية”، بل يرصد طروحات متأخرة “معتوهة ومبالغة، تقوم على الحس العدائي والنفي والسخرية من إمكانية وجود أي مؤثر”، ولهذا يلحّ على أن الأندلس تاريخ مشترك يتقاسمه الإسبان والعرب؛ وأن “ظاهرة الأندلس انتهت في الزمن ولكنها لم تنته في الذاكرة.. وبلا أدنى شك لا يمكن تفسير إسبانيا بدون الأندلس″.
هذه الروح الطليقة، غير المثقلة بأحكام سابقة، حرّرت نظرة الرجل إلى الشعر وإلى الثورات العربية التي اندلعت عام 2011. فيقول إن قصيدة النثر ليس فيها ما يدعو إلى الجدل الدائر حول شرعيتها، ويجد تفسيرا في ثنائية الدين واللغة، “هناك فقهاء عقيدة للدين، كذلك يوجد فقهاء عقيدة للشعر، ولا يخفى على أحد أن فقهاء العقيدة خطرون وربما كان فقهاء اللغة أخطر منهم”.
وأما الثورات الشعبية فهي تنطلق من الشوق إلى الحرية وتلبية الاحتياجات الاقتصادية، “فالعالم العربي ومنذ زمن بعيد هو فضاء مفرّغ من الحرية”. وعلى الرغم من عدالة هذا الحراك وشرعيته، نوّه مونتابث مبكرا بأن العالم العربي ليس مستقلا ذا سيادة، وأن إكراهات خارجية تمارس عليه، إذ “يتم اللعب به على موائد أخرى في العالم”، واستشهد باختلاف ردود الفعل الغربية على الحراك من بلد عربي إلى آخر، مؤكدا أن ما يجري أكبر من مجرد دفن للاستبداد وإحلال الديمقراطية. وكان مونتابث ثاقب البصيرة.