يتناول الكاتب السعودي مفهوم المثقف، ويرى أن لا ثقافة خارج المجتمع، فهنالك دائمًا علاقة جدلية يتحدد من خلالها موقع ودور البنية الثقافية وتفاعلها مع المكونات والعوامل الاجتماعية، فالحديث عن أزمة الثقافة العربية يقودنا بالضرورة إلى الحديث عن الأزمة البنيوية العميقة للدولة الوطنية والواقع العربي العام بمستوياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

المثقف بين التنميط والتجديد

نجيب الخنيزي

 

تبلوُرُ مصطلحَيِ الثقافة والمثقف في الغرب ناهيك عن العالم العربي لا يعود إلى حقبة زمنية طويلة، وتعود بدايات تشكلهما إلى عصر الأنوار في أوربا وإرهاصات الثورة الفرنسية منذ سبعينيات القرن الثامن عشر حيث تراجعت وانكفأت سلطة الكنيسة، وجرى التمايز ما بين الديني والمدني، أما في العالم العربي ارتبط ظهورهما مع بدايات مشروع النهضة في أواسط القرن التاسع عشر.

تباينت وتعددت تعريفات الثقافة والمثقف التي تصل إلى العشرات من التوصيفات المتضاربة، ويعد المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي من أبرز من نظر لمفهومي الثقافة والمثقف في عشرينيات القرن (العشرين) المنصرم ويقول في هذا الصدد: «إن المثقف الفعال تتوهج أفكاره تحت رماد التخلف ويشعر بمسؤوليته في تغيير الواقع؛ يدرس التأريخ وتعقيداته بعيون فاحصة، ويقول كلمته ببسالة، ويشارك في إثراء الواقع بلا حدود، من دون أن يستسلم لماضٍ لم يعد في أكثر جوانبه يجدي المجتمع في مسيرته، ولا يستسلم إلى الآخر، يجعلنا –هذا المثقف- نأخذ من ماضينا من دون أن نسمح له أن يستعبدنا، ونأخذ من غيرنا من دون أن ندعهم يستلبون عقولنا أو يخيفونا».

في سياق آخر يؤكد غرامشي أنه لا يوجد أي نشاط إنساني يمكنه أن يكون خاليًا من النشاط الذهني (حتى المهام الأقل إبداعية). وبالمقدار نفسه، فإنه لا يوجد أي نشاط ثقافي يمكن أن يتم إلى نهايته من دون عمل يدوي (مثلًا: كتابة الكلمات أو عزف الموسيقا)؛ لذا، فإن ما يميز المثقفين عن غيرهم هو أنه في نشاطهم يميل التوازن بين العمل الذهني واليدوي ناحية العمل الذهني.

لدى تناولنا للخطاب الثقافي والمسألة الثقافية العربية بمكوناتها وعناصرها ومسارها لا بد من الإشارة إلى خاصيتين متلازمتين لأية ثقافة وهما؛ أولًا: الاستقلالية النسبية للثقافة وصقل الأفكار والمعرفة، ومع أن المجال الثقافي يدرج في العادة ضمن البناء الفوقي الذي يشمل الدولة والقانون والحقوق والأخلاق… إلخ، فإن تموضعه الخاص يتجاوز علاقات الاستتباع الميكانيكي «الانعكاسي» للبناء التحتي بعلاقاته الاقتصادية/ الاجتماعية، وهو ما يعطي الثقافة بُعدها الخاص المؤثر والمميز ضمن التشكيل والنسق السياسي/ الاجتماعي القائم.

ثانيًا: تاريخية الثقافة أو البعد التاريخي للثقافة العربية بمكوناتها وعناصرها ومسار تطورها مرتبطة إلى حد بعيد بالمسار والنسق الاجتماعي العربي العام؛ إذ لا ثقافة خارج المجتمع في تحولاته وتبدلاته البنيوية بفضل العوامل الداخلية «الخاصة» والخارجية «العامة» الموضوعية. وضمن هذه العلاقة الجدلية المترابطة والمتبادلة يتحدد موقع البنية الثقافية ودورها خصوصًا في مرحلة الانعطافات والانقطاعات الجادة فإن مساءلة الخطاب الثقافي العربي بأسئلته وتساؤلاته القديمة/ الجديدة وتحديد جذور أزمته لا بد أن يقودنا بالضرورة إلى الكشف عن جوهر الأزمة البنيوية العميقة للدولة القطرية والواقع العربي بمستوياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الذي أفرز ثقافته وفكره المأزوم، فهنالك تداخل بين أزمة الثقافة وثقافة الأزمة. أمام الثقافة العربية مهمة صعبة وتحدٍّ خطير خصوصًا في مرحلة العولمة وتجلياتها الثقافية والمعرفية والمعلوماتية، وما يطرح من مقولات حول صراع الحضارات والثقافات وتصوير قوى نافذة ومتحكمة في النظام العالمي بأن الصراع الرئيسي في العالم أصبح يتحدد بعوامل ثقافية وحضارية ودينية وبأنه يتمثل أو يدور في هذه المرحلة التاريخية بين الإسلام بوصفه دينًا وثقافةً وحضارةً وبين الغرب الذي يمثل النقيض تمامًا.

والإشكالية هنا لا تكمن في تأزم الواقع العربي فقط بل إن البديل أو البدائل المقترحة مأزومة أيضًا، وهو ما يعطل القدرة على الفعل والتأثير ومجابهة التحديات الداخلية والخارجية. الثقافة العربية السائدة هي أسيرة نمطيْنِ وشكليْنِ من الثقافة وإن بدا أنهما متعارضان من حيث المنطلقات والمقدمات إلا أنهما في التحليل النهائي يلتقيان عند جذر واحد، ويمثلان وجهَيْ عملة نقد واحدة من شأنها الإبقاء على ديمومة التخلف والجمود وتعطيل القدرة على التغيير والتجاوز. فالثقافة المستمدة عناصرها من التراث فقط تعيد إنتاج ثقافة ماضوية سلفية متزمتة تستند إلى النقل والتلقين والتقليد، وتعادي العقل وترفض الأخذ بمستلزمات التطوير والتغيير الذي يتطلب الانفتاح والاجتهاد والإقرار بالتعددية. وفي موازاة ثقافة الهروب إلى الماضي هنالك ثقافة الهروب إلى الآخر وهي الثقافة التي تتخذ عناصرها من المراكز الثقافية «الغربية» العالمية وتبني ومحاولة فرض أو إسقاط المفاهيم والنظريات الغربية بغض النظر عن مدى صحتها وعلميتها بصورة آلية ومن دون الأخذ في الحسبان الظروف والخصائص المختلفة، لتطور البلدان والمجتمعات العربية، وهو ما فرض عليها حالة من العزلة والاغتراب وهامشية العقل والتأثير في الواقع العربي.

ففي الحالتين تسود ثقافة التقليد والنقل والمحاكاة والاستهلاك ثقافة إعادة إنتاج التخلف والتبعية. بطبيعة الحال لا يمكن عزل المثقف والمسألة الثقافية في بلادنا عن التحولات البنيوية على الصعيدين الاجتماعي والثقافي.

الهوية الثقافية وتحديات العولمة

في الفلسفة والفكر عمومًا الأسئلة دائمًا أهم من الأجوبة، الأسئلة التي تحمل إمكانية أجوبة أخرى، فدهشة السؤال تبقى منطلق كل معرفة، فأدوات الاستفهام ودلالات الأسئلة هي التعبير المكثف لمعاناة الإنسان في بحثه عن الماهية والوجود والمصير الفردي والجمعي والسؤال المركزي المثار هنا: ما موقع ودور الخطاب الثقافي والمسألة الثقافية بمكوناتها وعناصرها ومسارها ضمن النسق الاجتماعي العربي العام؟ إذ لا ثقافة خارج المجتمع في تحولاته وتبدلاته البنيوية بفعل العوامل والتطورات الداخلية والخارجية، فهنالك دائمًا علاقة جدلية مترابطة ومتبادلة يتحدد من خلالها موقع ودور البنية الثقافية وتفاعلها مع المكونات والعوامل الاجتماعية الأخرى، فالحديث عن أزمة الثقافة العربية يقودنا بالضرورة إلى الحديث عن الأزمة البنيوية العميقة للدولة القطرية (الوطنية) والواقع العربي العام بمستوياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الذي أفرز ثقافته وفكره المأزوم، فهنالك تداخل بين أزمة الثقافة وثقافة الأزمة، فالإشكالية هنا ليس في تأزم الواقع العربي فقط بل إن البديل أو البدائل المختلفة المطروحة مأزومة أيضًا.

الثقافة العربية السائدة هي أسيرة نمطين وشكلين من الثقافة وإن بدا أنهما متعارضان من حيث المنطلقات إلا أنهما يلتقيان عند جذر واحد هو تعطيل وتجميد الإبداع والمعرفة والفكر وشل القدرة على التغيير والتجاوز والتجديد.

فالثقافة المستمدة عناصرها من إعادة إنتاج ثقافة ماضوية (تقليدية) فقط مطبوعة بطابع التقليد والنقل والتلقين هي ثقافة ترى النموذج في إعادة استحضار الماضي المزدهر، التليد في الحاضر البائس والتعس بغض النظر عن الفاصلة الزمنية الممتدة وظروف هذا الحاضر ومتغيراته وتناقضاته والعوامل التي تحكم تطوره. وهنالك الثقافة التي تستمد عناصرها من المراكز الثقافية العالمية (الغربية) وسعت إلى فرض وإسقاط المفاهيم والنظريات الغربية (بغض النظر عن علميتها وصحتها) بصورة تعسفية ومن دون أن تأخذ في الحسبان الظروف والمسار المختلف لتطور البلدان والمجتمعات العربية، وبالتالي ظلت أسيرة العزلة والاغتراب وهامشية التأثير في الواقع الموصوف بالتخلف والأمية والفقر والتبعية والاستبداد.

في الحالتين تسود ثقافة التقليد والنقل والمحاكاة، ثقافة إعادة إنتاج التخلف والتبعية، وتحويل التراث الثقافي العربي إلى مجرد (فُلكلور) ثقافي ينحصر في المناسبات. الخطاب الثقافي لا يقنع بالسؤال عما كان فقط وإلا اقتصر على نقل ما كان في الماضي، فالتطلع دائمًا هو لما يجب أن يكون، ووصل الحي بالحي وليس إحياء الميت لإماتة الحي فينا.

لا بديل عن نظرة نقدية وعلمية وموضوعية لمجمل تراثنا الثقافي والحضاري، فليس الماضي مقدسًا ومنزهًا بكُلِّيَّتِهِ وليس الحاضر كافرًا وموبوءًا برُمَّتِهِ أيضًا. باستثناء العقيدة والأصول والشريعة الإسلامية ليس هنالك شيء مقدس ومتعال وأبدي وخالد، وهو ما يتطلب التفريق بين جوهر وأصول الدين السماوي وبين الفكر الديني (الأرضي) الذي هو اجتهاد بشري قابل للصواب والخطأ والتجاوز. وهو ما أجمع عليه العديد من كبار العلماء والفقهاء المسلمين القدماء منهم والمعاصرين على حد سواء، وتفسّر رحابة الإسلام وانفتاحه (في عصوره الزاهية من خلال تعدد القراءات والاجتهادات وتنوع المذاهب والتفسيرات والفتاوى الفقهية ولم يستنكف العلماء المسلمون الأقدمون من التفاعل مع ثقافات وحضارات وعلوم عصرهم والعصور التي سبقتهم كالحضارة الإغريقية والفارسية والرومانية تأسيسيًّا بالقول المأثور: «اطلبوا العلم ولو في الصين» من خلال النقل والترجمة ثم عبر الإضافة والتجديد والابتكار والتجاوز التي تمثلت في الحضارة العربية الإسلامية التي وصل تأثيرها معظم أرجاء العالم القديم. هذا التفاعل والتلاقح من منطلق الندية الحضارية والخصوصية الثقافية استمر وأثمر ذلك المجد الزاهر قبل أن تسود عصور الانحطاط والظلام والجهل وهيمنة ثقافة القمع والاستبداد وتصدر فقهاء السلاطين لتفسير وتأويل الدين والشريعة وفقًا للأهواء والمصالح.

هنالك حاجة مُلحّة إلى إحداث قطيعة معرفية مع تلك الجوانب والمفاهيم والأفكار التي لم تعد تتواءم وتستجيب (بل تعوق) لمتطلبات وتحديات الحاضر والمستقبل. غير أنه في المقابل لا بد من امتلاك نظرة نقدية وعلمية لمجمل النظريات والأفكار والثقافات والمناهج السائدة في المراكز الثقافية (الغربية) العالمية وإحداث قطيعة معرفية مع النظرة الاستشراقية وعملية النقل الحرفي والترجمة لنظريات ومناهج وممارسات الغرب بصورة فوقية وتعسفية قبل أن يجري امتحانها على أرض الواقع العملي ومن خلال الممارسة الحية الملموسة، فالحوار والتفاعل بين الحضارات والثقافات المختلفة يحتاج إلى ندية وتكافؤ حضاري ولن يتحقق ذلك من دون فصم علاقة التبعية البنيوية الشاملة وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية المعتمدة والمتمحورة على الذات في المقام الأول، وهو ما استطاعت تجارب تنموية ناجحة من تحقيقه كالتجربة اليابانية والتجربة الصينية.

وفي هذا الإطار من الضروري الإشارة إلى زيف اصطناع التعارضات والانقسامات والمقابلات الثنائية العقيمة على غرار القديم والجديد، الأصالة والمعاصرة، والوافد والمحلي، الوطني والقومي، الأنا والآخر، فهي مواجهات ملتبسة وخاسرة من شأنها إحداث مزيد من البلبلة والتشويش والتعويق، ولن تعمق رؤيتنا لجذر الأزمة الطاحنة والشاملة، التي يعيشها العالم العربي والتي تعود في جانب منها إلى الفشل الذريع في التوليف والتركيب الإبداعي للعناصر المكونة للثقافة العربية المعاصرة بإرثها وتراثها وإنجازاتها وميراث وإنجازات الثقافة والحضارة الإنسانية ككل. ومن الواضح أن ذلك يرتبط بالعمق بالمعضلات الحقيقية التي تواجهها الدولة العربية «الحديثة» والشعوب العربية قاطبة، خصوصًا في ظل العولمة التي تتسم بكونية الثقافة التي هي منجز إنساني مشترك لا يمكن تجاهله أو القفز عليه مع التأكيد على الجوانب المتناقضة لهذه العملية الموضوعية، التي تتسم بميزتين أساسيتين هما عملية التركيب والهيمنة الثقافية التي تمارسها دول المركز «الشمال» من جهة، وعملية التفكيك والتهميش الثقافي التي تعانيها دول الأطراف (الجنوب) من جهة أخرى.

حيث تستهدف مراكز الهيمنة والسيطرة العالمية وبالتحديد الولايات المتحدة فرض ثقافتها (الاستهلاكية) من خلال تهجين وطمس وإلغاء مقومات الثقافات الوطنية الأخرى، مستندة في ذلك إلى تفوقها وهيمنتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلمية، وتحكمها في مجال التكنولوجيا الرفيعة والاتصال والتوصيل، احتكارها لأجهزة الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية ولشركات الدعاية والإعلام والفنون (أفلام، موسيقا، أزياء). وتجرى عملية تجنيس (أَمْرَكة) للعالم بأسره على المستوى الثقافي وأسلوب الحياة والمعيشة والذائقة، بكل ما يتضمن تلك الثقافة الاستهلاكية من استلاب وتغريب.

ليس مستغربًا أن تثير هذه النزعة الثقافية (الأمركة) للهيمنة ردود أفعال لدى النخب وجماعات متزايدة من الرأي العام في البلدان والمراكز العالمية الأخرى مثل اليابان وأوربا. غير أنه يجب ألّا نكتفي بالنظر إلى نصف الكأس الفارغة فقط، بل يجب أن ننظر إلى النصف الآخر الممتلئ، فالحضارة والثقافة الغربية عمومًا أضافت إلى البشرية منجزات حضارية تمثل ذروة ما توصلت إليه الإنسانية على امتداد تاريخها الطويل. فالمنجزات العلمية والصناعية والثقافية وبلورة مفاهيم ومبادئ حقوق الإنسان والحرية والمساواة والعدالة والديمقراطية والمجتمع المدني والتعددية تشكل جوهرًا وملمحًا أساسيًّا للحضارة الغربية، من دون أن نغفل بالطبع وجهها القبيح المتمثل في عهود السيطرة الاستعمارية والإمبريالية ونهب مصالح وخبرات الشعوب والمجتمعات في العالم (بما في ذلك مجتمعاتها) وخصوصًا في بلدان العالم الثالث التي تأخذ الآن أشكالًا جديدة في زمن العولمة.

بغض النظر عما إذا كان هناك وجود لهوية ثقافية عربية مشتركة أو لثقافات عربية لازمة لتكون وترسخ الدولة الوطنية (القطرية) المعاصرة إلا أن هناك بالتأكيد قواسم ومناخًا ثقافيًّا مشتركًا يستند إلى الدين واللغة والميراث الثقافي والتاريخي والهموم والتطلعات المستقبلية، فإزاء فشل الثقافة والأيديولوجية «القومية» التقليدية وكل الأيديولوجيات الشمولية المُعَلَّبة، فإننا بحاجة إلى البحث عن عوامل استنهاض ثقافي قومي جديد تشكل رافعة لانتشال الوضع العربي من أزمته وترديه، لا بد من ثقافة عربية تتسم بالعقلانية والعلمية والتسامح واحترام الآخر وتقبل الاختلاف والتنوع، والانفتاح على الثقافة العالمية المعاصرة بما يحافظ على الخصائص والسمات الثقافية والقومية والحضارية الخاصة.

والسؤال هنا هل للعرب مكان في التاريخ وبالتالي دور في صنع زمنهم، أم أن عليهم أن يبقوا متفرجين ومنفصلين وخارج التاريخ والزمن الحقيقي الذي يصنعه الفاعلون في الحياة والواقع في الحاضر والمستقبل؟

 

(كاتب سعودي)