كان أفلاطون (427 ق م – 347 ق م) أول من استعمل مصطلح "التطهر" تعبيرا عن تأثير التراجيديا على المشاهد، وقدرتها على إخراج المشاعر المكبوتة لديه، ثم جاء من بعده "أرسطو" (384 ق م – 322 ق م) الذي رأي ان مشاهدة الأعمال الفنية تقوم بعملية تفريغ لشحنة العنف الموجودة لدي المتفرج مما يحرره من أهوائه. وبعد ذلك جاء علم النفس الذي إعتمد علي محاولة قيام المريض النفسي بتذكر كل مراحل حياته، ومن أشهرهم سيجمند فرويد (1856 - 1939) الذي راي أن أحداثا بعينها في حياة المريض هي مكمن الداء، وأن الصراع الداخلي بين الدوافع الغريزية والقيم الراسخة في المجتمع، أو ثقافة المجتمع، هي بيت كل داء، واعتبر الأطباء النفسيين أن إكتشاف أصل الداء، من خلال حديث المريض، أو فلنقل غير السوي، هو بدء الشفاء من الداء. وهو ما عمد إليه محمد صالح البحر، حين أجلَسَ راويه علي كرسي الاعتراف، ليتذكر تلك النقط السوداء في حياته، صانعا منها رواية باسم "حتي يجد الأسود من يحبه"، والتي فيها ينتقل السارد من جحيم الماضي وسوءاته، وما أدي به إلي الاعتلال النفسي، منتقلا إلي الحالة السوية، وكأننا كنا في حالة بحث عن الذات والهوية، مثلما أخذ يبحث عنها في الصحراء في "حقيبة الرسول، عبر الأب، فها هو يعود في تجربته الجديدة للبحث عن الذات، في "حتي يجد الأسود من يحبه" والتي إقترب من التصريح فيها عن ذلك، حين سألته "مريم" { كل هذا الوقت، ولم تزل لا تريد شيئا من الحياة؟ - لا أريد إلا نفسي يا مريم}ص178.
وإن كان يبحث عنها من خلال الأب أيضا – في تجربة مختلفة – إلا أنه يبحث عنه هاهنا من خلال البحر، الذي يمنح الإحساس بالاتساع، والغموض، والتقلب، ليحمل رؤية الكاتب للحياة بكل هذه الصفات التي أضاعت منه حياته السوية، فراح يبحث عنها، مدفوعا بفعل الانتقام والمادية، مشدودا لفعل التسامح والشفافية، ولنصبح أمام رحلة زمنية أسطورية النزعة، واقعية المبني، تجريدية الهوي، لحياة بشرية مغروزة في طين الأرض، متطلعة إلي آفاق السماوات. معتمدا فيها علي لغة مشحونة بالكنايات والاستعارات، مسلحا بسحر الحكايات، في إحياء جديد لألف ليلة وليلة، ممتطيا صهوة الأساطير بكل ما تحمله من تحليق وخيال. فها هنا يقف الأب، لا بصورته المادية، ولكن بصورته المعنوية، الأب كسلطة، وكنسق ثقافي، لتفرض الرواية نفسها علي حداثة الرواية، وما أسميناه من قبل – في قراءات سابقة - بالرواية التنويرية، التي تعمد إلي قلقة الموروث، وخروجها عن نمط الرواية "التنويمية"، رغم قيامها علي النسق الكلاسيكي القائم علي الحكاية، وعلي التصاعد الرأسي، بمعني التسلسل المنطقي للحكاية. ذلك الأب الذي سعي بكل ما يملك لقتل ولده، لتخرج الرواية من البداية عن النهج المنطقي الواقعي، وترتمي في أحضان الرمز، ومهاجمة النسق الذي أورثه الأب، بالمعني الشامل، للأبناء فأدي إلي إنحراف سلوكهم، وخروجهم عن النهج السوي، وهو ما يدعونا إلي قراءة الرواية علي مستواها القريب، او المباشر لنستمتع باللغة المشحونة، والإسلوب الشاعري، وقدرة الكاتب علي الغوص في أعماق النفس البشرية، خاصة النسائية، وبعدها نفكر في الرؤية الأبعد، أو غير المباشرة، والتي – من وجهة نظرنا- سعي الكاتب إليها من روايته.
لم يكن الأب قد أتم عاما حين ماتت زوجته وهي تضع مولودها الأول، الأمر الذي تصور معه أن هذا المولود نذير شؤم، فرفض استلامه، ورفض حتي تسميته، بل سعي أكثر من مرة لقتله والتخلص منه. وفي ذكري وفاتها، ذهب الجميع إلي المقابر وتركوا وليد وحيدا، فاستشعر الوحدة، ساقته قدماه وهو الطفل إلي بيت أبيه الذي فتح له، وكأنه كان ينتظره، للانتقام منه { حملني كخرقة بالية في يده إلي حافة السماء، ورماني بكل عزمه إلي عمق الأرض في الداخل، لم أكن أعلم من أين تأتيني الضربات أو اللكمات، ولا كيف استطاعت الشتائم المتخمة باللعنات أن تمزق ملابسي وجلدي، وأن تدلف عميقا إلي داخل الجسد، محدثة الكثير من الجروح، وناثرة للكثير من بقع الدم التي لطخته كما لطختني، ثم حفرت نفسها في حوائط البيت علي هيئة دوائر وعلامات وأشكال مبهمة وعصية علي التفسير.... وكان ملاك الموت ينتظر بهدوء، ويشاهد تقدمه نحوي في صمت، وهو يجثو من فوقي كبركان ثائر، وتلتف كفيه حول رقبتي بقوة وحقد، وكان يزوم بعزيمة من ينتظر كنزه المفقود بمجرد خروج روحي وصعودها إلي السماء.. وكان صراخي يخفت كلما قصرت المسافة}ص81. وبعد أن تخلصه العمة من بين يديه ، يصرخ الأب في حنق وحقد :{هل ستحرقني أيضا أيها الملعون؟ لنري إذن إلي أي مدي تستطيع لعنتك أن تذهب}ص82. وما أنقذه من يدي الأب إلا العمة ، مرة أخري، بعد أن كانت هي التي أنقذته ساعة مولده و{كما رفعتني العمة من عفن يوم الميلاد، رفعتني اليوم من عفن أكبر وأمر، لم يكن مطليا بذنب الصدفة، بل معجونا بخطيئة العمد والتواطؤ والقدرة علي الفعل}ص83. غير أن بعض الوقائع التي يمكن أن تحدث في أي مكان ، وأي زمان، تبدأ العمة في الاقتناع برؤية أخيها، وهو ما يوضح تأثير رؤية الأب في تشكل شخصيته، حتي أنه بدأ ، هو نفسه في تصديقها { وللأيام الثلاثة التي ظلت عمتي تطببني فيها، لم تُدرك حجم الحرائق التي اشعلها سؤالها المكتوم بداخلي، حتي اليد الوحيدة التي امتدت نحوي بالمحبة كانت تؤمن بي كلعنة فقط، ولا تترك لي مساحة ولو ضيئلة من الفراغ كي أري نفسي علي وجه آخر. حتي ملأني الايمان بكلام العمة، آمنت بأنني لعنة، أنني قادر علي تحريك هذا الجبل الضخم من الألم والحرئق، ونقله من هنا إلي هناك}ص121.
وتسعي – العمة - لإبعاده عن بيتها. تسأل الأجازات الدراسية أن تسرع خطاها حتي يعود إلي مدرسته الداخلية، وبعد إنتهاء الدراسة تكون قد دبرت له مسكنا بعيدا، دون أن يدخل البلد وليس البيت فقط، وفي السكن الجديد في مواجهة البحر، أو مواجهة الاتساع والغموض والتقلب، يتعرف علي سكان البناية، أو ما اسماهم السارد "وليد" العشاق الخمسة، حيث نتعرف علي قصة كل منهم، التي قاده العشق إلي الوحدة والغربة، والسواد، الذي رمز له السارد بالشخص الأسود، وهو ما يقودنا إلي نسق آخر، في النظرة العنصرية التي تميز بين الناس علي أساس من لونهم، فيعيش كل منهم ما يشبه المأساة { وكأن الوحدة قد كُتبت علي أهل العمارة جميعا، قسمة عادلة يأخذ منها كل صاحب طابق ما يكفيه من الألم والعويل}ص38.
سعدية و انتهاك الطفولة
ولم تكن فعلة الأب، او تعامله معه وحدها التي شكلت تكوينه، وإنما نقطة سوداء، أيضا، تنزرع في أعماقه، وتصبغ رؤيته وتصرفه في الحياة، حيث جاءت الفرصة للجارة سعدية، بان تأخذ الطفل إلي بيتها، حيث كان زوجها في مهمة لثلاثة أيام، أغلقت عليه الأبواب والشبابيك، وامتصته حد الإنهاك { كنت عاريا ومقرفصا في الطشت كخرقة بالية، لا أكاد أسند روحي وقد انتهكت سعدية كل شبر فيها، حتي ملامسة قاع الطشت لمؤخرتي كانت توجعني، وتذكرني بإصبعها ولسانها وعينيها المفتوحتين علي نهم لم يشبع بعد، حتي امتصتني إلي آخر قطرة بيضاء سحبتها بصعوبة بالغة، وبكثير من العنف الذي أغرقني كحمم تغلي}ص121. ولتظل "سعدية" بفعلتها تطارده، وتفرض وجودها علي كل موقف، سعي فيه للانتقام من سعدية، بفرد شباكه علي كل أنثي، ليغوص معها في وحل المادية {ما من امرأة جميلة وقعت صورتها في عيني، إلا وكان سؤال الالتهام أول ما يتبادر في ذهني نحوها، عهدا قطعته علي نفسي منذ انتهاك سعدية لي، ولم أعرف سبيلا للخلاص منه}ص113. وتظل سعدية بفعلتها تطاره، فتظهر له في حضور "مريم" التي ظن أنه فرد شباكه عليها طوال سني الجامعة {وبدت خطواتها وهي تسير أمامي نحو الكنبة الرمادية مثل خطوات عارضة أزيا محترفة، تعرف كيف تُظهر كل شئ، وإلي أين تسير، نفس خطوات الغزالة التي سرقتني من نفسي قبل ثلاثين عاما تقريبا، وجعلتني أجوب أركان الجامعة كلها من خلفها، وأنا أرمي شباكي في كل مكان من حولها، حتي وقعت فيها }ص177.
وتتحدث "مريم" عن السارد مع صديقتها "نوارة"، فتكتشف الأخيرة ما كان بينهما طوال الجامعة، فتنبت حرائق الغيرة، وتُصر "نوارة" علي التعرف علي الكاتب "وليد" بل علي إلتهامه، وتنجح في مأربها، غير أنه وفي ساعة اللقاء الحميم معها، لم تكن صورة "سعدية لتختفي{فقد كانت صورة "سعدية" تظهر وتختفي علي البعد أمام عيني، بسرعة خاطفة وضبابية، لا تكشف عن شئ، ولا تواري أي شئ...}ص155.
وتشتعل الغيرة الأنثوية، أيضا في قلب "مريم" فتذهب إليه هي الأخري، وهي التي تجاهلته منذ أن تزوجت من صديقه، تذهب بكل التصميم علي إلتهام الصياد، فجاءت لتفرد هي شباكها عليه {وعندما استدارت مريم لتتأكد من وجود القرابين التي قدمتها، وتُسقط نفسها في العري الكامل، رأيت وجه "سعدية" يُطل عليَّ من البعيد، ويختلط بوجهها حتي تلبسه تمام .. عدت صغيرا وعاريا ومنهكا إلي أقصي مدي}ص184. وكأن الإحساس بالانتهاك والسلب، لازال حاضرا، ومسيطرا.
ولكشف البعد النفسي للسارد "وليد" وضع الكاتب خلف باب شقته مرآة بيضاوية، ينظر فيها قبل أن يخرج من البيت، وكأن الجاني يطمئن إلي عدم نسيان أي من أدوات فعلته، والتي تتمثل هنا في مهنة القنص التي رترسخت في أعماقه، إلي جانب ما تمثله المرآة من النظر إلي الداخل، إلي الأعماق، وكأن الماضي بما غرسه هو الذي يتحرك ويتصرف، وليكشف عنه السؤال الذي كررته "نوارة" ومريم" واللتان تمثلان الجانب المادي الذي سعي إليه، تعويضا وانتقاما، وبدا عصيا، أو جوهريا في حياته، عندما وقفت كل منهما أمام المرآة البيضاوية { لماذا تحرص علي رؤية ملامحك قبل أن تخرج لمواجهة العالم؟!}.
وقد شارك السارد مجموعة العشاق الخمسة في مآسيهم، وكأن البيت تحول لمستعمرة من المجروحين بالعش، أو المجروحين بالنسق. فنتعرف علي السيد عيسي، الذي قاده حرمان الطفولة من الأبوة، وليعيش في كنف عمه، الذي لم يبخل عليه بالمال، إلا ان – وربما كان شعور إنساني ذاتي لدي الطفل الذي كانه – غير أنه –العم - لم يكن يساوي في العطف بينه وبين أبنائه. فأفرغ كل شحنات الحب لديه لابنتيه، حتي أنه لما علم بإصابته بالسرطان، أصر لزوجته، رغم رفضها، أن يفتعل خلافا معها لتبتعد بالإبنتين عنه، حتي لا يشعرا بالألم أو الكدر. وليعاني مرارة الوحدة والألم.
وضع المرأة في حياة "فتحية"
وتتحدث، "فتحية"، إحدي فرسان العشاق الخمس عن أبيها، كاشفة عن نسق أكثر وضوحا في مجتمعاتنا العربية، حيث ينال الأب هنا أيضا، مزيدا من التشويه، لتزداد سطوة الماضي، ويتحكم النسق، فكشف عن تلك الرؤية للمرأة، من كبت وحرمان، في مواجهة حقوق الرجل الذي من حقه وحده أن يحرث أكثر من أرض {كأنني جئت طواعية من تلقاء نفسي، أو كأنني المسؤولة عن عدم قدرته علي غرس بذرة أخري في أرضه لتطرح ولدا، أو أن أرضه تجف تحت قدميه بصمت متعمد يوما بعد يوم .. في الوقت الذي فشلت فيه كل محاولاته بالكثير من الأراضي الأخري المختلفة ليتشمم في ترابها رائحة الولد المرتجي بلا جدوي .... اخرجي من المدرسة... لاتخرجي من البيت.. لاتكشفي عن وجهك للغرباء ... لا تنظري في المرآة فثمة شيطان سيغريك بجمالك إلي حد الجنون.. وكل مخالفة لمصير تأتي بعقاب يماثل أضعافها لعشرات المرات}ص188 – 189.
وبعد أن بدأت رحلة "فتحية" وأبيها للهجرة خارج القرية، وتوقف الحمار الذي يجر العربة الكارو التي تحملهم، ومتاعهم، ورفض –الحمار - مغادرة المكان، وفجأة اتجه الأب إلي ابنته، {بعدها تفل في وجهي، وصفعني قويا حتي انني تطوحت مرمية في الأرض، وجعل يرفسني بقدميه وهو لا يكف عن الصراخ والزعيق بأنني سبب اللعنة التي تحل به الآن، والتي لا يعرف إلي أي مصير شؤم سوف تأخذه}ص199. واستسلم الأب لمصيره، وبدأ في حفر أساس بيته الجديد بجوار الخيمة التي كان قد أقامها {لقد عذبني فعلا في أعمال الحفر، كان يرسم الخط علي الأرض، ثم يقف علي البعد، ليتركني أحفر وحدي، بينما أسمع روحه تتمتم: {احفري مكان لعنتك أيتها الخطيئة، فانت أولي به مني}ص200.
وتواصل فتحية عن لحظة وداع أمها، وما يكشف عن ذلك النسق البدوي: {ماتت أمي في صمت كما عاشت حياتها كلها في صمت، لم تنطق غير بضع كلمات مبهمة وسريعة، سرقتها من اللحظة التي تواري فيها أبي ليُسكت صوت الحمار الذي جعل ينهق خارج الخيمة بلا سبب واضح}ص200. وهو ما يعود بنا إلي رؤية والد السارد، الذي تشاءم من ابنه، ها هو والد فتحية يعبر عن نوع آخر من التشاؤم، او النظرة الغيبية المنبثقة من معتقدات راسخة، تأبي أن ترحل، وهو نهيق الحمار.
تقدم المهندس المشرف علي بناء المدينة الجديدة أمام "صخرة العشاق"، وأشار علي والد "فتحية أن يعيد ترتيب بيته بحيث يجعل واجهته تجاه البحر، لا تجاه الجبل، لنستحضر الرؤية الجمعية هنا أيضا، حيث يوجه البدوي وجهته تجاه الجبل، بما يعنيه من صخرية وجفاف، وخشونة، ووجهة المدني، أو العلم، أو النور، الذي يوجه وجهته إلي البحر ونسائمه، وانسيابيته. وطلب المهندس يد "فتحية" .. وفي صباح اليوم التالي لم يُعثر للمهندس علي أثر، ليكشف الكاتب عن نسق جديد متمثل في تلك المعتقدات الغيبية السهلة الإقناع، لدي العامة، في شبه اليقين { وانتشر اليقين بين العمال، والبدو القليلين الذين يسكنون وراء الجبل، ويأتون إلي البحر كلما اقتضت الحاجة، أن عروسة البحر قد لمحت طيبته ووسامته علي البعد، هناك في العمق الغويط، فخرجت إليه في سكون الليل، وأنه لم يكن يملك إلا ان يلبي نداءها.. آمن الجميع بالأمر}ص203. غير أن قلب المحب لا يُسَلِمُ بما يبثه العامة، فكانت فتحية علي يقين – هي الأخري- بأن والدها هو من قتل المهندس.
ولم يكن سكان البناية الخمسة هم فقط الذين انكووا بالعشق، وغير مصير حياتهم، بل حتي الشاهدة من بعيد، هي الأخري { وكان الناظر إليهم من بعيد، امراة تبيع الخبز الطازج للمحتاجين بلا مقابل، فعرفت السر، واعتصرت روحها ألما من مصيرهم الذي يشبه مصير حبيبها المفقود، ذلك البحار الذي ذهب إلي عرض البحر ذات صيد ولم يرجع}ص262. ولم تكن تلك الشاهدة، صانعة الخبز الطازج إلا والدة ذلك الطيف الكاشف عن عمق السارد، ومرآة روحه التي أحبت السارد بالغيب، وآمنت به، فأعادته إلي نفسه، وهي "ميرو" التي يعبر اسمها عن وجودها الرمزي، وشخصيتها الخيالية، الذي تكشف عنه حين يسألها السارد عن اسمها، وأن "ميرو" اسم تدليل، وليس اسما حقيقيا، فتجيبه {أراد أبي أن يسميني ماريا كي أصير عروسا للبحر، أو سحابة محملة بالماء العذب من فوقه، ولا تكف عن سكب نفسها فيه والتقليل من ملوحته، وأرادت أمي أن تسميني أميرة كي أصير سيدة عليه، ولأن أحدهما لم يكن ليحتمل حزن الآخر منه، اتفقا علي أن أكون "ميرو"}ص126. ليتجلي في اسمها الشفافية والنقاء والحب المتمثل في علاقة أبويها، حين لم يكن أيا منهم علي استعداد لتحمل حزن الآخر.
وكان لظهور "ميرو" في حياته نقطة تحول كبيرة، فقد نجحت في إختراق عالمه، بما أدهشه، واثار انتباهه { بدت "ميرو" وكأنها تعرف ما أفكر فيه وتجيبني عليه، فمن أين لفتاة مثلها أن تمتلك القدرة علي لم أطراف روح هائمة ووحيدة وحزينة، ومتي امتلكت الوقت الذي يكفي لكل هذا؟!}ص113. فامتلكت عليه حواسه، وأحاطته بشبكة غير مرئية لا يستطيع الفكاك منها، إلا انه الامتلاك المحبب، الذي يسلم فيه المرء طواعية، وحبا {إلتفتْ حولي مثل خيوط العنكبوت لأسكن فيها طواعية، فقد كانت تمتلك القدرة علي جذب وشد الانتباه وإثارة الأسئلة، وكانت علي وجهها بسمة خفيفة وواثقة وفرحة كأنما تنتصر لتحقيق شئ ما بداخلها، الآن فقط أعرف لماذا أتيت، وأراني لن أغادر قبل أن أطفئ ذلك البركان الذي يثور غضبا بداخلي،أن أكشف الغطاء عن الغموض الذي تحاول أن تثيره من حولي}ص112. وبعد أن كانت الوحدة والضياع هما المسيطران علي حياته.. يأتي الحب الحقيقي، الحب الروحي، الذي لا يقوم علي الشهوة أو الانتقام، فكانت "ميرو" هي طوق النجاة من الغرق {لم أكن أعي الوقت علي وجه التحديد، لكن "ميرو" أخبرتني- من بعد – أنه اسبوع كامل، ظللت خلالها هائما علي وجهي في المسافة الضبابية التي تفصل الحلم عن اليقظة، والواقع عن الخيال، وتشبه الوجود في عالم آخر لا حدود له، لكنه بلا يقين واحد يدل عليه}ص246. وتحمل "ميرو" السارد علي جناحي الخيال والشفافية للتعرف علي نفسه ككاتب، وكأنه بها يحملنا معه إلي بر الأمان، ولحظة الراحة، بعد لهاث طويل وراء حكاياته، فبعد أن تبوح "ميرو لوليد ببحثها الدائب وراءه، ومعرفتها كل تفاصيل حياته، وعشقها ل(صيد) الحكايات {كانت ميرو إلي جواري، لكنها بدت بعيدة كحد الأفق وهي تحاول إخفاء عينيها عني، رغم أنني أعرف أنها دموع الفرح، التي تنتصر الآن لقدرتها علي حمل هذا القدر العظيم من المحبة، ومواجهة الحياة به}ص120.
وتسأل ميرو السارد {هل عرفت الآن، لماذا تحب النساء صُناع الحكايات؟! وقبل أن أهز راسي بالنفي، قالت بصدق: لأنهم أسماك ضالة، والقارئ هو الصياد يا وليد}ص130. وكأن الكاتب يبرر تلك العلاقات المتعددة بالنساء اللائي حاول أن يوقعهن في شباكه، بينما كن هن اللائي يوقعنه في شباكهن، فأراد أن يوضح فلسفته في الرواية، التي يكمن البوح وراء كتابتها، حيث البوح أحد أهم أساليب العلاج النفسي، الذي معه تتهادي سفينة الكاتب قبيل الوصول إلي الشاطئ، بينما ركابها يستنشقون هواء ولذة الوصول {ما يحل بي الآن من عذاب مقيم ليس سوي تمزق روحي بين مقابر القرية حيث ترقد أمي، وعرض البحر حيث قبر أبي الواسع، ونتف جسده متناهية الصغر في بطون الأسماك، وما بين الحياة والموت كانت الكلمات تتجسد أمام عيني في سباق محموم، مفردة وراء مفردة، وجملة وراء جملة، وصفحة وراء صفحة، حتي ظننت أن جهاز الكمبيوتر الذي أخرجته من محبسه في الدولاب قد اكتظ بالصفحات حتي امتلأت مساحته عن آخرها، أنه لم يُصنع في الأصل إلا لكي يحمل روايتي هذه بعد اكتمالها، وها هو الآن}ص247.
التقنية
انتهج الكاتب عددا من الأساليب التي ساهمت في الوصول بالقارئ إلي حد المتعة، والاستغراق في القراءة، وخلق الحيوية التي كسرت حاجز السرد المتتابع، بالنفس الطويل، الذي وصل إلي أن القارئ عند نقطة معينة يتخيل معها أن الفصل هنا سيتوقف، لكنه يفاجأ بأن قطاره لازال يسير في طريقه، وأنها ليست محطة وقوف. ويأتي في مقدمة تلك الحيل الروائية، لجوء الكاتب إلي تحويل الكتابة لصورة مشهدية، وكأنه يشاهد لا يقرأ . كتلك الصورة التي تنبثق مما قبله ، حين تلاقت عينا "نوارة" علي سيدة مجهولة علي الشاطئ، ولتنشأ علاقة جاذبة بينهما، ومبهمة، إلا انهما غادرتا دون وداع، لتنزرع تلك السيدة في وجدان "نوارة"، ولا تعرف هل سيلتقيان مرة أخري أم لا؟ . غير أنها تفاجأ – بعد فترة طالت - بطارق علي بابها، ليجسد الكاتب ذلك اللقاء الكاشف عن العلاقة غير السوية، والمحركة لها، والتي تضع الفعل في المضارع، وكأن الفعل يقع الآن، فضلا عن وصف المكان الذي يجعل القارئ يتعايش مع الحدث، ويعيشه كشاهد،إلي جانب وصف حالة "نوارة" الخارجي، وما يتبين إرتباطه بالداخي، ويهيئ القارئ لما هو قادم {كان الوقت صباحا، ابي في العمل، وأمي في المطبخ، وأنا في الحمام أغسل النوم عن عيني، واطيل النظر إلي صورتي في المرآة، محاولة اكتشاف سر النعومة التي زرعتها في جسدي كله البيجامة الجديدة التي اشترتها أمي لي بالأمس، ووهبتني نوما هادئا ومستقرا علي غير العادة، حتي أنه يلازمني الآن وأنا اسير باتجاه الباب، لكنني عندما فتحته ورأيتها، بدوت وكأنني أرفع غطاء ما عن حلة تغلي فوق نار حامية، فهب بخارها في وجهي بغتة، ودفعة واحدة، بُهتُ وقفزت بجسدي خطوة للوراء كمن يتحاشي شيئا ما يكاد يصدمه}ص94 – 95. وكانت الطارقة "بشري" وهذا اسمها، فينتقل السرد لوصف الزائرة، وبما يَعْبرُ بالقارئ من الوصف الخارجي إلي الداخلي { بدت رزينة مثل صياد ماهر يؤمن أن الصبر هو الطريق الوحيدة للحصول علي السمكة، وأن الخُطاف والطُعم ومكان الصيد وموعده مجرد وسائل، واحتمالات للوصول، يتحدد نجاحها أو فشلها بحجمه}ص95. وتتضح الصورة، عندما نتبين فيما بعد، بأن "بشري" صيادة مثلية، وكيف استطاعت أن تسير ب"نوارة" إلي حجرة نومها، رغم وجود الأم بالمنزل، وتبدأ معها اقتناص الفريسة.
وحيلة أخري تتمثل في تجهيل المتحدث، أو دخول متحدث غير السارد، علي السرد. الأمر الذي يوقع القارئ في الحيرة والدهشة، لمخالفة ما رسخ في ذهنه من بداية القراءة. ففي االفصل الرابع- علي سبيل المثال - نجد (السارد) يتحدث عن زيجاته الثلاث، وعن والده، والفيلا، وكلها يتنافي مع ما عرفناه عن "وليد" – السارد - لنفاجأ بعد فترة بأن المتحدث هنا هي "نوارة" {لكنني عندما عرفت "مريم"، وتوثقت علاقتي بها حتي صارت بئر أسرارنا واحدة، عرفتك أيها الكاتب، بل عرفت نفسي أيضا}ص141.
كذلك وفي لحظة الذروة الحميمية مع نوارة، يدخل شخص عليهما، ينفث غضبه الذي راح الكاتب يصفه بتؤدة، لنتوقع علي الفور، أنه والدها الذي حدثت وليد عنه كثيرا، وعن الحرية التي منحها إياها، وانها تفعل كل شئ في النور، بما يعني أن ما يتم ليس بغريب عليه، لتأتي المفاجأة في قولها { إنه خطيبي، ومن المفترض أننا سنتزوج اليوم، لكنني نسيت كل شئ معك}ص157.
كذلك لجأ الكاتب إلي توليد الحكايات، بما يعيدنا إلي ألف ليلة وليلة. فبينما يسير السرد حول شخصية معينة، أو تجربة معينة، نجدها تستدعي شخصا آخر، أو موقف آخر، يستمر السرد فيه، وربما منح الآخر فرصة التعبير عن نفسه، حتي نكاد ننسي ذلك الذي كنا فيه، وفجأة نعود من جديد إلي ما كنا فيه.
تعدد الرواة، وما يقترب بنا من رواية الأصوات، حيث أنه رغم تعدد الرواه إلا أن حديث كل شخصية يسرد الجانب الآخر من الرؤية، وهو ما يساهم في كشف أبعادها، ويمنحها العمق، وسبر الأغوار. فضلا عما يضفيه علي السرد من حيوية، للخروج من السارد الواحد، الذي يجعل من الرواية، في كثير من الأحيان، أحادية الاتجاه، التي ربما تقود للملل. إلي جانب الانتقال السلس بين الرواة، وربما دون تمهيد، الأمر الذي يتطلب من القارئ العودة قليلا للوراء ليبدأ الخيط من أوله.
وحيث تدور الرواية في طريق ضبابية، هائمة بين الواقع والخيال، فقد لعبت الفاتازيا دورا كبيرا فيها، كان علي القارئ حينها أن يتخلي عن واقعه، ليحلق مع الكاتب، مؤمنا بمنطق الأسطورة، حتي يصل معه إلي رؤيته الكلية. فعندما يتم اللقاء – الروحي – بين السارد " وليد" وشِقه الآخر "ميرو". تتعلق "ميرو" برقبته، وتلف ساقيها حوله، يجد نفسه يحملها ويتجه إلي حجرته، الأمر الذي يوحي ببدء علاقة مادية، غير أن نظرة من شباكه الذي يطل علي البحر، فيري هيجان البحر القاذف بأمواجه للأعلي عند "عين أم كامل"، نري الصورة الفانتازية، تلك التي رسمها للسيدة فتحية، التي تم التسليم بموتها، بعد أن باحت بقصة عشقها، وتجربتها مع والدها للسارد، وكأنها قد تطهرت أيضا بالبوح، والاعتراف { ولم يمض وقت طويل حتي رأيت السيدة فتحية تنقذف إلي أعلي، إلي أن لامستْ أناملها الرقيقة أطراف السحاب، وعندما ضرب الرعد الأفق إثر الصدمة سقطت إلي البحر مرة أخري}ص253.وليتجلي هنا التماهي بين الواقع والخيال، بين أن كانت الصورة فعلية، أم انها صورة تراءت في ذهن السارد. ولكن علينا أن نتقبلها بمنطق الخيال، الذي يعلن عن حضور صورة عايشناها للعشق الذي مثلته هنا "فتحية"، ليتضامن مع اللقاء الذي يوشك أن يتم بين طرفي المعادلة" وليد ميرو. ومن الممكن أيضا أن ننظر إليها علي أن العلاقة بين وليد وميرو، التي بدأت وعاشت روحانية، في طريقها لتخرج من شفافيتها إلي المادية، فخرجت "فتحية" وكأنها تمنع زحف المادة إلي تلك العلاقة الشفافة، خاصة عندما يتجمع كل سكان العمارة ، السيدة ليلي والسيد موسي، في انتظار شئ ما، ولما لم يحدث شئ، نظروا إليه ، لكنهم أدركوا أنني { الآن مع ميرو، أمارس قتل الوحدة كما قتلتني من قبل، وأمزق الغربة كما مزقتني طويلا، أنني أستعيد بكارة روحي وبياضها اللامع}ص254.
عمد الكاتب علي التجريد، وعدم التحصيص، في مثل "المدينة الكبيرة" و "المدينة الجديدة" وكذلك عدم ذكر الأسماء الكاملة، مقتصرا علي الاسم الأول، اللهم اسم المهندس "كامل أبو قمر"، لعِلةٍ غير واضحة، كالسيدة التي تقدم الخبز الطازج، والتي لم نعرف لها اسمها، وحتي ابنتها، والتي تعتبر ضلعا أساسيا في الرواية، لم نعرف لها اسما غير "ميرو"، وبمعناه ومضمونه، وكأنها شخص هلامي، وليس جسدا وإنسانا. و هو ما يمنح الرواية صفة العمومية، وكأنه بها قد حدد الداء الذي يقتل روح المستقبل، في أمتنا العربية، ولن يتم الشفاء إلا بالاعتراف أولا بما غرسه الماضي فينا من نسق ثقافي ممتد عبر الأجيال، وليسري في عروقنا مسري الدم فيها، وحينها فقط.. سنتعرف علي هويتنا، ويسود التسامح والحب. وما علينا إلا التشبث بالأمل الذي لاح بمعرفة الداء، وما عبر عنه السارد حين تنبثق "ميرو" من الظلمة لتنتشله، في قمة محاولات مريم جذبه إلي الرغبة { وهناك علي البعد، حيث كان الموت ينتظرني، رايت ميرو تنبثق فجأة في الفضاء الرحب أمامه، وتُلقي إليَّ بطرف خيط يشبه الحياة، فأعرف بيقين أجده داخلي، أن كل ما عليَّ فعله, إن أردت أن أعود وأبقي. أن أتشبث به}ص185. وهنا يجب ملاحظة وصف الكاتب للطرفين، بوجودهما الرمزي، {حيث كان الموت ينتظرني) بينما في الحالة الثانية {وتلقي إليَّ بطرف خيط يشبه الحياة}.
غير أن استسلام الكاتب لما أتقنه من لغة وإسلوب حكائي ممتع، جاء علي حساب إحساس القارئ بالواقعية، والتأكد من خيالية كل تلك الشخوص، فنجد أن الرواية سارت جميعها بلغة واحدة رغم اختلاف الشخصيات. كأن يتحدث والد "فتحية" الذي أوشك أن يقع في الخطيئة مع ابنته، واستدرجته إليها ليعترف بقتله للمهندس "كامل أبو قمر" الذي فاتحه للارتباط بها،، وهو الرجل البدوي ، العائش في الخيمة، المتشائم من نهيق الحمار، كما لو أنه شاعر يتعامل بالاستعارة والكناية. في الوقت الذي كان يُستحب فيه أن تختلف اللغة لتتناسب مع ثقافته. وهو ما ساهم في وصفنا للرواية بالتجريد، حيث خلعت الصفة الإنسانية عنهم، ليتقف الشخصية مجردة من حيويتها المعيشة، رغم تغليفها باللغة ، والشاعرية، والكثير من المشاعر الكاشفة عن وعي وفهم لدواخل المرأة ، تحديدا، وما تجلي في تصوير – دون بوح – غير الحرب النسائية غير المعلنة بين كل من "مريم" ونوارة.
ولا زلت أوقن وأردد، أن المتعة أحد أهم مهام الإبداع، وقد جمع محمد صالح البحر بينها وبين المتعة الفكرية، والتنوير الذي هو أحد عناصر التطهر – في رؤيتها الحداثية -، وليجمع بهما بين الصيغة الكلاسيكية، والرؤية الحداثية، وكأنه يسعي لإشباع كل الأذواق والرؤي. ولتظل "حتي يجد الأسود من يحبه" صرخة – رغم النعومة – لتحطيم ونسف ما زرعه الماضي، ويعوق طريق المستقبل، إن أردنا أن نعود ونبقي. أن نتشبث به .
Em:shyehia48@gmail.com