يقدم الشاعر الفلسطيني المبدع محمد حلمي الريشة تجربة حديثة في شعر الهايكو العربي في ديوانه المعنون ب منثور فلفل على تويج وردة، صدر عن دار الأمينة للنشر بتونس سنة 2019، ويضيف الديوان مجموعة من الصور النسبية التي تستلهم جماليات الهايكو في أشكاله الشرقية، ثم العالمية، كما يقدم خطاب محمد حلمي الريشة نسقا سيميائيا كثيفا، يؤكد خصوصية المنظور، واللغة الشعرية التصويرية التي تمزج بين العلامات الطبيعية، والكونية، وما تحمله من إيماءات استعارية، وتحولات في العالم الداخلي للمتكلم؛ فنعاين حضورا ذاتيا كونيا للعلامة التي قد تتصل بتاريخ الفن، أو بالحالة النسبية للإدراك، ومدى ارتباطها بأخيلة الوعي، واللاوعي؛ فالشاعر يرصد علامات مثل شجرة اللوز المزهرة، والغراب، ومالك الحزين، وطائر الشحرور في سياق ذاتي تأويلي، وجمالي، وكوني في الوقت نفسه؛ وكأنه يشير إلى الاتصال الروحي بين الظاهرة، والعالم الداخلي للمتلقي في آن؛ فقصيدة الهايكو تكشف عن شعرية الطبيعي نفسه بصور نسبية لانهائية؛ فحالة الشتاء تختلف من منظور تصويري لآخر، وتقبل الاستبدال المحتمل في الكتابة، وفي وفرة القراءات، والتأويلات.
إن الصوت المتكلم يكشف عن الوجود الشعري الإبداعي للعلامة، ويذكرنا بتصور جادامر التأويلي، ولكن في صورة كثيفة تجسد بكارة الحضور، ووفرة احتمالاته، وآثاره التي تشبه آثار الموسيقى؛ فطائر الشحرور قد يشير إلى تكثيف الغناء، أو ولادة القصيدة المتجددة، او ارتباط الغناء الذاتي بالكوني، وقد يشير مالك الحزين إلى التشكيل الجمالي للفضاء بمدلوله الواسع، أما الغراب فقد يدل على الأثر، والكتابة وعلاقتها بالمحو، والحضور، وحالات الاستبدال التي قد تذكرنا بالكتابة الأولى لدريدا، ولكن بصورة كثيفة، تؤسس لوفرة الهوامش الدلالية المحتملة، والتأويلات التصويرية المنتجة بواسطة المبدع، أو عبر أخيلة القارئ، وقد يرى الشاعر في الوردة تشكيلا فنيا تجريديا ذاتيا، وكونيا، ولا ينفصل عن تاريخ الفن الذي يتجاوز إطاره في فعل التأمل التصويري الذي يقوم بتخييل العالم، وإعادة إنتاجه في فضاء تعددي تمتزج فيه شعرية العناصر بالعالم الداخلي، وتاريخ الفن، واللحظات الحضارية النسبية التي قد تبدو متجاورة ومتحدة، ومتعاطفة في التشكيل السيميائي للقصيدة.
وقد تجمع قصائد الهايكو في كتابة محمد حلمي الريشة بين التوافقية الجمالية التي تشبه الهارموني، أو التناغم بين الذاتي والكوني، والتناقض الإبداعي النيتشوي بين البهجة، وإيماءات الصمت، أو التمزق، أو الغياب؛ وقد يبدو هذا واضحا في بنية عتبة العنوان / منثور فلفل على تويج وردة؛ والتي تكثف بنية التعارض الذاتي الداخلي في الإيماءات الشعرية للطبيعة التي تمزج بين الروائح، والصور المتناقضة أحيانا، والتي تعيد تشكيل تأويل الوعي النسبي للكينونة في حالات التعارض الذاتي، أو التناقض الداخلي بين البهجة، وحالات الأرق، والصراع، والتحول الذاتي السلبي؛ ومن ثم تكثف الصورة تاريخ التناقض، والصراعات الممزوجة بالبهجة الفنية، والكونية في الصوت المتكلم، وفي زوايا النظر النسبية للوعي المبدع، وترتكز على العمق الشعري للعلامة، واتصالها المتجدد بالذاكرة، والتأملات، ووفرة الاحتمالات الدلالية الممكنة، والتي تتولد عن الاستبدالات الكامنة في البنية الكثيفة للصورة نفسها، أو لهوامشها التصويرية في إنتاجية الكتابة، وفي عمليات القراءة.
وتتجاوز الإنتاجية النصية أحيانا بنية الفاعل، أو الإطار الفني؛ وهو ملمح ما بعد حداثي نجده في قصائد الهايكو العربي عند محمد حلمي الريشة؛ فقد نجد طيفا لعمل تشكيلي في بنية الوردة، أو نجد التكوين الفني ينفلت من بنية الفاعل / العازف، فتخرج منه تكوينات حلمية سوريالية دينامية تضعه ضمن الإنتاجية الإبداعية للصور.
وقد أشار محمد حلمي الريشة إلى وظيفة الإكمال المحتملة من قبل القارئ في بنية النص نفسها؛ وهو ما يذكرنا بالمكمل عند دريدا، وبتوجهات ملء الفراغات النصية في نظرية التلقي، واتجاهات استجابة القارئ، أو التوجهات التأويلية، وأرى أن الكثافة التصويرية، وما يتصل بها من صور، وأخيلة حلمية، تستدعي – بحد ذاتها – وفرة تصويرية في هوامشها الدلالية الخاصة؛ وهو ما نجده في تكثيف صور الديوان لحالات ذاتية، وبنى ثقافية عابرة للزمكانية أحيانا.
وبصدد علاقة قصائد الهايكو بالقارئ، يرى ستيفن أديس في كتابه فن الهايكو أن شاعر الهايكو يترك للقارئ مساحة في عمليات إنتاج المعنى، وإنتاجية التأويلات الممكنة، وتعزز كثافة نصوص الهايكو من وفرة هذه التأويلات التي ينتجها الجمهور بعيدا عن مركزية المدلول.
(Read, Stephen Addis, The Art of Haiku, Its History through Poems and Paintings by Japanese Masters, Shambhala publication, USA, P3).
هكذا يحيلنا نص محمد حلمي الريشة إلى وظيفة الإكمال الإبداعي للقصيدة ضمن النسق السيميائي للنص نفسه، فضلا عن امتزاج صورة النص بأخيلة الطبيعة، ووعي القارئ في آن؛ وكأن علامات القصيدة هي نفسها العلامات الكونية الطبيعية التي تزهر في فعل القراءة؛ ومن ثم يبدو فعل القراءة إنتاجيا، ويذكرنا بالمكمل عند دريدا؛ فهو يقع في مراوحة إبداعية تصويرية بين التداعيات النصية، والتحولات المحتملة للعلامة في وعي القارئ، والصيرورة الطبيعية لعلامات الحياة، وعناصرها، وتحولاتها بين النشوء، والظهور، والغياب، والانبعاث، أو التجدد؛ فالصوت المتكلم، يعيد تشكيل جماليات الهايكو في تمثيلاته الاستعارية المتعلقة بإنتاجية النص، وعلاقته بالقارئ، وما يمكن أن يولده النص في وعيه، ولاوعيه من هوامش تصويرية، ودلالية نسبية؛ يقول:
"تتفتح أزهارها
في مخيلة القارئ
أعشاب الشعر". ص 19.
ثمة اتصال روحي جمالي، وتكويني بين النص، والطبيعة، وبين المبدع، والنص، وعلامة العشب المزهر، ووعي القارئ؛ مثل هذا الاتصال يوحي بالهارموني، والتناغم الإبداعي، والاختلاف التفسيري الذي تفترضه فراغات النص في آن؛ فالإنتاجية تستبق حالة من التعددية، والوفرة في الدوال التفسيرية الممكنة لعلامات النص، وديناميكيته الإنتاجية.
إن الزهرة – في النص – تشبه الوجود في صيرورته، وحضوره الفيزيقي، وأخيلته الظاهراتية في الوعي معا؛ إنها البزوغ الإبداعي الأول للعلامة، وما تحتمله من تحول نصي في الكتابة، وحضور تفسيري نسبي في وعي القارئ؛ إنها تعيد تأويل وجود المبدع، والقارئ، والنص خارج أطر الإنتاجية التقليدية؛ فهي تحيل الذات إلى حالة الوجود، والتحول التي تسبق فاعلية الذات، والصوت المتكلم نفسه.
وقد تختلط الصورة الطبيعية بالبزوغ التشبيهي / التصويري للظاهرة، والذي يذكرنا بمزج بودريار بين التشبيه، والأصل في تطور علاقة العالم بالصور، والتشبيهات؛ فالحضور الكوني المجازي يبدو حضورا ربيعيا فائقا في علامة شجرة اللوز حين تشرق في الوعي المبدع للمتكلم؛ يقول:
"أدمعت شجرة اللوز
من شدة إزهارها
حتى الفراشة تخلت عن ألوانها لها". ص 21
تعاين الذات حالة الاتصال التكويني الجمالي الكوني، وتضاعف من وفرة تشبيهاتها التي تشبه صيرورة الكتابة الأولى، وانعكاساتها في الفضاء الداخلي للمتكلم الذي يصير واعيا بالتشكيل الجمالي، وجزءا من حالة الإبداع بمدلولها الكوني المتجاوز للذات في آن.
وقد يتصل الجمالي بالعالم الداخلي، والعناصر الكونية؛ وكأن الوجود صار غنائيا تشكيليا، ويشبه القصيدة؛ فالفضاء تتنازع بنيته أعمال الفن، وتاريخه، وبكارة المشهد الكوني في تجليه الأول، والمتواتر في الوعي المبدع؛ يقول:
"أيا كان لون الفضاء؛
يستطيع انتقاء لونه –
طائري الشحرور". ص 46.
تقع أغنية الشحرور بين إنشاد المتكلم للشعر، والفاعلية الخفية لتاريخ الفن في الفضاء الكوني، وتبدو في الاتصال الطبيعي بين الشحرور، والفضاء الطبيعي في صفائه، وبكارته الأولى، وغنائه المتجاوز للعبث الإنساني باتجاه الدائرية الكونية التي تستنزف الفراغ، وتفكك بنيته.
وقد يجسد التشكيل الطبيعي الاستعاري حالة التناقض الإبداعي النيتشوي بين بهجة أبولو، وتمزق ديونسيوس في مزج الفلفل بتويج الوره، وتكثيفه للتناقضات الإنسانية، والسخرية الجمالية من بنيتها في الوقت نفسه؛ يقول:
"فم مثعلب
خدع أنف براءته –
منثور فلفل على تويج وردة". ص 50.
تنشئ القصيدة نوعا من التحول السيميائي في بنية الوردة التي تختلط بهوامش تحولات الجسد، وتطور الكينونة، وآثار الموت، والحياة، والخطيئة، والتشكيل المستمر للذات بمفهومها الوجودي، أو للفضاء الفني التجريدي خارج الأطر المحتملة.
وقد تتداخل آثار الفنون المختلفة في بنية الصورة الكثيفة عند محمد حلمي الريشة؛ فالروائح تختلط بالفضاء التشكيلي، وبالصوت الشعري المؤول لآثار العمل الفني الاستعاري الطيفي الكامن في البنية السيميائية للوردة؛ يقول:
"وردة شنقت –
شذاها يرسم لوحة تجريدية
تجلدا لفنها". ص 47.
إن سيميوطيقا اللون تبدو استعارية طيفية في الرائحة الكونية التي تتشكل في غنائية القصيدة؛ وكأن العمل الفني يؤسس للتحولات المجازية اللانهائية خارج الأطر، وجارج مركزية الوعي المدرك؛ فالعمل الفني يستنزف النهايات في ولادته التصويرية المستمرة في الفضاء الاستعاري المحتمل في المشهد، وفي الفضاء الداخلي، وفي امتزاج الحواس في تلقيها التفسيري النسبي للجماليات الجديدة المؤسسة على تداخل الظهور، والاختفاء في بنية العلامة، وحضورها الشعري.
وقد يبدو المشهد الجمالي الطبيعي مؤسسا لتفسير علاماتي لآثار الأدب؛ فتجلي السحابتين الممزوجتين ببئرين، يمتزج – تأويليا في الوعي – بأشعار بودلير؛ فالصورة التي تمزج السماوي بالأرضي عند الريشة، تعيد تشكيل بكارة وقع صور بودلير في الوعي؛ فشوارع باريس، وفانتازيا بودلير الشعرية تبدو كثيفة في موسيقى السماوي، والأرضي، وفي شعرية الصورة الكونية، وهوامشها الجمالية التي تعيد تشكيل تاريخ الفن، ومنظور بودلير النسبي خارج الأطر؛ يقول:
"سحابتان شرهتان فيهما
بئران مشدوهتان تحتهما ..
نظرة بودلير". ص 46.
إن منظور بودلير المستعاد يختلط بالمنظور التفسيري السيميائي للمتكلم، وببزوغ العناصر الكونية جماليا في لحظة تستعيد تاريخ الفن خارج البنى الفنية نفسها؛ إذ تتجلى الذات كأثر في تحولات الصورة، وفي اتساع الفضاء، وتكثيفه لآلام التجسد، وغرابة صور بودلير في قصائده النثرية، ولكن في فضاء يكثف التجسد، ويفكك بنيته الإنسانية في صمته الكوني الذي ينطوي على حياة دائرية صاخبة.
ويتجلى الكوني ضمن علامات الكتابة الإنسانية التي تستنزف بنيتها الخاصة في عمليات الكتابة الأولى طبقا لدريدا؛ فصورة الغراب بمدلوله الكوني تتجلى في لون الحبر الأسود؛ يتشكل الأثر – إذا – ويختفي في تحولات الكتابة الأولى التي تنطوي على التصوير، والتجسد، والقراءة الجمالية للوجود، وتجاوزه للحضور، والغياب عبر سيميوطيقا الأثر؛ يقول:
"على صفحة بيضاء
يبدو أسود الحبر
غرابا مبتهجا أحيانا". ص 50.
يغيب اللون الأسود في تشبيهه الظاهراتي، في استبدالاته الممكنة الحلمية عبر دال الغراب، وأثره الذي يكثف علاقة النشوء الأول للصورة بالغياب المحتمل؛ إنها الولادة الطيفية من بنية اللون الجمالية، وتأويلها لتجسدات الإنسان، وكينونته، وتاريخه الفني، ووجوده الذي ينطوي على فعل الكتابة، وتجاوزها لمركزية الذات؛ ومن ثم تؤسس الكتابة لولادة العلامة في تداعياتها، وتحولاتها، ويعزز دريدا من هذا التحول في تصوره للكتابة، واستبدالاتها المحتملة؛ ونستطيع معاينة أثر الغراب الشبحي في رموز الكتابة، وفي لون الحبر، وفي سخريته الضمنية من حدود الكتابة التقليدية سواء في تكوين النص، أو في بنية الورقة.
ويستعيد الشاعر بنية الفصول في سياق استعاري تفسيري، أو حلمي؛ فالخريف يتجلى في الوعي مثل ملابس لدمية على شجرة جافة؛ تكمن طاقة الحياة الخفية في هوامش النهايات، وفي علاماتها العبثية التي قد تدل على الفراغ، ولكنها تشكل صخبا موسيقيا للخريف؛ إنها تتجاوز الفراغ في وهج الانطباعات الجمالية المولدة عن الصورة، والطاقة الخفية للدمية التي تبدو وكأنها تنتظر تكرارا مؤجلا للربيع في بنيتها التكرارية الآلية الشيئية، ونغماتها في العالم الداخلي للمبدع / المؤول؛ يقول:
"منشورة خطاب خريف
على أغصان شجرة جافة
ملابس دمية يبست". ص 51.
يبدو المشهد حلميا في تشكيله العلاماتي؛ فالدمية تستبدل الذات، وتكثف دلالات الحروب الصاخبة، وآلام التجسد القديمة الكامنة في اللاوعي الجمعي؛ إنها قراءة حلمية للذات في اتصالها بوهج الفراغ، وتجسداته الجمالية الموسيقية المحتملة في الخطاب الشعري.
وقد تتجاوز دينامية الصورة بنية الفاعل، وإنتاجيته الذاتية في ملمح ما بعد حداثي؛ فالفن يتجاوز الذات في لعب العلامات، وصيرورتها، وسخريتها من الفنان، وأطر العمل الفني؛ وهو ما يذكرنا برصد فاتيمو لخروج الفن من الأطر في الممارسات ما بعد الحداثية في كتابه نهاية الحداثة؛ فثمة موسيقى تصحبها طيفية تخرج من تحت إبط العازف في نص محمد حلمي الريشة؛ ولليد حضور ظاهراتي يتجاوز قوة العازف المدركة، وأي تأويل يمكن أن يختزلها في مدلول واحد في العالم الداخلي للمتلقي؛ يقول:
"تخرج من تحت إبط عازف
يد خبيثة، موسيقى
كمان مسلوب". ص 21.
تبدو الذات هنا جزءا من التطور اللانهائي لدوال العمل الفني، واستبدالاتها المحتملة؛ فالعازف يقع ضمن فضاء تشكيلي دينامي لا إطار له، بينما يبدو الكمان مسلوبا من حضوره ضمن بنية إنسانية، أو ذاتية، وتنفلت الموسيقى الأخرى من حدودها باتجاه الفضاء الكوني التشكيلي الآخر الذي يقع فيما وراء بنية العازف، والمدرك معا.