رواية تعيد الاعتبار للهامشى والعابر، تراه أكثر رسوخا وبقاء، وتقدم تحية عذبة رائقة ومؤثرة لمن رفضوا أن يكونوا أشباحا، تبعث عظام البشر والمدن، وتمنح الفرد أهميته، بنفس الدرجة التى تمنح الآخرين قيمتهم. ورغم أن الصخرة كبيرة وجاثمة، فإن الأسطوات ما زالوا يحفرون ويبدعون.

«صخرة هليوبوليس» .. الحفر على جدار الزمن

محمود عبد الشكور

 

فى هذه الرواية المدهشة، والمكثفة، ذاكرة فرد تفتح على مدينتين، والمدينتان تفتحان على تغيرات وطن بأكمله، نحو 130 صفحة فقط تنتقل بنا بين هليوبوليس ومصر الجديدة، وقصة أساسية تحتضن قصصا أقصر، وبورتريهات لشخصيات لا تنسى.
أحمد زغلول الشيطى بعالمه الخاص والحميم، يأخذنا فى روايته «صخرة هليوبوليس» الصادرة عن دار العين، إلى سيرة بطله يوسف العلمى، الذى لن نعرف اسمه إلا بعد صفحات طويلة، يرسم رحلته بكل تفاصيلها، من دمياط إلى مصر الجديدة، ومن ورشة الأويما التى عمل فيها، إلى شقته الجديدة، على بعد خطوات من قبر البارون إمبان فى كنيسة البازيليك، يوسف مثقل بالذاكرة القديمة، ومثقل بحاضر جديد، الآن عليه أن يحمل صخرة الماضى والحاضر معا، لعلها بالأساس صخرة دمياط، والوطن كله.
بين قوسين فى شقة مصر الجديدة، ورحلة إلى مقبرة أب زائلة، ومقبرة أم محطمة، تخرج شخصيات من الذاكرة، تنعكس عليها رحلة يوسف، وتداخل معها مقتطفات من كتاب عن دمياط، وعن صناعة الأثاث بها، عن الورش الفقيرة، وأصحاب المعارض الأثرياء، نصبح أمام جدارية رسمت عليها الصورة كاملة: تتغير الأماكن، ويبقى يوسف مع كوابيسه، تنحصر معركته الآن فى مطاردة فأر فى شقته.
رغم خصوصية تجربة يوسف كفرد، فإنه يبدو عنوانا على جيل بأكمله، كان شاهدا على تغيرات عاصفة، فقير هو وعائلته كثيرة العدد، مات الأب بائع الأقمشة المتجول، أمه قادت السفينة، ويوسف هو الوحيد الذى تعلم، حفر فى الصخر مثلما حفر فى الخشب، تنعكس تغيرات الوطن على دمياط، وعلى صناعة الأثاث، فى المدينة الأكبر، القاهرة، المعركة مستمرة، من زحام دار السلام إلى هليوبوليس، يوسف مستشار قانونى، ولكنه وحيد بعد انفصال زوجته عنه، فرد فى مدينة تضع ثمنا لكل شىء، وسعرا لكل شخص.
هى إذن قصة فرد، بقدر ما هى قصة شخصيات، وبقدر ما هى قصة مدينتين، وقصة وطن، لا يعلو أبدا صوت الأفكار، سرد يوسف يتداخل مع سرد الراوى العليم، ينازعه الشهادة وكأنه يؤكد وجوده، أو كأنهما صوت واحد، أحدهما عاش التجربة، والثانى كتبها، نشعر بتغير الزمن والأحوال، مع تلك القصص القصيرة عن شخصيات عرفها يوسف فى دمياط، التفاصيل البسيطة هى الأساس، لا زيادات ولا استطرادات، وهناك لمسة حنين بين السطور، وتحية مفعمة بالمحبة لمن يصنعون الحياة، فى أقسى الظروف.
يمنح هذا التكنيك قارئ الرواية دورا أساسيا فى إعادة تشكيلها زمانا ومكانا، ويجعله شريكا فى تأمل حكاية يوسف ودمياط، ينكشف يوسف أمام المدينة، مثلما انكشف قبر الأب وقبر الأم، عليه اليوم أن يحارب فى هليوبوليس مثلما حارب فى دمياط، تتغير الأماكن والظروف والمهن ومستوى التعليم، ولا ينجو يوسف من الحصار.
فى هذا النص البديع رغبة عارمة فى التوثيق، وفى تسجيل عالم يتسرب من الذاكرة، فى الحفر على جدار الزمن اليابس، مثلما كان الطفل يوسف يحفر على الخشب، فى النص محاولة لاصطياد أشخاص وحكايات لا يجب أن تموت، وفيه أيضا شهادة روح متعبة عن حياتها وزمنها.
تكتسب الأشياء الصغيرة هنا دلالات كبيرة: احتراق مقام الولى، وبناء القسم والسجن، بازة المسحراتى، وقماش الهلانكا، والبيع بالخسارة، المقبرة والفأر، كلها أجزاء لها أهميتها الخاصة، ولها أيضا دورها فى اللوحة الكاملة، ثم إن الشيطى لا يعرف كلمة نهاية، وإنما يرسم شخصياته، ويتأمل أحوالهم، دون أن يغلق الأقواس، أزمة يوسف والمدينة والوطن مفتوحة بكل تأكيد.
«
صخرة هليوبوليس» رواية تعيد الاعتبار للهامشى والعابر، تراه أكثر رسوخا وبقاء، وتقدم تحية عذبة رائقة ومؤثرة لمن رفضوا أن يكونوا أشباحا، تبعث عظام البشر والمدن، وتمنح الفرد أهميته، بنفس الدرجة التى تمنح الآخرين قيمتهم. ورغم أن الصخرة كبيرة وجاثمة، فإن الأسطوات ما زالوا يحفرون ويبدعون، على الخشب، أو فوق الأوراق، بالإزميل، أو بالكلمات.

 

جريدة الشروق المصرية