هنا وهناك في العقلِ صناديقٌ أمينةٌ لحفظ شذراتٍ من الماضي.
برجسون
الفصل الاول
الترجمة وباتا والرحيل
ينقلنا الاحساس بالهناءة إلى بدائية المأوى. من ناحيةٍ جسدية فأن الكائن الذي يمتلك المأوى يتكوَّر، ويتستَّر، ويختفي، ويرقد يتلذَّذ، وهو غائبٌ عن الانظار.
غاستون باشلار
1
في ضحى يوم منتصف آذار / مارس 2015 حلَّقت، مثلَ عقابٍ أسود بهدير طويل، طائرةٌ حربية في السماء.. دارت حول المدينة عدّة دورات قبل أنْ تتوارى، مُعيدةً تلك اللحظة لدى الذين رفعوا الرؤوس يتابعونها أيامَ الحرب التي أسقطت صدام مُنهية حقبةً حَكمَ فيها البعثيون خمساً وثلاثين سنة، وتفاوت النظرُ بيومِ دخولِ القواتِ الأجنبية بغداد وإسقاط تمثاله المنصوب في ساحة الفردوس بذلك المشهد الميلودرامي الذي نقلته الفضائيات للعالم أجمع. فمنهم من اعتبره تحريراً، ومنهم من حسبه تغييراً. وآخرون ناهضوا الرأيين فجعلوه احتلالاً لاسيما والأمم المتحدة أصدرت في ما بعد قراراً اعتبرت فيه هذا الدخول احتلالاً فعلياً، ونُظِر إلى العراق على انه بلدٌ مُحتَل، يُدار من قِبل قوات مُحتلَّة ستتولى إدارةَ البلاد لحين تشكيلِ حكومةٍ وطنية تؤمِنُ بالديمقراطية وترفض التفرد بالسلطة.
تلك اللحظة ترك ناطور المكّي دكّانه وهرع ينوء بسنواته السبعين لمنتصف الشارع يُطالع السماء.. لحقه جابر ميمون خارجاً من محل باتا تاركاً فكرة شراء حزام جلدي بديلاً عن حزامه البالي الموشك على الانقطاع بينما نهض سجّاد منشد من مكانه في المقهى الذي افتتح حديثاً حيث اعتاد الجلوس في التخت الأمامي بعدما أحيل على التقاعد شرطياً خدم الدولة العراقية أربعين عاماً ووجد في المقهى والحديث مع أيِّ زبون يجلس إلى جواره مشواراً لصرف الوقت يُحدّثه عن الحرب العالمية الثانية ورومل ثعلب الصحراء الذي طغى صيته في تلك الحرب على زعيمه هتلر وكان حديث فرسان السماوة الكهول ورجل خيالاتهم المتأججة بالبطولة لولا أن هزمه مونتغمري، القائد الانكليزي البارد الاعصاب فجعل جنوده اجساداً تشويها شمس الصحراء ودباباته مآويَ للجرذان وجرابيع براري العَلَمين. ويستمر في حديثه ليربطه بخبر ولدِه باقر الذي نشرت صحيفة اللوموند الفرنسية لقاءً معه يحكي عن بطولاته بوصفه سبّاحاً ماهراً حقَّق لفرنسا جائزةَ عبور بحر المانش من بين خمسين متنافساً بعدما وجدَ في فرنسا بلداً لتحقيق رغباتِه واكتشاف مهاراته في السباحة والعوم لساعات بلا توقف.. واندفع جوادين، الحاصل على شهادة الهندسة قبل ثلاثة اعوام ولم يحصل على وظيفة، من زحمة بائعي الخضروات والفواكه المحتلين الرصيف المجاور لمعرض باتا بعدما انحنى لرفع كتاب " انسان مفرط في انسانيته " لفريدريك نيتشه من بين حزمة كتب اشتراها للتو من مكتبة كنوز التراث تسبَّبَ بإسقاطه صِبيةٌ كانوا يركضون بعبثية بين الناس ولم يرفع انظاره إلى أعلى؛ فقط تمتم بكلمات غطى عليها هدير الطائرة؛ أما غريب النوري فكان، وقد عتهته السكر بعدما كسر " الخمارية " منذ استيقظ صباحاً ببيك من العرق المُهرَّب، واقفاً على حافة الرصيف عندما سمع دوي الطائرة وظهورها في السماء. نظر مع الناظرين إلى أعلى ثم عاد ليجلس خلف جامخانته المحتشدة بالساعات المتنوعة بينما رفوف محله تتراكم فوقها ساعاتٌ جداريةٌ ومنضدية يتفاوت وقوف عقاربها على ارقام لاتينية وعربية وهندية.. ساعات قلَّ الإقبال عليها إنْ لم نقل تمَّ الاستغناء عنها مع مطلع ألفيَّتِنا الثالثة؛ فالهواتفُ المحمولة صارت تحوي ساعات رقمية تعرض الوقت بدقة تفوق دقة الساعات اليدوية او الجدارية أو المنضدية؛ كذلك أضابير الليفَكس والمُفكِّرات صارت لا تخلو من هذه الساعات المُرفقة بحاسباتٍ ديجتل.
2
لاشكَّ أنني قضيتُ أسبوعاً مُرهِقاً منهمِكاً بترجمة رواية لكاتب دنماركي وصلتني من هاشم المسافر ـ صديقي الذي يعيش منذ عشرين عاماً في الدانمارك مهاجِراً قال عنها " رواية تستحق تفاعل ذائقة القارئ العربي معها ".. " خاتم الأمير العبد " كان عنوانُها. وجدتُ بعد مطالعتها سريعاً أنها عملٌ سرديٌّ مشوِّق؛ فيه من الأحداث ما تجعل القارئ يتشبث بأسطرها ساعياً للتواصل معها حد الانتهاء منها والتهام صفحاتها الثلاثمائة والثلاث وتسعين.. كنتُ ما أن أبدأ بترجمة الأسطر الأولى من صفحة واقرر تأجيل ترجمة الصفحات التالية كي أتناول الغداء أو العشاء أو ارتشاف قهوة أو شرب شاي حتى تأخذني نشوةُ الترجمةِ وتحدوني رغبة المواصلة، فأجد نفسي صرفتُ ما يزيد على الساعة أو أكثر متراكمة فوق الوقت السابق وقد ترجمتُ عدة صفحات مضافة لحساباتي في مشروع ترجمة عشرين صفحة كمخطط يومي؛ وأجد من الضروري النهوض من منضدة الكتابة وترك الرواية وحزمة أوراق مسوّدة منها وعذراء لم يفتض بكارتها القلم، وقاموس احتاجه في فك معاني وتراكيب بعض كلمات وجمل تحمل أكثر من معنى تستدعي حذَر المترجِم في التعامل معها، وأستأذِن من " بيارن رويتر " المؤلف الذي اعتاد الاتصال بهاشم وسؤاله عن مراحل الترجمة؛ أين وصلت ومتى تنتهي، غارقاً في حلم سعادة مائية غامرة بمشاهدة روايته تقرأها أمّة تعداد نفوسها 360 مليون.
دخلتُ المطبخ فوجدتُ على منضدة الطعام صحنَ رز وآخر فيه مرق بامية وقرص رغيف وصحن آخر صغير قُطِّع فيه رأس بصل. (اغرم كثيراً بأكل البصل مع مرق الباميا؛ قد تكون عادة غير محببة عند غيري لكنني أستطعم الاثنين... الطعامُ أذواق). حين وضعتُ أول ملعقة رز مُدافة بمرق البامية في فمي تذمرتُ لبرودة الأكل والتفتُ لزوجتي أبغي لومَها عندما تذكرتُ أنّني الجاني.
نعم؛ كثيراً ما خلخلتُ برنامج العيش وتسببتُ في إرباك موازنة الحياة العائلية. فالكتابة تخرِّب ناموسَ الطقس الحميمي للأسرة وتُربِك برنامج الوقت المُخصَّص للوجبات والواجبات. لذا تناولتُ الغداء مُرغماً واستدرتُ أطالع الفضائيات على شاشة التلفاز وأقف عند آخر أخبار استرجاع مدينة تكريت من براثن داعش التي عاثت فساداً بثلث العراق بعدما احتلته.. واجهت محطة " فتافيت " الفضائية التي تتابعها زوجتي باهتمام وتقضي النهار وما زاد لها من وقت في متابعة عمل الأكلات اليومية. أدركتُ أنَّ الناس باهتماماتها. وتوجيه بوصلة هذا الاهتمام يقتضي الوقت والحدث. في الماضي كان عمل الأكلات يقدَّم على صفحات الجرائد. وليس في جهاز التلفاز قبل التغيير أو الاحتلال غير قناتين: قناة (9) وقناة (7) تديرهما السلطة، ويتشابهان في برامجهما: برامج سياسية واجتماعية واقتصادية ورياضية وغيرها مختصرة. ولم يكن هناك اهتمام بما يأكله العراقي نوعاً وكمّاً. لذا ظلت المائدة العراقية اليومية فقيرة لا تتعدى الرز والمرق كوجبة أساسية. وإذا حدث وتجاوز فإلى السمك النهري والدجاج. أما الآن وحيث الفضائيات تتسابق على اجتذاب المشاهد فقد صرتُ أتناول ما تعتبره الزوجة أكلةً جديدة، جاعلةً منّي حقلَ تجارب. اذا رأت سحنتي بعد تناولها مُسترخية هرعت لإعداد وجبةٍ اكبر لتحملها في اليوم التالي الى زميلاتها في المدرسة الثانوية (حيث تدرس اللغة العربية كاختصاصٍ تعتز به الى جانب اهتمامها بأنشطة المجتمع المدني فهي عضوٌ نشط تسعى لبناء مجتمع أقل ما يقال عنه انه متحضِّر يسلك سلوكَ الامم الناحية صوب محطات النور) متباهيةً وفخورة؛ وإنْ رسم وجهي علاماتِ امتعاضٍ اكتفت بتجاوزِها ولم تنتظر ما أفوه به.
وكنتُ أنا مَن اقترحتُ عليها تناوله قبل إعداده لزميلاتها. فلي مع هذا حدثٌ تحتفظ به ذاكرتي بشيءٍ من الدعابة. حدثٌ صار مَصدر تندّر كلَّما تذكرناه عائلياً غرق الجميع في الضحك. ففي يوم استدعى عمّي أصدقاءه في عزومة كان فيها الكاستر تحلية لما بعد وجبة الغداء. وكان ان مسكَ كلُّ ضيف صحن الكاستر وتوجهت الملاعق فقطعت ما ملأ الفم وفي نفوسهم ان سيستعذبون طعمَه وتتحلّى أفواهُهم بطعم السكر وأنوفهم برائحة الفانيلا حتى إذا قضموا أول قضمة انزلوا الصحون على المائدة وفي عيونِهم بهتٌ. ولولا خجلهم وخشية انقلاب العزومة إلى مَسخرة لرجَّعوا ما تناولوه ولفظت معدتهم ما امتلأت به. وفهمنا في اليوم التالي أنَّ زوجةَ العم بدل أنْ تضع السكر في مزيج الكاستر أفرغت ببلادةٍ منقطعة النظير علبةَ الملح بما احتوت.
دقَّت نغمة الهاتف الخلوي وجاءني صوت كاظم الساهر " وين آخذك؛ وين انهزم بيك " فقلت هذا نداء باسم رسّام صاحب مكتبة كنوز التراث. وجدته يخبرني عن قراءة نقدية كتبتها عن رواية " رائحة القهوة " للكاتب الاورغوياني ماريو بينيديتي نزلت في ملحق أدب وثقافة لجريدة الصباح وانه يحتفظ بنسخة من الجريدة لانَّ النسخ التي وصلته محدودة وتهافت عليها الشباب من مُحبي الرياضة. ابتاعوها ذلك اليوم من أجل ملحقِها الرياضي الذي يضم تحليلات لمباراة جمعت منتخبَنا الوطني لكرة القدم مع منتخبِ الكونغو دارت في الإمارات العربية المتحدة.. ما أنْ انتهيت من المكالمة حتى سمعت من عمق المطبخ صوت زوجتي المشغولة بإعداد قهوة اشتهيها بعد الغداء: حمزة؛ لا تنسَ موعدك مع الطبيبِ عصرَ اليوم. التهرّب لا يأتي بالصحة."..قليلاً وعادت تقول: " نسيت ان اقول ان حارث اتصل بي وقال سأحضر لمصاحبة أبي الى الطبيب."
ما أنْ أوشكت على إعلان شكري لتذكيري بالموعد وطلبي منها ان تتصل بحارث لثنيه عن المجيء حتى رنَّت نغمة الهاتف الخلوي من جديد. جاءني هذه المرة صوت شادية " مخاصمني بقالو مدة؛ وبليلة الشوق ناداني " فعرفتُ انه جوادين. لابد انه واقع في مشكلة أو لديه أمرٌ يراه مُهمّاً فاتصل ليستأنس برأيِّ.. جاءتني أنفاسه اللاهثة قبل صوته:" احتاجك.. متى نلتقي؟! لا تقل لي مشغول بالترجمة اللعينة؟ ".. ضحكتُ محاولاً التقليل من توتره (كنتُ أعتذر له عندما طلب لقائي مرتين جراء انهماكي في اكمال برنامجي في ترجمة الصفحات المُقررة)؛ ارتضيت تجاوزه العفوي فهو يخاطب شخصاً بعمر أبيه، قلتُ: " لا، هذه المرّة مشغول بضرسي اللعين. إنَّ لألمِه فعلَ التعذيب البطيء والمتواصل.. سأمرُّ على عيادة الطبيب قبل لقائنا. "
تقع عيادة الطبيب فوق صيدلية تحمل الآن لافتة " صيدلية المدينة " بعدما كان اسمها قبل عشرين عاما " صيدلية الرازي " في شارع باتا ضمن بناية بطابقين تجمع عشرة عيادات بمختلف التخصصات: صدرية وباطنية وأعصاب وكسور وغدد وجراحة عامة وطب أعشاب. الصالات مزدحمة والممرات تعج بفايروسات الأمراض المتنوعة الساخرة من المُطهِّرات التي يمكن شمّها بيسر، والسلَّم الوحيد الضيّق محشو ومحشور بالأجساد الصاعدة والهابطة، والضرس الذي كان يؤلمني وترجّيت الطبيب قلعه قبل أسبوع وعالجه بحشوة ظنَّها ستوقف قطار الألم، استمرَّ يعاندني بالوجع ويتوعدني بإيلام لا فكاك منه.
***
مَن يأتي من شارع العيادة الشعبية باتجاه الجسر يمر بفم السوق المسقّف.. سوق يشكِّل نصفَ جسدِ هذا المرفق الاقتصادي الذي نشأ وحيداً ورئيسياً أوائل القرن التاسع عشر تتفرع منه أسواق فرعية. فهذا سوق الحدادين وذاك يخص الصفارين وقبله سوق النجارين وآخر للقصابين؛ وثمة قيصريات للخياطين والروّافين ونسّاجي العباءات الرجالية وصانعي أخفاف الرجال الجلدية.. فم السوق هذه الأيام صار عارضةً للافتاتِ المتوفين من سكّان المدينة؛ واعتاد كل من يواجه السوق قراءة مَن توفِّي، وفي أي جامع أو حسينية يقام مجلس الفاتحة. تتراكم اللافتات السوداء إشارةً للفقد المُحزن وبتراكمها يحدوكَ شعورُ أنَّ الموتَ في هذه المدينة ضيفٌ ثقيل متواجد على الدوام، أو هو ملمحٌ صارخٌ لازدياد سكان المدينة وتناسل أجيالِها بعدما كان خبرُ وفاةِ شخصٍ ما، قبل عقدين من الأعوام أو أكثر، متباعِداً بأشهر عن خبر وفاة آخر.
لم أرفع رأسي وأنا في الطريق إلى العيادة فالألمُ قاسٍ ومزعجٍ وبغيض.. أذكرُ لومَ زوجتي عندما فتحت عينيها في منتصف تلك الليلة المجنونة قبل اسبوع بالوميض والرعد ورشقات المطر على زجاج النافذة لتجدني رائحاً غادياً داخل الغرفة وقد وضعت كفّي على خدي، جهة الضرس البغيض. ومن بين سحابات الكرى وابتسامة مكايدة سمعتها تتساءل: " كيف ستنهي ترجمة الكتاب وقد وعدت الرجلين - وتقصد هاشم ومؤلف الرواية - وصنعت لهما حلماً وردياً.. ها؟! "
أمس بعثتُ رسالةً الكترونية إلى هاشم أُعلِمُه بألم ضرسي مُعزياً له سبب تأخّر الترجمة.. ولم تمر ساعات حتى وجدتُ الردَّ مجموعةَ كلماتٍ قاسية: " حمزة؛ سأزعل عليك هذه المرة إنْ لم اقرأ فصلاً مترجماً من الرواية منشوراً في صحيفة الصباح أو الزمان أو المدى أو أي صحيفة عربية تعتد بها.. يا رجل أين حماسك الكبير في ترجماتك الكثيرة؟!.. هل أثَّرت فيك عيون الحاسدين؟.. ألم تكن تملأ الصفحات الثقافية بمختلف الترجمات؟.. أما كنتَ تخوض في ميادين القصة والرواية والنقد الأدبي وتقفز إلى الكتب الفلسفية والنفسية حتى؟!.. آه، لو كنتُ أديباً لما ألححت عليك، ولتوليت الترجمة بنفسي؟ "
شعرتُ أنَّ هاشم المسافر مُحقٌّ في لومه، ولا عذر لديَّ.. نهماً كنتُ في الترجمة إلى ما قبل السنتين الماضيتين. بل ومهووساً في تحويل ما أقرأه باللغة الانكليزية كوسيط ثقافي إلى كتابة مُترجَمَة اكتشفتُ أنَّ القراء يُقدمون عليها باشتياق؛ وأسمع كلَّما رآني احدُهم انهال بالإكبار واسمعني شدواً من الدهشة والزهو.
أرى أنَّ الترجمةَ فعلٌ إبداعي يتطلَّب جهداً وبراعةً وخيالاً كفعلِ النحت الذي يمارسه هاشم ويجيده ويعلو فيه على احتراف الرسم.. فعلٌ يتشكل من جهدٍ وذائقة وإصرار. والمترجم، كما أراه، شخص انيطت به مهمّة تحويل ما أنتجه الآخر في ضفة إنسانية ليكون مرغوباً ومُحبَّباً لآخر في ضفة إنسانية أخرى. هذا التنوع في تبادل الأفكار والأشعار والصور السردية يتكينن فسيفساء مؤرَّجة بعطرِ التعرف على ما ينقله الوسيط من ضفة لضفة.. ما زالت نصائح اساتذتنا في قسم الترجمة في كلية الآداب تتبارى في مسمعي وهم يردّدون كلام جوته الالماني (على المترجم الاقتراب مما يستعصي على الترجمةِ كي يساعدنا على فهم كلِّ أمةٍ، وكلِّ لغةٍ غريبةٍ عنّا)؛ وما زلت اذكر اعتبارهم الترجمة فعلَ تحدٍّ أدبي وحالةَ اصرارٍ على مواجهةِ مهمّات صعبةٍ وعصيّةٍ تتطلب التهيؤ باستعدادات مَكينة تفكَّ شيفرات النص الذي يُراد ترجمته. وكنتُ كلَّما هممتُ بمحاولةِ ترجمةِ نصٍّ بعد قراءته والاقتناع به توقفتُ كثيراً لأستذكر إحدى النصائح على الأقل تلك التي تشير إلى أنَّ الترجمةَ " خيانةٌ خلاقة " تُفهم الذات بالآخر؛ والمترجمُ خائنٌ يبرع بإثبات نزاهته من خلال تفاعله مع ذلك الآخر لتقديمه لقارئ يجهله.
تلك الخيانة الممتعة؛ وذلك الخائن البارع يشكِّلان شرفةَ خلقٍ جميل لبستان تطلُّ على اشجاره وثماره وسواقيه عيونٌ نهمه وشغوفة تحدوها الرغبة في التمتع والاكتشاف.
الترجمةُ خلقٌ؛ المترجمُ خالقٌ.. أمّا النصُّ المُترجَم فدنياً جديدة تداخلَ في صنعِها خالقان: خالقُ ما قبل الترجمة وخالقُ ما بعدها. وكلاهما يغذيّان القارئ بعسلِ الخَلق الجميل فيعملان تلاقحاً بين ثقافتين؛ بين ذائقتين؛ بين أمَّتين.
من هاتيك النظرة توالد حبّي للترجمة. ومن هذا التلاقح في الوعي والذائقة صرتُ أرى قرائي اخواني وابنائي مثلما اخواتي وبناتي.. تلزمني مهمَّةُ ارواءِ عطش نفوسهم الظمأى بنمير ماءِ ثقافةِ الشعوب الأخرى واشباع بطونِ رغبتِهم بفاكهةِ المعرفةِ الانسانية.. ولقد أثنيتُ على هاشم المسافر عندما بعث لي الرواية الدنماركية لأحوِّلها الى مأدبةٍ يلتفَّ حولَها عشّاقُ السرد، فيأكلون ويشربون، ومن ثم يتكئون على مساند كراسيهم وقد امتلأوا فاسترخوا، فأثنوا، فشكروا؛ فطالبوا بمأدبة أخرى فيها المزيد والمزيد من عسلِ المتعة وماءِ نميرِ الجَّذَل.
3
سادت فترة الستينات موجةُ رحيل عن البلاد وشهد شارع باتا غيابَ عددٍ من شبابه المفعمين بأملِ التغييرِ والحالمينِ بالخروج عن رقعة الشطرنج؛ ابتدأها فارس رشيد، الشاب العاشق لكتب الفلسفة مدفوعاً من عمّه الذي سكن بغداد وكان مُغرماً بقراءة الكتب المترجَمة، إذ لا يكاد يدخل مكتبة مكنزي ويجد كتاباً جديداً يقرأ عليه اسم كانت أو ديكارت؛ هيجل وماركس، أو نيتشه أو هايدجر؛ ارسطو أو افلاطون إلا وسارع لشرائه ليلتهم فحواه التهاماً حتى صارت الرفوفُ الثلاثة الطويلة من مجموع رفوف غرفته ذات الاربعة امتار طولاً والثلاثة عرضاً مُخصّصة للكتب المتعاملة مع العقل والبحث في ماهية الوجود والأنسنة والتنوير.. اعتاد فارس رشيد، هو الفتى اليافع، انتظار مبارحة عمّه البيت كي يتسلل الى مكتبته مدفوعاً بفضول اهتمام العم بهذا النوع من الكتب.. يتساءل من هو نيتشه وما علاقته بزرادشت، وماذا يقول في "أفول الاصنام"؛ ما الذي يطرحه هايدجر في كتابه "الكينونة والزمان"؛ ولماذا يهتم عمُّه بكتب ديكارت وكانت وارسطو وافلاطون بحيث يرى خطوطاً يخطَّها اسفلَ جمل طويلة.. يستلُّ كتاباً من أحد تَينكَ الرفوف فيروح يقرأ مأخوذاً بأسطر تركّز على أهمية العقل في تقييم أيةِ حالةٍ او مُشكلٍ يتطلب وضعَ الاحتمالات لتشكّله أولا ومن ثم البحث عن حلولٍ عقلانيةٍ ينبغي استخدامها للوصول الى النتيجة الصح. رأى مع تواصل قراءاته لنيتشه أنَّ هذا الرجل يمتلك من الذكاء المغموس بالهوس ما يجعله مفكِّراً لا يمكن اهمالُ سطرٍ من اسطر كتبه المتعاملة مع الفلسفة، ولابد من حفظ الكثير من آرائه عن ظهر قلب... فارس رشيد هذا دخل قسم الفلسفة في كلية الآداب - جامعة بغداد وصار مع كل عودة الى السماوة يلتقي عمّه فيدخل الاثنان في حديث عن الأنسنة والآراء فائقة الذكاء. آراء تنادي بالعالمية واعطاء الحرية للفكر والعقل كي ينتجا حلولاً واجاباتٍ لجموع الاسئلة المُبهَمة المحيطة بنا.. ذلك جعل العم يشيد بذكاءِ ابن أخيه، رائياً فيه النموذج العلمي الأمثل. وحين أشَّرت الاعوام الدراسية الاربع في الجامعة تفوقه حثّه على مواصلة الدراسة وعدم الالتجاء الى وظيفة تجعله حبيس بيت يلفّه احد ازقة شارع باتا؛ فرافقه في اجراءات استخراج جواز سفر ووضع بيده مبلغاً مشجعاً مَقروناً بما قدّمه الأب. ودّعه من مطار المثنى في العاصمة؛ وجهته ألمانيا وليس غير ألمانيا؛ موطن نيتشه ومعقل تعلم هايدجر في مشاوير بحوثهم الفلسفية.
لم تمض اشهر على وصول فارس رشيد ودخوله " جامعة برلين الحرة " سعياً للحصول على درجة الماجستير في الفلسفة حتى بعث لعمِّه يعلمه أنَّ تجاهلاً كبيراً كان يمارس في بلداننا العربية لرموز فلسفية عربية واسلامية تعتد بها الجامعات الغربية. فابن رشد يُدرَّس بحفاوة؛ مقدمة ابن خلدون مادة دراسية اساسية، اعمال ابن عربي مُترجَمة، يبحثون في ثناياها ويدرسونها بعمق، وليس بعيداً ابو حيان التوحيدي وحزنهم على مؤلفات قيّمة انتجها لكنّه احرقها في مجتمع لم يقدِّر أهلُه يومذاك قيمتَه كطاقةٍ عقليةٍ مُذهِلة.
مع قراءة كل رسالة يبعثها فارس رشيد يروح العم في المجالس واللقاءات يتحدَّث وبزهوٍ عن جهود ابن اخيه في نيل العلم والمعرفة، يثبت ذلك برسالة يستخرجها من جيبه فيقرأ اسطراً منها، مقرونةً بالوسائل التي تيسرها الجامعات للطلبة.. كما يتطرَّق للاستقرار النفسي والعيش الهانئ وحب العمل وسهولة الحصول عليه وفق برامج علمية موضوعية تكرّسها الحكومة لخدمة مواطنيها.
كلامُ العم وتناقله بين الالسن ولَّد حالةَ تساؤل وفضول لدى الشباب خصوصاً مِمَّن يمتلكون الموهبةَ في الآدابِ والفنون والعلوم. فضول شرع يتنامى مُنتِجاً اسئلة واستفهامات عن سبب تصمغهم في مدينة واهنة لا تحقق رغباتهم ولا تُشبِع نزوعهم.
ولم يمض غير عام حتى تناهت للمسامع أخبار سفر عدد منهم إلى بلدان أوربا وعدم عودتهم.. شريف، متمثِّلاً بالعالِم عبد الجبار عبد الله رمزاً علمياً يتمنى ان يحذو حذوه، سافر الى بغداد، ومن هناك بعث ببرقية الى ابيه يعلمه بسفره ذلك اليوم إلى امريكا لمواصلة دراسته العليا وتخليه عن وظيفة دُعيَ لها ليكون رئيس قسم في منشأة الموانئ العراقية في ميناء الفاو، ويطلب العذر منه ومن أُمِّه في عدم اخبارهما على تصميمه وقراره.. ياسر رحلَ إلى باريس تاركاً معهد الفنون الجميلة كطالب متميز في المرحلة الثانية نصحه استاذه فائق حسن بالبقاء حتى التخرُّج ومن ثم اتخاذ الطريق الذي يرغب فلم يقتنع؛ هناك طفق يتنقَّل بين اماكنَ اتخذها الانطباعيون للعرض أو السكن أو الرسم: ستوديو غلير، غابة فونتنبلو، الاكاديمية السويسرية، شواطىء بحر المانش... لحقه عقيل المجنون بحبِّ الفنِّ السريالي بعد عام ونصف. وكان اقرانه تنبأوا له بمستقبل يضاهي به سلفادور دالي المولع به، فنٌّ لا يتَّبع نظاماً عقلانياً ويرفض الخضوع للمنطق، أي أنَّه فوقَ الواقع؛ لكنَّهم لم يشاهدوا له لوحةً ولا إقامةَ معرضٍ، فقط ما كان يصلهم منه هو قراءاته للوحات الكبار ونقده للمعارض الفنية للرسامين. لقد طبع عقيل اسمه كناقد فتراجع الرسم من قائمة اهتماماته وجعلِه موهبةً مؤجَّلة النهوض من سباتها.. أمَّا عبد الستار فقد بعثَ عدداً من الصورِ تُظهِره في موسكو تُعلِن تحقِّقَ حلمِه في الصعودِ على خشبةِ مسرحِ البولشوي ووقوفُه في لقطةٍ رائعةٍ مع مايا باتستسكايا راقصة الباليه وهي تحتفي به شاباً شرقياً يعشق المسرح عابراً البحور وقاطعاً الفيافي من أجل دورٍ مسرحيٍّ يعلن فيه عشقَه لهذا الفن الرفيع. في حين دخل نوفل وسامر وعلي ميادين العمل الاقتصادي فجذبتهم مِهنٌ وجدوها قادرةً على توفيرِ وسيلةِ عيشٍ كريم، وشوهدوا في لندن وقد جلسوا في يوم استراحتهم في كازينو فيكتورا أمام صورة جدارية بطول مترين لشارلي شابلن وهو يتكئ على عصاه بلقطة بؤس عاتية تبتسم لها النادلة مارتا جوهانسن كما اشار لها رواد الكازينو واغلبهم عربٌ واسيويون.. أما جبّوري فقد حنَّ لعطنِ قُمامةِ زقاقِهم ولشجارٍ يتعالى دوماً بين نساء الزقاق يسبّبه الصبية المشاكسون في ما بينهم وتؤجِّجُه الفاقة الضاربة اطنابها في جيوبهم.. حنَّ الى لفح الشمس وشوائها صيفاً والى الزمهرير القارس والقاسي شتاءً فعاد بخفّي حُنين ولم يقاوم مرض " الهومسكنس" شهراً واحداً.. عاد وحيداً، تستقبله عيونُ أصدقاءٍ لم يعنِّفونَه بلومِ الكلمات، مكتفين بنظرات الاستهجان.
وكان من بين من سافروا بل هاجروا صديق طفولتي هاشم عبد الكريم.
4
ولِدَ هاشم الذي يكبرني بعامين ونصف، في السادس من مايس 1956، اليوم الذي احتفل به العالم جميعاً بمرور مائة عام على ولادة رائد التحليل النفسي سيجمند فرويد. ولد في بيت ضئيل بباب خشبي عريض تُطَعِمُه كإكسسوار تجميلي مساميرٌ حديدية دائرية كبيرة كأنها كرات عيون تغطّيها الأجفان؛ ونافذة بقضبان حديدية هي نافذة غرفة أبيه التي كانت في ما مضى غرفة استقبال الضيوف قبل ان يزداد عدد أفراد الأسرة فيصبحوا ولدين وثلاث بنات ويكبروا ويجد أن لا مناص من جعل الغرفتين الأخريين واحدة للام وبناتها والأخرى للولدين (هاشم وأخ جاء في آخر العنقود)... كثيراً ما شوهِد الأب وهو يطالع من خلالها حركة الشارع، وقد ينادي على بائع النفط حين يمر بعربته مسرعاً؛ أو يوقف بائعة اللبن عصراً قبل توجهها إلى مدخل السوق المسقَّف لتجلس هناك على حافة الرصيف تبيع بضاعتها في الأواني الفخارية الزرقاء قبل حلول الظلام.. وكثيراً ما اختلستُ نظرةً عبر النافذة فأشاهد سريراً خشبياً وثياباً مُعلقة بمسامير يحتويها الجدار الجصّي؛ فوقها لافتة مزججة مائلة توشك على السقوط خُطَّ عليها " الحسود لا يسود ".
ذات يوم شتائي من العام الذي أعلن فيه تأميم النفط استيقظتُ أنا ابن السابعة عشرة مبكراً؛ متوجهاً إلى سكلّة بيع الأسماك المُطلة على الفرات لجلب ما اشترى أبي من اسماك ذلك الصباح وبعثَ من يطلب منّي المجيء لجلبها الى البيت. ارتديت بلوزة خضراء وبنطلون رمادي؛ مشَّطتُ شعريَ الكثيف على طريقة الخنافس مودَةُ الشباب آنذاك. اتخذتُ شارع باتا درباً يوصلني. وصادف أنْ شاهدتُ، عن بعدٍ، النافذةَ مشرعة فقررتُ النظر للداخل، كما هو عهدي، بطريقةٍ خاطفة. كان أبو هاشم ممدداً في السرير مفتوح العينين باتجاه النافذة. شعرتُ بالخجل إذ خلتُ الرجل أبصرني. هذا يعني أنْ سيعاتبني على تطفّلي؛ بل سيعنفني بكلماتٍ جارحة عندما أطرقُ الباب منتظراً هاشم لنخرج في جولةٍ يكون فيها الفرات صديقاً ثالثاً لنا نتوجه إليه فنصرف ساعات العصر جلوساً على احد تخوت مقهى علي سلمان. بيد أنَّ العتاب الذي خمَّنته لم يحدث قط. ذلك أنّني ما أنْ خطوت عدة أمتار حتى سمعتُ صرخةً حسبتُها انطلقت من البيت؛ أعقبتها صيحاتٌ وعويل متواصل. وإذ عدتُ بغية معرفة ما يجري أطلعتني النافذة المُشرَعة بصمتِ أبي هاشم إلى الأبد مثلما أطلعتني كفُّ أمِّ هاشم المُرتعشة وهي تُطبِق اجفانَه فتغلقُ عينيه.
كان ذلك الحدث جارحاً لهاشم، ومؤلِماً.
وما جرحه أكثر بعد أشهر من وفاة أبيه وآلمه أيضاً هو مشاهدته شهلاء التي كتبَ لها رسائل الحب ووعدَها أنْ سيكون زوجاً وفياً تدخل بيتَ شاهين، صديقه ابن بائع السجاد والأزر. وتفضي له يوم واجهها بالدليل أنَّ شاهين (الذي هو الآن في فضاء الديمقراطية المنفتِح تاجر يرتقي رصيده إلى المليار دينار، وله الفضلُ في جعلِ الحشيشة تُباع كما تُباع السجائر ويحصل عليها الشبابُ الذين باتوا مُدمنين بيسر) هو حبيبُها الحقيقي؛ " أما أنتَ (ردّت عليه بقصاصةٍ) فكنتُ أداري مشاعرَك فلا أنهرك وأنتَ تكتب لي. وكنت اقرأ رسائلَك فاحسبُها لا تخصني بل تخص حبيبة رسمتَها في خيالك. ".. البوحُ الصريحُ أو الغدرُ كما حسِبَه جعله يتمتم مع أغنية لسعدي الحلي "(البلدة خلاف ولفي شوفه مَلها).
كان هاشم الهائم بغناء ام كلثوم والمستعذب لأغاني عبد الحليم الخفيفة والمعبرة عن عشقٍ جميل على حسابِ اغاني فريد الاطرش الباكية الحزينة يُعيبُ على مستمعي سعدي ذوقَهم لأنهم يطربون لغنائِه وكلماتِ شِعره مقرونةً بالضربِ على الطبلة. يراهم سكارى يهيمون تأثراً، تعتعتُهم كؤوس العرق المستحلَب يعبّونه عبّاً بلا تذوق ولا استعذاب، وكثيراً ما شاهدهم يبكون لوعةً ويشكون هجرَ الاحبّة لهم؛ يحفرون الوشمَ الاخضرَ على سواعدهم ويكتبون بمباهاة اسماء من يُحِبون من الذكور ومعها عباراتُ لوعةٍ أو تحدّي، مِن مِثل " تكتلني بحبك ميخالف؛ شهيد أصير "، أو " ليش يا ظالم "، أو " مجنون بحبك مثل ما جَن قيس على ليلى "... وها هو الآن يبكي لنفس الكلمات.. كلماتٌ يراها منطقيةً وصادقةً ومعبِّرة؛ فيها لوم وعتاب، حزن ورثاء، نابعة من قلبٍ موجَعٍ وروحٍ تهنأُ بالشجن وتعيشُ على الرثاء.. كلماتٌ حسبَها رؤيا لحبّ وأدته الغادرة، ورسالةً لابدَّ من الاجابة عليها بما يُعيدُ للكرامةِ قدرَها وللكبرياءِ عنفوانَه.
الرؤيا ترجمها هاشم ابتعاداً... فغادرَ السماوة والعراق دون أن يخبرني لئلاً اعيق سفره، ولم أعرف أين وصل، وفي ايِّ بلدٍ استقر إلا يوم وصولِ رسالةٍ يُعلمني بوجوده في الدنمارك.
بعد أشهر من تواجده هناك وصلتني رسالة أخرى وقد أضفى هاشم على اسمه المدوَّن خلف ظرفها الأزرق لقب " المسافِر".
في تلك الرسالة أرفقَ صورتين: الأولى ينتصب على درابزين حديقة عامرة بالورود، تقف الى جانبه امرأة شقراء تكبره بسنوات. وفي الثانية كان يجلس في مقهى على الرصيف، تشاركه المنضدة نفس المرأة وقد ارتديا ملابسَ تختلف عمّا في الصورة الأولى. كانت المرأة الشقراء في الصورة الثانية تطالعه مبتسمة كأنها تعلن سعادتها معه... ولم تمض غير أشهر حتى بعثَ عدداً من الصور كان فيها ببدلةٍ رصاصية ورباطٍ أزرق داكن وقد أطال شعره وارتوى وجهُه؛ ومعه كانت المرأةُ بملابسِ زفاف.. صورة وهما في مدخل شقَّته، وصورة داخل أستوديو، وصورة في الكنيسة وقد وقف القس يعلن بينهما ما جعلني أتساءل ان كان تزوجها فعلا أم هي صور مفبركة. اسطر الرسالة التي جاءت بخطه أعلمتني انه تزوجها وانه يعيش السعادة معها؛ ولولاها لما استطاع تحمّل البُعدَ والغربة.
سعدتُ لما قرأت واحتملتُ قرار هاشم جاء كردَّةِ فعلٍ لطعنة شهلاء في قلبه وتهكّمها عليه.
وكان إن انقطعت أخبارُه لأكثر من عامين.
ما يصلني منه، في ما بعد، بين أوقاتٍ متقطِّعة خالي من الإجابة عن استفساري إنْ كان قد رُزِق بأولادٍ خصوصاً وأنّي أعلمته بزواجي وبتُّ أباً لولدين ينثران في سمائي فراشات البهجة ويجعلاني أطير حالما أنتهي من عملي في المحكمة كي أراهما وأسعد بلعبهما.. سألته في أكثر من مرَّةٍ كيف هي حياته مع زوجته، وأبحتُ له أنَّ مَن شاهد الصور أظهرَ حسداً لانَّ لديه زوجة شقراء وإنْ بدت كبيرة السّن كما لو كانت أمَّهُ.
وفي يوم جاء ما حلَّ لغزَ حيرتي وفكَّ الإبهام الذي ظلَّ يتناسل في رأسي عن عدم ذكر هاشم لزوجته أو عدد الأطفال منها.
صديقي حمزة: " كان لابد من أجلِ الحصول على الجنسية الدنماركية والعيش في هذا البلد الجميل هو سلوك الطرق القانونية لذلك. أحد هذه الطرق كان الاقتران بالنساء كبيرات السن. فهاته النساء هنَّ الواسطة الانسانية في الحصول على الجنسية حين تثبت للسلطات انك مقترن بها اقتراناً رسمياً.. الحياةُ مع مجتمعٍ لم ننشأ به منذ الطفولة تعجُّ بالمفارقات. لذلك كان عليَّ الاقتران بكاترينا رغم أنَّها تكبرني بعشرين عاماً، وعليَّ أيضاً القبول بأسلوب حياتِها حتى لو لم يناسبني، أنا القادمُ من بلدانٍ لناسِها سلوكياتٌ وطرقُ عيشٍ اجتماعي لا يتوافق مُطلقاً مع عيشهم. لذلك ما أن حصلت على الجنسية حتى تم الافتراق.. هي من قالت: " لا أريدك أن تبقى حبيس كهولتي." وأنا من قلت:" عشتُ معكِ زمناً جُسِّدتِ فيه الإنسانيةُ بحقٍّ."
أعيش في مدينة (أودنسا) الآن بلا رباط اجتماعي؛ ولم أفكر بالاقتران لفترة عشر سنوات قادمة على الأقل. عندي شقّة صغيرة جداً بغرفة واحدة وصالة تشبه الممر تنتهي بنافذة وضعت جوارها منضدة عليها راديو " فيلبس" يربطني بأخباركم ومجموعة اوراق للرسم وعمل سكجات لمشاريع النحت الذي أغرق في عشقه ولهفته، كما تعلم، وانتظر توقيع عقدٍ مع (متحف يوهانس أندرسن) أشهر متحف لهذا الكاتب العالمي الذي كتب عن الأطفال وترجمت أعماله الى كل لغات العالم ويأتون لزيارته من كافة أنحاء الأرض، حتى الملوك والرؤساء يضعون بصمة زيارتهم لمتحفه تكريماً لشخصه وتثميناً لإبداعه.. لقد وعِدتُ من قبل صديق لبناني يعد لأطروحة الدكتوراه في الآثار في العاصمة كوبنهاكن، استطاع بفعل تواصله مع دائرة الآثار، أن يحصل لي على فرصة عمل في الدائرة.. وعلى المنضدة ايضاً وضعتُ مزهرية كريستالية أُطعمُها كلَّ أسبوع بباقة ورد من جوليانا بائعة الورد حيثُ اعتدت نصب قاعدتي الخشبية وعدة الرسم جوارها لأكسب ما يجعلني اعيش يومي بلا فاقة ولا قهر.. كل صباح تستقبلني هذه الفتاة العذراء بابتسامة تذكرني بابتسامةِ الممثلة الشقراء " فرجينيا شيريل " بائعة الورد العمياء في فيلم " أضواء المدينة " لشارلي شابلن الذي شاهدناه سوية ونحن اطفال لا نتعدى العاشرة في سينما الشعب في الخمسينات، هل تذكر أم نسيت؟... استطيع من خلال جلوسي قريباً من النافذة رؤية حركة الشارع. الشارع ليس رئيسياً بل فرعياً لكنه يزدحم صباحاً حين يمر الموظفون والعاملون في فرع وزارة البيئة التي بإمكاني مشاهدة بابِها الزجاجي العريض الدَّوّار والموظفين أو المراجعين الداخلين أو الخارجين؛ ما يلبسون وما يتصرفون وهم يهمّون بالدخول أو الخروج، مثلما يأتيني عطر النساء بمختلف الأعمار وقد أضفنَ على وجوههن المرتوية البيضاء مساحيق تجميل خفيفة وبلَّلنَ الشفاه بالسائل الملمّع بعدما طلينه بحمرة أصبع الروج بينما الرموش تركَت قضيبَ المسكارة يرويها بالكحل الفحمي.. تدخل الواحدة منهن بكوستم يلتصق بالجسد فتُجسِّد تقاسيمُه رشاقةً تنقلُكَ لقوامات ممثلات السينما الهوليودية وعارضات الازياء. إن نساء اليوم، يا صديقي، مهووسات بطابع الرشاقة والجسد الذي يتلوى أثناء المسير، على عكس الزمن القروسطي أيام كان الجمالُ يضجُّ بالامتلاء والوجوه تأخذ حفاوة قرص الشمس المدور تطفح حمرة ولمعاناً، والسيقان سمينة بضة، والنهود كبالونات ممتلئة ماءً تترجرج، والزنود شمعية مُغرية، والأرداف لحمية كأنها فكوك تعلِك.. تعلك فتحفِّز العينَ على المتابعة بأرسال الصور المثيرة الى الدماغ؛ والدماغ يبعث ببرقيات مستعجلة لآليات الجنس والاثارة. إزاء ذلك يستحيلُ الشيخُ مراهقاً، ورجل الدين فاسقاً، والمراهق مجنوناً. وصاحبة الارداف تتكلَّف بجعل قدميها يتسابقان الى أمام فتهتزُّ الاعضاء.. يُعلن الفخُّ دهاءَه.. تسقط الكثيرُ من طيور الشهوة. تُعلن الانوثةُ انتصارَها على الرجولة.. الرجولةُ بدورها تتقهقر متعثرةً بالخجلِ والخذلان... أما اليوم فالرشاقة تلغي كلَّ ذلك.. ههههه ! يبدو أنني اكتب شعراً لا أعرضُ وصفاً."
ذِكرُ هاشم المسافر لكاترينا وظروف اقترانه بها كإجبار مشرَّع رسمياً في البلاد البعيدة اعاد لي شخص وحيدة التي استأجرت بيتاً، في نهاية الزقاق الفرعي الخارج الى زقاق اوسع منه يقود إلى شارع باتا. بيتٌ يملكه زوج خالتي الذي كثيراً ما يغيب في رحلات تأخذ اسابيع يقضيها في البادية الجنوبية عند ناحية بصيّة المحاذية للحدود السعودية وقد أخذَ معه صرّةَّ كبيرة من الشاي السيلاني الاسود ليبيعه على بدو يشترونه فيبيعونه عندما يدخلون بشياههم الاراضي السعودية. إذ يفضله سكان القرى الحدودية من السعوديين على الشاي الاصفر الفاتح داخل المملكة (منافع متبادلة)؛ ثم يعود إلى السماوة جالباً بطرقٍ خفيَّة السجائر الاجنبية والعطور الممنوع بيعها في بلادنا.
كان سكنة الزقاق يشاهدون شاباً لا يتعدّى العشرين يعيش مع وحيدة الاربعينية القمحية البشرة الممتلئة قليلاً؛ حسبناه ابناً لها. في الصباح يبقى قابعاً في البيت. خروجه يحصل في اوقات العصر المتأخرة فقط. يبرح البيت مهندماً وقد ارتدى الملابس النظيفة وإن بدت غير جديدة.. وحيدة مَن تقوم بالتسوّق؛ وحيدة مَن تدفع اجور الماء والكهرباء؛ وحيدة مَن تشتري النفط الابيض للطبّاخ ومدفأة علاء الدين؛ وهيَ وحيدة مَن تَخرُج كلَّ عشيّةِ خميس لتوزع الصدقات على المتسولين المرابطين عند باب المسجد الكبير بينما هو مثل أمير مدلل عند أمّهِ الملكة يخرج بخطى واثقة كأنه يرفل على خميلة تعشق قدميه، ثم يعود صارفاً ما يربو على الساعتين بنفس الخطى وبذات الرَّفَل. وإنْ تأخَّرَ قليلاً كان الباب يُفتح مراراً فيطلُّ وجهُ وحيدة مُصفرَّاً شاحباً وعيناها تسكبان قلقاً لتأخره.. حسدناه على تدليل العمّة وحيدة (هكذا كنا نخاطبها؛ وكانت هي بلسان بغدادي يقطرُ عسَلاً تردُّ علينا وعلى الجيران مِمَّن تلتقيهم او يلتقونها في الدرب).. يتعاطفون ويتعاطف اهلونا معها في تدليلِها له وحرصِها عليه. أليس هو وحيدها الذي لابد من مداراته مثل " الْمَي بالصينية "؟
عاشت وحيدة خمسة أعوام بهناءٍ وسط احترام الناس وتقديرهم وامتنان زوج خالتي لتسديدها مبلغ الايجار بوقته بلا تأخير ولا تأجيل. وعاش الشاب حياةً لم يُر منها غير الرتابة المغلَّفة بالغموض: يخرج يلف الدروب ويقطع الشوارع ثم يجلس في مقهى يشرب الشاي تاركاً لعينيه التقاط حركة المارة؛ يدخل السينما من وقتٍ لآخر؛ ومن اسبوع لأسبوع يعبر الجسر الخشبي إلى صوب القشلة ويعود بكيس حوى قنينة عرق مسيَّح يشتريه من بطرس حنّا مُغلَّف بطريقة لا تثير شك أو انتباه سكنة الزقاق.
خمسة اعوام مرَّت، وكان لها أنْ تزداد وتتراكم الى ستة فسبعة فعشرين لولا ذلك الرجل الذي لا يمت للمدينة بلباسه؛ إذ شوهد مرّةً بصاية وجراوية وكيوة قطنية يحتذيها يتبع وحيدة العائدة من التسوّق.. يلاحقها بعينين محمرتين وشفتين متيبستين.
تلج وحيدة الزقاقَ دون علمِها به ثم يغيِّبُها البابُ الخشبي. أما هو فيعود من حيث أتى.
شوهِدَ يكرر متابعته لها أكثرَ من مرَّةٍ.
ومع كلِّ مرَّةٍ يشتدُّ احمرار عينيه، ويزداد تيبس شفتيه؛ ومعهما يُشاهَد ارتعاش اصابعه.
في المرّة الاخيرة شاهد سكنة الزقاق العمّة وحيدة تعود من السوق شاحبةَ الوجه كأنها كبُرت عشرين عاماً. تتعثَّر في مشيتها وتنفرط حبّات الطماطة والبطاطا من الكيس البلاستيكي الذي تحمله دون الشعور بانفراطها وتبعثرها .. إنَّ جيشاً جراراً من الهواجس لابدَّ يهاجم دواخلَها (هكذا حَدسنا)، وإنَّ عواصفَ من الخذلان تضرب شجرةَ اتزانها (قلنا متمتمين)، وإنَّ قدراً لا يُحتمل من الكوابيس يقض هدوءَها ويضرب بعنفٍ مريع على جدرانِ هنائها واستقرارها فيرديها هلِعةً لا تدري ما تفعل (بصمنا بعشرة اصابع كاتفاقٍ جمعي على وحدة الرأي).. لماذا يجري لها كل ذلك؟.. ومَن هذا الرجل الذي يتبعها هذه المرّة بعينيين تطلقان شرراً ويُسمَع حالما دخلت البيت واغلقت الباب وراءها يطرقُ بعنفٍ ويواصل طرقاته، مُردداً: يا فاجرة.. تسرقين ولدي من أجل شهوتِك وتهربين به؟... يطرق.. ويطرق؛ ثم أذا كلّت يدُه عاد بوجهٍ مُصفر وشفتين محتقنتين ومزرقتين وقد فقد اتزانه وسط ذهول المارّة وامهاتنا اللائي دفعن برؤوسهن من وراء الابواب أو من فوق السطوح وعيونُهنَّ تطلقُ اسئلةَ الحيرة لِما يسمعن ويبصرن.
صباح اليوم التالي كان بيت وحيدة خالياً؛ والشرطيان اللذان صحبا الرجل سجّلا في محضر التحقيق خلوَّه من ساكنيه وقد جَردا بعض العفش البسيط: فراش للنوم وخزانة خشبية عتيقه ومعدات طبخ بسيطة وزاوية رميت فيها قناني عرق فارغة شكلت تلاًّ.
اين ذهبت العمّة وحيدة؟.. كيف هجرت المكان؟!.. هل حقّاً ركبت قطار السريع منتصف الليل مُتَّخِذةً وجهة البصرة كما همسَ مَن أقسم انه كان في محطة القطار يودِّع قريباً وابصرها متخفّية؟
ماذا جرى لولدِها؟
التساؤل الأخير دخل مسمعَ الرجل المشتكي فانفجرَ صارخاً من بين الشرطيين المرافق لهما: " هذا ليس ولدَها؛ هذا ابني. منذ خمس سنوات وأنا ابحث عنه؛ عشِقَتُه فأغوته فهربت به الى هنا."
وإذا كان شريط ذكرى العمّة وحيدة قد انقطع وانتهى من ذاكرةِ الحي بمرور الايام فانَّ هذا الشريط ظل مستمراً وإنْ كان خبيئاً لفترة من الزمن؛ إذ وبعد ثلاثة عشر عاماً قادتني الخطى وأنا في زيارة الى العاصمة بغداد وشارع الرشيد يحتفي بحضوري ويدعوني لدخول سينما "روكسي " لمشاهدة فيلم " ابي فوق الشجرة " بطولة عبد الحليم حافظ ونادية لطفي.. نعم قادتني الخطى لرؤية عجوز عجفاء بعباءة موحلة ووجهٍ فعلَ لفحُ الشمسِ صيفاً وصقيعُ البرد شتاءً فعلَهما عليه فجعلاه ذابلاً متغضِّناً متقشِّراً، تمدُّ يداً للمارَّة تطلبُ الصدقة وتروح تستجدي من الواقفين في الطابور عطفَهم. ترفع عينا لملصقِ اعلان الفيلم وهو يظهر امرأة اربعينية تحتضن شاباً في العشرين؛ تمتص نضارةَ وجهِه وتُشبِعه بالقُبل.. تطيل النظر في الملصق وتعود تطأطئ رأسها تاركة سيلين من الدمع الصامت يجريان على خدّيها الذابلين، ما تلبث أن تنتقل من شخص لآخر.
أُطيل النظر بوجهِها فتعيدني الايام إلى ذلك الوجه الحنطي الدائري والعينين السوداوين والرموش السود التي يظن الرائي في اول نظرة لهما أنَّ الكحل الفحمي عفَّرهما بسحره؛ إلى ذلك الامتلاء المُحبَّبِ والسيرِ الرخيم لامرأة على ايقاع جمال يحتفي ببهائه؛ إلى الابتسامة المتوزعة على الوجه كأنها تنثر السلام والتحية رذاذَ عطرٍ فاغم.." عمّه وحيدة " هتفتُ من ورائها، فاستدارت كمَن يُصعَق بغتةً.. حدَّقت بعينين كليلتين قبل أن تلتفت مرتبكةً وتدفع بجسدِها بين الزحام فتتوارى.. وأسمع عامل مقهى كان يحمل استكانات فرِغت من الشاي: أتعرف وحيدة؟
أستعيد كل ذلك وأقارنه بما فعل هاشم المسافر مع كاترينا هناك.. كلٌّ سرق الآخر؛ لكنَّ الفرقَ بين سرقةِ كاترينا لهاشم كانت تحتَ خيمة القانون وبتشجيعٍ منه وحين اقتضى الفراق اتفق الاثنان عليه؛ أما سرقةُ وحيدة للشاب هنا فتمَّت تحت ضغطٍ اجتماعي وعُرفٍ متوارث يدين ارتباط لا يتم أمامَ رِضا الأهل، لذلك حصلَ ما حصل.
5
لم يمض على سفر هاشم ثلاثة أشهر حتى تلقيتُ دعوة حضور زفاف شاهين ابن شلاّل؛ شلال تاجر السجاد والازر، وصاحب العلاقات الوطيدة مع تجار لبنانيين يزورهم كل صيف فيقضي هناك معظم الايام بعيداً عن أيام مدينتنا اللاهبة (يُشاع عنه الاستمتاع بأجواء لبنان وصرف الليالي بمجونٍ وجنونٍ. يتنقَّل بين بارات زحلة وجونيه وبرج حمود؛ وله أنْ يختار ما يشاء من العاهرات يقضي معهن الليل على عكس ما يظهره هنا من تُقى).. لشاهين بشرةٌ بيضاء ووجهٌ حسن وقامةٌ طويلة بأكتاف عريضة. يعتني بهندامه فلا تراه يوماً بغير الشعر المدهون والبدلة المترفة والحذاء اللامع، وساعة اليد الرولكس الذي ابتاعها له ابوه من بيروت تميّزه عن شباب المدينة الذين عادة ما يلتجئون الى غريب النوري فيعرض عليهم ما عنده من ساعات أولما واورينت وسايكو وساعات مُقلَدة رديئة الصنع فيشترونها بما لا يزيد عن الخمسة دنانير كأفضل ما يشاهدون؛ إذ لا قدرة لهم على شراء ساعة بمائة وخمسين ديناراً كالتي تسوِّر مِعصم شاهين.
كانت مراسيم زواج شاهين لا مثيل لها، تقصَّد الأب أن تكون غير معتادة. فَمُدَّت البسط ُ والسجاجيد على امتداد رصيف الكورنيش في الحي الغربي وجيء بمولدة كهرباء بأربع عجلات زوَّدَت ما يربو على العشرين عموداً ترفع مصابيح النيون الفضية والمصابيح الصفراء المتوهجة ذات المئة فولت نُصبت على امتداد مائتي متر اضاءت تلك الليلة المعتمة من صيف ليلة تموزية ساخنة.. ولأن حرارة تموز لا تُطاق فقد استقدمت خمسين مروحة عمودية (أُهديَت بعد انتهاء مراسيم الزواج إلى الاصدقاء والمعارف) كانت تدور فتبث هواءً لطَّف اجواء المدعوين الذين تعاقبوا على تناول العشاء بوجباتٍ كان فيها الطعام يُقدَّم بكرمٍ حاتمي ذُبَح من اجل تميزه مائة رأس غنم وطُبِخ عشرونَ كيساً من الرزِّ العنبر جيء به خصيصاً من مزارع المشخاب فكانت رائحته الفاغمة ترتفع في الفضاء فتنفتح لها الصدور. يسيل لعاب الجائعين لوجبة حسبوها لن تتكرر في قادمات الايام والاعوام. وجبة كانت فيها كتل اللحم على تلال الرز في الصحون الخزفية الصينية المستديرة والبيضوية هائلة تمتزج بها الشحوم البيضاء المثيرة، والعظام المكسوة باللحم الطري تلتمع.. أنواع المرق في الصحون تتوزَّع بكثافةٍ وكاسات اللبن الرائب وصحون الكاستر الشهي بلونه العسلي؛ ثم الفواكه المُكدَّسة في أوانٍ عميقة، فضيّةٍ براقةٍ: عنب وتين وتوت قدَّمتهُ بساتين السماوة بينما التفاح والبرتقال جيء به من اسواق بغداد مع أنَّ الفصل ليس موسمهما فقيل انها استورِدَت من شركاتٍ تزوِّد الكويت بحاجاتها اليومية من الفواكه.
تلك الليلة تم زفاف شاهين لشهلاء ببهرجة خيالية.
زُفَّ شاهين على ايقاع الهتاف بالصلاة على النبي يتفجَّر من افواه اصدقائه الاثيرين ومن الذين يتقربون له ليقال عنهم اصدقاء، ومعهم مَن وجدَ أنَّ من الواجب الانخراط في الهتاف الجمعي والمشاركة، فليس عدلاً تناول هكذا عشاء خرافي دون رد الجميل.
كانت ليلة ليلاء تخللت ساعاتها وصلة غناء ورقص تؤدَّيها غجريات جيء بهن من مخيماتهن المرابطة خلف معمل الاسمنت. ليلة ابيح فيها تناول المشروبات الروحية. حُشدت القوارير على صفِّ مناضدٍ في غرفةٍ واسعة خُصِّصت لمن يتعاطاها؛ فكان الويسكي الاسكتلندي والعرق المسيح والمستكي والهبهب والبيرة الفريدة والامستل...
زُفّ شاهين ليدخل على شهلاء في غرفة جيء بأثاثها من افضل معارض المنصور في العاصمة. أثاث صارت حكاية خيالية تتداولها السيدات المتزوجات فيندبن حظاً لعفش زواجهن البسيط والوضيع فيما الآنسات يحلمن بما فازت به قرينتهنَّ من زوج بهذا الثراء وبمحتويات غرفة لا تخطر حتى في الحلم.
لم يذكر أحد خيانة شهلاء لهاشم، ولا تحطيم قلب انسان احبَّها روحياً مُفضِّلةً المادةَ على الروح... من جانبي لم أشأ اخبار هاشم بالزواج والمراسيم والتفاصيل خشية نكئ جرح قلبه وهو في غربته. تركتُ الخبر يصله من مصدر آخر.
ولقد حصل ذلك فعلاً.
فمن رسالة بعثتها له بعد اربعة اشهر من الزواج فهمتُ عِلمَه بالأمر.. في تلك الرسالة أظهر هاشم لامبالاة؛ لكني حدستُ المُبطَّن من الكلمات تفوح منه رائحةُ الوجع وألمُ الذكرى.. أستعيد قيس ابن الملوح يقول بلسان الجريح الطعين (وإنّي لتعروني لذكراكِ هزَّةٌ // كما انتفضَ العصفورُ بللَّهُ القطرُ) ما يخيَّل لي هاشم يردد كلمات البيت الشعري لوعةً فلوعةً؛ وحزناً فأحزاناً.. أدري انه تألمَ وطُعِن.. ومن أجلِ جعل تواصلنا ينأى عن موضوع الزواج والتجنّي وتفضيل شاهين عليه كتبتُ له مُشيداً بخطوته في مشروعِ تغيير حياته من رتابة نقضيها (نحنُ) الى موار حركةٍ يعيشها (هو) في بلد يساير ركب البلدان المدركة لمعنى الجمال فيعمل على تحقيقه؛ لكن قلبي في الواقع كان يردِّدُ بصوتٍ يواسيه كصديقٍ في محنتِهِ (مهلاً بني عمِّنا مهلاً موالينا // لا تنبشوا بيننا ما كان مدفوناً).
لامبالاة هاشم لزواج شهلاء رجِّحت عندي أنَّ وجودَه في مجتمعٍ مختلط هناك هو ما قلِّص الفجوةَ النفسية وهدَّأ من أوار الاحتدام العاطفي لديه.. في ذلك الوسط الاجتماعي المنفتح والصحي والصريح تتلاشى النزعة الذاتية في الاستحواذ ويصبح الافتراق لدى اثنين متحابين من باب تفضيل المصلحة التي لا تتسبب بالأذى لأحدهما.
ما زلت اذكر كلمات دوَّنها هاشم بعد ايامٍ من تواري شهلاء عنه على غلاف علبة سكاير الجمهورية بالقلم الجاف " انا لا ألومكِ لأنَّكِ خِنتِني انَّما الومُ نفسي لأنني وثقتُ بكِ.".. طالعها قليلاً قبل أنْ يشرع بتمزيق العلبة بما احتوت ويرمي بها الى سلّة القمامة... لا شك َّ انّه نسيَ ما كتب لكن ذاكرتي خزَّنت هذا البوح المُتقن والكلام المعبّر الدقيق فصرتُ أردده حين يتوافقُ مشهدُ خيانةِ أحدٍ لمن وثق به؛ مُشبِّها الكلام بكلام يوليوس قيصر حين استدار لطعنة خنجر حدثت من ورائه فشاهد عدداً من الطاعنين فتألمَ لأعزِّ انسانٍ يثق به وجده مُشارِكاً في الطعن، فردَّد جملتَه المُعاتبةَ الشهيرةَ: " حتى أنتَ؟! يا بروتس ! ".
6
شارع باتا.. سيرة ذاتية
الزحام وكثرة الناس، كما أبصره الآن، ظاهرة لافتة. وشارع باتا اليوم ليس كشارع باتا قبل خمسين عاماً.. فهو يمور بمن جاء ليتبضَّع فأمتلأ ككلِّ الذين ابتدأوا فقراء فجاهدوا وجهدوا، حتى اغتنوا وتشبَّعوا بالغنى.
تلك كانت سيرته الذاتية.
فقبل خمسين عاماً كانت الحوانيت في الشارع قليلة العدد وبائسة تتراجع أمام عدد البيوت؛ بيوت أبوابها خشبية بنوافذ عالية؛ والناس من سكنة الشارع لا يتعدّون العشرات، والسماوة برمَّتِها لا تتجاوز الالاف. أمّا العراق بطوله وبعرضه فسكانه حسب الإحصاء الذي اجري في 19/10/1947 بلغوا 4,814,122؛ منهم 2,258,975 ذكور، والباقي اناث... ليس هناك سوى مقهى يقابل معرض باتا لبيع الأحذية المحلية والمستوردة. وليس سوى سيارة واحدة أو سيارتين تمرَّان كل ساعة وإذا ما مرَّت واحدة من غير السيارات المعروفة لدى العامة عرفوا أنَّها غريبة فتلاحقها العيون وتتساءل الألسن لمَن تكون ومَن يقودُها، وغير ذلك كان الناس يعتمدون القدمين في تنقلهم أو ركوب الربلات، وإنْ احتاجوا لنقلِ حاجةٍ ثقيلة فعربات تجرّها الحمير تتراصف على الجانب الأيمن من السوق المسقوف.
في العام 1961، حدث أنْ توقَفَتْ قريباً من فم " عكد العرايا "، احد الأزقة المتفرعة في شارع باتا، سيارةُ موريس انكليزية الصنع موديل 1948 تحمل الرقم " 523 بصرة "؛ نزل منها رجل مُهندَم ببدلة مخملية رمادية ورباط ازرق في وسطه سفينة بشراع عريض وراح يترجَّل، مُطالِعاً المحلات والبيوت على الجانبين كأنه يبحث عن ضالّةٍ.
أزاح ناطور المكّي بأصابع الشاب اليافع سجائر المزبَّن الفرط الذي كان يرزم منها عشرة بشريط ورقي ويصفّفُها مع مجموعة من الرزم المعروضة في واجهة الدكان. عدَّل عرقجينه الذي على رأسه واحكم الزر الاعلى لدشداشته فأخفى شعر صدره الاسود الكثيف. نفض مسحوق التبغ العالق به وهرع خارجاً. ألقى التحية على الرجل الذي ما زال يتفرج على جانبي الشارع.. دعاه للجلوس وهو يرفع كرسياً من الداخل ويضعه في مقدمة الدكان ثم نادي على عامل المقهى في الجانب الثاني أن يأتي باستكان شاي وكلاص ماء.
ولم يمر غير وقت قصير حتى فهم أنَّ الرجل صاحب شركة " اوتو كار" العراقية في البصرة ومدير فرع شركة " كاود يير" الأمريكية لبيع إطارات السيارات، إضافة إلى كونه الوكيل الرئيسي الذي يتولى بيع هذا النموذج من الإطارات، وما قدومه إلى السماوة إلا بمشروع فتح فرع للشركتين.
ابتسم ناطور المكّي لِما سمعه من الرجل ومشروعه الطموح، ثم أغدق عليه بمعلومات قادت إلى وأدِ ما خطَّطَ له. فالمدينة بطولها وعرضها تستقبل شوارعها سيارات بالكاد تتعدى أصابع اليدين؛ وهو كلام نال عليه الشكر وحصل منه على كارت صغير فيه اسم الرجل وعنوانه ورقم هاتفه والوكالات التي يرأسها، مع رجاء الاتصال به حالما يرى المدينة مهيأة لفتح احد الفروع مُقترِحاً شارع باتا مكاناً للعرض تحديداً.
استلم المكّي الكارت ووضعه بين أوراق دفتره الأثير. الدفتر الذي يحمل عنوان (وفيات أهل السماوة)، وفيه يسجل اسم ويوم وفاة الشخص " الذكور من الموتى فقط "؛ وهي عادة درج عليها منذ افتتح دكانه قبل اربعة اعوام. لذا يعود اليه الناس اليوم، بعد ان مرَّت عشرات الاعوام، في أمر وفاة أفراد أسرهم فيزوِّدُهم بالتاريخ المضبوط، يوماً وشهراً وسنة. (لقد اسرَّ المكّي لي قبل اشهر عندما ذاع صيتي كمترجم وشاهد اكثر من مرَّةِ صوري في الجرائد - وهذه الايام - كاميرات الفضائيات تسجّل لي لقاءاتٍ أمرُّ خلالها من امام دكانه متحدثاً عن مشاريعي السابقة واللاحقة أنّ لديه كُرّاساً رديفاً لكُرّاس تاريخ الوفيات سيطلعني على فحواه يوماً.. كُرّاس يضم شروحاً تفصيلية لأحداث جرت في المدينة فأحدثت انعطافات مهمّة، ولشخوص ارتكبوا افعالاً شغلت حيزاً في ذاكرةِ الناس.)
حبُّه لشارع باتا وتعلقه به كأيقونة دفع هاشم لرسمه في إحدى لوحاته على قلَّتها.. موهبته المتوهجة وغرامه حد الذوبان في فنِّ النحت على الحجر والحفرِ على الخشب لم يمنعاه من الرسم على القماش كولعٍ لا يستطيع قتله في الروح، بعين الفنان الذي يعشق الألوان البهارية المُشِعّة فيسكبها على القماشة لرسم لوحة تتماهى وأذواق الانطباعيين مفجّري ثورة الالوان والضوء.. رسمها ثم بعث لي بصورة مستنسخة للَّوحة في رسالة.
يومَها سُعِدتُ وأطريته في إجابةٍ مطولة؛ فقد اشبع ذائقتي بعسل موهبته والوانه وفنه المتميز. اعادني الى مجلة " المصور" و " آخر ساعة " المصريتين. فمنهما تعرَّفتُ على الفن الانطباعي وقرأتُ عن تيار رواد الانطباعية. عرفتُ عشقَهم للون والضوء وثورتَهم على معاصريهم من كبار الفنانين. وعلى الرغم من اعجابي بانطباعية كاميل بيسارو واتجاهه الفني في رسم الجسور وشوارع باريس وضفاف السين وما خلفها من مظاهر طبيعية لافتة فإنني تعلقتُ بأوغست رينوار أيّما تعلق، وتطرفتُ في اعادة قراءة الموضوع الذي اسهبت فيه الصفحة الفنية للمجلة عنه وعن خلقه وابداعه. فقد اعدتُ قراءته لما يزيد على العشر مرات مُستعذِباً تلك القامات والوجوه النسائية المستبشرة النيّرة التي سكبها وسبكَها على القماشة مُظهراً موهبةً خرافيةً وبراعةً فنية لا تضاهى؛ عارضاً نضارةَ وجوهٍ وقاماتٍ لا تجدها إلا في تخيّل ملائكة بشَّر بهم الله عباده الصالحين في الكتب المقدسة.
ولاعتزازي به وباللوحة أطَّرتها عند مزجِّج واحتفظتُ بها في غرفتي قبل الزواج.. الصورةُ اللوحة ظلت معي ترافقني في انتقالاتي، حتى استقرت في صالة البيت بعد سنين، وقررتُ حينها جعلها صورة غلاف لكتابٍ سأترجمه يوماً.
7
يجاور محل ناطور المكي دكّان حاتم فرمان وقد خصصه منذ افتتحه في الستينات لبيع السمن الحيواني والنباتي والدبس، إضافة للراشي " زيت السمسم " الذي يأتيه من الموصل خصيصاً. كان الناس آنذاك يثقونَ بما يبيع ولا يتحسَّسون غِشّاً في بضاعتِه؛ وعندما يشعر أنَّ بضاعته فسدت أو تأخرت وفيها ضررٌ لا يبيعها، مُعلِماً مَن يأتي للشراء انها لا تنفعه.. عندما مات بعمر الخمسين لم يتوارث ابناؤه المهنة فبيع الدكان مع فسحة خلفية واسعة تتجاوز المائتي متر كانت من ملكه؛ فانهمك المشتري على تهديمه وبناء بناية بثلاثة طوابق انتهت بباب عريض وصالة داخلية وشرفات جميلة تطل على الشارع ورفعت لافتة بخط الرقعة (فندق سعد) خطَّها فاضل الخطاط صاحب الدكان الصغير الذي لا يبعد كثيراً عن المكان. (ولقد ظلَّ فاضل كلَّما مرَّ من أمامِ الفندق توقَّفَ طويلاً يتأمل ما صنعته فرشاتُه وما أبدعته ذائقتُه الفنية.)
أذكر شخص حاتم فرمان.. وقد هزّه يوماً نزقُ الشباب وندهت عليه فتاة العاطفة. أذكره في تلك الصبيحة الباردة، من شتاءٍ قبلَ اربعةِ عقود، ورذاذ المطر ينشد جمال الحياة يضرب بقدمه اليمنى الارض ويضغط بكفّه على عقاله ويشماغه لئلا يسقطا من رأسه وهو يدبك على ايقاع صوت رخيم لتلك الصبيّة القروية بجديلتيها السوداوين، وثوبِها المُشَجَّر، ونعلِها الشبشب الاسفنجي وهي تغني بتوافق ساحر وخرافي مع " المُطبك" المزدوج الذي هو عبارة عن قصبتين خشبيتين ملتصقتين بقارٍ اسود ينفخ به ذلك الصبي القروي ذو العشرة أعوام وقد انتفخت اوداجه واحمرّت عيناه جراء تعامل هواء رئتيه مع مجريي القصبتين:
" شفته يمشي بذاك الصوب // عينه مثل حرق الثوب
جم دوب اناطر جم دوب // قطَّع عصب رجليَّ "
الكلماتُ المُنغَّمة والعزف الجميل خلقا كرنفالاً عفوياً جرى في شارع باتا الذي انتهى المقاول حنش من تعبيده بالإسفلت حديثاً.
حولَ الاثنين تحلَّقت مجاميعُ أطفالٍ خرجوا من الأزقة متفاجئين ومندهشين ومتأثرين بصوت القصبة الغريبة والغناء الانثوي الناعم. كان الاثنان، الصبي والصبيَّة، سبقا أهليهم الرعاة المنهمكين باجتياز الأغنام للجسر الخشبي وهم قادمون عبر السوق المسقف من أرياف بعيدة، وجهتهم البادية الجنوبية.
كانت السماء محجوبة بغيوم رمادية داكنة تهدر. وهناك رعدٌ يدمدم مُطلِقاً بين حين وحين شرارات ضوئية تنذر بصواعق ستضرب الأرض؛ والرذاذ يواصل موسيقاه.
" شفته يمشي بذاك الصوب،
وعينه مثل حرق الثوب "
وارتوت لسماع ذلك دواخلُ حاتم فرمان فزادَ، مأخوذاً بهذين الملاكين الصغيرين، من ايقاع ركلِ الارض بقدمه. عاد بأصوله الريفية، فنقله المطبك لسنوات طفولته في ريف الزَّرَجيّة واهوار آلغانم وهو يتعلَّم من ابيه واعمامه قطعَ القصب وعمل المزامير بفنية عالية لم يضاهِها عمل اقرانهم ممن يتعاملون مع الهور والقصب.
نعم..أراه طفلاً يستمتع بما تفترضه سنوات الطفولة من حرية وانطلاقة وجذل وغيمة براءة ترفض قيودَ العيون، وسياطَ اللوم، وموانعَ الهناء.
نسيَّ كلَّ شيء إلا شعورَه بأنّه احد هذين المخلوقين؛ يرقص، ويغني، ويعزف، ويُصفّق، ويطلق صيحات الحماسة لما يفعلون ويفعل هوَ معهم.. صيحات كأنها الدعوات للمتحلقين العائمين على غيمة دهشة اوجدها ذلك الصباح البارد المنعش، وأجَّجها صبي وصبية جاءا من وراء حجب اللاتوقع. صيحات سرعان ما استجاب لها ممَّن في قلبهِ نغمٌ، وفي رأسه ايقاعٌ للرقص، وفي مملكةِ جسده طاقةٌ ليسكبها على ترانيم سَعُدَ شارع باتا بها؛ فانفرج يفرد ذراعيه ترحاباً؛ ما لبث ان انبرى يرقص هو الآخر ويغني. ودَّ لو يطلقون عليه " شارع الغناء والمرح " كاسم ثانٍ رديف لشارع باتا.
ولم ينته الحفل والكرنفال العفوي الا بدربكةِ الاغنام وهي تخرج من فم السوق المسقَّف فيوقف الصبي النفخ بمطبكه، وتنهي الصبيّة قصائدها القصيرة التي يشبِهُها ادباءُ اليوم بالهايكو الياباني. تلك القصيدة التي لا تتجاوز بضع كلمات لتعطي صورة معبرة متكاملة عن موقفٍ، أو حالةٍ، أو مشهد.
التحق الصبيان باهليهم، وتداخلوا مع الاغنام والحمير حاملة الخيام المطوية والعفش، متخذين الطريق باتجاه ثكنة المدينة، خروجاً الى البادية حيث تنتظرهم الغدران الوفيرة والعشب الذي يعلو امتداداً حتى يلامس الافق بينما عاد حاتم فرمان إلى دكانه وقد شبعت اعضاؤه بما لم تشبع مِن قبل.
8
شارع باتا اسمٌ أو مكانٌ لا يمكن لأحد تجاوزه. انه قلب المدينة. شارع مضياف دائم؛ يفرد ذراعيه استقبالاً للزائرين. هو ذاكرة منفتحة كبحر يريك فضاءه ويدعوك للإبحار. حِفرة لآلي كلما أخذت منها وحمَّلت كبرت. هو أيضاً صديقٌ يبتسم لك على الدوام. يمد كفَّه لمصافحتك فيأخذ بك إلى حيث دروب الإمتاع. يتجول بك دون أن تتيه. يأخذكَ في فرجةٍ على السوق المسقف فيجعلك تدخل عالماً من البهرجة كأنك في احتفالية كرنفالية لبضاعة وناس، لظل وضوء، لألوان وحركات.
مَن يدخل هذا السوق من شارع باتا يدخل كمن أغرته فتاة الحُلم او جذبه طيفٌ نثر أمامه عالماً من الكريستال المشرق والمشع. وقد يأخذك جنوباً فتدخل القسم الثاني منه (القسم الثاني مكشوف للسماء تضربه الشمس بحرارتها الجهنمية صيفاً وبلا هوادة؛ لذلك جهد اصحاب الحوانيت هذه الايام على استحداث سقائف متحركة نهاراً تقي المارة والمتبضعين اللهيب صيفاً والمطر شتاءً، ثم تطوى مع شروع اصحاب الحوانيت بإغلاقها عند دنو الغروب).
شارع باتا شهد ما يمكن للتاريخ أن لا ينساه، وليس للذاكرة أن تتجاوزه.. لطالما جرت على أديمه دربكات خيول الجندرمة العثمانية وضربات كعوب احذية الدرك وهي تُرِهب سكان المدينة وتذكِّرهم - حالَ ظهورِها من وراءِ شط الفرات قادمة من ثكنتِها في صوب القشلة - بالهلع الذي يغزوهم فجأة كما يغزو الجراد أكمّة على رابية تجاور فيضة ماء هانئة بلطافة الطبيعة.. وعلى اديمه لَكَم تعالى أزيزُ السياط وهي تنهال على ظهور مَن تخلَّف عن دفع ضريبة أو رفع صوته مطالباً بتقليلها وسط اعين المُجبَرين على ترك اعمالهم والحضور للتفرج على مَن سيكون عبرةً لمن لا يعتبر كخاتمة لفرمان يقرأه الناطق باسم الحكومة على رؤوس الاشهاد.. وإذا كان لشارع باتا ان يُنسى والذاكرة الجمعية أن تنام عن ذلك العسف والظلم والاجحاف لمحتلين أجانب عن ابناء وطن اصلاء فإن التاريخ لا ينسى ولا يذهب في غفوة لما حدث في ذلك اليوم التموزي للعام 1915 كرد اعتبار عن جور استغرق أربعمائة عام.
ففي ظهيرته الساخنة شاهد سكانُ السماوة بعيون ضببَّها الدهش وعدم التصديق لما يشاهدون.. شاهدوا قائدَ الخيالة العثمانية يظهر من دربٍ ضيق لبساتين الشرقي ويدخل الشارع الذي سيطلق عليه بعد اعوام شارع باتا منسحباً بجنودِه المائة والثمانين من الناصرية بكامل عِدَّتِهم وعددِهم على أمل استقباله ذلك الاستقبال الذي كان يَجري طيلة اربعمائة عام ويسمع نبرات الحفاوة والترحيب؛ ولم يدُر بخلده أنَّ القيود تكسَّرت من معاصم السكان، وأنَّ قلاع امبراطورية العثمانيين هُدَّت وصارت مباني الحكومة بغرفها وفناءاتها مَربعاً لصبية المدينة واطفالها نهاراً وفي الليل مكانا لجلسات السمر والتشفي. فيها تنطلق ابوذيات السكارى ودبكاتهم واغانيهم الشامتة بمن سجنهم وعذبهم واذاقهم سياط الهوان، ومنها يؤدون حركات تمثيلية هزلية ضاحكة مقلدين حركات ضابط الجندرمة التركي " " وهو يتحرك كالضفدع.. يرفع فهد سهر الحمّال بيك العرق ويريل من ثقل السكر مردداً وسط ضحك اصحابه الثملين: " لا القصاب ولا جندرة.. هذوله صاروا قندرة " (ويقصد عبد العزيز القصاب قائمقام المدينة، وسعيد جندرة قائد الجيش التركي في السماوة اللذين غادرا المدينة هاربين هما وباقي موظفي الحكومة صحبة عوائلهم خوفاً من بطش المنتفضين والموتورين) بينما ينهض ردّاد مجلي بائع الخضروات والفاكهة الذي كثيراً ما ابتزه الموظفون فاشتروا بضاعته ولم يسلموه ثمنها وويل له إن تجرأ وطالب بحقّه، واضعاً بُطل العرق فوق رأسه وشارعاً بالرقص والتمتمة، محاولاً التوازن واثبات انه في قِمّة صحوه: دارت عليك اليوم / امنشّي بلبول؛ فيوافقه ندماؤه بصوت جمعي واحد " دارت.. دارت " ككلمة استقرار لبيته الشعري. ومنشي بلبول هو رئيس الطائفة اليهودية في السماوة. يكن له الشقاوات من ابناء المدينة الكره لأنه يحتمي بالحكومة من محاولات ابتزازه وأبناء طائفته فتتصرف الحكومة بالقسوة والسجن وتمارس وسائل الاضطهاد المتنوعة.
قائد الخيالة بالسيف الذي يتدلى من وسطه، والحصان الذي خَب، وريشة النسر الطويلة المتمايلة في فينته الاسطوانية يميناً أو شمالا أو المترجرجة مع إيقاع الخبب هجس ما اثار في دواخله الاستغراب.
أول من وقعت عليه عيناه وارتاب لرؤيته هم ثلة من النجارين بالدشايش البيض المتربة بغبار الخشب، أظهرهم عكد النجارين يحملون الفؤوس واعمدة المساحي وهم يدبكون بأقدامهم على الارض كأنهم متجهون لحفلة عرس أو سباق احصنة (لابدَّ أنَّ أحدَهم نقلَ خبرَ قدومِ الخيالة اليهم فهبّوا بما اوتوا من رغبةٍ في الانتقام).. تبعهم جمعٌ من الحدادين المربوعين بأجسامٍ ممتلئة وأذرع مفتولة ووجوه يختلط على بشرتها سخام المعادن مع حمرة سببتها كوانين النار المشتعلة بدرجات حرارية جهنمية وجعلت اعينهم حمراء، يمسكون بالمطارق والشواكيش قادمين من عكد آلعبيد، تاركين دكاكينهم مشرعة وقد اطفأوا الكوانين والمراجل تحسّباً لأمرٍ يحتملونه سيأخذ وقتاً طويلاً تتراكم فيه الساعات. على رأسهم مهودر سجّاد ومجيسر شنّون وقد برز على سواعدهم الوشم الاخضر يعرض أفاعٍ تتلوى ونسور تفرد الاجنحة وكلمات تنم عن اعتزاز بالذات والبلدة من مثل (سماوتلي وافتخر)، و(تانيني وشوف شما بيَّ)، و(علّيت بنجمي وما اطيحن).. جوق هادر ظهر بغتةً من عقد الخبّازات يقوده جنيدي الشمّري الذي شبع سجناً وضرباً وملاحقةً من الجندرمة القاسية في السنين الماضية. ظهر شنشول مهاوش (مُسترجِعاً كيف ان ضابط المركز مدَّ يده لجيب دشداشته فصادر بنفس دنيئة عشرة روبيات هي كل ما يملكها مصرفاً له وتركه وعائلتَه جوعى) وقد طوى أكمام دشداشته لمنتصف ذراعه، واحكم الحزام الجلدي على بطنه تاركاً خنجرين فضيين يحكمهما الحزام على بطنه بانتظار لحظة الحسم. ظهر متبوعاً بهلاهل تطلقها امُّه وزوجتُه وجدّتُه ومن جاءَ معهم من نساءِ الزقاق وكنَّ كثراً، ينط من بينهن صبية يسبقونه ثم يلتفتون وقد طفحت عيونهم بشوق عارم لمشاهدة ما سيفعله في المعركة القادمة الحامية الوطيس، بعدما سمعوه يصوّر ما سيصنع وما سيخلّف من حكايات تتداولها الالسن وتصغي لها المسامع لزمن طويل، أجيال وأجيال. وبينما كان بعض القرويين الفرادى يتطلعون باندهاش لجمع الخيالة وقائدهم بالبدلة الكاكية والحذاء الجلدي اللامع والسيور الكتانية الخضراء تلتف حول ساقيه والفينة الاسطوانية وريشة النسر الطويلة اندفع من عقد السبوسة بائعو الخضروات والحمالون والشحاذون وعمال البلدية وجامعات الخضروات الذابلة المرمية الى القمامة فوق البطيخ والرقي غير الصالح للأكل بسبب مرور ايام على عرضه بعدما أوشك على التعفن. لاشكَّ أنَّ الكثير ممن يخبرون التاريخ هتفوا في دواخلهم انها داحس والغبراء تعيد وجودها على شارع باتا.
العيون تطالعه بهزء، والشفاه تتمتم بما ليس فيه من ترحاب.. البستات التي ترنموا بها أمام قائمقام المدينة الهارب دعماً له وتعهداً في الوقوف الى جانبه ضد القوات الانكليزية القادمة شرعت تتنامى " نرضي الله ونتنومس بيها "، و" نتسابق للموت عليها "... وها هُم يتسابقون للهجوم على افراد الخيالة وقائدهم ويتنومسون بما سيفعلوه من افعال لا قدرة على ذاكرة التاريخ على محوها.
كلُّ السيوف المخبأة بين بضائع الدكاكين وعفش البيوت ظهرت.. سكاكين البيوت والعصي والأعمدة الخشبية وحتى جريّد النخل المقلوع توّا من بستان آلمكتوب برزت الى الوجود؛ مثلما اندفعت من مختلف الازقة الكثير من النسوة فرادى أو زرافات الى جانبي الشارع ليساهمن في المعركة او يمثلن دور المحفِّزات والشاحذات للهمم والصمود إنْ حمى الوطيس.. ولكي لا يضيع المشهد على باقي النسوة القابعات خلف الجدران فقد ارتقين سلالم بيوتهن أو البيوت المطلة على الشارع واحتشدن كتلاً سوداء ووجوه مخمرة لا يبان منها غير عيون نارية تتلصص متحفزة لالتقاط المشاهد لتكون مجرى حديث سيأخذ أياماً وأشهراً وأعواماً.
قائد الخيالة ومن خلفه من أتباعه ادركوا فوضى المدينة وخلوَّها من انفاس السلطة العثمانية. لم ير استقبال عبد العزيز القصاب لهم، ولا جندرة قائد الحامية وضباطه. لم يبصر تلك العيون المتملِّقة من الاتباع والمتعاونين والمهرّجين يستقبلونهم بالإعجاب ويهتفون لهم بالترحاب. أبصر ناساً يختلفون بنظراتهم وقسماتهم واهتماماتهم.. أبصر علامات بغض وتعابير سخرية وملامح وجوه تنطق هزءً.. ابصر اصابع لا عد لها تشير عليهم بما لا يبعث على الاطمئنان.. أبصر غيظاَ مدافاً بالامتعاض والازدراء، فتساءل في سره: كيف ستنتهي، وهل سنصل؟
في وسط الشارع تماماً رفع ذراعه الايمن ايذانا لجنوده بالتوقف. اراد أن يلقي خطاباً يحيي به الناس في محاولة للتعاطف معه واظهار انه منهم ولهم لكنه تقهقر في اعماقه.. شعر انه حتى لو قال وقال فلن يجدي نفعاً. لن يخرج من قرار مواجهة إن اتخذه سينهيه ويبيد رجاله؛ فراح يواصل السير متظاهراً بالكبرياء والقوة وامتلاك سلاح المواجهة وهو العارف ان الأمر لن ينتهي بسلام.
صمتٌ أخذ هنيهةً من قارورِة الزمن.. صمتٌ تمزَّقَ فجأةً بفعلِ صيحةٍ انطلقت من صدر جبوري الدلّال والمنادي في مراسيم تشييع الموتى بجلالة الله وعظمته بصوته الجهوري (الله أكبر.. الله أكبر).. صيحةٌ بمثابة كلمةِ سر لحظة الهجوم، وتحقيق النصر المؤزر؛ رافقتها بعد ثوان زغاريد النسوة المرابطات على جانبي الطريق مع المحتشدات فوق السطوح.
لا يعرف القائد ولا خيالته كيف انقضَّت الجموع عليهم فراحت الايادي تختطف بنادقهم وسيوفهم. تُنزِلُهم من الاحصنة فتجردُهم منها. ثم تبدأ مرحلة انتزاع فيناتهم وطاقياتهم، من بدلاتهم الكاكية واحذيتهم، من فوانيلهم وجواريبهم. ولم يُترك لهم غير لباسهم الداخلي يسترون به العورات.
رفع جنيدي كفّه القابضة على خنجرٍ فضي مرصَّع بالشذر الاحمر والازرق ورثه من جدِّه وهتف كأنه يعطي أمراً: مِن هنا.. كلكم تمشون رتل وعيونكم بالكاع.".. وأشار الى السوق المسقوف ليأخذ اشباه العراة طريقَهم وصولاً الى الجسر الخشبي وعبوراً الى صوب القشلة... من هناك بإمكانهم اتخاذ الطريق شمالا الى حيث الرميثة وبعدها مدينةً فمدينة وقريةً فقرية الى معقلِهم في بغداد.
ولم تمض غير ساعة أو أقل بقليل حتى انتهت الملحمة وكأنّها مشهد تمثيلي يجري على مسرح أو واقعة تؤدَّى على الارض سعيّاً لإضحاك الناس وبثِّ البهجةِ في نفوسهم.
عاد كلٌّ إلى عمله أو بيته وقد حاز على ما ينفعه أو يشكِّل ذكرى من تلك الغزوة غير المتوقعة.
كانت نتيجة هجوم جنيدي الشمري ثلاثة احصنة وخمسة سيوف واربعة ازواج من احذية الضباط، وشنشول مهاوش حصانين سحبهما ولداه حاملاً فوقهما خمسة سيوف وسبعة بدلات كاكية وزوجين من الأحذية، ولردّاد مجلّي حصّةُ الاسد من الغزوة، فقد شاهد الناس اولادَه الاربعة على أربعة احصنة ويجرون خلفهم ستة بينما أبناء اخوانه يعتلون ثمانية وهم يشهرون سيوفاً تبرق غنموها، هاتفين بسخرية " نرضي الله ونتنومس بيها " فيردفه آخرون من فوق الاحصنة " ونتسابق للموت عليها ".. وكانت غنيمة فهد سهر وجبوري الدلال حصاناً وسيفاً لكلٍّ منهما. لم يكونا يطمعان بأكثر من ذلك.
أمّا النساء فعدنَ الى بيوتهن مرحات جذلات، يتضاحكن ويستأنسن بما فعلن. كانت حصّة حمدية قميصاً كاكياً بأزرار معدنية فضية وفينة وثلاثة احزمة جلدية بينما ابنها الذي دون العاشرة يضع على رأسه سدارة احد الجنود فتضيع جبهته ولا يبان سوى الجزء السفلي من عينيه فيضطر الى ارجاع رأسه الى الخلف من اجل مشاهدة امّه تتملى القميص وتقترح ان ستعيد خياطته ليكون قميصاً لولدها البكر حمودي. أما وبرية فكان لها حذاء احد الضباط لامعاً وجديداً وقد ربطت الفردتين بقيطان احدهما ولبستهما كقلادة على صدرها بينما حملت صرّة من قميص كاكي جمعت فيه ما سلبته من بنطلونات نصفية وجواريب وفانيلات وشرائط كتانية خضراء فيما شوهدت ام جواد بائعة الملح والبهارات تسحب كومة كبيرة من الملابس والاحذية والحزم والطرابيش جمعتها في كيس من الخيش، تساعدها ابنتها التي تبيع الخبز جوار عطارة يلماظ اليهودي.
وكان للصِبية والفتية المستأنسين بالملحمة بقايا مبعثرة لم يجمعها الغزاة جراء تعبهم أو تركوها موقنين بعدم الاستفادة منها لقدمها ووشوك تهرئها: احزمة، فانيلات، فينات، اغماد سوف، اشرطة كتانية، جوزدانات سلبت منها النقود ورميت، حقائب كتانية يضعها الجندي خلف ظهره، رتب عسكرية نزعت من قمصان اكتاف الضباط.. حملها الفتية يدورون بها في الشوارع والازقة ويجيبون عمن يسألهم عنها بشيء من الشجاعة عما جرى للخيالة وكيف تركوا المدينة عراة.
ليلة ذلك اليوم كانت محط احاديث، ونوادر، وتعليقات، وتباري في القول، وتصوير مشاهد، وتأجيج خيال مصحوباً بتهويل وتضخيم.
كانت ليلة الكذابين الذين اطلقوا شريط افلامهم تعرض أحداثاً واقوالاً، بطولات وملاحم جُلُّها من الخيال وليس لها اساس من الواقع. لم يكذبهم من شهد الملحمة ولم يلجمهم احد من الفاعلين.. تركوهم بخيالاتهم ومخيلاتهم، بما يؤدون بالإشارات او يمثلون بحركة الاعضاء؛ يطيّرون أفيالاً، ويصنعون معجزات؛ فالجميع في كرنفال كسر حياة رتابة يعيشون على ايقاعها ويخوضون في خضمها.. ولم يكونوا يتوقعون أنَّ فعلتهم هذه ستنقذ القائمقام عبد العزيز القصّاب، الذي ترك المدينة مع كادره الإداري والعسكري هارباً واتخذ من الرميثة مركزاً يتواصل مع العاصمة بغداد خشيةً من الاعدام عندما أبلغ القائد العام نور الدين باشا بانسحابه من السماوة واعتبر القائد ذلك الانسحاب من باب الخيانة لأنه - كما ابرق اليه – بعث اليهم من الناصرية قوة تعدادها 180 خيالة تساندهم وتدافع عن المدينة فدخل في تلك اللحظة قائد الخيالة ومساعداه عرايا الا من خرق تستر عوراتهم. ابلغوا القائد العام في بغداد بما جرى لهم داخل مدينة السماوة، وما حصل وهم في طريقهم عبر الارياف فكانت الشهادةُ صكَّ اعفاءِ القصاب من عقوبة الاعدام وتركه يكتب الحادثة في مذكراته بعد عقود من الأعوام.
حادثة الهجوم والفوز بما يقع في الايدي توافقت مع مُقدِّمة رواية " خاتم الامير العبد " التي شرعتُ بترجمتها ويقول استهلالها: ((كان ياما كان، في العام 1639 انقلبت سفينة برتغالية بعيداً عن شاطىء سَينت كِتس وغرقت بكل ما حوت. كانت في طريقها من افريقيا إلى البرازيل حيث العالم الجديد، كانت الغليون (وهي سفينة شراعية ضخمة، حربية وتجارية، استخدمها الاسبان من القرن الخامس عشر حتى الثامن عشر؛ قرون استعمارهم الزاهية) اندفعت بفعل اعصار ثم سقطت فريسة لتمرد غيَّر وجودَها. ما حدث للطاقم و الاربعمائة عبد الذين على ظهرها وما تحملوه قد يحسب من عِداد المجهول، لكن شائعات تحطم السفينة انتشرت مثل نار في هشيم شمل عموم جزر البحر الكاريبي الصغيرة. وليلة بعد ليلة كان بالإمكان رؤية الرجال والنساء، الشباب والشيوخ يجوبون بزوارقهم الصغيرة في اماكن نائية من البحر ووهج فوانيسهم يشبه آلاف اليراعات المضيئة باحثين عّما هو ثمين من الحطام.))
حادثة الغليون تقارب ما حدث للهجوم في شارع باتا. فالاثنان، الاتراك والبرتغاليون، مستعمِرون. احتلوا اراضٍ ليست لهم واذاقوا شعوباً غريبةً عنهم المرارة والويلات. فما يأتي من ردِّ فعلٍ بعد ذلك إنما يمكن اعتباره تعبيراً عن التشفّي وقصداً في الشماتة.. عندما وصلت هذه المصادفة التي جاءت متوافقة الى الروائي بيارن رويتر عن طريق هاشم المسافر ضحكَ الرجل بملءِ فمه وراح يردد من بين اسنانٍ لوَّنها تبغ سيجارٍ لا يفارق شفتيه: " تناص! تناص !.. معظمُ احداثِ التاريخ تناص.. مُجمل حياتِنا واجيالنا تناص."
9
مقاهي شارع باتا متناثرة أو متوزعة بلا انتظام؛ وكان السماويُّ كلّما ألفى نفسَهُ يعيش البطالة وما زالت فيه قدرةٌ على العمل فكَّر في افتتاح مقهى.. المقهى ميدانُ جذبٍ لمن يبغي الفرجة. يجلس الزبون على التخت الخشبي ويتكئ. أمامه المارة من مختلف المشارب واللباس والتصرف.. يقترب منه العامل فيسكب له الماء من دولكة برونزية في طاسة من الفافون الناصع. يدلق الماء بارداً في جوفه ثم يطلب شاياً ويأمر على نرجيلة إنْ كان من مدمنيها.. يمرُّ بائع السجائر من بين التخوت. يمرُّ وقد علَّق على صدره مَعرضاً مصغَّراً لعلبِ السجائر المحلية " الجمهورية، غازي، لوكس، بغداد "، وفي جيب دشداشته العميق يخفي السجائر المُهرَّبة " كريفن، روثمن، دنهل، كَمِل، وحديثاً مالبورو". يبيع العلب والمُفرَد الفَرط على السواء، وحين تسأله عن نوع المزبَّن يرمقُك بنظرةٍ تعبّر عن استهانةٍ مقرونةٍ بتعليق: "شِلَّك بيها جكاير الفُقرة والعِجايز.. هناك تقدر تشتريها من ناطور. " ويشير بإصبعه إلى ناطور المكّي المنهمك بتزويد نساءٍ ريفياتٍ اقتعدن الأرض في واجهة الدكّان بالسكر والشاي وسجائر المزبَّن وزجاجات الفوانيس وفتائل المكينات النفطية.. أمَّا هذه الايام تقلصت المقاهي الكبيرة في الشارع ولم تعُد ثمَّةَ تخوتٌ للجلوس؛ فقط عارضة بمثابة جدار عازل مُغلَّف بالموزائيك ينتصب عندها الراغب بشرب الشاي وقوفاً. لم تعد هناك طاسات فافون لشرب الماء بل قناني بلاستيكية مُعبَّأة بماءٍ تعاملت معه مرشحات الاملاح ومواد التعقيم في ورش كثرت واصبحت من ظواهر مَقدم الحضارة الى المدينة.
تلك الساعة المأخوذة من عصر نيساني لطيف وقفتُ عند احدها لشرب شاي بالاستكان المُذهَّب والصحن الصيني الصغير المكمِّل لإكسسوار خلق اللذاذة لحظة الارتشاف؛ وقفتُ فمرَّ من أمامي درويش، ذلك الرجل البائس ينوء بثقل ثمانين عاماً فيستعين على عكّازٍ ترافقه، بعدما فارقته رفيقة العمر قبل عامين حاملة معها ثقلَ سجنِ نصف عام جرّاء رعونة وتحايل أشركها فيه؛ هي المسكينة التي لا ترتضي فعلاً مُشيناً فاضطرت لمجاراته.. حكايته المثيرة للتفكّه المقرونة بالمرارة تفجّرت في ذاكرتي كشريط سينمائي يعرض كيف أنَّ درويش كان سجيناً لثلاثة اعوام في سجن الخنَّاق، ولم يبق على فترة سجنه سوى اسبوعين. لم يصبر على ما تبقى له من ايام، ولم يحتمل فكرة ايقاف ايصال الحشيشة التي يبيعها على السجناء داخل السجن حيث أَجبر زوجته على الاتيان بها مُخبأة داخل حاشيات الارغفة التي تجلبها اليه في زيارتها الاسبوعية لزنزانته. وكان الأمر انطلى طيلةَ فترةِ سجنه فسقطت المسكينة في فخِّ الاكتشاف. وكان للتحقيق تأثيره على الاثنين فأُعيدَ سجنَه لعامين ونالت هي سجنَ ستة أشهر قاسية.
10
بعدما خرجتُ من الطبيب وقد أراحني بقلع الضرس إلى الأبد واقترح مراجعته غب شهرٍ لأجل تركيب ضرس صناعي بديل بطريقة الزرع الذي نجح الكثير من الأطباء العراقيين المهاجرين في لبنان والأردن والإمارات في زرع الأسنان وحصلوا في هذا المضمار والتخصص على شهادات الامتياز من جامعات انكلترا (لقد غدا الطب عندنا هذه الايام ليس خدمة انسانية وتعهد بتضئيل معاناة البشرية بل تجارة تتعالى فيها المضاربات. تمتلئ لافتات الاطباء بما ليس لديهم من مؤهلات حقيقية. إذ تقرأ وانت ترفع نظرك الى لافتة طبيب مختلف الشهادات العلمية التي حصل عليها وانواع الجامعات والاكاديميات، ذات التاريخ الغائر في مسيرة البشر العلمية، التي منحته الدرجات بامتياز).. نعم، بعدما خرجت وجدتُ جوادين يمسك مُفكِّرة على شكل كراسة أو كتاب مُجلَّد وينتظرني عند باب بناية عيادات الأطباء. قال: " اتصلتُ بك لكنك لم ترد فهاتفت زوجتك.. زوجتك أعلمتني أين تكون."
اعتذرتُ لجعل الهاتف المحمول على الصامت قبل ارتقائي السلم صعوداً لعيادة الطبيب.
كان جوادين شابّاً متوسط القامة نحيفاً وذا وجه أسمر شاحب يوحي للناظر بأنه خارج من مرضٍ للتو. عيناه منكمشتان وهادئتان مع انهما ليستا صغيرتين. إنَّ له شبهاً كبيراً بوالده فالح عوّاد من حيث المظهر لكنه اكثر انفعالاً، وأجراً على الادلاء برأيه حتى وإن تسبب بما لا يرضي الآخرين وجر عليه العواقب القاسية.
رأيته وسيجارة أَم تي الدقيقة ذات التبغ الرديء والتي دخلت البلاد مع انواع لا حدَّ لها من السجائر المستوردة ذات المنشئ المجهولة ترتعش بين إصبعيه كأن حدثاً جللاً أوقعه وما زال تأثيره متواصلاً لم ينته منه. سنواته الراسية على السبعة والعشرين لم تشفع في تدارك أمره واتخاذ القرارات الحاسمة بمفرده؛ والبطالة القاهرة لمثله كمتخرج من كلية علمية رصينة واخفاقه في الحصول على وظيفة (سرق درجتها المنضمّون لأحزاب السلطة التي لها حق التزكية والتوصية بالتعيين كمحاصصة اتفقت عليها الاحزاب المؤتلفة في الحكومة) تحتفي بشهادته وتقدِّر مرتبة (امتياز) حازها كطالبٍ متميز هشَّمت لديه موانعَ مواجهة الصعاب، لذا اعتاد الاستعانة بي كلما أوقفه أمرٌ يحسبه عسيراً أو يبغي اتخاذ قرار لمشروع مستقبلي يتهيَّب الدخول إليه والمضي به. لهذا حين اتصل وطلب ملاقاتي حدستُ رغبته في طلب رأي. ولما كانت انفاسه تتسارع عبر الهاتف ونبرة صوته تشي بقلق تناهى لي اهمية أمرٍّ يستدعي مساهمتي.
اتخذنا الطريق خارجين من شارع باتا باتجاه شارع الجسر ثم انعطفنا شمالاً فجلسنا عند أول مقهى تتوزع كراسيه على الرصيف المحاذي للنهر. تأتينا رائحة دخان النراجيل (إنها النعمة الأولى التي حلت في المدينة بعد سقوط النظام) وتشيع في الفضاء رائحة ملازمة (هي رائحة الحشيشة التي ظهرت الى العلن، بعد ان كان حكمُ استخدامها والمتاجرة بها الاعدام دون رحمة؛ ظهرت بديلاً عن خمور كانت شائعة لا اعتراض عليها مُنعت بفتاوى الأحزاب الإسلامية إذ اعتُبِر شاربوها أو المتعاملون بها خارجين عن الدين). ما أنْ شربنا قارورتي سفن آب حتى اقترح جوادين النهوض وترك المقهى خشية التعرض للأذى من دوريات الشرطة التي كثيراً ما تداهم هذه المقاهي وتعتقل أصحابها بتهمة التعامل بهذه المادة الممنوعة ظاهراً.
تركنا المكان ورحنا نواصل السير على امتداد الكورنيش.. السيارات تتزاحم في سيرها. بعض المارة يخطون مسرعين وبعضٌ بتمهّلٍ.. المتمهّلون نلمحهم شباباً يتمايلون قليلاً ويقفون يحدقون في الهواء طويلاً وقد يؤدون حركات تمثيلية وحوار مع اشخاص وهميين. همس جوادين: " تحشيش في تحشيش.". لم أعلِّق، ولم أرغب في فتحِ الحديث عن اعداد القضايا الغفيرة في المحكمة التي اعمل فيها لجرائم وانتهاكات أتى بها هذا السم الدخيل لم يعرفه المجتمع السماوي قبلاً.. هنالك بائع لبلبي يقف جوار الاورزدي باك وراء عربة مغلفة بفورميكا برتقالية وقد ارتفع البخار من قِدرٍ يتوسَّط سطحها. تشيع في الارجاء رائحة الحمّص المسلوق بعظم ساق بقري توخيّاً لنكهة محببة وتذوُّق شهي. الى جواره كان رجل بيشماغ أمامه زنبيلان: الأول فيه نبق محلي صغير الحجم مقطوف من بساتين المدينة، والثاني بحجم أربعة أضعاف الأول يجلبه التجّار من بساتين البصرة. قلت: لولا هذا الضرس اللعين لدعوتك لتناول صحن لبلبي او نبق حتى. اعزمك على واحد منهما، ما رأيك؟ ".. " لا لا.. ليس وقت أكل.. لنواصل."
كلام فيه شيء من ضجر أو أمر يريد الافضاء به.. سمعتُ حديثاً يدور بين اربعة شيوخ سحبني عن جوادين.. الاربعة تضمهم مصطبتان متقابلتان تحت شجرة سدر وارفة تجاور الدرابزين المعدني الفضي اللون المطل على الفرات. كانت وجوههم محتقنة وفي عيونهم حماسةُ الاطفال. يتبارون في القول. هذا يُضيف ـ وذاك يُزيد. الثالث يقول انها:" أف 16 مو لعبة. راح تحرق الدواعش وتشويهم.. ما شفتوها شلون بالسما شلون تهدر.".. والرابع يقول هي واحدة من اربع طائرات استلمتها قوتنا الجوية قبل يومين؛ اعتقد أنَّ القصد من تحليقها في سماء المدينة هو بث الشعور بقوة قدرات البلاد العسكرية.. تساءل الاول طالباً الرأي: ألا تعتقدون أنَّ الاربع حلَّقت في اغلب مدن العراق؟.. نعم؛ صحيح. هتفوا تأييداً لرأيه.. التأييد جعله يقول بشجاعة: هذه طائرات هي من صفقة تشمل 36 طائرة دفع ثمنها العراق.".. ضرب الثاني بكفه على فخذه متحمّساً: آخ لو امريكا اللعينة تسلّم الطائرات كلها، جان نسورنا ما خلوا للدواعش أثر".
تركنا وراءنا مَدخل السوق المسقَّف من جهة الشمال وحركة الناس المتخذين الجسر نحو صوب القشلة.
عند مدخل شارع العيادة الشعبية توقَّفنا.
فتح جوادين المُفكِّرة وأظهر من بين صفحاتها ظرفاً أسمر صغيراً:" ارجو أن تقرأ ما كتبت وتعطيني رأيك.".. قال بعينين متضرعتين كأنه يخشى ردَّةَ فعلي السلبية المفترضة مُسبقاً.. لم أعلِّق بشيء؛ فقط استلمته واقترحت عودتي الى البيت باستئجارِ تكسي؛ فما زال تأثيرُ المخدر في فمي بينما أعلن هوَ توجهه الى مكتبة كنوز التراث القريبة لتتبع عناوين كتب قال وصلت حديثاً.
11
منذ أسبوعين لم أبرح البيت. كانت حركتي اليومية تقتصر على التوجّه صباحاً إلى مكان عملي، ومن ثم العودة بعد الانتهاء في الساعة الثالثة.. أتناول الغداء وأسترخي في قيلولة لا تتعدى النصف ساعة ثم أنهض فأجلس عند منضدة الكتابة. أمامي الرواية قيد الترجمة ومجموعة القواميس الصديقة... بين حين وحين تأتيني زوجتي بفنجان قهوة عربية. أرتشفه برويّةٍ، مستعذباً مسحوقها الذي يعلَق بين لساني واسناني ومرارتها التي ترسبُ في قاعِ الفم.
صحَّ من قال وراء كل عظيم امرأة؛ وصدقتُ إن بحتُ بأن نصف عملي المنجز يتحقق بدعم من زوجتي. فهي المستمِعة الأولى لما انتج، وهي الناقدة التي تعطي تقييماً لما أترجم. فبعض الجمل تحتاج الى موسقة كي يصل نغمُها فاعلاً الى ذات المتلقّي، وبعض تحتاج اعادة تركيب كي تلج بانسيابية ممرات تلك الذات. وهذا بعض ما تُبديه هيَ كاقتراحٍ حين تستمع فتتوقف لتقول: ماذا لو كانت الجملة هكذا وليست بهكذا؟.. أو ما رأيك لو اعدت صياغة هذه العبارة فهي تبدو مربكة وغامضة للقارئ؛ أو أحسنت ترجمتَ فأجدتَ.. وهي بهذا تفعمني بشعور الانجاز الناجح. ناهيك عن تهيئة الأجواء المناسبة من أجل فعل أخدم به القارئ الشغوف لمعرفة أفكار وافعال غيره من البشر مَّمن يعيشون بأجواء غير اجوائه.. ولا يمكن التغاضي عمّا تؤديه من المتطلبات اليومية. فهي من تتولى التسوّق: شراء اللحم والخضار والفواكه؛ تسديد فواتير الماء والكهرباء؛ الوقوف امام الخبّاز لتأتي بالأرغفة ساخنة تزيد من سخونة العلاقة الثنائية الحميمة بعد ما فرغ البيت من الاولاد.
الاولاد كبروا، فتزوجوا، فتفرقوا.
12
في الليل كانت لي فسحة من الارتياح بعد تجاوز متابعة برامج من مثل " الساعة التاسعة " من فضائية البغدادية، أو" ما بعد التاسعة " من الفضائية العراقية، و" من الآخر " من فضائية دجلة وهي تبث حوارات وسجالات عن الواقع السياسي اليومي، ستراتيجية محاربة داعش، همّ المواطن العراقي وتردّي الخدمات، سوداوية الحاضر وضبابية المستقبل، تدخلات دول الجوار في راهن الشأن العراقي. أقول" علينا الاعتراف وعدم القفز على كبريائنا باعتماد الكذب عبر القول اننا لا نتابع برامج التلفاز، واننا غير معنيين بسجالات السياسيين وتناحرهم ومحاولة اسقاط بعضهم لبعض.".
أتَّخذُ وضعَ التمدد على الاريكةِ ذات البطانة الاسفنجية الرخوة قصد الاسترخاء بينما زوجتي التي انضمت بعد سقوط صدام الى منظمة نسوية تحت يافطة منظمات المجتمع المدني وقد وجدت مثل هكذا منظمات اجواء مشجِّعة لها في نشاطِها إذ مُدَّت بأموالٍ اغدقها الاحتلال مُطالباً بما يقدم تعزيز النشاط بأفلام مصوَّرة لندوات ولقاءات وتوزيع ملصقات وبوسترات تهدف إلى نشر الوعي وزيادته بين النساء.. النساء اللائي ما زلنَ يساهمنَ في هضم حقوقهنَّ بأنفسهن عبر تقبّل ما يُمليه المجتمعُ الذكوري عليهن وجعل تلكَ الاملاءات كأنَّها قوانينُ لا يمكن تجاوزها أو القفز عليها مثلما تسعى هاته المنظمات الى تثقيف الطبقات الاجتماعية برمِّتها. تثقيف يهدف إلى تنشئة أجيال تُسهِم في البناء الموضوعي لعصر صارت فيه المرأة عنصراً مُهماً وفاعلاً، لا مربية اطفال ومدبِّرة منزل... كوَّمت ملفات لحالات تخص نسوة ريفيات يعانين من تهافت ازواجهن على الزواج الثاني والثالث مستفيدين مما يُقرُّه الدين وحضور رجال الدين بكثرة إلى الريف من حق الزواج بمثنى وثلاث، غير آبهين لجملة التحذير المكملة " على ان تعدلوا ". فهم يرون العدالة متحقِّقة طالما الزوجات يأكلن ويشربن في كنفهم.
أمدُّ يدي ترفع ما تسلمتُه من جوادين.. كانت اربعة اوراق كُتبت بخط اليد، حملت عنوان (نص البوح).
العنوان استفزني فعدّلت وضعي؛ وكانت زوجتي تتململ وهي تقرأ اسطر في ملف لم ارَ عنوانه قالت: " ما رأيك، هل اثير امام مجلس المحافظة موضوع فراغ الساحات من النصب الثقافية المُهمَّة؟ ألا يستحق جلجامش احتلال احدى الساحات الاستراتيجية في المدينة واوروك مدينته لا تبعد غير كيلومترات معدودة؟.. أليس من الانصاف وضع نصب لكاظم السماوي هذا الرمز الشعري الذي طافت اشعاره بلداناً مُهمة واحتفت به شعوب لها وزنُها في المجتمع الانساني؟.. ثم لماذا تهمل السلطات سجن نقرة السلمان والسجن القريب منه الاكثر رهبة ذلك الذي شيده النظام السابق فزج به العائلات الكردية وعاملها بقسوةٍ خارقة.. سجنان تركتهما السلطة الحالية بنائين مهجورين مُهملين ولم تستفد منهما سياحياً كمردودٍ مادي وانساني لفضح تعذيب الانسان لأخيه الانسان؟"
" ولم لا؟ ".. قلت مظهراً اهتماماً بما قالت.. راحت تقلّب الملفات؛ ثم استقرت على ملف حدقت بعنوانه اولا ثم راحت تفتحه وتطالع اوراقه وتقرأ باهتمام فيما رحتُ ارفع جسدي قليلاً من الاريكة واسند ظهري على المتكأ، وأتحفّز للقراءة:
نص الـبوح
لكأنها الاستفاقات بعد الهمود.. التواشج قبل تدانيات التشظّي. غموض الهذيانات تحتمه الثوابت؛ والنزوع قطعاً / قطعاً في غمرة تجبّر غابر، حيثُ العين الغائرة تجوس تكوينات هَوَس الأبعاد الزاخرة بالهُلام والابهام _ الوهم _ الحتم. والقلبُ الواهبُ الراهبُ تُفيقه دفقاتُ دماءٍ زرقاء حسيرة، خضِلة تدع عنها همهماتِ الأنا السحيقة... مَن منّا لم تَخترقه سكونية العتَم خروجاً إلى يقظة السطوع؟.. مَن مِنّا لم يسعَ لتماسّات تنوء أدنى ايقاعاتها تسامياتٌ غرّة، غريرة من بهاءٍ شسيع؟!
أحرقته المواجع فاستعانَ بدليلِ العودة إلى الايقونات المخضّلة بثملِ البراءةِ المنسيّة.. ما الذي عرَّب التجذّرات بمحضِ التحلّقات؟.. ما الذي نزع من فيوض البهجة رداء الألق؟! وكيف استكان الخِضَم لإشارة الهمود، فاكتوى بالجثوم؟!
. تهيؤاً ينوءُ؛ مسحوباً باغراءاتِ الكائنِ المنفي / الوالج / الباحثِ خوضاً في عُري التجنّي، استباقاً بالانكفاءات... يرى / يرونه _ مع _ زخرفياتٍ تنحتُ تهيؤآتها بحافاتِ اللهب، متَّقِدةً بفعلِ جمرِ الكينونةِ المتشظية.. تستقيمُ الرؤيا لرسمِ تباشيرِ الرؤيةِ الماثلة بغية الاستكناهات والتمخّض تفعيلاً لمتطلبات وجودنا المستحم بالإبهام لأجلِ استبدادية بثَق الذات كانزياح يتفتَّق ضروباً مُختلَّة تتلاعبُ بمكعّباتِ المصائر، رُكَّزاً على لهاثات الوميض.
الاستفهاماتُ تترى. والإجاباتُ خجِلةً تلوذُ خلفَ خفايا التيه، أدنى جُدر التلاشي... وحدها استفهاماته لهيثةً / عثيرةً تناهضُ قبولَ الانكفاء، تجهدُ في إصرارِ الوصول إلى قعرِ اليمِّ؛ إلى جوهرِ الكنه.. حتماً تلمسُ إيجاباً يعدمه السلب أو سلباً يتجبَّر استناداً على لا انبثاق يُعلن فحواه بإيجابٍ متصيِّر.
مُبهجةً تغدو تراتبية الزحاف. غموضُ الاستدعاء مُجهَدٌ بمواجهةِ غابات الحِلكة الرسيخة وشجر الكدر.. آ.. الكدرُ استحالةٌ مرآتيةٌ لضجيجِ اليمِّ. اليمُّ مُحاكاةٌ ديدنيةٌ لهشيم الرُقمُ، ورثاءٌ سحيقٌ لقوافلِ الفخارات المثلومة اتكاءاً على تغضّنات التاريخ المَهيض / المهين.
يا إلهي ! ما هذا؟.. ماذا أقرأ؟! أيُّ بوحٍ هذا الذي يقول؛ وأيّةُ لغةٍ هذي التي تحرق روحها فتسفك دمَها كي يخرج النص بسوداوية توشحه فتجعله قطعة أسى؟!.. لا يمكن لمن يقطع هذه الاسطر القليلة إلا ان يتوقف كما توقفت أنا؟! وليس من الواقع التجاوز والاستمرار بالقراءة إلا إذا ادلهمت دواخل المتلقي بغيوم الفضول وامطرت على ارض روحه التواقة لمطر اللغة لذاذة لا يريد لها أن تتبدد وتتبخر فيروح يعنف النفس لعدم ايلائها الاهمية.... توقفتُ مُطوَّقاً بالذهول وأنا أنهي قراءةَ هذه الاسطر، ومحكوماً بسؤال: مَن أينَ لجوادين كل هذا التكثيف من الصور، وهذا القدر الهائل من تفجير اللغة؟!.. اتراه نيتشه مَن اغواه فأسقطه في حبائل فلسفته التدميرية أم هو الواقع الذي يعيشه ولا يرى فيه غير ألوان لا تتعدى الاسود والرمادي؟...لأكمل القراءة.. لا يمكن الحكم واثارة التساؤلات ان لم يتحقق اكتمال القراءة.
هكذا هو التاريخ: ممارسةٌ حثيثةُ التجبّر لتمزيقِ الأيامِ نثاراً، ولصقها تأثيثاً لفضاءِ اللمسات المَشهدية.. لمساتُ اللا أفق / اللا فضاء / اللا حدود. فقط أحداث تُصوّر الماثل، الظاهر الذي يتقدّم الواجهة غيرُ آبهة بالمخفي قسراً، المتواري جبراً. متغاضيةً عن الآهات الهادرة، والأوجاع النافرة. ساخرةً من شكوى تطلقها جموعُ المقموعين، وجيوش المسحوقين. رسيخٌ هذا الألم المتكينن بفعل تناسلات الفجائع، وهاتيك الأحزان تنعطف باتجاه انبهارات القلق، تتماهى وفعل حبر الروح المزروع حكايات في جنبات الذاكرة الرهيقة.
لم يطلعنا التاريخ على صفحاتٍ لفقراء عاشوا اللذة واستحموا بجذل الأيام؛ لم نقرأ عن مسحوقٍ آثر العيش تحت وميضِ جمر اللهاث الديدني لفقرِهِ واكتفى بالألم؛ ذلك أن السعادة من خزائن الجبروت السارق لفيوض الشمس، والفرح عقار ممهور بختم الاستلاب ومُعلَن بلافتةٍ تقول: أن الفقرَ هويةٌ لا يحملها إلا المنفيون عن سهب الجذل، وليس من دواعي الرضا إلا القبول بصقيع الرماد.
نتَّخذ من حثيثيةِ اليومي المزروع خضائلَ من دمٍ هريقٍ في بوتقاتِ جمعِ الأحزانِ وجرارِ المآسي. لكأنَ أحزاننا (هذه) الموبوءة بالأنين المستديم ومآسينا الراهصة على سكاكين الألم لا تكفي سعاداتِهم المتجذِّرة في يَباب السادية. لكأنَّ العراقَ ليلٌ أريد له أنْ يطول دهراً في جوفِ العتمةِ خشية الاستفاقة الخضراء التي تنثر أرائجَ فحواها لهجة في وجهِ البغض المزروع شوكاً يتخلل مسارات الهناء المنبجس لتكحيلةِ طفلةٍ بكت قرناً وطفلٍ أضاعَ كرةَ الشمس جراء دفقِ الدمع الذي حجَبَ الرؤية وقتلَ الإمساكَ بهالةِ الأمل. لكأنها دنيا لملمت المَخالبَ واستكانت متآمرةً مع حشودِ ابوامِ البغضِ لتزرعَ أرضَ المتألمين بحِفرِ الجراح التي لا تَعرف الالتئام.. والتاريخ هذه البقايا من اللملمةِ الحثيثةِ لبهرجةِ الزيف ليس له إلا أنْ يؤرِّخ ولو فتاتاً من تداعياتِ أمّةٍ نسيت لونَ النور وفرَّت هاربةً من " أوكسجين " استمرارِها في الحياة..
في ربقةِ العدم يعوم، ومن تواليات جُرحِه يستقي مناهضةَ عتَمِ الذي رحلَ من قوافل الظلام. تهيوءً يستنهض قدومَ الضوء.. الضوءُ رشاقةُ البهاءِ في سُهب التطلّع / شهادةُ الحيازةِ على استنهاضِ فراشات الألق / استقبالٌ حيي لضحكاتِ زهورٍ تنثر الفرح... مَن يطلق هذا المنشور بوجه بانوراما الخفافيش فينتج نهاية الرثاء ومنتهى الأسى؟!..
آن انهالت دواخل جرار الإصرار على الديمومة المستنيرة بمحافل الإصرار تجلّت النتائجُ رسيخةً للبهاء ومثيرةً بهجة الصغار وتطلُّع الكبار، وحسن نتائج الصنيع في خمائل الجذلِ ويناعةِ الابتهاج..
وفيرٌ (هو) الحلم بالتأني؛ لكنَّها قليلةٌ محطّات الانتظار !
كثيرٌ مدُّ الأماني باخضرار المستحيل، بيدَ أنه ضئيل (ذلك) النورُ في الأفقِ الفسيح..
مَن يزرعُ إذاً مجرّات التحقق فتؤول الحيرةُ إلى مصافي اليقين؟..
ومَن يُقايض ليلَ المسرات بصباحات الألم؟!
" رغبنا في الحياةِ لفرطِ جهلٍ // وفقدُ حياتِنا حظٌّ رغيبُ " (ابو العلاء المعري).
أهي التميمةُ التي تبغي اسقاطَنا في نسقِ ابجديتها كما سقطَ من قبلِنا الشاعرُ وهو يفكَّ سرُّ اللحظةِ ويُشرِع أبوابَ الحقيقة؟..
أهو الولوجُ في متاهاتِ الوجودِ وقضم ثمرةِ العلقمِ رغم مرارتها أم هي الانهيالات في وادي كذبةِ خديعةٍ تاه البشريون في خَدرِ فضاءاتها فانتهوا في متاهات الغَفَل، وضاعوا في دوربِ الفناء مدركين أنْ ليس أمامَهم سوى فقدُ الحياةِ برغبةِ الصدق، وسلوك درب الموت بصدق الرغبة؟
حدثني الليل الذي تُمتِعه النجوم - كلَّ سكونٍ - عن فيلسوفٍ نثرَ الأعوامَ في برّية التحرّي، وحين عادَ بعد ألفِ بحثٍ قالت له الخطوةُ الأولى: هل بلغت منتهى الألف ميل؟.. فطأطأ الرأسَ وولّى منحدراً، دالقاً تهجداتِ مخلوقٍ كسير: لقد بلغتُ ألفاً، وألفاً، وألفاً.. لكنّه الدربُ طويل، وسدرةُ البلوغِ بلا وصول.
أفاقوا على حكمة اليقينِ والقدر.
وانتهوا عند صخرةِ القولِ الحسوم..
فما ابتلانا غيرُ هذا السراب الخديع !.. قالوا.
ولا ارتوينا من بهجة الماء الودود.. رددَّوا.
وكانوا....... ويخوضون في رغاوي الهباء..
وكنّـا....... وفي سجفِ البوحِ نعتلي غيوم المفردة..
ونزرع المستحيلَ بسنابل الإصرار
منتصبين.
وقائلين للسماء
نحن هنا..
لا نستكين. "
قفزتُ من الأريكة.. وضعتُ اللغة المحتشدة في الصفحات الأربع على منضدة الكتابة واتخذتُ طريقي للمطبخ لإعداد فنجان قهوة بنفسي؛ فليس عدلاً الطلب من زوجتي اعدادها وقد تركتها تطالع الملفات التي أمامها واقترحت بعد الاطلاع عليها قراءة كتاب اعلنت اعجابها به فاستعانت بصديقة لها في العمل ابتاعته لها من " مكتبة المدى " في شارع السعدون في آخر زيارة لبغداد.
في الرأس وشيشٌ، وفي القلبِ دفقٌ غير طبيعي..
تمثَّل لي جوادين بما كتبَ من بوحِ فيلسوفٍ يحاور الواقعَ ويتساجل مع حيثياته.. بدا متشائِماً كتشاؤم تيارِ العبث الذي ظهر خلال مجريات الحرب العالمية الثانية واوارها، فكان سارتر وكامو ويونسكو وبيكيت؛ كلٌّ ينطلق من اسطورة حكاية تُكرِّس لديه فكرة اللاجدوى؛ تلك التي تأثر بها هاشم يوم كنّا ندخل ميدان الشباب ونقرأ عن ادباء وفنانين اتخذوا مسلك العبث احتجاجاً على الواقع ورفضه، مُنادينَ بعالم يسوده السلام وتُطلَق الحرية ويُقيَّد السياسيون المتعصبون وقادة الحرب المهووسون بالعظمة فراح يريني اسكجات من رسوم اجراها على الورق مُعبِّرة عن سوداويةٍ واحباطٍ ورغبةٍ جامحةٍ في التغيير؛ والتغيير لدى اقراننا حصلَ منذ عشرة اعوام فصار لا يخلو زقاقٌ من الازقة المتفرِّعة من شارع باتا لا يُذكر فيه اسم قرينٌ لنا سافرَ ولم يعد.
الفصل الثاني
الثقافةُ تجسيداً.. الرفقة والافتراق
.. فعلُ الترجمة
لم نكنْ نُطيق الفراغَ غير المسكون. كنّا غالباً
نصطحبُ المرأةَ الكبيرةَ إلى ضفة النهر، أو
نضعُ كرسياً فوق شجرة. أحياناً، كنّا على
العكسِ، نُدخِلُ شجرةً كبيرة إلى غرفة الطعام
حينذاك نسمعُ الرصاصَ، وراءَ السياج،
متأخراً، مع هبوط المساء. ومع أننا كنّا
نعرفه وننتظره، فقد كنّا دائماً نُفاجأ – كان
ذلك يؤكد لنا المكانَ الصحيح للكلمات.
يانيس ريتسوس
13
كان فالح عوّاد صديقَ عمرٍ؛ لطيفاً وكيّساً ونزيها؛ وكان وسيماً وجميلاً وذا طلعة بهيّة.. شغلته كثيراً فكرةُ الخروج عن الوطن والعيش في بلدان أكثر تحضّراً وانفتاحاً على الحياة؛ لكنَّ اشداقَ الخدمة العسكرية الاجبارية التهمت مَطمحَهُ وكبَّلته بقيودٍ لا فكاك منها، هو المجبول على الهدوء بعيداً عن الهوج؛ الرافض للواقع بصمت، الصاغر لحكم القدر إنْ تجبَّر. قضينا خدمتنا العسكرية، اوائل سبعينات القرن الماضي، قريبين وإنْ بعدت المسافة بمئات الكيلومترات.. كنتُ في H3؛ القاعدة الجوية العراقية الكبيرة في الصحراء الغربية القريبة من الحدود الاردنية. وكان هو في H4؛ مطار عسكري يقع في أراضي مملكة الأردن على مبعدة كيلومترات من الحدود العراقية. نُقِلنا إلى المكانين من وحدتنا في الديوانية أوائل سبعينات القرن العشرين يوم كان عدد من الوحدات العسكرية العراقية ترابط عند مواقع ستراتيجية في المملكة. تلك الوحدات شاركت إبان حرب حزيران 1967 وبقيت هناك بعد ستة أيام قتال ابتلعت إسرائيل خلالها الجولان والضفة الغربية وسيناء بحرب خاطفة كان فيها صوت الحكام العرب أعلى من سيوفهم، وأشد مضاءً في التهديد والوعيد.
كنّا قبل أنْ تأتينا اجازتُنا الاعتيادية لمدة أسبوع نصرف خمساً وثلاثين يوماً بعيداً عن مدينتنا، عن اهلنا، عن السوق الكبير، عن الفرات، عن شارع باتا، عن ليل السماوة وافلام سينما الشعب ومحطة القطار ولعب كرة القدم في شارع الستين.. كان المطار، كما اخبرني يشبه مطار H3، وسط رمال صحراء الأردن. لا يوجد فيه سوى طريق معبد بالإسفلت يشكل لساناً بمثابة مَدرج مطار يبدو من السماء كأنه خطٌّ أسود أحدثه مَخلبُ غراب؛ على جانبيه منحنياتٌ مُموَّهةٌّ بلون الرمل هي مآوى لطائرات حربية لم نبصر واحدة منها تطير بمهمَّة عسكرية وتعود، أو لا تعود. فقط هياكل مصنوعة من الخشب توحي لطائرات الاستطلاع على أنها طائرات حقيقية.. وهناك مداخل لغرف عديدة تحت الارض، هي مكاتب الضباط ومنامهم في نفس الوقت فيما أخرى غرف لنومنا نحن الجنود.. الضباط يصرفون وقت ما بعد الفجر والظهيرة والمساء في البهو الارضي الواسع نوعاً ما حيث المنضدة الطويلة مُعدَّة لاستقبال أطباق طعام فطور الوجبات الثلاث، وعليها يتداولون أحاديث عن أخبار تخص زملاء لهم في معسكرات متفاوتة، منتشرة على جغرافية الوطن؛ وأخبار أخرى سمعوها من أجهزة الراديو. أما نحنُ فنصرف الصباح، كلٌّ في مكانه، وفقَ الجدول التدريبي على إدامة الاسلحة الشخصية؛ بنادق كلاشينكوف وسيمنوف وتنظيف المعسكر وتفريغ المواضع القتالية من رمالٍ تأتي بها العواصف المستمرة. وما بعد ذلك ليس غير لعب الدومينو وسيلة مُفضَّلة لتمشية الوقت وصرفه والحديث عن انتظار كل يوم اثنين حيث المُعتَمَد يأتي بالبريد من قيادة القوة الجوية في بغداد مارةُ بقاعدة H3 ليوزِّع الفراشات الزرق على من بُعثت إليهم.
كان فالح عوّاد، مثلما أفعل، يدمن رسم خطوط عمودية على ورقة يلصقها على الجدار المحاذي لسرير نومه. وكان كما أسرّ لي ضجِراً من وجوده في غير محله، ما أن يستيقظ صباحاً حتى يشطب بقلم ارتياحه خطاً، محتسِباً أن يوماً قد انصرف، فارداً ذراعي قلبه كي تدخل البهجة مفارقَ الروح مُقرِّبةً فرصة مشاهدة الأهل والتجوّل بزهوٍ في شوارع واحياء المدينة.. خمسة وثلاثون خطاً اذا اكتملت تهيأنا لاستلام نموذج الاجازة الاعتيادية وحملتنا حافلات الجنود الى معسكر " ابو غريب " في بغداد ومن هناك ننطلق الى الكراجات المدنية لنستقل سيارات تأخذنا الى مدننا.
كان فالح عواد شديد التعلّق بالثقافة.. يقرأ كثيراً ويوصي كلَّ من نزل من الجنود في اجازة ان يشتري له من مكتبات شارع المتنبي او الباب الشرقي والسعدون حين العودة كتباً يدون عناوينها على قصاصة.. يستمتع عواد بالقراءة ويهنأ إن لبّى له رفاقه من الجنود ما اوصاهم به.
انغماسه في اقتناء الكتب وشغفه في القراءة وتسلُّم رسائل من اصدقاء يكاتبونه من البلدان الاوربية دعوه للسفر والالتحاق بهم ولَّد قلقاً لمفرزة الاستخبارات في القاعدة مع انه لم يدخل نقاشاً سياسياً أو فكرياً؛ ولا كان متباهياً بما يقرأ. ولم يُسمع يوماً يتحدَّث بشؤونٍ تثير الشكّ في سلوكه وتوجهاته الفكرية؛ لا ـ ولا صرح مرّةً برغبة في السفر خارج البلاد.
مفرزة الاستخبارات في المطار دوَّنت التقارير والاستفسارات والتحليلات دون علمه.. رأت فيه خطراً اعقب الشك والتداول في أمره. اعتبرَتْ قراءاته لكتب تابعت عناوينَها وفحواها (مثلما طالعت فحوى رسائل الاصدقاء يحدثونه عن بهاء الحياة في البلدان البعيدة التي يقطنوها متمنّين وجوده معهم) من باب فتح ثغرة في جدار مكهرب؛ فالثقافةُ، كما يتهجسون، خطرٌ وسط تجمع يراد له أن يكون مُخدَّراً، مثلما حسبت هدوءه قنبلة موقوتة قد يأتي يوماً فتنفجر في بحيرة ماء راكد. فاذا به يستحيل دليل ثورة (بحدسهم)، واذا بثقافته منهج جيل يتطلع لحياة افضل (كما تهجسوا)؛ واذا بهدوئه اعتكاف مفكِّر (تصوروه) سيخرج يوماً ما على الملأ ليقول ما لا يرتضون أو سيغادر البلاد يوماً فيستحيل عنصراً نافراً يؤلِّب اقرانه وإنْ لم يجاهر على مغادرة البلاد.
تكاتبوا مع دائرة أمن سكناه. وجاءهم تقرير يعرض حسن سلوكه واستقلاليته؛ حبّه للانعزال ومحدودية علاقاته الاجتماعية؛ لا ارتباط له سياسياً، ولا وجود لما يثير الشك به. ولم يُسمع بمجاهرته للرحيل خارج الوطن.
كل ذلك وفالح عواد لا يدري ما يجري وما يُنظر اليه في وحدته.
تسرَّحنا من الجيش.. وكان لنا، أنا وهو، زمناً من الرفقة الحميمة مع ليلى ورشيدة كونها تحمل طابع التميّز في جغرافية اجتماعية جرت منتصف سبعينات القرن الماضي.
منتصف السبعينات شهِد حركةً اجتماعيةً فيها من التحوّل ما يمكن اعتباره نقلة نوعية في مدينة السماوة والعراق بأجمعه؛ إذ نجح تأميم النفط وانتزعت الثروة المستلَبة من مخالب الشركات الاحتكارية. صار العراق يبيعه دون معاهدة جائرة، بلا وسيط يبتز. انتعش الاقتصاد وتوفرت السيولة المالية فحدثت تحولات دراماتيكية.. فُتِحت ابوابُ العمل في الدوائر والمؤسسات، وأُنشِئت المصانع الحديثة ذات التأثير الكبير في حركة الاقتصاد حال انجازها وبدء العمل بها.
أنا تعيَّنتُ في محكمة السماوة بوظيفة مدوّن قرارات القضاة وبتِّهم في القضايا المقدمة اليهم بعد تخرجي من الجامعة وصرف بطالة امتدت لعامين كاملين راجعتُ خلالهما وزارات ودوائر سعياً للحصول على عملٍ باختصاصي كمترجم فلم أفلح. كلُّ دائرة أتقدم لها تعتذر متذرعةً بعدم وجود درجة مترجم وظيفية في هيكليتها. أما فالح عواد فعُيّنَ ملاحظاً في مديرية الزراعة، وانيطت به ادارة ذاتية مشروع زراعي تجريبي..(ظل يستلم رسائل الاصدقاء مقرونة بصور فوتوغرافيه لهم يعيشون الحياة الجميلة ويدخلون المشاريع المشبِّعة لفضولهم ورغبتهم.. يطلعني عليها مع حسرة ينفثها وتمتمة: لم أعد افكر بما يطلبون.. الوظيفة كبّلتني.)
بالعمل أنهينا مشوار البطالة والفقر الثقيل.
شيَّد فالح عواد غرفةً له داخل بيتهم المتواضع وصمَّم لركن منها رفوفاً امتلأت بكتبٍ كانت حبيسة صناديق كارتونية. وفي الركن المقابل سريرُ نومه؛ تجاوره منضدةُ للكتابة.. مَن يجلس خلف المنضدة تواجهه صورةٌ كبيرة مُزجَّجة. تلك الصورة لنا، فالح عواد وأنا، بالقيافة العسكرية التقطها مُصوُّر في علاوي الحلّة يوم صادف توافق اجازة نزولنا الى اهلنا وعودتنا معاً. التقطنا الصورة واخبرنا المصوُّر اننا سنلتحق بوحداتنا، ومن يأتي بعد ثلاثين يوماً أو اكثر سيتسلمها.
كانت الصورة من نصيب فالح حين تأخرتُ اسبوعاً. وجدتُه بعد اشهر قد كبّرها وزجَّجها واحتفظ بها كأيِّ شيءٍ ثمينٍ يبعثُ على الاعتزاز.
***
كنا سعيدَين بعملنا؛ والحياة في منتصف سبعينات القرن الماضي شهدت ازدهاء العراق باعتراف الكبار من الأهل ممن عاصر الفاقة في العقود الطويلة المُنصرمة واعتُصِر بقبضته القاسية. فقد ذهب الفقرُ، وانحسرت البطالةُ.. تراجع الجهلُ وعلت شمسُ الأمل.. ارتقى مستوى التعليم وبُنيت المدارس وجُهِزت بلوازم نجاح العملية التربوية من مختبرات ومصورات وانشطة فنية ورياضية.. وضِعت مشاريعٌ طموحة لبناء مستشفيات وفِّرَت لها حال تشييدها الأجهزة الطبية الحديثة.. استُحدِثَت جامعات جديدة صاحبها توسع اقسام الكليات وخصوصاً فروعها العلمية؛ كما استحدثت محافظات جديدة كانت السماوة واحدة منها حملت اسم المثنى كمركز محافظة.. أعطيَ للمرأةِ دورٌ فاندفعت تدخل ميادين البناء وصارت تُشاهَد بأعدادٍ كبيرة في دوائر الدولة والمصانع وميادين العملِ المتنوعة.
في هذا الجو الناهض بنشاطٍ وألق والذي يشبه في تناميه اجواء العالم المتحضِّر والبلدان المتباهية بالرفاهية والعمل تشكَّلت كينونة مصغَّرة لحياة عشناها نحن الاربعة حمزة وفالح وليلى ورشيدة لعامين.
كانت ليلى تعمل موظفة في دائرة كاتب العدل؛ قدِمت عائلتُها في الخمسينات من بغداد. ابوها موظف منفتح على الحياة يعمل في دائرة كمرك ومكوس السماوة. يحب العلاقات؛ والتواد خصلة من خصاله الحسنة. رافقته زوجة متعلمة لم تكمل دراستها ومعها ابنتان ليلى وساهرة ولده البكر أشرف غادر في العام 1960 الى المانيا الشرقية ابان حكم عبد الكريم قاسم، غادر بزمالةٍ قصد الحصول على شهادة البكلوريوس في التاريخ واضعاً في ذهنه ان يكون يوماً ما مُنقِّباً لاسيما واوروك لا تبعد عن السماوة غير ثلاثين ميلاً، وجلجامش ينام هناك. يحلم أشرف بهمسه كلما وضع رأسه على الوسادة وتساءل متى تتحقق امنية ارتقائه مُنقباً يدخل على شعب اوروك ويدور في شوارع وازقة المدينة. يخرج الى بساتينها، ويصاحب الصيادين في زوارقهم وهي تجوب الفرات، وتطأ قدمه سلم الزقورة ليرتقي الى انليل وآنو وإينانا؛ هناك حيث سينحني بتحية السومريين ويضع الكف على الصدر علامة التُّقى والخضوع للآلهة؛ وهناك سيأخذ بيده الكهنة ويقرأون فوق رأسه تعاويذ طرد الارواح الشريرة ويطوفون بالمباخر الفخارية ثم يرجون الالهة تحقيق آماله ورؤاه. وبدورها ستمرر الالهة كفَّها على وجهه وتمسح أجفانه بأناملها الرقيقة هامسةً في اذنِه بيومٍ تراه قريباً.. يسمعها تقول: جِد واجتهد؛ تغرَّب وعُد. بعودتِك ستجدنا بانتظارك.. وساعةَ استيقظ وحكى لأمِّه تفاصيل الحلم قالت له: الذي مررتَ به ليس حلماً بل رؤيا؛ والرؤيا غالباً ما تتجسَّد واقعاً.. ابشر بما رأيت، واسعد بما سيتحقق.
كانت ليلى البنت التي وجَّهها ابوها صوبَ الثقافة زارعاً فيها الاعتداد بالنفس. تحبُّ القراءة بشغفٍ وتتابع ما يُكتَب وما يُنشر في الصحافة؛ حتى أنَّ الداخل الى مكتبِها سيلفت انتباهه اعداد الصحف المحلية متراكمة على ستول خشبي بجانب منضدتها. يومياً يدخل عليها بائع الصحف المتجول حالماً يستلم المنشورات القادمة من بغداد إذْ يعدّها زبونة لا تردَّه ولا تعتذر عن الشراء.. ثقافتُها اودعت فيها السماحةَ والبشاشةَ وحسنَ الحديث. ومن هنا كان استقبالها لي حين يتطلب العمل التواصل مع دائرة الكاتب العدل فيه من المودة والاحترام ما حبَّبها لي وجعلني أشعر برغبة الجلوس معها بعد انتهاء مشوار انجاز المهمة.. وهي بدورِها تسأل عن العمل وما بعد العمل.. ذلك ولَّد في داخلي احساسَ اننا نمتلك روحين متقاربين في النظرِ للحياة والتطلع للأجمل. اكبَرت فيَّ جهدَ الترجمة كهوايةٍ مصاحبةٍ لعملي الوظيفي (وقتها كنتُ في بدايات نشري ترجمات لمقالات واشعار كتّاب كبار أبعثها الى الصحافة فأجدها بعد ايام منشورة وباحتفاء).. ومن جانبه حدَّثني فالح عواد عن رشيدة؛ البنت المثلى لأمّها. استشهد والدُها على جسر الشهداء في التظاهرة الشهيرة ضد حكومة نوري السعيد في 27 كانون ثاني 1948. علَّمتها أمُّها البساطة والانفتاح فنشأت مقرونةً بدماثةِ الخلق والتواضع وكبُرَت كما لو كانت من نساء العاصمة بغداد بانفتاحها الاجتماعي وبساطتها كموظفة في قسمه. قارئة نهمة ولها تطلُّع للكتابة في حَقلي الادب والفن. تخرجت من قسم اللغة العربية في جامعة البصرة ووجدت نفسها موظفة بعيدة عن التدريس؛ رغبتها غير المُتحقِّقة. تحتفظ رشيدة بدفتر مذكرات تدون فيه اغلب ما تراه ذا اهمية ويستحق اعادة قراءته يوماً لتعود الذاكرة الى الذكرى فتكون حديثاً مؤثراً تسمعه للأجيال.
كانت البلاد منتصف عقد السبعينات تعيش انتعاشاً سياسياً؛ فضاء انفتاح عبر معاهدة 11 آذار وجبهة تقدمية. أُطلِقت الحرية للصحافة... في الشمال ظهر الحزب الكردستاني علنياً؛ ينشر اخباره ونشاطاته عبر صحيفته " التآخي ". وفتح الحزب الشيوعي، بعدما تخلّى عن سريّة تنظيمه ونشاطه ومجهولية اعضائه مكتباً رئيسياً في العاصمة وفروعاً في المحافظات وصارت " طريق الشعب " صحيفةً علنية ناطقة باسمه.
في ظل هذه الاجواء اقترح فالح عواد علينا، نحن الاربعة، اللقاء مجتمعين تكون فيه الطبيعة خامسنا فجوبه الاقتراح بالرضا والترحيب والحفاوة.
صباح الجمعة الاسبوعية كرّسناه كوقتٍ مُفضَّل.. تحت جسر السماوة الحديدي في شارع الكورنيش يكون اللقاء. ومن هناك نأخذ الطريق المُعبّد مشياً على الاقدام باتجاه آلعبس، مخلّفين سكلة السمك وحانوتين يشكلان آخر محطة تسوُّق للريفيين العائدين الى قراهم.
جمعة اللقاء الاولى كان صباحها شتوياً. وكانت الشمسُ ناصعةً تُبدِّد تيارات ريح باردة.
تحت الجسر الحديدي تم اللقاء والانطلاق... أمدُّ يدي لليلى فأحررها من حمل حقيبة قماشية جاءت بها وقد حوت ما طبخته وهيأته للغداء، بينما تولّى فالح عواد حمل بساط وعدة عمل الشاي أتت بها رشيدة من بيتها أ؛ أما واجبنا فهو الإتيان بالفاكهة.
ندخل طريقاً ريفياً. على يميننا بساتين آل حران بنخيلها الكثيف وأشجار فاكهة تموّن بها سوق السماوة، وعلى شمالِنا الفرات بمياهه المنسابة وظلاله الداكنة وزوارق الصيادين تجوب النهر من اقصى بساتين محمد علي شمالاً الى انعطافة الدحيل جنوباً.
نختار مكاناً مفتوحاً على النهر وشاطئاً تغمره الرمال بعيداً عن الطحالب والضفادع التي يصل نقيقُها المدينةَ في انصاف الليالي، بعيداً عن الأشنات الراتعة بينها افاعي الماء، والافاعي الهابطة من جحورها في البساتين القريبة.. تمد رشيدة البساط في مكان ظليل لشجرة صفصاف وارفة، وتخرج ليلى من الحقيبة القماشية القدور الصغيرة لطبخة البرياني واللحم الاحمر المحمص عملتها ذائقة الام المتحضرة.
تقول: رغبت ساهرة (وتقصد اختها) بمصاحبتنا لكني قلت لها اجِّلي ذلك لوقتٍ آخر.
" لا..لا.. كان عليكِ ان تأتي بها." نهتف ثلاثتنا بصوت واحد.
نترك المكان ونتحرك رافلين على نديف الرمل؛ نلقي على النهر التحية. النهر فرحاً يدفع بأمواجِه الينا. نخلع احذيتنا وننزل الى الماء حتى تغطس أقدامنا فتتسلل برودة منعشة تتيه لها ارواحنُا عذوبةً، وننعم بهناء يُعلي مقامَ الرفقة فتنطلق سيمفونيةُ الجذل بهارموني انساني وديع وبريء.
تسألني ليلى عن مشروعي المنشغل به وتنظم اليها رشيدة في السؤال فأنبري أحدثهن عن الشاعرة الانكليزية " أدِث لُويسا سِتوَل " ورغبتي بعدما قرأتُ لعديد المرات قصيدتها الشهيرة " ما يزال المطر يهطل " في ترجمتها الى العربية. تسألني ليلى: اتقصد (STILL FALLS THE RAIN) تردِّدُها بإنكليزيةٍ مُتقنة. أقول نعم، هي بذاتها. فتروح تعبِّر عن حبِّها للقصيدة، وتسبقني بمعلومةِ أنَّ السياب تأثرَ بها وكتب رائعته " انشودة المطر " بعدما حصلَ على مجموعة سِتوَل من استاذه جبرا ابراهيم جبرا الذي كان يلقي محاضراته عن الشعر الانكليزي كمنهجٍ مُقرر في الجامعة؛ وكيف أنَّ السياب أدخل الاسطورة في شعره بعد ذلك تأثُّراً بما جاء في قصيدة سِتوَل عن المسيح المصلوب على خشبة الصليب.
يومها اكبرتُ فيها ثقافتها الاجنبية فأعلمتني أنّها دخلت اكثر من دورة لتعلم اللغة والانكليزية وآدابها في " البرتش كاونسل " في الوزيرية ببغداد.. ولكي أثبت جدارتي أمامها وأضيف اليها معلومة عن السياب قلتُ أنَّ السياب تأثر بإيقاعِ وموسيقى قصيدة " الفريد تًنيسن " المعنونة " BREAK, BREAK, BREAK وهو يصفُ تكسُّر الموجِ عند صخور الخليج الرمادية.. إذْ جاءت بثلاث كلمات كما استخدمها السياب (مطر، مطر، مطر) مثلما أحضر الطفل في قصيدته وهو حضور جلي وواضح في قصيدة تنيسن، مثلما ايضاً رسم الحزن في انشودة المطر مأخوذة من حزن تنيسن وهو يرى الجمال الشفاف والطري لذلك اليوم يموت ويتلاشى ولن يعود، وهي صورة رسمها السياب بكلمات قيلت للطفل المتسائل عن غياب امه " قالوا له بعد غدٍ تعود / لابد أن تعود " وكانت القصيدةُ ضمن منهجِ مادةِ الشعر لمرحلة الثالث الجامعية حيث السيّاب طالباً يكتب الشعر آنذاك.
تُسهم رشيدة برأيٍّ قاله الجاحظ، كما درسَت في الجامعة، مِن أنَّ الشعر لا يُترجَم، مستشهِدة بما قاله ابو سليمان المنطقي في " صوان الحكمة " مِن " أنَّ أكثرَ رونقِ الشعر ومائه يذهب عند النقل، وجُلَّ معانيه يتداخله الخلل عند تغيير ديباجته ".
يسرق حوارنا مشهدُ مرور باص " دق النجف"، المصنوع هيكلُه الخارجي من خشب في ورش النجف الصناعية، آتياً من عمق الريف، حاملاً الراغبين بالتسوق من عشائر العبس.. يمر الباص وعيون ركابه تصوَّب علينا بشيء من الاندهاش؛ إذ لم تساور غيرنا الشجاعة للقيام بمثل ما فعلنا في واقع ريفي يحسب مثل هكذا سفرات مختلطة من باب الخروج عن المألوف.
أطالع كل ذلك فأتهيَّب؛ ويعتريني قلق لردّة فعل قد تطرأ من ابناء القرى المجاورة. يبصرني فالح عواد فيحدس قلقي. يبصرني ثم يبتسم، مطلقاً ((يا عزيزي.. تَيك إت ايزي)) عبارة كان يرددها مُذ كنا جنوداً لكلِّ مَن يغضب او ينفعل او يخشى عقوبةً. عبارة حفظها من ممثلين كثيرين شاهدهم في الافلام الاجنبية يتفوهون بها. عبارة تدعو لأخذ الأمر مهما كانَ ثقيلاً وصَعباً على محملِ البساطة.
أخذ منّا الحوار وقتاً. وكانت زوارق الصيادين تمر على مرمى نظر عائدةً الى المدينة بعد رحلة صيد طويلة اخذت الساعات. وكانت الضفة البعيدة للنهر حين دنت الظهيرة أبرزت قطيع اغنام اندفعت نازلة الى الماء تروى ظمأها؛ وخلفها انحدرت فتيات صغيرات بعمر العاشرة أو اكثر بقليل راكضات يمسكن عصي القيادة.. رمين العصي جانباً ودخلن الماء حتى مستوى ركبهن فرحات. نسمع سعادتهن وكركراتهن. نشاهدهن يغترفن الماء بأكفهن الصغيرة. يغسلن وجوههن، ويقطرن سرباً من القطرات يبللن فوطاتهن.. يتراشقن بالماء ويتجنبنه؛ فالماء بارد في هذا اليوم الشتوي والشمس غير قادرة على تدفئته.
تنهض ليلى راكضة تنغرز قدماها في الرمل فتترنح وتكاد تسقط، ثم تعود لتتوازن لتكون عند حافةِ الماء كأقرب مسافةٍ معهن. تلوِّح بيدها اليهن فيتوقفن. يصرفن وقتاً في التحديق كأنهن يتساءلن: من تكون هذي التي تحيينا؛ وإذ تنهض رشيدة متعثرةً بالرمال الطريّة وترفع هي الاخرى يدَها ملوِّحةً ترتفع اياديهن الصغيرة من بعيد كردٍّ على التحية. " مَن هاتان المرأتان بالتنورات السموكن اللامعة وبالقمصان اللصيقة الناصعة والستر الصوفية الضيقة؛ الناثرات الشَّعر المتعرِّج الطويل على اكتافهن؟ ما الذي جاء بهن الى هنا؟ اهنَّ معلمات مدرسة زبيدة التي انحرمنا منها وأبقونا اهلنا نرعى الأغنام ونجمع الحطب أم غريبات جئنَ من مدنٍ بعيدة؟ اهنَّ حوريات النهر يتنكَّرنَ بملابس حضرية أم شبحا امرأتين لا وجود لهنَّ في الواقع؟ ".. لابد أن تلك الاسئلة راودت عقولهن وتبارين بعيون الحيرة لاصطياد جواب.
صاحت ليلى تُسمِعهنَّ: " كل جمعة راح نجي اهنا."
فجاء الرد وقد أيقنَّ حقيقةَ أنَّ ما يشاهدن نساءً فعلاً، ولَسنَ مخلوقاتٍ خرافيةٍ:
" أهلاً وسهلاً.. من وين انتن؟ "
" من السماوة."
" معلمات؟ "
" لا موظفات."
سعدت الفتيات؛ وكان بودّهن لو عبرن النهر وانضممن لنا منهالات بالأسئلة على رفيقتينا بفضولِ الريفيات المتشوقات لسماعِ الكثير عن حياة المدينة وطبيعة الغرباء كأناس ممتلئين بالحكايات والاخبار، بودهنَّ لو خطين معهن يتعلمن منهن السلوك الحضري المديني ويسألنَهُنَّ بكم اشترين التنورات والقمصان وكيف جعلنَ الشعر مسترسلاً ولميعاً وكيف لا يقعن ارضاً وهن يترجَّلن بأحذيةٍ كعوبُها عاليةٌ ومستدقة، بودِّهنَّ لو صاحبنَهنَّ الى بيوتهن والعيش لأيام يخطرن في الشوارع والاسواق ويشبعن من مشاهدة الدكاكين وما تعرض، والناس وما تفعل؛ بودهنَّ... وودهنَّ.. رغباتٌ وأمانٍ، احلامٌ وخيالات.. لكنَّ الاغنام حينَ ارتوت وذهبَ عنها الظمأ تحرَّكت بتبعثرٍ وفوضى.. تقافزت الخراف الذكور وراح بعضُها ينطحُ بعضاً بينما ارتفع ثغاء الاناث مع ارتفاع غبار طحيني أحدثته حركة ارجل المتناطحين ما جعل الفتيات يسحبن اقدامهن من الماء ويتحركن لالتقاط العصي وقيادة القطيع صعوداً الى كثافة الشجر والتواري في الظلال الداكنة.
ذلك النهار صرفناه بساعات أخذت قراءات للشعر وتبادل النكات، وذكريات طفولة عادت بشريط ذاكرة ليلى في بغداد ودراستها في المدرسة النظامية والسيدة اللبنانية نجاح مدرِّسة العلوم ولهجتها المُحبَّبة لدى الطالبات وثروتها العلمية الثرَّة وهي تستغل بقايا حصةِ الدرس فتحدثهن عن مدام كوري وحيازتها جائزتين لنوبل لجهدها العلمي الرصين واكتشافاتها في حقل الاشعة. جائزتان لم تعط لغيرها من قبل ولا اعطيت لغيرها في ما بعد.. تحكي عن مارغريت ميتشل الصحفية الامريكية وحادث ملازمتها المستشفى ثلاثة اعوام بعدما صدمتها سيارة فكرّست الزمن للقراءة بحيث التهمت معظم كتب مكتبات ولاية اتلانتا التي تعيش فيها، وجاءها زوجها بآخر حزمة كتب في الولاية وقد اقترح عليها بعد كل قراءاتها ان تكتب رواية فقدحت الفكرة في رأسها ووجدت القلم يتهافت سرعةً في التدوين على الورق، والذاكرة تستعيد الحرب الاهلية الامريكية منتصف القرن التاسع عشر وصراع الولايات الشمالية والجنوبية، وتوجهات ابراهام لينكولن لتحرير العبيد، وولايتها اتلانتا جغرافيةً لعملها الروائي اليتيم الذي بعنوان " ذهب مع الريح ".
.. وأسهبت رشيدة في الحديث عن أجواءِ الجامعة في التنّومة وعبور الطلبة اليومي لشط العرب، تحملهم العبّارة من العشار. تحدثت عن السفرات الجامعية وكرنفالات الابتهاج الدراسي في مدينة اطلق عليها ثغر العراق؛ وكيف تعيش على انفتاح وترحاب للقادمين من مختلف البلدان والاعراق، يحيون الألفة والتواد: آسيويون وافارقة، اوربيون وامريكيون.. مسلمون ومسيحيون، صابئة وهندوس، بوذيون ووثنيون، يهود وزرادشتيون، ملحدون ولامنتمون. لا احد يتدخل في شؤون الآخر، ولا سُمع يوماً تضادّاً يجاهرون به فيقود إلى نزاع وتقاتل.
كان الغداء شهياً، واللقاء من عِداد اجتماعِ عائلةٍ متآلفة.. تطوف فوقنا فراشاتُ الرفقة الجميلة؛ ويجري الوقت منساباً طيِّعاً ومؤثِّراً كانسياب الفرات المستأنِس لأُنسنا، وتتداخل الاحاديثُ المنطلقة من بساتين قلوبنا مؤرَّجة بشذا الرفقة البريئة والصادقة... ولم نرجع الا والشمس تشرع بالهبوط والتحرك غرباً.
وكان صباحُ اليوم التالي وقتَ اتصالٍ هاتفي أعلن احدنا للآخر سعادته بنجاح أولى محاولات انتاج سرور بملء الارادة، مصمّمين على التكرار.
تحقق التصميم وتكررت اللقاءات.
ايام الجمع تتوالى.
لم نتخلَّف عن تحويلها جذلاً. انضمت اليها بعض ايام العطل ومناسبات يتعطل فيها الدوام الرسمي. تعددت أوجه سعادتنا رغم ريبةٍ شرعت عيون سكان القرى والبساتين تفشيها، وبدأنا نشاهد سيارات صالون تتوقف في الطريق ويبدو الذي في داخلها يطالعنا. كنا مطمئنين اننا لم نفعل ما يسيء؛ فقط نأتي للمتعة. نصرف الوقت في محاورة الطبيعة وارتشاف جمالها بسعادة وابتهاج.. نأتي هروباً من المدينة مُعطين بوحنا شوقاً وهناءً لعالم الريف وابجديته الساحرة.
صاحبتنا ساهرة، شقيقة ليلى، أكثر من مرَّة، فخرجت بحصيلة أنَّ برنامجنا نوعٌ من الفعل الخرافي. فعلٌ ينتج سعادةً يفتقدها الكثيرون.. تُعلِن تأسّيها لعدمِ ادراك الناس جمال الطبيعة وتحزن لافتقادِهم وعيَ الصحبة والحميمية وعدم الاستفادة من الزمن للعيش بهناء بعيداً عن الرتابة والملل.
وفي يوم كنتُ في مراجعة سريعة تطلَّبت توقيع واضافة تهميش على كتاب رسمي والعودة الى العمل اعلمتني ليلى بابتسامة فيها مسحةٌ من الخجلِ أو تعبيرٌ عن سعادةٍ دفينة انها ستبرح السماوة قريباً الى بغداد. وعندما اظهرتُ جهلي عما تشير اليه اعلنت انها خُطِبت لابن عمتها، الضابط في ميرة وزارة الدفاع، وأنَّ والدها استقبل اخته قبل يومين وكان مجيئها السماوة لهذا الغرض. ولما كانت ليلى تتبادل مع ابن عمتها النداءات الهاتفية منذ اكثر من عامين وكان هو بين حين وحين يلمِّح برغبته في الاقتران بها فقد اعلنت موافقتها.
خطوبةُ ليلى وزواجها وانتقالها الى بغداد فرَّط عقدَ الرفقة فتوقفت الرحلات الاسبوعية. وزاد من ذلك اقترانُ رشيدة هي الأُخرى بزميلٍ لها بعد ثلاثة اشهر من زواج ليلى.
ولأن حمّى الزواج تعالت في حلقتنا فقد وجدتُ نفسي بعد عام أدخل القفص الزاهي مقترناً بمريم، الطالبة في المرحلة الثالثة من كلية الادارة والاقتصاد.
أما فالح عواد فشذَّ عنا ولم يتزوج الا على مشارف الاربعين. خلَّف جوادين وبيداء فيما رزقتُ أنا بحارث وميمون.
حارث وميمون يعيشان الآن في بيتين منفصلين بعد زواجهما فيما أنا ومريم نعيش كما يوم زواجنا وحيدين في بيت بقيت فيه آثار اقدام الولدين على الارض وانفاسهما تجولان في فضاء الغرف والصالة، وقد تخرج الى الحديقة الصغيرة فتمر على شجرة البمبر والنبق وشجيرات ورد الجوري الدموي والوردي الفاتح.
14
انتهيت قبل ثلاثة أيام من ترجمةِ فصلٍ كامل بعدما اكتملت ترجمةُ الفصل الاول الذي يدور حول عائلةِ اوكونور التي تتألف من ثلاث انفار: توم، وأمه وأخته فيودورا تكبره بثلاثة أعوام. كان الثلاثة يعملون كخدم في حانة صغيرة قرب احد موانىء الجزيرة. مالك الحانة يدعى سنيور لوبيز... وكما هو شأن شباب شارع باتا عندنا في المدينة وتطلعهم لحياة متغيرة تهبهم فضاء اوسع يبنون من خلالها مستقبلهم وتجعلهم يعيشون الامل الذي رسموه في مخيلتهم وعزموا على تطبيقه واحالته واقعاً يومياً فإن توم أوكونور في رواية خاتم الامير العبد هو ايضاً كان يسعى من اجل التخلص من هيمنة سنيور لوبيز صاحب الحانة حيث يرى الفتى أنَّ مصيرَه ومصيرَ أمِّه وأخته مرتهنٌ بمزاجِ هذا الرجل المتنفِّذ الذي يرى فيهم كثلاثةٍ ادوات لتحقيق ربحٍ وفير من حانةٍ يقدِّمون خدماتهم لها طوال النهار ومدى واسعاً من زمن الليل.
إنَّ الانسانَ يحيا على ايقاع مطامح لا تنتهي؛ تتوالد لتموت فتنبثق مطامح اخرى لها آفاق يراها تنبىء بالأفضل. ولا يدري بعدها أنْ ستكون الافضلَ فعلاً أم الاسوأ.. تموتُ لتصبح هشيماً تذروه رياحُ الاعوام. لذا كان توم يمنّي النفس بمطامح وآمال كبرى. ويروح يمارس فعل تأجيج الخيال بقضاء جلِّ فترةِ فراغه عند الشاطئ بحثاً عن الكنز الذي كانت تحمله السفينة الغليون التي غرقت. ويندفع في اوقاتٍ عديدة الى الغوص في الماء والوصول الى ارضيةِ اليمِّ يجمع اللقى المتناثرة علَّ احدها يتجسَّد كنزاً ينقله هو واسرته الصغيرة من قاع الفقر الى جزيرة الغنى والشهرة.
.. كان الفصلُ الثاني من أطول فصولِ الرواية حيث توزَّعَ على مائة وثمان صفحات، وضمَّ تسعةَ عناوين تطرَّق فيها الكاتب الى شخصيات صنعَ بعضَها اسطوريةً تمتلك من الرؤى والتصورات غير الواقعية ما يجعلها تسلك مسارَ الواقعية السحرية كما هي شخصية المتشرِّدة زامورا التي يقول عنها الناس أنَّ عمرَها مائتا سنة؛ وكما تقول هي عن نفسِها أنَّها شهدت خروج المحيطات من فمِ ضفدعٍ، وإنَّ هذا الضفدع حسبما تدَّعي وهبَها الحِكمة.
لا شكَّ أنها رواية مثيرة حين الترجمة؛ وشعوري انها ستكون اكثر اثارة عندما يطالعها القراء.. انها رواية البطل الفتي، المحمَّل بخيال تحقيق الرؤى المتوالدة في خياله الخصب.. رواية المغامرات المتوالية التي لا تنطفئ في ذهن البطل حتى وإن تعثرت أو فشلت.. إن الشعور بفشلها في اعماقه سرعان ما يتجاوزه بالشروع بمغامرة اخرى؛ وكل مبتغاه هو تدارك أمر اسرته الصغيرة.. وكل ما يفعله يستحيل حكاية.
الفصل الثالث
الحكايات
فتح " السماويُّ" كتابَ الأحلام
فاندلقت الحدائقُ على رموشهِ
طارت العصافيرُ من بين اسطر أصابعه
هتفت فتاةٌ كانت تُخبئ الفراتَ بين طيات جديلتها
وتنثرُ البساتينَ على فستانها القصير:
قفي ها هنا أيتُها الصفحات،
وتابعي انسكابَكِ يا أسطر.
فلي مع السماويّ حديثٌ لا تُدرِكهُ سوى الحدائق،
وأمهاتها المتنزهات.
زيد الشهيد
" أشجان الغرباء "
15
تولد الحكايات الغريبة حيث يصاحب الفقرُ الجهل؛ وحيث القراءة وقرينتها الكتابة يغيبان فلا ترى غير الخرافات كلاماً متداولاً، والخيال حين لا تملأه صور الكلمات تدخله الاوهام. تبني لها اعشاشاً؛ تبيض وتفرِّخ. تتناسلُ الاوهامُ، وتروح تصول وتجول حتى لتغدو مكوِّناً مهمّاً من كينونةِ اليومي المُعاش.
ولأنَّ شارعَ باتا كونٌ مُصغَّر أو بلدٌ يجمع اعضاءه أو مدينةٌ تحتفظ بهويتها فإنَّ لمكوناتِه تاريخاً ولزمنه فحوى حكايات. أُناسُه لهم صفةُ البشري المجبول على النوازع... جاءته الاديانُ لتجعل منه مُستقيماً، وظهرَ الحُكماء ليرشدوه على التقوى ليصنعوا منه صالحاً؛ ليحيّدوا مسارات شرٍّ ولدت مع دروب الخير في نفسه لتكون الحياةُ أقلَّ ضرراً إنْ لم تنتفِ منها الأضرارُ أبداً.. ولكَون شارع باتا كلَّ هذا ويزيد فقد اتَّخذ لنفسه طابعَ هويةٍ لا تحيد عنها شوارعُ مدن العالم.. فيه ما في الكينونات الاجتماعية الأرضية برمتها.. لذلك عندما تُعنِّف أحداً أو تلومه او حتى تعاتبه فانه يرد عليك: إنَّنا لسنا ملائكة أو انبياء معصومين. إننا بشرٌ نأتي لنحيا، نُصيبُ ونخطئ، ثم بعد ذلك نموت... مِن هذا الرَّد الذي بمثابة حكمة توالدت حكاياتٌ وعمّت افعال.
مثلية أوائل القرن الواحد والعشرين
الغاية تبرر الوسيلة؛ والوصول إلى الهدف يقتضي في كثير من الاحيان الحِبكةَ المُتقنة، تلك التي تجعل ذلك الهدف واقعَ حال وقد حققَّ المُراد.. فقد استنفذ طالبو اللجوء الانساني من العراقيين، خلال الاعوام القليلة الفائتة، الحيلَ المُقدَّمة إلى البلدان الاوربية المُشرعةِ الابواب. تستقبلُهم بعدَ مغامرات شبيهة بمغامراتِ السندباد جدِّهم ورحلاته، عابرين البحار ومجتازين الجزر ومتداخلين مع مختلف الاقوام.
البلدانُ الاوربيةُ تحترمُ الحرية الفردية وتسعى للحفاظ عليها وتكريسها عبر قوانين الأنسنة الموضوعة والعلمانية ودستورها اليومي المُطبَّق بصدقٍ وبلا خداع ومراءات.. البشرُ تحت رايتها متساوون بغضِّ النظر عن العرق والدين وتفاوت الجغرافية والتضاريس؛ لذا أجازت الكثير منها للمثليين الحرية والاعلان بلا خشية، ووصلت حدود تلك الحرية في بعضها الى الزواج المثلي وتسجيله في سجلات الدولة كحقٍّ فردي بينما في بلدان العرب والمسلمين المثليُّ منبوذٌ يُرمى بسُبَّة انتمائه لقوم لوط المثليين، اولئك الذين غضبَ عليهم ربُّهم، في تاريخِ العرب الغائرِ، فخسفَ بهم الارضَ ورماهم بحجارةٍ من سجّيل.
التعاطف مع ذوي الافكار السياسية وحاملي الآراء الفردية المُضطَهَدين من قبل حكوماتهم شرع يقل إلا بمستمسكات موثوقة؛ والكلام الشفاهي لم يعُد له التأثير المبني على حسن النيّة والتصديق. لذا لجأ الكثير من العراقيين بناءً على همسِ مواطنين لهم قدامى تجنسوا كأوربيين إلى اعلان انهم مثليون يعانون من اضطهاد حكومتهم. فكان هذا التبرير مَحط تعاطف أكبر من قبل الحكومات الاوربية، وما الاضطهاد الذي يعانونه هؤلاء إلا قتلاً للحرية الفردية. فكان قبول اللجوء يحدث سريعاً؛ وتوفَّر للمثليين أماكن سكن لائقة واعانات دورية ثابتة... ولكن هل يدوم ذلك ـوقد لفت انتباه السلطات تقدم مئات بل آلاف المثليين بدعوى انهم مضطهدون.. إزاء ذلك، ولأجل الإثبات عينياً فقد طُلب منهم ممارسة الجنس أمام لجنة الاختبار كوثيقةٍ تؤكد المصداقية؛ وهذا، حتماً، ما لا يفعله العراقي إلا مَن هو مثلي فعلاً.. وتلك نسبةٌ لا تُذكر. فالحضارة، بعد ثورة الاتصالات والتنامي الأنسني والتطور الفكري المعهود، ولَّدت علاقاتٍ عاطفيةً سويَّةً بين الذكور والاناث. صار الحبُّ علنياً، وصارت اللقاءات وإنْ تتمُّ خلسةً لكنها كثيرة لا يعيقها عائق، ولا يوقفها برزخ ما جعلَ المثلية حالة منفردة لا يُشار لها إلا بين آلاف الذكور.. على خلاف ما كان شائعاً في ستينات القرن الماضي وما قبله.
مثلية الستينات
في ستينات القرن الماضي وما قبله كانت المثلية بين الذكور ظاهرةً منتشرة مثل انتشار ظاهرةُ السحاق عند النساء... ففي أيَّةِ مدينةٍ من مدن العالم حين يتراجع فيها دورُ الأنثى ويكون المجتمعُ ذكورياً بامتياز تتوالد الظاهرتان وتنتعش، ويتفاقم وجودهما مع تفاقم حَجب وجه الانثى وارتداء الخمار وظهورها نخلة متفحّمة تسير في الطرقات والاسواق؛ فليس للفتاة الحقّ في التكلّم مع شاب ليس من عائلتها.. وحتى داخل البيت يقتضي الحال ارتداء العباءة أمام أبيها وأخوتها. ذلك أنَّ الشكَّ له ما يبرره؛ فالأعراف تُقر ما اجتمع رجل وامرأة إلا والشيطان ثالثهما حتى لو كان أباً أو أخاً. فالشيطانُ لا ضميرَ له ولا رادع. يتربَّص ليوقِع العبادَ في فخّ موبقات يعتاش عليها ويشرب كأسّ التشفّي منها دهاقاً.
المثلية في مجتمعنا هويةٌ تعلن ابجديتها بلا مواربة ولا حذر. فالذكورة طاغية والمثليّة شيءٌ يأتي كحاجة، والحاجةُ امُّ الاختراع.. لا احتجاج على ذلك، وليس ثمَّة رادعٌ. غناؤنا يحفل بإعلاء الذكورة ويهتف بالمثلية.. أليس الغناءُ هويةَ الشعوب؟!.. " يبن الحمولة عليَّ اشبدلك "؛ " كتله حبيبي آنه الك وانت لي.. كللي ابتعد ليشوفنا عاذلي "؛ " بوسة من وجنتك.. انت ومروتك "؛ " كولي يا حلو منين الله جابك "، " حميّد يا مصايب الله "، وغيرُها الكثير.
عقد الستينات والسابق له غوراً في التاريخ هي عقود الجدب العاطفي بامتياز. والسماوةُ مدينةٌ صغيرة: الحبُّ والعشقُ وحتى التحرّش فيها من عِداد ارتكاب الخطايا بينما الشباب يضج بالعنفوان.. التابوات كثيرة والعوائق الاجتماعية لا حدَّ لها.. وإذا كان الحبيب عاقّاً ولا جدوى من اللحاق به وإلواء عريكته، وإذا كانت العين بصيرة واليد قصيرة فهناك الحل السهل لمداراة خيبة الأمل؛ هناك " سينما الشعب "، والشاشة البيضاء: شاشة السحر واشباع الروح وتبديد نار العاطفة الجنونية.. هناك هند رستم تتلوى على " يا مَقبِّل يوم وليلة " يطوّح بها فريد الاطرش في فيلم " انت حبيبي " الذي عرض قبل ايام بجسد ممتلئ وخصر نحيف، مقلدةً حركات غنج اشتهرت بها الامريكية الساحرة مارلين مونرو في افلامها الاكثر فتنة واثارة، مُحققة من خلالها شهرةً طارت في فضاء الانوثة العالمي فتلقفتها مجلاتٌ واستقبلتها صحفٌ من أدنى البلدان الى اقصاها، خصوصاً تلك الايروتيكية التي تتوخّى تحقيقَ ربحٍ تجاري من خلال صورةٍ داعرةٍ ملونةٍ بدقَّةٍ وفنيةٍ عالية... وهناك نجوى فؤاد ورقصها الافعواني أمام حسن يوسف في فيلم قيل أنّه مُنِع لسنوات قبل اطلاق سراحه؛ فيلم عرضت السينما مقدَّمة له على انه فيلمُ الاسبوع القادم (الآن اشاهد مقطعاً منه تختزنه مكتبة اليوتيوب فأعجب واتساءل كم كان مخرج الفيلم وممثلوه آنذاك شجعاناً إذ تمَّ الاخراج والتمثيل بهكذا آيروتيكا مثيرة).. كانت نجوى فؤاد ساحرةَ برهوم العربنجي وسلمان السمّاك وشاكر المطيرجي وحسون الأحص وراهي الفارة بعدما انهزموا في معاركهم لنيلِ ودِّ ستّوري الاشقر، وسمير ابو عيون الخضر، وفوزي ابو شامة الحلوة... نجوى فؤاد التي سبق وشاهدوها في افلام " سر امرأة "، و"المشاغبون "، و" صراع المحترفين " فالتصق خصرُها وهو يتلوى في ذاكرتهم، ولاحقهم فخذاها وهي ترفل على خميلة خيالهم الجنوني بينما نهداها يترجرجان على ايقاع حوار الطبلة مع الدف فتقذفهم في بحيرةِ الهَوَس والخَبَل. ينهضون حالما تنتهي رقصتها فيجرون في العتمة مسرعين الخطى وصولا الى المراحيض. هناك يؤدّون رهزاتهم ويعودون لمتابعة الفيلم بلا رغبة ولا اشتياق؛ وقد ينكز احدهم الآخر فيتركون الفيلم مستمراً ويخرجون مولّينَ صوب بيوتهم غير مهتمين بما يحدث للبطل ولا يعيرون بالاً للذي سيجري لنجوى.
ولقد كانت صيدلية الرازي في شارع باتا المنقذ الوحيد الآمن من تشويه السمعة للكثير مِمَّن يعشق جسدَ المرأة، إذ يلجأ اليها المصابون بالسيلان والزهري جراء الجماع مع عاهرات مصابات بتلك الأمراض المهبلية سواء هنا في المدينة او عندما يذهب احدهم الى العاصمة ممَّن يخشى العار ويتحاشى ذكرَ اسمِه بالسوء حيث لا أحد يراه هناك.
ومع أنَّ المثليّين أناس لا يبدر منهم أذىً ولا هم يتجنّون على الآخرين بل على انفسهم فقط فإن شارع باتا كان يحفل بنماذجَ لا يمكن للذاكرة الجمعية إلا أنْ تحتفظ بهم: صوراً ـ وأسماءَ، تواريخَ واحداثاً.. دخلوا الذاكرة واستقرّوا مُصنَّفين لا يمكن لغبارِ الايامِ أنْ يتراكم فوقهم ليمارس فعل المحو ويتقن الزوال.
ذيابة وواويّة
(1)
كانت ساعةُ غروبٍ خَضِلة والشمسُ انسحبت تاركةً نسمات باردة تهجم على الوجوه. انسحبت جارَّة معها اشعاعَها الساخن ومرجلَها المتفاقم الأوار في صيفٍ لاهب. صيفٌ كانت فيه الصدور تتأفف والعيونُ تتضرَّع مرفوعةً الى السماء كأنّها تتساءل متى تنتهي ثورةُ الجحيم.. ناصر شرشاب الطويل المربوع القامة الخارج من مدرسة عكد السبوسة الاجتماعية والمُعتَد بنفسه على أنّه ادنى درجة في فقر العكد واعلى مباهاة بين اقرانه بأنه مرغوب في الصداقة ومحبوب لدى الاقران من شباب الازقة الاخرى يقف عند جرف الفرات بعدما ترك وراءه سلّم المرمر الهابط الى الماء. يخلع عرقجينه من رأسه ويحك فروةَ شعره على قلته بأظافر خشنة؛ ينزع عنه دشاشة بيضاء بعدما فكَّ الحزام الجلدي العريض المطوِّق لخصره فيظهر بالفانيلة والسروال الابيضين. بشرته بيضاء مشوبة باحمرار تظهره كأنَّه آتٍ من سلالات العثمانيين الأرمن او الشركس المماليك وليس من أسلاف العرب القادمين من الجزيرة العربية، المعروفين ببشرتهم السمراء المشوبة بصفرة شاحبة تؤكد فعلَ الشمس في شوائِهم ولا من المعدان ذوي البشرة السمراء المغموسة بحمرةٍ دمويةٍ مليحةٍ؛ اولئك المنغرسون في طينِ الارض المحصورة ما بين دجلة والفرات التي سمّاها الرحالة الجوّابون في العصور الاولى " المسيبيتيميا ".. على ساعديه يظهر وشمٌ بقلبٍ يخترقه سهمٌ، وعيٌن تقطر دمعاً.. وإذ يخلع الفانيلة يكشف صدره عن كتابات ورسوم؛ نقاط ونقوش (آه، ما اطلعَك من قلبي)، و(ليش الغدر.. ليش)؛ نقشٌ لثلاث نجمات: كبيرةٌ فصغيرةٌ فأصغر اتَّخذت هيئةَ قوس ينتهي اسفله ببيت دارمي تحت حلمةِ جهة الصدر اليسرى (نجمة صبح يهواي، واسقط على غطاك.. وبحجة البردان، اتلفف وياك).. يخلع السروال الطويل ليبقى باللباس الداخلي.
الماءُ ينده به؛ النهرُ يستقبله. يشرعُ بالنزول.. تضربه قشعريرةٌ فيعاندها بالغطس حتى يمس سطحُ الماءِ هامتَه.. يقضى وقتاً قبل أنْ ينط برأسه فتظهر عيناه الدائريتان محمرتين مُخلفاً اصواتاً تخيلها حوارات تجري بين مخلوقات النهر التائهة في عالم مائي مُبهم.
يعومُ لمسافةٍ؛ يشقُّ الماءَ بذراعيه الطويلين؛ يرفسُ السطحَ المترجرج بقدمه اليمنى بينما اليسرى تتولّى رفس الاعماق كي يبقى الجسدُ في حالةِ اندفاعٍ وعوم.
يتمنّى نجمة. يتمنى لو يشاهدها الآن تتخايل امامه على رمال الشط تماماً، كما شاهد يوم أمس هند رستم مع عمر الشريف في فيلم " صراع في النيل" وهي تتلوى على سطح الزورق بجسدها الذي كالحورية والنيل يشهد بحبٍّ فيه من التضحية ما يصل حدّ التخلي عن البهرجة لصالح عيشٍ بسيط يكون فيه العشقُ الجارفُ هويةً للوفاء.
يتوسَّل ذاكرته في رسم نجمة بملامحها الحقيقية او القريبة لكنه يعجز؛ فهو لم يشاهدها غير مرتين: الأولى عندما كانت تنتقي بطاطا من بائع الخضروات تسوح بنظراتها على التفاح والبرتقال المعروض في صناديق كارتونية وتسأله عن اسعارها فتحسست من يقف جوارها فأدارت نظرها والتقت عيونهما للحظة وامضة كأنها وميض فلاش كاميرا. ما كان سهلاً تجاوز النظرة، ولا يسيراً غض النظر عن بهتِها والتوقّف للحظةٍ تطالعه كأنها تعرفه مسبقاً معرفة مَن تحادثت معه مراراً وغاب عن ذاكرتها لزمن طويل وها هي تفاجأ بشخصه؛ أو انّه بهتُ تساؤل اين شاهدت مثل هكذا اطلالة سواء من المعارف البعيدين أو صورة سمعت قريناتها يتحدثن عن فرسان احلامهن.. والثانية يوم شاهدها تخرج هي وأختها الكبرى المتزوجة ذات الاربعة اولاد من مغازة حسن ايدام وقد خمَّن انها اشترت سوتيان أو أتك أو سراويل داخلية وخيِّل له انها طلبت من اختها مرافقتها لأنها تشعر بخجل الطلب بنفسها فتترك للأخت التحادث مع البائع عن المعروض والسعر. رآها تلك المرة بوجهٍ ابيض طحيني تشوبه حمرةٌ خمَّنها مِسحة الخجل لنوع البضاعة التي جاءت من أجل شرائها. نَظَرته بعينيها السوداوين المحروسين برموشٍ سودٍ فاحمة، وأطالت النظر به؛ وهذا ما جعله يشعر بلا حيادية نظرتِها، بل القصد وارسال رسالة فيها من اسطر الاعجاب ما جعلها بعد عدّة امتارٍ تلتفت لتتأكَّد إنْ كان يتابعهما أم لا.. تلك الالتفاتة التي جعلته يتوجّه للجلوس في مقهى جبار سمير كي يدخل في حوار مع الذات وتحليل شريط الفيلم على قصره، ابتداءً من لحظة خروجهما من المغازة إلى انعطافهما في سوق الصفارين، ومن ثم دخولهما في الزقاق المغلق حيث بيتها.
إنه اليوم يسعى للتطهر من رجس مشاهدة نجوى فؤاد وهند رستم ونعيمة عاكف وتحيا كاريوكاً؛ لا يريد اطالة النظر الى افخاذهن واردافهن وصدورهن، فقد ملَّ التخيل ويريد للواقع ان يتمثل امامه بنجمة بديلة لكل هاته الداعرات. لهذا صمم أنه حالما يصل البيت سيكلم أمّه العمياء لتطلب يد نجمة من اهلها؛ وانه سيقف اعتباراً من الغد عند فم الزقاق ينتظر خروج خاطفة القلب وساكنة الروح.
(2)
يحاول بائعو الحشيشة والمتعاملون بها اتِّباع وسائلَ تُبعدُهم عن تصورات الشرطة المتخصصة بمتابعتهم والقبض عليهم... تنجح الوسيلةُ ويتكرر النجاحُ؛ لكنَّ حبلَ الخديعةِ قصيرٌ، والمتحايل لابد سيقع في قبضةِ القانون بفضلِ وشايةٍ أو جرّاء تمادٍ أو بحصول هفوةٍ غير مقصودة على أقل تقدير. أذكر تلك الحادثة المُضحكة التي جرت منتصف ستينات القرن الماضي وأدَّت ببرهوم صاحب المقهى المجاور لمركز شرطة الخناق، والذي كسب رضا ضباط المركز وآمره فسُمح له ببيع السندويشات والحلوى للسجناء؛ وفي الصيف ينقل لهم قالبَ ثلجٍ طويل يُضئِّل من حماوةِ الردهة الضيقة يأتي بها من ثلاجة الاماميين في الصوب الكبير، فالسجناء في عطشٍ دائم، وشمسُ تموز لاهبة، وبرهوم ينقل الثلج يومياً بحيويةٍ ونشاطٍ وسط امتنان السجناء وارتياحِهم لحضوره.
وفي يومٍ تناهى لمسمعِ آمرِ المركز تسللَ الحشيشة إلى السجناء، وأنَّهم يتعاطونها كما يتعاطون السجائر.. ذلك جعله يَذهَل وينفعل فيُصدر أمراً حازماً بمراقبة كلِّ مَن له تماسٌّ مع السجناء مثلما أمر بتفتيش ذوي السجناء تفتيشاً دقيقاً يوم الزيارة المعتادة. والتفتيش شملَ حتى برهوم وما يُدخِل يومياً من طعام ما أشعر الضابط بعد ايام بأنَّ خبر التعاطي لا اساس له، مُعتبِراً الامرَ من باب تشويهِ سمعتِه وحسدِ إدارتِه الناجحة لولا تلك الظهيرة الراكدة ساعةَ كان ينتصب عند نافذةِ غرفته يمتص نَفَساً من سيجارة الكَنت الخفيفة الدخان التي يلقمُها شفتيه بخمولٍ وضجرٍ عندما مرَّ برهوم حاملاً قالب الثلج الطويل والثقيل على كتفه وهو يسرع لإيصاله الى ردهة السجناء منتظري ما يبرّد القلوب ويقتل الظمأ بلهفة. تلك اللحظة المغموسة بخداعِ الشيطان جعلت برهوم يتعثر فينزلق القالب من كتفه ويهوى إلى الارض فيتفتَّتَ، وبتفتَّته تفكَّكت شيفرة اللغز الذي كشف عن كيس ابيض بين كتل الثلج.. انكشاف الكيس أربكَ برهوم وفتح عيني الضابط ذهولاً وحيرةً ودهشة.. لقد كانت الحشيشة تصل السجناء بصورة يومية ومنتظمة بطريقة لن يكشفها ادهى الدهاة لولا أنَّ حبلَ الخديعةِ قصير وحكمة أن الحظ قد يقف معك لمرة ومرتين ومائة مرة، لكنه في المرة المائة وواحد يدير وجهه عنك ويتركك لقبضة القدر تطيح بهيبتك وتعرّيك إلا مِن حكمِه القاسي وضرورة عدم ظنّ الانسان أنَّ التمادي مسارٌ لا انتهاء له، وأنَّ الحيلةَ حبلٌ لا ينقطع أبداً.
بزازين وعتاوي
(1)
اعتاد برهوم جبارة البدينُ حدّ الافراط مشاهدة نشميّة التي تقاربه العمر. لكنَّ الفرقَ انه اعزبُ وهي متزوجة يجمعهما عكد العرايا المَحسوب على شارع باتا. اعوامُه الثلاثين الذي انصرفت حرمَتهُ من امرأةٍ يتمتع باللعب مع اعضائها. افقدته رغبةَ اعلان رأيه لأمّه في الزواج، لكن كيف يتزوج والناس ينظرون له على انه مخلوق مُهمَّش خُلق للعمل حيث يصرف ساعات النهار من اول بزوغه حتى انسحاب الشمس واعلانها خيبته في انقضاء يوم من عمره. ولولا عرَق " ابو مازن " المسيَّح والمزَّة التي يأتي بها عامل البار طوبيّة وصرف ساعتين أو اكثر من معاقرةِ الخمرة لكانَ حِماراً في عربة تنقل الحمولات طوال النهار وتفرغها، في حياة بلا جدوى.
برهوم هذا يأتي في منتصف الليالي الصيفية حيث الناس نيامٌ فوق السطوح يتنفسون هواء الله تخلصاً من وخمة البيوت التي كأقنان الدجاج... يقف وسط العتمة؛ يصله شخير أمّهِ يصدر من صدرٍ عاقرَ سيجارة المزبّن طيلة خمسين عاماً. يطالع ما حوله فيشاهد الناموسيات البيض تتوهَّج بفعلِ انسفاح وهجِ النجوم المزروعة في كبد السماء تتوزع على السطوح، وفي داخلها ينام الأزواج المتعبون من عملِ النهارات المُرهِقة وقد تحصنوا بالناموسيّات من جيوشِ البق والبرغش المُهوُّم الباحث عن الأجساد اللدنة ليدخل وليمةَ امتصاص الدم اللذيذ.
ما الذي يتحرك هناك؛ في ناموسيةِ نشمية.. لا اسيجة تفصلُ اغلبَ البيوتِ فالسطوحُ عراءٌ، والناسُ تعيشُ كعائلةٍ واحدة.. العُرى والاواصرُ متينة، وأذن برهوم تُرهِف السمع لما يجري داخل ناموسية نشمية وزوجها بائع الفحم.. هناكَ همسٌ ! هناك حركةٌ ! هناك اهتزازُ السرير المعمول من عيدان سعف النخيل.. خطا برهوم على لوامس الحذر والتقرّب. خطا ليكون عند أدنى نقطةٍ يستطيع فيها سماع ما يجري.. كان اللهاثُ على أشدّه، واهتزاز السرير يفضح فعلَ حركةٍ رسمت بائع الفحم يعتلي صهوة مهرته بينما المُهرة تلهث وتئن... عادت مُخيلةُ برهوم الى التأجج وارتفع مقياسُ العرق المسيَّح الى الذروة فاندلقَ شريطُ مشاهداتِه لنشمية وهي تدخل البيت تستعير من أمّه رأسَ بصل او حبّات هيل أو نومي بصرة فيطأطئ رأسَه احتراماً للجيرة، تلقي هي عليه سلامَ الاخوّة بينما عينه الداخلية تلتقط سيقانها البيضاوين يظهرهما انفراج العباءة وقدميها العاجيين المنتعلين خفّاً اسفنجياً يدوس على قلبِه فيعتصره فتنمُّ عنه صرخةٌ دفينة:آآآآآه، نشمية. كم وددت لو لم تكوني متزوجة لركعت أُقبِّل قدمي أمي كي تخطبك لي فتكوني زوجةً؛ أطيعُك كخادمٍ واخدمُكِ كملِكة!!
في الليلة التالية عاد برهوم مبكراً وقد ازاد على نصفِ البُطل ربعاَ آخر من العرق فازداد بدانةً وتبعثرت اعضاؤه. وكان كلُّ مَن على السطوح المتجاورة رقوداً؛ ولم يكن هناك زوج نشمية، لقد سافر صباحاً الى بلدة القاسم ليشتري فحماً سمع انه بسعر زهيد مقارنة بما يبتاعه من ريف المحمودية... كانت نشمية وحدها تغطُّ في نومٍ عميقٍ بعد نهارٍ من الشقاءِ والاعمالِ المنزليةِ الثقيلة. سحبت شهيقاً عميقاً وزفرته، لكنَّ الزفير ارتدَّ حارقاً؛ اعقبه لهاث وحمحمة. فانتفضت صارخة ظنّته كابوساً يجثم على صدرِها؛ ومع انتفاضتِها قفزَ الجيران من اسرَّتِهم أو أفرشتِهم المُمدَّدة على السطح فهرعوا يحملونَ العصيَّ والخناجرَ على لصٍّ ظنّوه جاء ليسرق بيتَ الفحَّام؛ لكنهم شاهدوا برهوم شاخصاً بقامتِه لا يلوي على شيءٍ بينما المنتفضون يبحلقون فيه مغمورينَ بالبهتِ ومُكتسَحين بالاستفهامات المعجونة بالحيرة عمّا جعلَهُ يجتاز سطحَ بيته ويقتحم سطحَ جيرانه وقد ظنّوه حرامي استغلَ بصلافةٍ غيابَ ربِّ البيت فتسلَّلَ بغيةَ السرقة.
لا يدري برهوم كيف أنَّ الحظَّ وقف الى جانبه فجعل أحدَّ الجيران ينبري بالقول: " لا.. لا.. هذا مو حرامي.. هذا المسكين برهوم اشتبه بفراشِه وراحَ ينام بفراشِ جيرانه".
(2)
في النزِل الكامن في عكدِ السّادة المفضي الى شارع باتا كان ساجد يُطعم الدجاج، وكريم يهيئ العربة، ومجيد يُكمل تزرير بنطلونه بعدما قضى حاجته في المرحاض وليلى تكتب رسالة سريعة ستدفع بها من تحت باب بيت صديقتها إن وجدَت أنَّ الوداع سيستغرق وقتاً، وفاطمة أكملت حزمَ العفش وانتصبت واقفةً تنتظر إيعاز التحرّك. وديكُ الجيران يُطلق صياحه، وفاختة يأتي نواحُها من شجرةِ سدر بيت الشيخ ملّوكي، وأطفال يتصايحون في غمرةِ لعبِهم في الزقاق، والعربنجي الذي استأجروه ينتظر في الخارج، وشاكر من غرفته ينادي على أمِّه يسألُها عن الفردة الثانية من جوربيه فقد لبسَ تَك وافتقد التّك الثاني (يشهد النزل اليوم انتقالات وتغيير أماكن). وفي الغرفة الطرفانية كان شلتاغ يفرد فخذي زوجته رتيبة المكتنزين باللحم والشحم ويُجبِرُها على تقبّل ايلاج عضوه في فرجِها وهي في نفًسٍ متقطِّع تتضرَّع، وقلبٍ يخفقُ بجنون. تُشرع يديها ترجوه تأجيل فوران شهوته لوقت آخر.:" لا اقدر، يا رجل.. صداع يفجِّر رأسي، وصدري يضيق. انتَ تعرف عاقبةَ الضغط على جسمينا. اعقل، يا رجل ! ارجوك ".. أنّى يأتي العقل لشلتاغ رغم تحذير الطبيب له من ضغط سيوقعه جثةً هامدة إنْ بقيَ أسير الشهوة الحيوانية وهو على أعتاب الستين.. جثمَ عليها بثقلِ وزنه الزائد عن التسعين كيلوغرام، وعضوه الذي لا يتعدى الخمس سنتيمات.. جثم عليها كصخرةٍ تترجرج.. " الضغطُ سيقتلُني ويقتلكَ " تترجّاه أنْ يعقل؛ لكنَّ الصخرةَ لا تأبه.. تُعيد رجاءَها بأنفاسٍ ذاوية: " يا رجل، مو حذَّرك الطبيب.. مو قالك راح ضغط الدم يقتلك إذا اجهدت قلبك؟! ".. وكان لا يأبه. يهزُّ جسمَه الثقيل فوق صدرها الذي يعلوا ويهبط، وقصبتها التي تشهق طلباً للهواء، وساقيها اللذين يرفسان الهواء نجدةً.. كان يجهد في ايلاج عضوه الصغير الذي راح ينكمش؛ وهو في عِناد مع نفسه وزوجته لإثبات رجولته.. راح صدره يعلو ويهبط فوقها، وراحت قصبته تشهق وفمُه يمتلئ بزبدٍ ابيض. وبوقتٍ خاطفٍ انتبهت فزِعةً الى حركتِه وهي تَقل، ووزنِه وهو يزداد، وانفاسِه تتراجع. ثم بلحظةٍ استحال حجراً يجمع في كتلته ثقلَ الارضِ برمَّتها... ارادت ان تصرخ فأجفلها عُريه. ازاحته شيئاً فشيئاً ودفعته سعياً لالتقاطِ انفاسِها الهاربة. ارتطمَ الجسدُ بالأرضِ وتبعثرت الاعضاء. راسُه مائلٌ على ذراعه اليمنى وذراعهُ اليسرى مرميةً بعيداً. ساقاه منفرجان وعضوُه قطعةُ لحمٍ ذاوية. فقط بطنُه كانت مرتفعةً مثلَ تلٍّ وثدياه ممتلئان شحماً كثديي امرأة. هبَّت عاريةً الى النافذة. ازاحت قليلاً من الستارة فشاهدت ساجد ينتهي من اطعام الدجاج، وكريم ينتظر في العربة، ومجيد يغلق باب المرحاض، وليلى تدفع برسالة من تحت باب صديقتها فاطمة، وفاطمة بعد لحظات تخرج وتتَّجه الى العربة بينما يُطلق ديك الجيران صياحَه تشاركه فاختة تقف على غصنِ شجرةِ بيتِ الشيخ ملّوكي وتطلق هديلاً بنغمةِ نواح أو ترنيمةَ فراقٍ سيهزُّ كيانَ النزل.
شلايتية وشواذي
(1)
في سبعينات القرن الماضي أتت الحكومة بشركة رومانية لتمد أنابيب ماء من حي الصيّاغ إلى بيوت السكك وهي مسافة طويلة يتوزع على امتدادها العمال. كان إلى جانب عمال وفنيي الشركة الأجانب عمال عراقيون (حبّاوي مَنشد هو مَن حكى هذه النادرة قبل تقاعده من سلك الشرطة المحلية وهو يجلس إلى جانبي على تخت من تخوت مقهى جبار سمير المقابل محل باتا) اغلبهم ريفيون؛ جزء من سلوكهم خلق شتى الحيل للتهرب من العمل كون الحفر في الأرض وبالأخص السبِخة منها أو الحجرية يتطلَّب جهداً، لذا تراهم يدخِّنون بطريقةِ اللف لا شراء علب السجائر الجاهزة، كذلك يتكرر ذهابُهم إلى التبول أو التغوط مرات عدّة طيلة فترة العمل. وكثيراً ما يلوذون بظلِّ شجرةٍ أو جدارٍ طيني لبستان أو سورٍ معمول من سعف النخيل.. انتبه العمال الرومانيون إلى أنَّ بعضَ العمال العراقيين يُقسِّمون وقتَ العمل فيعملُ بعضٌ منهم فيما البعضُ الآخر يلوذون بسترٍ يبعدهم عن الشمس؛ وحين يلوح من بعيد الفورمن الروماني المراقب يصيح هؤلاء العمال احدهم للآخر البعيد (قارص... قارص... قارررررص) فينهض المتلكئون ويتظاهرون بانهماكهم في الحفر.
لاحظ العمال الرومانيون إنَّ رفقاءهم العراقيين يمارسون هذه العادة يومياً وانتبهوا إلى أنَّ كلمة قارص هي شفرة تنبيه تشير لِمن سيقرصهم كالعقرب فيؤذيهم بالطرد او قطع جزء من الأجر. ولأنَّ العمل في الأنظمة الاشتراكية مبني على الراتب الشهري وفيه هامشٌ للتحايل والمحاباة واستلام الأجر في كلِّ الاحوال سواء عمل بجد أو تلكأ فقد وجد العمالُ الرومانيون فرصةً متاحةً للتلكؤ أيضاً. لقد سرى الى نفوسِهم دهاءُ العامل العراقي وحيلته. فصاروا يوزِّعون العملَ في ما بينهم فيجلسُ البعضُ مسترخين يتلذَّذون ببطالةٍ مريحةٍ يدخنون بانتشاء ويستدعون الذكريات الجميلة مع اهلهم واصدقائهم هناك في ضواحي بوخارست أو على السهوب الخضراء والجبال التي تغدق عليهم صيفاً جميلاً فتدعوهم لاغتراف عسلِ الرفقةِ مع الطبيعة؛ حتى إذا شاهد احدُهم قدومَ المراقب الفورمن من بعيد صاحَ القريبُ بنبرةٍ رومانية تبعث على الضحك (قارص... قارص) مُعلِماً المنزوين كي ينهضوا لممارسة العمل وسطَ ضحكِ العمّال العراقيين الذين شعروا بسريان عدوى التحايل الى رفقائهم في العمل.
(2)
في ظل الحصار البغيض، الذي ابتدأ مع دخول صدام بجيوشه الجرارة دولة الكويت غازياً في الثاني من آب 1991 واحتلاله وجعلها المحافظة التاسعة عشرة، عانى العراقيون بشرائحهم الاجتماعية عامّة أقسى المعاناة جوعاً ومرضاً واستلاب حريات وتدمير تطلعات. طال هذا الأمرُ الجيشَ الذي كان يتمتَّع قبل احتلاله للكويت بالكرامة والكبرياء فغدا الجندي يعاني الفاقة ويمر بأسوأ حالاته المعنوية والمادية. حتى غدا العراقيون يشاهدون الجندي ببدلته الكاكية يستجدي في المقاهي وعلى الطرقات. وحدا بالكثير منهم الى اتباع شتى الحيل من أجل تواصل وجودِهم في المعسكرات خشيةً من عقوباتٍ قاسية يتلقّونها من أمرائهم الذين يخشون بدورهم رؤساءهم في الوحدات العسكرية العليا وهياكل وزارة الدفاع.. وكان الاستاذ جابر محمود المُدَرِّس الذي بات راتبُه واقرانُه يعادل ثمنَ شراء طبقة بيض بثلاثين بيضة خلال الحصار وكونه شخصاً نزيهاً لم يمدَّ يدَه ليرتشي من طلبةٍ اغلبهم ينتمون لعائلات يسحقها الحصار فقد اقترح عليه صديقٌ يعمل في القطاع الخاص استئجار وادارة فندق يستطيع من خلال ما يدر عليه تمشية الحال وتجاوز الحصار.
ولقد وجد أنَّ فندق السلام في شارع باتا معروضاً للإيجار وبمبلغ استطاع الاستاذ جابر من استئجاره بمبلغ يدفعه شهرياً للمالك بعدما باعَ بعضاً من حلي زوجته وفاءً للعقد المبرم بينهماً.
ولأنَّ الحصارَ بغيضٌ وتنقل الناس من مدينة لأخرى بات شيئاً صعباً وعسيراً يتطلَّب المالَ؛ والمالُ شحيح لذلك كان رواد الفندق لا يتعدون عدد اصابع اليد الواحدة في اليوم. وفي ايام عدّة لم يدخل الفندق نزيلٌ واحد. وكان الاستاذ جابر يُمنّي النفس بالقادم من الأيام؛ يدعمه، في ذلك، الصديق صاحب اقتراح الاستئجار.
تلك الليلة كانت ليلةَ سعدٍ عندما دخل الفندق ثلاثة جنود شباب يافعين لكنهم متعبون جراء سفر طويل ابتدأوه من كركوك مروراً ببغداد ووجهتهم البصرة القادمة، كما صرحوا. دفعوا اجرة تلك الليلة وطلبوا من الاستاذ جابر ان يوقظهم فجراً لأنَّ عليهم السفر مبكّرين كي يصلوا مقصدهم في الوقتِ المحدَّد.
في الساعة الرابعة والنصف صباحاً وحيث العُتمة لما تزل تخيِّم في الفضاء وفي الافق يزحف الفجرُ استيقظ الاستاذ جابر على رنين الساعة التي حدَّد توقيتها كي ينهض ويوقظ نزلاءه الذين كانوا كما بدوا له مساكين.
غسل وجهه بصابون الوجبة الخالي من العطر وطالعه في المرآة فاكتشف صفرة تسبب بها سهر الليالي منذ أنْ ادار الفندق وفكَّر بتحسين العيش وتجاوز ضغط الحصار الذي تسبَّب بضآلة قيمة الراتب الشهري.
نهض النزلاء الثلاثة على نداء الاستاذ جابر بعدما شكروه على حسن صنيعه والتزامه معهم بإيقاظهم في الوقت المحدد.
نزل احد النزلاء الثلاثة قبلهم وخرج من الفندق شاكراً ومودعاً فيما هبط بعد دقائق النزيلان وخرجا مودعين بما ودَّعه النزيل الاول.
هزَّ الاستاذ جابر رأسه ألماً لما يعانيه الناس في زمن الحصار وقسوة القدر وحال الجنود المساكين. تأسى على واقع حال لا يجد له منتهىً قريب.
بعد ساعةٍ توجّهَ عامل الفندق لتنظيف الغرف وترتيب الافرشة فذهل لما رأى. هرع الى الاستاذ جابر يعلمه بعدم وجود بطانيات أسرّة الغرفة التي شغلها الجنود الثلاثة، ما أدخله بحيرةٍ وشك.
حلَّلَ الامرَ واعادَ شريط الذاكرة من لحظةِ دخولهم الى الفندق وخروجِهم منه فارتسمت حِبكةَ احتيالِ ثلاثة دفعوا ثمن ربع سعر البطانيات المفقودة.. تلك الحِبكة تجلّت بخروج الشخص الأول الى الشارع، ومن الغرفة التي شُغِلَت رمى النزيلان الآخران البطانيات الى صاحبهما المنتظر في الخارج.
(3)
من لا يعرف مَن يكون سبتي فرهود الساكن مع جدَّته، المبتلاة بألمِ المفاصل والعجز عن الحركة وراء بيت الشيخ حميد، لا يعرف طبيعةَ المجتمع المكوِّن لشارع باتا. فالجدّة بحاجةٍ لخدمةٍ يومية وسبتي تطوّع شرطياً فصار على مقربةٍ منها.. ولأنَّ الواجب يقتضي الغيابَ عنها ليلتين او اكثر كان على سبتي التسلل وايكاله لغيره.. ذلك اغضبَ الضبّاط فكانوا يعاقبونه بقطعِ الراتب أو السجن ليوم او يومين.
لكلِّ مخلوقٍ موهبةٌ من الله؛ وسبتي يمتلك موهبةَ الحيلةِ والدهاء وسرعة البديهة.. حضر قبل ثلاثة ايام مدير شرطة لواء الديوانية في مهمّة ادارية للاطلاع على مجريات وواجبات شرطة السماوة؛ كون السماوة قضاءً تابعاً للواء الديوانية.
كانت زيارات مدير الشرطة تتكرر للقضاء.. ومن اجل الضبط والمركزية كان حازماً ومتشدداً. يُعاقِب هذا ويُعنِّف ذاك، لذا هابه الضباط اكثرَ من منتسبي السلك جميعاً.. لاحظ سبتي كل هذا في يوم واجبه بباب مركز شرطة الخناق فأدى تحية " السلام خذ " عند قدومِ المدير ومن معه من ضباطِ مراكزِ المدينة فأثنى على سبتي برفع كفّه جواباً على سلاح السيمنوف المنتصب بالحربة الطويلة اللميعة امام وجهه.. وسمع سبتي مدير الشرطة يتكلَّم فدخلت نبرات صوته الى قرار اذنه، خصوصاً ومدير الشرطة توقَّف بباب المركز لدقائق يتحدَّث والجميع ينصتون.
بعد ثلاثة ايام غضب ضابط المركز على سبتي لتركِه الواجب والذهاب للنوم في بيته فعاقبَه بالسجنِ ليومين. لم يطُق سبتي البقاء في نظارة السجن فاستطاع بطريقةٍ اعطاء علبة سجائر جمهوري لزميله الشرطي الذي يؤدّي واجبَ حراسةِ النضارة السماح له بالخروج إلى عفشه والعودة بما لا يزيد عن خمس دقائق.
بتلك الدقائق توجّه سبتي إلى دكّان كاتب العرائض جوار مركز الشرطة. ومن هناك رفع سماعة الهاتف واتصل ببدالة المركز كان النائب عريف سلمان يتولّى الرد:
" ألو تفضلوا.".. دوى صوت النائب عريف في اذنه.
" انت منو؟ "
" انت منو؟.. شنو تسألني؟".. جاء صوت النائب عريف حاداً.
" انت مُعاقَب ثلاثة ايام قطع راتب.. اوصلني بالملازم عبد الوهاب.. قل له عميد فاهم مدير شرطة اللواء."
" عفواً سيدي.. سامحني سيدي.".. راح النائب عريف يتوسَّل ويتضرَّع ولا يسمع غير انفاس مدير الشرطة متخيلها كزئير الأسد.
وسمع سبتي النائبَ العريف مُرتعشاً يخبر الملازم عبد الوهاب بطلب مدير شرطة اللواء.
" اهلا وسهلا سيدي."
" ملازم عبد الوهاب، شلون الأمور؟"
سَعُد الملازم لمجيء اسمِه على لسانِ مدير الشرطة، فأجابَ بحماس:
" عال العال سيدي.. بفضلِكم كل شي تمام."
" شنو قضية سبتي؟ "
جال رأس الملازم سريعاً يبحث عن هكذا اسم فتذكَّر انه يسجن الشرطي سبتي، وسبتي الآن في النضّارة.
" نعم سيدي.. ما التزم بالواجب وعاقبته بالسجن."
" لا.. لا.. هذا عنده امه مريضة.. وانا دائم القلق عليها."
" شنو تؤمر سيدي؟ "
" طلعه من السجن وساعده بإجازة يومين أو ثلاثة."
" أمرك سيدي."
أغلق سبتي سماعة الهاتف وخطا مسرعاً.. اجتاز بابَ المركز وتوجَّه الى حارس النضارة يشكره ثم دخل ليقفَ وراء القضبان.
بعد دقائق ارتفع صوتُ العريف رمضان من أمام غرفة الملازم عبد الوهاب يطلب من حارس النضارة اخراج سبتي لأنَّ الملازم يطلبه.
تظاهر الملازم بالانشغال ببريد يتراكم امامه؛ قليلاً ورفع عينيه يطالع سبتي باهتمام وابتسامة يريدها عربون تصالح:
- شتعرف عن العميد فاهم عبد الله؟
- تقصد مدير شرطة اللواء سيدي؟.. هو من اخوالنا الخزرج.. ابن اخت جدتي.
وثق الملازم بالكلام؛ فالعميد فاهم خزرجي وإن لم يكن يجاهر بلقبه.
- اخرج لقلم المركز واطلب من العريف جبّار مسح عقوبتك؛ وروح لأهلك ثلاثة ايام اجازة لمساعدة والدتك.
أدَّى سبتي التحية، وخرجَ شاكراً الرب على موهبةٍ لا تتوفر للكثيرين.
الفصل الرابع
صدى الرحيل، وضجر الشاعر
أ ُريدُ أن أضمَّ إلى صدري أيَّ شيءٍ بعيد
زهرةً بريةً
أو حذاءً موحلاً بحجم النسر
أُريدُ أن آكلَ وأشربَ وأموت
وأنام في لحظةٍ واحدة
إنني مُسرعٌ مُسرع
كغيمةٍ أُصيبت بالجرب
كموجةٍ وحيدةٍ مُطاردة في البحر.
محمد الماغوط
16
في خريف العام 1966، وكعاصفةٍ هادرةٍ شاع خبر عودة جميل علي من روسيا.
ماجَ الخبر في الرؤوس ولم يبقَ حيُّ من المدينة إلا وسمع. جاء الخبرُ ليتماهى مع عذوبةِ انسامِ الهواء اغلب ساعاتِ النهار والليل بعد صيفٍ لاهبٍ ومجنونٍ كان الناسُ فيه يحلَمون بشتاء اوربي يأتي لهم بالثلوجِ كي يهرب اللفح.. لم يكن لوقعِ هذا الخبر من هولٍ لو كانت العودةُ تخص جميل لوحده، انَّما لمَن جاءَ معه.. قيلَ أنَّ سيارة أجرة قدِمت من بغداد تحمله ومعه امرأة وصبيّان عمراهما بين العاشرة والثانية عشر؛ وقفت عند فم الزقاق المنفتح من شارع باتا.
الجارة أم نسرين قالت أنها زوجته، ومعهما ولداهما كما اسرَّت لها أمُّ جميل همساً عندما طرقت هذه الجارة الباب لاستدانة حفنةِ عدسٍ لعملِ شَوربة لأبي نسرين كفاتحة لفطور صيامه منذ ثلاثة ايام... زوجة روسية قادمة من مدينة ستالينغراد الخرافية بسحر ابنيتها وشوارعها وترافة اهلها بعدما وقفت تلك الوقفة البطولية العظمى وتجاوزت الدمار الهتلري لها وجعلها فاتحة للتوجَّه صوبَ موسكو لإعلانها عاصمة أخرى يضمُّها هتلر في جيب معطفه اضافة للعواصم الاوربية التي اجتاحتها قواته الضاربة، وهو يصرخ بعنجهية شوفينية " اننا دولةُ العَظمةِ والشرفِ والقوة "؛ لمحتها أم نسرين بنظرة خاطفة عندما انتقلت من غرفة لأخرى:
" شقرا تبرق كالشمس.. طول حلو ووجه عريض؛ عيناها مثل االشذر والرقبة المرمر. "، تقول للرجل الخاوي البطن الذي ينتظر عمل الشوربة وجهوزيتها ليبدأ فطوره، ويشرع بالصلاة.
نعم كانت شقراءَ من بلادِ الثلجِ والصقيعِ؛ بلادِ الفولكا والموسكوفيتش والفودكا؛ بلادِ غاغارين مُقتحِم الفضاء، والكلبةَ لايكا التي صعدت في أول مركبةٍ فضائية تحمل مخلوقات حيّة فعادت بكاملِ صحتِّها ونشاطها لتدوِّن فاتحةَ غزوِ الفضاء؛ بلادِ الكلاشينكوف، أصغر وأسهل بندقية في حملِها واسرع اطلاقِ نارٍ من حاويةٍ تجمع ثلاثينَ اطلاقةٍ يمكنها أنْ تنطلق من سبطانتها بدفعةٍ واحدة متتالية وبآليةٍ لم تعهدها البنادقُ من قبل.
لقد وصلت السيارة من بغداد مع دنوِّ لحظات الغروب.. ولأنَّهم قطعوا الساعات طيرانا من موسكو، وصرفوا الطريق المتعثِّر من بغداد حتى السماوة فقد تناولوا عشاءً خفيفاً ورقدوا مُتعبين. لم يعرفوا أنَّ المدينةَ تلك الليلة ظلَّت ساهرة الى ما بعد منتصف الليل؛ موضوعُها جميل ومَن معه. تتحاور، وترسم، وتخمِّن، وتتخيَّل كيف ستكون الروسيّة... خبرٌ مدوٍّ؛ تناقلته النساء أولا ثم الفتيات اللاتي غمرهن الفضول لرؤيتها، ثم الصبية ممن راحوا يتساءلون كيف يكون الولَدين.
صباحُ اليومِ التالي كشفَ للمتشوِّقات المُحمّلات بالأسئلةِ، ممَّن دخلنَ البيت، عن امرأة بوجهٍ مدوَّرٍ وأنفٍ صغيرٍ ودقيق وخدّين طافحين وممتلئين دماً وردياً وعينين زرقاوين، دائريتين وصغيرتين، دائمة الابتسام لكلِّ مَن يتفرَّس بها أو يدفعه الفضول الجارف فيقترب منها حتى يحتك بها.. بعض النسوة عُدن الى بيوتهن وهن يتحدثنَّ عن حورية خلقها الله للجنة لكنّها تسللت فنزلت الى الارض فخطفَها جميل وولدت منه ملاكين ساحرين.
شبابُ المدينة وجدوا جميل مُغامِراً امتلكَ شجاعةَ الرحيل والعيش في البلاد البعيدة مثلما امتلكَ امرأةً شقراء استطاعَ بتأثيرِه الرجولي وحنكتِه من الاتيان بها راضيةً قانعةً لتعيش في بيئةٍ لا تعرف عنها شيئاً إلا مِن احاديث فهمت منها بساطةَ العيش، وطيبةَ الأهل، وحبّ ناس المدينة لكلِّ ما هو انساني يلتقيهم بالمودَّةِ ويقابلهم بحبِّ التعايش ورغبةِ الاندماج.. الشبابُ فسّروا حضور جميل وعودته مع امرأة شقراء واولاد كالملائكة دعوة دفينة لمَن رَسم في مخيلته مخطط لبناء حياة بعيدة تنعم بالانفتاح وبسياحة روحية تغدق عليه مطر الاطلاع على العالم مُجسَّداً ببلدانٍ ومدنٍ وشعوب.. شبابُ المدينة شاهدوا جميل رشيقاً وسيماً باسماً، أكثرَ حيويةٍ واشدَّ اقبالاً على الحياة. شاهدوه متفائلاً بوجهٍ مُنير ونظرات أكثر ألقاً واشراقاً.. ما كان ذلك ليحصل لولا إنَّ بلاداً عاش فيها منحته هذه الصفات وأغدقت عليه البهاءَ مَطراً غسلت سُمرةً داكنة اتَّصف بها وشحوب كان يتسيَّد قَسماتِ وجهِه؛ هكذا فكَّروا؛ وهذا ما استنتجوه.
التفكيرُ والاستنتاجُ هيّج في دواخلِهم رغبةَ اتخاذِه نموذجاً في التحرّك والخروج رُحّلاً إلى بلدان الله.. اكثروا من مرافقته وتوجيه الاسئلة اليه؛ وهو بكلِّ الاشراق والصراحة يشير لبرزخ واسعٍ يفصل بلداننا المُتعَبة عنهم، وهوّة ليس من اليسر ازالتها أو تقليصها حتى.: " نحنُ نعيشُ على ايقاعِ ارثٍ لا يمكن الفِكاك منه بينما هُم لا يلتفتون الى الوراء.. جُلُّ نظراتِهم وتطلعاتِهم يوظِّفونها ويحثّونها إلى أمام؛ كيف يحرزون السعادة؛ ما أسهل الطرق للوصول وما الفعل الجاد للحيازة.".
ينصتون لكلامِه ويحللون سريعاً ما يقول: " المرأةُ عندهم عاملةٌ؛ لها حقُّ المساواة مع الرجل.. المرأةُ عندهم كبرياءٌ وكرامةٌ لا عورة وعار.. الحياةُ ثمنُها في ما يُنتِج الانسان لا في ما يُذَل ويُنتهَك.. الكلامُ كثيرٌ لا تسعه لقاءاتنا السريعة ".. يقول يُسمِعُهم ويتأسى عليهم.. يتأسى على حياة اخوته وأخواته الرتيبة بينما هناك الاندية والملتقيات، التجوال الحر والسفرات. يحزن على أمّه وابيه اللذين لا يجد ما يخدمهما ويقلل من ثقل شيخوختهما فيما هنالك دورٌ للمسنين وأندية وفِّرَت لها كلُّ ما يُجمّل الحياة للشيوخ ويجعلهم يشعرون بإنسانيتهم واحترام الاجيال التالية لهم.
ومع حضور جميل وبقائه في المدينة لأشهرَ قبل أن يتسلَّم وظيفةً مهمّة في وزارة التجارة في العاصمة بغداد كمدير مشروع يُعتَد بخبراته وتجاربه ويأخذ اسرته معه إلى هناك توارت وجوهُ شبابٍ حملَت الأخبارُ عنهم، بعد حين، مبارحتَهم البلاد وانتشارهم في بلدان متعددة؛ وكان لشارع باتا صفةُ افتقادِ العديد منهم.
17
في أعوام الثمانينات انحسر مدُّ الهجرة فيها واقتصر على الذين يفرّون من شمال العراق عبر الأراضي الكردية أمّا صوب ايران أو تركيا ذلك أنَّ حربَ الخليج الاولى اندلعت فمُنِع السفر، وحُشِدَت الجهود للحرب، وسيقَ الشباب، المتطلِّع لغدٍ افضل على مقاسات آماله، إلى جبهات القتال، فصار الخروج من عنق زجاجة الوطن من عِداد الفعل الخرافي. ومن يَقدم على الهرب خارج الوطن لا بدَّ أن يسقط في براثن السلطة؛ إذ اوعزت لرجالاتها من الاكراد المتعاونين معها التظاهر بأنهم مهربون يقودون الفارين الى اقرب نقطة حدودية، ومن ثم يوعزون لهم بالتسلل ليلاً والدخول الى الاراضي التركية او الايرانية فيكونون بمنجى من قبضة السلطة ـ لكن هؤلاء ما أنْ يأخذوا المبالغ التي عادةً ما تكون باهظة ويوصلون الفارين قريباً من الحدود حتى يبلغوا عليهم فيسقطون بعد عدّة خطوات في قبضة السلطة الكامنة لهم. وغب ذلك؛ وبعد تعذيب واهانات إما أن يُعدَموا، خصوصاً اذا كانوا ينتمون لأسر تعادي السلطة، أو يسجنوا السجن المؤبَّد فتجمعهم احدى ردهات سجن " ابو غريب ".
ويوم أُدخُلنا منطقةَ الحصار الدولي بعد احتلال الكويت اوائل التسعينات وتُرِك النظام ضعيفاً خاوياً برحَ الكثيرُ من المواطنين مدنَهم وقراهم راحلين الى الاردن، المَنفَذ الوحيد لهم للخروج.. آنذاك كان العراق عليلاً، والمواطن هزيلاً من الجوع وقلة الدواء، لكنَّ تصميمه على مبارحةِ البلد والتخلّص من عَسَف السلطات كان يتعاظم، فهاجر طلباً للجوءٍ سياسي أو انساني أو هجرةٍ تقليدية بحثاً عن سبلِ عيشٍ. صار ليس شارع باتا الذي يشهد هجرةَ ابنائه لوحده بل معظم ابناء شوارع المدينة واحيائها، وكلُّ نفسٍ تائقة للتغيير وشاعرة بالقيد يحزُّ معصميها ويربكها وينهكها ويرمي بها إلى مهاوي الكَمَد اليومي والشعور بالدونية وندب الحظ لتعاسته... وكنت أرى الوطن مقبلاً على الفناء ـ لكن عبر جهودي في ترجمة مواضيع هي خلاصة تجارب اقوام عانت بمثل ما عانى شعبي قللَّ من تشاؤمية نظرتي، وأظهرت لي أنَّ المِحنَ تسحقُ الآمالَ وتمحق التطلعات لكنَّها لا يمكن ان تبيد شعباً وتسلِّمه للفناء. إنَّ الاممَ ذات البعد الثقافي والحضاري العتيد لتبقى مهما عَتت الرياح ومرَّت الاعاصير ونزلَ الصقيعُ على حضنِ الوادي اليانع فاثلجَه وآلمَه وظنَّ أنْ سيموت إلى الابد.
ولقد انتهى الحصار بعد اثني عشر عاماً بحربٍ جديدة سحقت المواطن واودعته الى قيادات ترى وجودها من وجود ما تحصل عليه من الوطن فتسابقت لاغتراف ما يمكن اغترافه من غِلالِه وثرواته وأطيانه.
18
إذا كان ذلك اليوم التموزي للعام 1915 شهدَ فيه شارع باتا تقهقر السلطة العثمانية وانتفاض الأهالي عليها والانتقام بدافع التشفّي والشماتة فانَّ نيسان العام 1991 جاء الانتقامُ هذه المرّة معكوساً حيث السلطة تلاحق الأهالي بعين تتفحَّص المارّة.. ففي مبتدأ شارع باتا يقف ما صار يُطلق عليه " المُلثَّم " وهو شخصٌ أُخفيَت ملامح وجهه بقناعٍ صوفي ولم تبَن غير عينيه؛ اختارته السلطة ليؤشِّر على مَن اشترك بالانتفاضة التي اندلعت مع انهزام رجال السلطة وتبدّدهم بعدما ركَّزت قواتُ التحالف ضرباتها على القوات والمراكز الحكومية ومفاصل الحزب الحاكم الاستراتيجية وانتقلت في مرحلة لاحقة الى تدمير كل ما هو خَدَمي فانقضَّت على محطاتِ تجهيز الكهرباء وقطعت خطوطَ الماء العذب بضرب الخزانات المائية بلا رحمة.
ارتعب المارَّة لمشاهدةِ الملثَّم يقف على مكانٍ مُرتفع يطالعُ بنظراتِ ثعلب، متفحصاً الوجوه ومعيداً شريط الذاكرة لزمنِ شهرٍ مضى. حتى اذا رفعَ اصبعه وأشارَ على شخصٍ توجّه اليه رجلا أمنٍ يتمنطقان بمسدسات متأهبةٍ للاستخدام ليضعا القابضات بمعصميه ودفعه الى حوضِ سيارات بيك أب مركونة عند الرصيف.
تكرَّر الحال لأيامٍ وسطَ رعبِ الناس وشعورِهم بهاجسِ رفعِ الاصبع عليهم ووقوعهم بدائرة الاتهام، ثم المحق بكلٍّ قسوة؛ فسقط الكثيرون في هوَّةِ اللاعودة بمجردِ رفعِ ذلك الاصبع المُريب والاشارة المُخيفة.
تبارت الاقاويل في تحديد اسم الشخص ومعرفة هويته.. احتمل بعضُهم اسماً أو اسمين؛ واقسم آخرون على معرفته المعرفة الدقيقة بينما همسَ بعضٌ آخر بسريّةٍ تامّةٍ انه فلان وليس فلان الذي حدَّده الكثيرون.
لا يعرف سكان شارع باتا لماذا أشار المُلثَّم على غريب النوري عندما خرج من دكانه وكان قد افرغ كأساً من العرق في جوفه وعصر ليمونةً يحتفظ بها من الامس لتُطعِم فمه حموضه تقتل مرارةَ السائل الأثيري الغاوي ثم التقط حبّة هيل من جارور منضدته وهرسها بين اسنانه لتفادي الرائحة الفاضحة وخرج يقف في مقدمة الدكان يغترف هواءً من انسام نيسان القادم ذلك العام بارداً.. لم يشاهد السبابة التي اشارت اليه فجعلت اثنين من ذوي الوجوه الصارمة بالحواجب المقطبة والشفاه المنكمشة اشمئزازاً يتجهان صوبه فيطلبان مصاحبتهما وسط ذهوله وتبخر فعل السائل الاثيري من رأسه.
وكان إن رُميَ مع جمع من الشباب في غرفة مُعتمة من غرف دائرة الأمن.
يسمع همهمات وانفاس وقد ظن نفسه وحيداً، حتى اذا فُتِحت الباب ونودي على اسمٍ تحرَّكت اعضاءٌ وفاه فمٌ بلسان متخشِّب من العطش والخوف صارخاً " نعم "؛ ثم عبارة أنا بريء والله العظيم. ادرك أنَّ الغرفة تضمُّ عدداً من امثالِه جيءَ بهم مُتَّهمين ومُساقين بما لا يعرفون السبب.
يومان من العتمة والبردٌ المقرون برطوبةٍ تدفع بها الجدران وامطار مصحوبة بزوابع ورعود تضرب المدينة كأنها تهديد ووعيد لبطش قادم سيحل قضى غريب النوري قبل أن يُنادى على اسمه فيُقدَّم امام رجل مدني انهال عليه بالسباب والشتائم، متَّهِماً إياه بالمشاركة في الاحداث التي عصفت بالمدينة والتحريض على قتل رجال السلطة والحزبيين وارتباطه بأحزاب ترفع شعار الدين استغلت فرصة الحرب فعاثت تدميراً بشؤون الدولة.
لم يقُل غريب النوري شيئاً سوى انه لا يعرف من الدين الكثير انَّما فقط ما سمعه وهو طفل عن الله والجنة والنار، وما اسلامه الا هوية توارثها من امه وابيه واسلافه.. لا يدري كيف واتته فكرة خاطفة كأنها جاءت عبر وحي اسمه " ارزوقي " انزلته السماء حلاً آنيّاً يقيه شرَّ البشر وقسوتهم ـ إذ دسَّ كفّه في جيب سترته فأخرج مفتاحاً، وقال: تفضل سيدي، ابعث بأحد رجالاتك ليفتح الدكان سيجد بُطلَ العرق والمزّة صديقيَّ وسلواي. لحظةُ اعتقالِ رجالك لي تسللت الرائحةُ الى احدِهم فشتمني وقتها وعنَّفني: " بالصبح وتشرب عرق، يا حمار.".
سلوك مسلك الكذب ينجيك في احايين كثيرة من سوء العواقب لاسيما وانتَ تقف امامَ كذابين مرائين هُم أنفسُهم يمارسون الكذب امام رؤسائهم؛ وها هو وقت التشبّث بزورق النجاة فاكذبْ اكذب حتى يقنع بكذبِك الكذّاب؛ فراح يكذبُ معلناً بأنَّ ما يعيشُه يأتي مُقترناً بما يكرع يومياً من عرقٍ يبعده عن كل ما يصنع المشاكل وينأى به عن مسببات الأذى... إزاء ما قال خُففت لهجةُ العنفِ والشتائم بكلمة " كفى، كفى " رددها المُحقِّق مرات.
أُعيدَ الى الغرفة المُعتمة ولم يبق غير نصف ساعة... نصف ساعة ونودي عليه.. ابصر الذي اهانه يبتسم ويقول: انقذتك الرائحة، وبُطل العرق الذي وجدناه في الدكان وقف شاهداً على براءتك.. أمّا في داخله فقد ابتسم ارزوقي وهو يعاتبه: كنت تعنفني على البُطل والرائحة، وها هما البطل والرائحة يحملان لك قرار البراءة.
نعم؛ انقذه بطلُ العرَق ولم يؤخّذ بكلام المُخبر السري المُلثَّم. حسبوا اشارته من باب الخطأ او وضعوا في حسبانهم غيظ دفين استدعى الانتقام.
اطلق سراح غريب النوري، لكنَّ اغلب مَن سيقوا معه لم يُعرف عنهم شيئاً في ما بعد سوى اخبار خمَّنت اعدامَهم جماعياً بعد نقلِهم الى معسكر الرضوانية على اطراف بغداد وتقديمهم لمحاكم سريعة انتهت بتصفيةِ المئات.
ندم غريب النوري وهو يحتسي اول كأس من العرق بعد اطلاق سراحه؛ ندم لعدم استجابته لرزوقي الذي كثيراً ما حبَّب اليه الشرب فرفض مثلما ندم لتغاضيه عن دعوة صديق بعث اليه من موسكو قبل عقدين من السنين عديد الرسائل تدعوه لترك البلاد والالتحاق به وقد حذَّره من مستقبَل مُضبب يعتري هذي البلاد المبتلات دوما باللا سلام وأيامٍ لا تشي باستقرار، لكنه آثر البقاء والانزواء في دكّان يضرب الزمنُ رنينَ نواقيسِه بعقارب الساعات المالئة المكان؛ وهو تارة يسمع فلا يستجيب وتارات يرثي حاله لوجوده الساكن في الرقعة الحبيسة عندما يراجع وجوهاً رحلت فعاشت الهناء.
ولقد أعتُبِر مَن سقط بيدِ السلطةِ آنذاك غبيّاً فغيرهم، وخصوصاً مَن حمل السلاح وناهض سطوتَها وقتَلَ منهم ما قتل، تهجَّسوا الخطر بمجرد ظهور طائرة مروحية خفيفة مُعلَّمة بالعلم العراقي ففروا هاربين باتجاه الحدود السعودية عبر بادية السلمان.. ولما كانت نسبةُ المتضررين من النظام عالية فقد احتشدت عند الحدود اعدادٌ هائلة استطاعت بعد وقت الدخول إلى الاراضي السعودية متجنّبين غضب السلطة وقسوتها المريعة، خصوصاً والاخبار تواردت سريعة عن اتِّفاقٍ سرّي قررت فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها ابقاء صدام رئيساً مع جعله ضعيفاً لا يقوى على محاربة جيرانه أو تهديدهم.
تلك الأعداد العابرة سرعان ما وجدت نفسها محظوظة حين نُقِلت إلى امريكا واستراليا وبلدان اوربية احتضنتهم ورحَّبت بهم وتعاطفت مع محنتهم. فصاروا كالخارجين من الجحيم الى الجنّة، كالمتطهّرين من رجس الخوف إلى بهاء الطمأنينة، كالفرقة الناجية التي ذكرها الرسول محمد في حديث له، خصوصاً والاخبار المنقولة عبر الفضائيات في قادمات الايام جسَّدت لهم معاناة مَن بقي في علبة الوطن الخانقة وقد أحكم الحصار الدولي المفروض على البلد، في ما بعد، قبضته على اعناقهم فأتعبهم وارهقهم وأمرضهم وأماتهم جوعى؛ ومن بقي فمريضٌ لا دواء يشفيه من علل كرّسها الحصار وليس غير الموت نهاية تقترب حثيثةً، شرهةً، وجامحة.
وكان إن استمرَّ الحصار لما يزيد على العقدِ من السنين.
معه كان العراقُ يتآكل ويتهالك ويمرض؛ فانفصلَ الشمال عن سلطة بغداد المركزية وصار الاكرادُ يديرون شؤونهم بأنفسهم يطمئنهم في ذلك قرارٌ اتخذته الامم المتحدة بجعل المدن والقرى الجبلية جغرافية معزولة لا تصلها مخالبُ الحكومة. أما في معظم محافظات الوطن فكان النهارُ للسلطة تؤكِّد فيه عنفَها وجبروتها فيما الليل ينقضي خارج هيمنتها؛ شاعت فيه اللصوصيةُ وتناسلت العصاباتُ المنفلتة وزادت خشيةُ الناس من المستقبل وتضبَّبت رؤاهم؛ فتبارت الاسئلة الحيرى تتهافت على الشفاه اليابسة: هل سيأتي فرجٌ تقوده قوةٌ غيبية تنقذ العراق من الغرق والموت المحتَّم؟.. كيف، ومتى نتساوى مع أمم الله الرافلة على خمائل الهناءة والسرور؟.. هل سيبتسم الحظ مرّة ويقف لصالحنا فينقذنا من هذا الهول؟.. لم يحصل ذلك، انما الذي حصل جاء بيد ابن لادن. فقد أعانَ هذا الحالمُ بعالمٍ اسلامي على مقاسِ افكارِه النارية شعبَ العراق تخلّصاً من الكابوس الجامح الثقيل كالجبل عندما وجَّه اتباعَهُ صباح الثلاثاء الحادي عشر من سبتمبر 2011 ففجروا برجي التجارة في مانهاتن بتخطيط ارهابي مُتقن ومخطط له بدِّقّة أغضب امريكا غضباً قررت اثرهُ الانتقام بكلِّ قسوة؛ فجيشت الجيوش، ووجهت الاساطيل، وفتحت السماء على كل المصاريع لطيرانها الحربي واجهزتها الالكترونية المُحكَمة الدّقة. وكان 19 آذار2003 يوم البدء باقتحام الوطن ارضاً وجواً فدخلت ومن تحالف معها بغداد بلا مقاومة ولا اعتراض.
وكان إنْ نُقِلَت في صبيحةٍ تاريخية مهولة يشيع فيها برد نيسان اللذيذ وتتفتح صحبته الورود الفتية وينبثق الزرع اليانع البهي مشاهدُ حيّة مُثيرة لإسقاط تمثال صدام في ساحة الفردوس وقد تابعها العالم برمته في يوم ربيعي تلاه قرار الامم المتحدة 1483 على أنَّ ما حصل احتلال، تصبح فيه البلادُ بيد الجيوشِ المنتصرة وتتعهد باستتباب الأمن واعادة ما دمرته الدبابات وما محقته الطائرات وما اطاحت به الصواريخ المنطلقة من قواعد ارضية أو محمولة خارج الحدود.
19
اليوم وصلتني رسالة فلمية.. كان الوقت فيها صباحاً.
هاشم في شقّته يوجّه كاميرة اللابتوب ويثبتها باتجاه صالة تشبه ممراً ضيقاً فتظهر عن بعد بابُ الحمّام؛ في داخله مغسلة صغيرة فوقها مرآة برف زجاجي تتوزع عليه عدّة الحلاقة مع فرشاة ومعجون أسنان. موزائيك الحائط أبيض ثلجي؛ في كل قطعة موزائيك ثلاث ورود بنفسجية متعامدة، السفلى صغيرة وفوقها الاكبر ثم الاكبر... هاشم يقف ببيجامة سمائية اللون. شعر رأسه من الخلف أكثر سواداً من مقدمته. يسحب مايك اللابتوب.. هاشم يدندن بأغنية عبد الوهاب " أخي جاوز الظالمون المدى ". يترنم بها ويرفع يده يأخذ فرشاة الحلاقة، يغمسها بالماء ويمررها على ذقنه، ثم يغمسها من جديد ويرفع تيوب المعجون يضغط على وسطِه فتنغمس الفرشاة في المعجون المندفع، وبدوره يرفع الفرشاة المغموسة بالمعجون؛ يمررها عدة مرات على ذقنه فتتشكل رغوة بيضاء كأنها غيمة. محمد عبد الوهاب يحفزه على ترديد " طلعنا عليهم طلوع المنون // فصاروا هباءً وصاروا سدى ".. كفّه تمسك شفرة الحلاقة وتشرع بمهمتها في إزالة سواد الذقن بفعلِ شعرِ اللحية المنبجس، ومعها يزول الزغبُ الأسود للشارب.. حدستُ هاشم يعيش محنة العراق اليومية. وما استذكار عبد الوهاب وأنشودته التحفيزية إلا دليل على ذلك.. إنَّ الإنسانَ مهما نأى وابتعد، ومهما تراكمت على ذاكرته أحجار الأعوام والأحداث فإن تعلّقه بالوطن يبقى اخضر طريّاً، بل ويزداد التصاقاً. لم يفكر هاشم حتى وهو يعيش الاعوام مغترباً باغتيالِ الوطن بسكين ابتعاده ونأيه. فالوطن كالمغناطيس مهما ابتعدتَ عنه سيجذبُك لتلتصق به.
يغسل هاشم وجهه من رغوة المعجون ويعود لغسل وجهه كله بصابون دوف الالمانية المنشأ وردية اللون. يبلل شعره ويستدير ليرفع منشفاً صغيراً من مسمار تعليقه ويمسح وجهه ثم يعاود تعليقه في مكانه.. يطالع رفَّ المرآة فيأخذ مشطاً أسود مموهاً بمسحة بيضاء متموجة يمرره على شعره عدة مرات؛ يصفف الشعر ويطالعه بالمرآة للمرة الأخيرة ثمَ يستديرُ بعدها. يدخل غرفتَه.. دقائق ويخرج مرتدياً بدلةً كحلية ورباط اصفر مُطرَّز. تقدم باتجاه الكاميرا. وقف عند المنضدة وراح يجمع بعض الأوراق وقلمي حبر سوفت احمر وازرق ثم يضع الجميع في حقيبة سونسنايت ويغلقها. يسحب بعدَّةِ دُفعات مناديلَ ورقية شفّافة من صندوق كارتوني مستطيل ومزخرف بخطوطٍ وصورٍ يابانية. يدسُّها في جيبِ بنطالِه، وينحني كي يوجّه سهمَ فارة اللابتوب إلى أيقونة الإغلاق. حانَ وقتُ الذهاب للعمل.. ترجّى بملامح ودود: " سامحني يا حمزة.."
لحظات؛ وغابت الصورة.
أردتُ كتابة: " لقد خسرتكَ شهلاء عندما لم تتمسَّك بك.. كان يمكن أنْ تكونَ معكَ الآن تعيش السعادة." لكنني تراجعتُ. تذكرتُ كلاماً قاله يوماً فيتزجيرالد أديب امريكا الوسيم " إنَّ سلطانَ المال يذلل كلَّ شيءٍ حتى قلوب النساء " وهو يشير لمن أحبَّها فولّت لشاب ميسور يفرُقُ عنه بالغنى. وتلكَ تجربة عاطفية تشبه تجربة هاشم الشخصية... كلام فيتزجيرالد هذا ذكَّرني بكلمات هاشم التي كتبها على علبة السجائر، وصرت كلما اشاهد شاباَ غدرت به مَن أحب أروح أُردِّد قوله: " أنا لا ألومُكِ لأنَّكِ خِنتِني انَّما الومُ نفسي لأنني وثقتُ بكِ."
تراجعتُ فكتبتُ ما يريحه:
" عزيزي هاشم: كانت سعادتي كبيرة عندما انتهيتُ من ترجمة الفصل الثاني من الرواية؛ ذلك الذي يدور حول اندفاع الفتى توم اكونور للحصول على لقى ومفقودات ثمينة احتواها قاع الخليج الذي ابتلع السفينة الاسبانية الغارقة. لُقى ومفقودات هي ما يبعثه التُّجّارُ إلى أقرانٍ لهم في موانئ أوربا أو بعيداً إلى حيث امريكا أو جنوب شرقي آسيا. ممتلكاتٌ نفيسة تحملها الأسر الارستقراطية الحالمة بعالمٍ جميل ستصله لتعيش الكرنفال والألق ولم يدُر بخلدها أنَّ القدر سيجافي مُناها ويطيح بأحلامها فتتبعثر في قيعان البحار التي كثيراً ما كانت مقابر للسفن والبحّارة والمسافرين.
***
ركنتُ ترجمةَ الفصل الثاني جانباً ليومين؛ وتلك عادة أتبعها في الترجمة والكتابات الأخرى، وهي عادةُ تركِ النص حتى تزول هيمنته من ذاكرتي وذهني. وبعدها أعودُ لقراءتِه بذائقةِ قارئ يطَّلِع عليه لأولِّ مرة. الهدف من ذلك هو الالمام بالفكرة، وتبديل المفردات المتكررة بكلمات مرادفة لها، نأياً عن الرتابة. وثمَّةَ هدفٌ آخر تتطلَّبُه المراجعة النحوية، فقد تكون المفردة فاعلاً فجعلته مفعولاً به؛ أو كان حالاً منصوباً لكني رفعته بعد تغيير تركيب الجملة او العبارة.. وتلك مثلبة مسكها عليَّ الكثير من القراء أو النقاد مِمَّن لا يهمهم الاستمتاعُ بالنصِّ بل البحث عن هفوةٍ تحصل للكاتب أو خطأ يرتكبُه دونَ قصد.
لا شكَّ إنَّ للكاتبِ مزاجاً قد تفصله عن كثير من امزجة البشر خصوصاً ما يتعلق الامر به. أقصد بعمل تدويني له يُكمله فلا يشعر بلذةِ قراءته، ولا يجد المتعةَ إلا عندما يقرأه منشوراً على الورق الاسمر لصحيفة أو مجلة... ذلك النشر الذي له نكهة خاصة تفوق وجودَه على الورق الابيض سواء المكتوب في كراسة أو على الورق بحجم A4... وكثيراً ما يُطالع نصَّه فيستمتع به كأنه لكاتب غيره فيروح يعيد قراءته مرة ومرات؛ وقد يدهش فتتبارى اسئلة الدهشة في دواخله: احقّاً أنا مَن كتبَ هذا؟!.. أصدقاً ما اقرأ؟!.. من أين أتيت بكل هذه المفردات ورسمت كل هذه الصور؟!.. وقد ينتابه هاجس أنَّ مَن كتب تينك الابداع لهو انسان داخله؛ حمل اسمَه وقدّم للقراء افضاءاته وبوحه.
النفوس مليئة بالهواجس.. المواقف الغريبة لا تتكينن إلا بفعل الهواجس.
الهاجسُ مَحطةُ نفسٍ تتردَّد.. تتلكّأ.. تتراجَع.
من النفوسِ ما تزيح الترددات وتستهين بالهواجس فتتقدّم واثقةً كما هو توم اكونور، الذي انتصر على هواجسه وسافر بروح الفتى المغامر إلى جزر اخرى علَّها تحقِّق مراداته وتُحيل امانيه وتطلعاته حقيقةً فتجعله انساناً قائداً لا تابعاً؛ كريماً لا ذليلاً... وهناك نفوسٌ على النقيض؛ إذْ ما أنْ يعتريها هاجسٌ حتى تتطيّر وترتعب فتلوذ منهزمةً متقهقرة.
20
افتقدتُ جوادين.. افتقدتُه بما في القلبِ من شوقٍ وما في الروحِ من لهفةٍ.. رأيت انّه يكتب كما يكتب الكتّاب الكبار. يعي الوجودَ بذهنيةٍ عاليةٍ، والواقع ينظر له نظرةَ فيلسوفٍ؛ لكنَّ مِثل هذا المقدار من الوعي يُربكُ العقلَ ويجعله في حالةِ الترجرج والبلبلة. فالفلسفة فنُّ استخدامِ العقل.. هي أبجديةُ التعاملِ مع الأشياءِ والمحيط والمواقف بما يُعقَل.. لا تصديق بما لا يراه العقل مُمكناً، ولا إقرار بما يتوارى خلفَ حُجب العاطفة والخيال.. انتبهتُ إلى أنَّ جوادين كان يستشهد بكانت وهيجل عندما ندخل في حوارٍ تقتحمه الثقافة ويدنو منه الوعي. اكتشفته يتحدَّث عن محمد أركون وعلي حرب ومشروعيهما في تنوير القراء بتناولهما مساري اللاهوتيين الذين يرون انفسهم خلفاء الله على الارض ينبغي طاعتهم والأخذ برأيهم كطرحٍ مُقدَّس، والعلمانيين بما يجاهرون بعدميةِ السطوةِ الغيبية وتحمُّل مسؤولية قيادة المجتمعات وتشكيلها وفق الرؤية المتحررة من سطوة اللاهوت.. وجدته ينأى عن المَسار الأول مُنطلقاً وبقوةٍ من فكرة أنَّ اللاهوتيين يعتمدون سياسةَ تجهيل المجتمعِ البشري ليبقى أسيرَ رغباتهم وجعله قطيعاً يتبع ما يوجّه اليه باستبدادٍ مهولٍ وارهابٍ وحشي اذا اقتضى الحال بينما أبدى مجاهرته بعلمانيةٍ يرى مبادئَها تمنح الانسانَ المدى المنفتح باستخدامِ عقلِه في فكِّ الرموز المُعقَّدة وحلِّ ما يستعصي بالتفكير علمياً لا اعتماد فيه على غيبيات لا وجود لها كما يُعلن وبإصرار؛ مُعلناً نبذه لكلِّ ما هو متلبِّس بالدين ويتَّخذ منه قناعاً لتكريسِ الاستبداد.
أسمعني ادانته لجموع المتخرجين من قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة بغداد المستحدَث عام 1949: " لماذا لم نرَ منهم من تحدَّث بالفلسفة؟! وكيف لا يمارسونها وهم يقضون اربعةَ اعوامٍ يعايشونها ويجلسون مع فلاسفةِ العالمِ ومفكِّريهِم؟!.. ما الذي يجعلهم يحيون النكوص والانكماش فلا صوت نسمع منهم يدعو لاستخدام العقل والمنطق، ولا التنوير يحثّون الناس على سلوكِ دربه؟!.. لماذا لم نرَ شبيهاً بمحمد اركون وعلي حرب ونصر حامد ابو زيد ومحمد عابد الجابري وحسن حنفي؟ !" يقول مندهشاً.. " أينَ الاكاديميون وأينَ الطلبة؟ أيخشون من تجنَّى على علي شريعتي أو فرج فوده فأسكتوا صوتيهما المنغمين بحسن استخدام العقل وانارة مسارات ظلَّ التعتيمُ مهيمناً على فراسخِه فتهالكت الأمة وصارت تعيش على هديٍّ أثقلَ الكواهل وأمرضَ النفوس وأفردَ الذراعين للانتهازية والنفعية على حسابِ الخيرِ والبرِّ ونيلِ الجنة؟!"
تساؤلاته تشي بغضبه؛ وتعكس رغبتَه في أنْ يكون فيلسوفاً. يصارحني بأنّه لوكان يدرك ماهيّة الفلسفة واهمية تداولها والتعامل معها وبها قبل دخوله الجامعة لفضل اختيار دراستها على الهندسة.
قررتُ زيارته في البيت، فهاتفته..
لم يأتني رد، والهاتف استمرَّ برنينه حتى نطق المُجيب الآلي أنَّ المشترك لا يرد، داعياً إلى الاتصال في ما بعد..
القلقُ أخذ منّي مأخذاً.
ما كتبه واطَّلعتُ عليه جعلني أرتبك.
تذكرتُ انّني كثيراً ما ذهبتُ لبيت جوادين الحالي في عكد النجّارين الذي يأخذ أحد مساراته الى شارع باتا؛ وهو نفس البيت الذي تربّى فيه والده فالح، وتركه لهم بعد موته. تغييرات طفيفة حدثت في مظهره الخارجي مقارنةً بالبيت الذي كان والده يدخله قبل ثلاثين عاماً.. الباب الخشبية الخارجية التي كانوا ينحنون لحظة الدخول من خلالها استُبدِلَت ببابٍ جديدةٍ عالية؛ وضِعَ على يمينها قريباً من زاويتها العليا زرُّ جرسٍ أجد لا حاجة لوجوده لأنك عندما تضغط على النابض يرنُّ الجرس بقوة ويسمعه المارة في الزقاق. أما النافذة الخشبية الوحيدة ذات القضبان الطولية الثلاثة فرُفِعَت وحلَّت محلها نافذةٌ من الالمنيوم الفضّي بزجاجٍ عاكس.
أذكر آنذاك خروجي من بيتنا الذي استأجره أبي في عكد آلرباط بعد أن اصبح العيش في بيت صغير في شارع باتا مع اعمامي واولادهم الذي ازدادوا عدداً لا يُطاق.. أبرح البيت فانعطف يساراً حيثُ زقاق باسط، مارّاً على طاق آلشبلان. ثم أنحرف يساراً داخلاً في عكد آل ادريس ومنعطفاً يساراً مرة أخرى لأواجه الجامع الكبير ببابه الصاجيّة المُحنّاة بكفوف مطبوعة لأصابع فتيات وعجائز، عازبات ومتزوجات، عليلات منكسرات وكلُّهنَّ يطلبن النذر أو سعيدات فرحات جئن ليوفَّين بعد ما تحقق المراد وقد فاح في المكان عطرُ الصابون أو شذا المسك المنبعث من راحات اكفهنَّ.. مطرقتا الجامع برونزيتان على شكل حلقتين متدليتين يكادان لا يريان بفعل العِلَك الذي هو اشرطة قماش نوع كودري خضراء معقودة بهما. اشرطة يمكن القول انها رسائل موجَّهة لربِّ الجامع كي يمنحهن الرضا والطمأنينة والبركات. رسائل فحواها مُخبّأٌ داخل أسوار النفس وحجراتها فلا يعرفه غير صاحبه. لا يبوح به لغير ربِّ الجامع.
كنت اعتدتُ المرور من جوار حسين الطرشجي المشغول بإعداد مواد الطرشي المخللة: خيار وباذنجان وعناقيد عنب حصرم وكوجة خضراء وثوم عجم وعطروزي في حاويات بلاستيكية بعدما يرمي في برميل القمامة الجرابيع والجرذان التي يجدها ميتة في بساتيق الطرشي المكشوفة. رائحة محتويات هذه البساتيق تثير المخلوقات البغيضة المتحينة فرصة انغلاق المحل فتروح تصول وتجول. تعمل الدواهي. تتقافز بين بساتيق الخل وكوشرات الخيار الاخضر المُعَد للتمليح والتخليل دون حساب العواقب فيسقط اكثرها في السائل الحريف والحامض اللاذع.
حين عدتُ من العمل أطلعتني زوجتي على ظرفٍ أسمر، قالت أنَّ جوادين يبلغك السلام وسلمني هذا المظروف لك.
تلقفتُه بلهفة.. فتحته لأقرأ كتابة طباعية بثلاث صفحات حملت كما سابقتها كلمة (نص).. إنّه يصرُّ على عدم تجنيس ما يكتب، فلا هو بالشعر ولا بالسرد، ولا بالمقالة أو الخاطرة.. إنَّه مزيجٌ من كلِّ هذا.. فسيفساءٌ أدبيةٌ تقطر اعجاباً لمن يقرأها ودهشةً يتوقَّف بعد كلِّ جملة أو تركيب لغوي ليكتشف ما وراءه، وبين ثناياه.. يبحث عن الدهشة المُضمرة عبر تفكيك ما يمكن من إبهامٍ مُغلَّفِ بمعدنِ الاسرار وصولاً إلى قلبِ الخبايا التي بمثابة جواهر ولآلىء.. إنَّ الدهشةَ لكنزٌ ثمين حين حيازتها، وإنَّ الإبهامَ لغزٌ، إنْ فُكِّكَ حصلت اللذاذةً، وتحقق الانتصار.. لقد علَّمتنا التجارب مع الكتابة والابداع أنْ لا تكون قراءتُنا بسيطةً تمسُّ السطح إنَّما التغلغل في عمقِ غابة الكلمات.. علَّمتنا عندما نقف عندَ وردةٍ تفحُّ عطراً فاغماً يثير الاعجاب أنْ لا نشم وننتشي للعطر إنّما نتشبع بالفضول لمعرفة كيف جهِدَت هذه الوردة في انتاجه، وكيف صرفت الوقت ومع أيٍّ من عناصر قلبِها ومشاعرِها تفاعلت، وكم احرقت من اعصابِها كي يكون العطر بالوسيلة الآسرة لذوق الحائز لها؟!
في وسط الصفحة كان العنوان (ضَجَرُ شاعر مرارة).
استفزَّني العنوان؛ نده عليَّ المتن. وكأنَّ زوجتي ادركت رغبتي في تقليل صوت التلفاز الذي كان يبث برنامجاً عن قصر الاليزيه واستعدادات الرئيس الفرنسي فرانسوا اولاند لاستقبال الملكة اليزابيث الثانية؛ ماذا تأكلُ وما ستشرب، اين سيكون تناولُ الفطور والغداء، وماذا تتعشى، أيُّ نوعٍ من الأجبان تفضل في الفطور، وما الخبز المرغوب لدى الرئيس فهرَعَت الى الريموت كنترول لتضغط على زر mute قبل أنْ أتولى ذلك بنفسي:
[[ في لحظةِ ضجر، وساعة شعور بالاختناق، وتلمّس مرارة متسللة إلى فمه دوَّن الكاتب على قرطاس الهواء هذه الخاطرة بقلم دواخله الغارقة في الفوضى وحبر عينيه الساكبة نظرات الأسى:
((أسيرُ بلا هدى.. وأطوفُ على غير مُراد.. أرتشفُ قهوةَ المنى فتستحيلُ مذاقَ علقمٍ.
اشعر أنني محاصر بتابوات تحيط بي من شتى الجهات، مثلما أحس بأني أريد أن أحققَّ وأحقق من اللا متحققات ما يملأ أجوافَ السماءِ الفارغة، وبطونَ الأرض المنسية للهباء.
أريدُ أنْ أجلبَ لوطني بحراً وشواطئ رملية، وبلاجات أيضاً.. مظلات وزلاجات وزوارق وفنارات كي يستلقي استجماماً، أو يغمض عينيه استرخاءاً، أو يستمتع بمحاورةِ البحر، بعدَ طولِ عَناء.
اريد ان أمحو من خارطةِ اللغةِ تضاريسَ ارهاب، حقد، كراهية، غِل.. أمزِّق وجهَ الطائفية. أبصق على وجهِ الطائفيين؛ وأهتف: أَما شبعتم من بحر الدم، وليلِ البغضاء؟
أريدُ أنْ اشتري غيوماً تهطل مَطراً يُضئِّل براري اللفح ويزحف على جغرافيةِ الهجير، يدفع الصغارَ إلى الشوارع سعداءَ يهتفون: أمطري ولا تخافين / على عناد العلوجية.
أريدُ أنِ أقرأ كتبَ العالمِ جميعاً. فلا كتاب أنسى ولا كاتب يغيب.
أريدُ أنْ افصَّل من الموسيقى لغةً يتأبطُها التلميذُ كتاباً، ويجعلها العاملُ خوذةً، والفلاحُ مسحاةً، والطبيب مُطهِّراً، والحائك نولاً، والعاشق رسالةً، والزوجةُ فستاناً، والعابث ملهاةً، والتائه خارطةً، واليائس أملاً، والجريح ضماداً، والحبيب وفاءاً، وأنا موّالاً.
أريدُ أن أزرع جدران بيتي بلوحات الانطباعيين.. وأتعدّى إلى تعليق هاتيك اللوحات في الشوارع والطرقات.. على الجدران وفي الساحات، فأشاهد مع كل التفاتة، مع أية نأمة لوحةً لمانيه، وبيسارو، ومونيه، ورينوار والفريد سيسلي، وماري كاسات، وادغار ديغاس وهم يسكبونَ ألواناً بهيجة راقصة وضياءً بهيّاً باهراً يشكِّل نشيداً كورالياً للجمال ودعوةً مفتوحة للحبور.
أريدُ أن اطرق الباب على جارلس ديكنز ليحدثني عن صِبيةِ لندن التعساء الذين خلَّدهم عبر رواياته (ديفيد كوبر فيلد) و(أوليفر تويست) و(الأزمنة الصعبة) وكيف أرَّخ للندن القرن الثامن عشر بكل صدقه وبراعته.
أريدُ أن ألاحق فكتور هيجو وهو يحث الخطى ليحذر بطله (جان فالجان) في رواية (البؤساء) من أن لا يسرق رغيفي الخبز ليطعم أولاد أخته الجائعين لأن ذلك سيزجَّه في أغوار الباستيل الدهماء، وأعيب عليه سرقته للشمعدانات والأباريق الفضية من بيت القس الذي آواه تلك الليلة والتي ضربت في رأسه ناقوس السماحة والعفو. تلك السماحة التي ستخلق منه رجلاً صالحاً يخدم أبناء باريس في المستقبل.
أريدُ أنْ أسبح في (بحيرة البجع) على رَخامة عزف (بيانو)، ونفير(بوق)، وتهادي (فلوت)، وجرة قوس (كمان)، وتضخيم صوت (كونترباص)، ونقرات (دف)، وترديدات (طبل)، وعصا (جايكوفسكي) المستدقة، ترتفع وتنخفض أو تضرب في الهواء بعنف تفضح دواخله راسمةً ملامحَ صرامةٍ أو هدي سماحة تفشيها قسماتُ وجهِه المُحمَر فتنعكس على هارموني كورس شكَّله من رجالٍ ونساء يذوبون في الموسيقى.
أريدُ أن أعود صبياً يقطع أزقة مدينته بحثاً عن شيء ضاع منه ولم يجده، ويظل يصر على أنه سيجده لا محالة مع أنه يعد الخطى نحو الأبدية التي يضمها أخدود في أرض، وعظام في ثرى.
أريدُ أن أكون كاتباً لأدون عذابات البشرية ومعاناة المحرومين، سحق المرأة وسرقة أحلام الصغار؛ لا حياةَ الأباطرة ورغَدَ أبنائِهم وأحفادِهم؛ لا زيفَ السياسة ودهاءَ السياسيين.
أريدُ أن أجمعَ آهات من ظُلِمن فتزوَّجنَ قسراً، فحُرِمن حبيباً، فمُحقِنَ عاطفةً فأُعدِمنَ حياةً. أزرعهُّنَّ عويلاً على صدر التاريخ، ووصمة.
أريدُ أن اجعلَ النهرَ أباً للبشرية، و الغابات ثياباً..
أريدُ أن اجعلَ السماءَ أمَّ الإنسان والأرضَ فراشه.
أريدُ أن أُفصِّل السعادةَ قبَّعةً يعتمرها الإنسانُ والمالَ حذاءً ينتعله.
اريد أن أكتب:
حَلُمَ الكاتب أنّه يرتدي مدينتَه قميصاً.
يُفرِّط أزرارَه على أصابعَ الشعرِ، ويقول:
أنتِ مدينةُ الحبر، وقميصُ الأشجان.
أنتِ نسمةٌ تعطَّرت بالنشيج.
ترمَّلت بشالِ الحزن.
سرقَ الليلُ همسَها،
وتركَها بلا شعراء.
أريد أن اكتب ايضاً:
هبطت الأمنياتُ من ذاكرةِ الكاتب.
استقبلها الشارعُ.
أومأت لها سنونوة.. تركته يعانق الضجر.
أمنيةٌ تعثرت بدموعٍ تائهة،
وأمنيةٌ دهستها عربةُ اليأس،
وأمنيةٌ فضلت النومَ على فراش العبث.
وأمنيةٌ انتحرت حين لم تجد يوماً يصافحها.
وأمنية تكوَّرت، تشبكُ رأسَها بين ركبتيها.
وأمنية فرَّطت جسدَها سروراً فما أشبَعَت.
أمنياتٌ... وأمنيات...
جعلت السنونوةَ تغرق في البكاء،
والشارعُ صار حكاية.))
مُراداتُه كثيرةٌ وفيرةٌ هذا الكاتب.. لذلك حالما انتهى من ملئ الورقة بمكنوناته مزّقها؛ معتبراً أنَّها محض تفاهات؛ وأنَّ الأمنيات ليس لها دربٌ للتحقّق، ولا الرغبات بمستحيلةٍ واقعاً.]]
21
بالأمس بعد انتهاء العمل عدتُ مُجهداً، تَعِباً. كان فناءُ المحكمة منذ بدء الدوام مزدحماً وضاجّاً؛ وكانت الممراتُ والصالاتُ الصغيرة أكثرَ ازدحاماً وأشدَّ رطوبةٍ تسببها الانفاس المتدفقة والصدور اللاهثة وعروق الاجساد الساخنة.. تقدَّمت مريم باستفهاماتٍ عن سبب هذا الاجهاد. تكادُ لا تصدِّق وأنا أسمعها تقارن عملي في فيءٍ دائم وغرفٍ مكيَّفة، وتتمتم: " الله في عون عاملِ البناء؛ طول نهاره بالشمس وريح السموم تلفح وجهه.".. صحتُ بما يشبه الاحتجاج: " ها؛ شتقولين؟ "
سمعتها تسأل: " شنو قضايا اليوم؟ طلاق ودعاوي نفقة؟ "
ما رغبتُ بالرد لأنَّ الحديثَ طويلٌ ومثيرٌ للألم، ومُعقد.. ستُثار عجباً، وتغرق دهِشةً في يمِّ القلق، وستُردِّد بتذمّرٍ غير حري بي اسماعُها: " نقتربُ من الفَناء.. هذي علامات الساعة. "
*
في الليل؛ وجدتُها فرصةً لفضفضة همومي على مسامع هاشم:
" مرهقٌ أنا اليوم.""
ضحك: " ليش خَير !"
" الدعاوى كثيرة والمشاكل لا تُعد ولا تُحصى "
" هذه الدعاوى ليست جديدة عليك.. صرفتَ ما يقرب من عشرين عاماً في دائرة المشاكل التي لا تنتهي، اقصد المحكمة ".. وضحك.
" ليست الدعاوى العادية، انها دعاوى يقشعر لها البدن، لم يعرفها العراقي قبلاً إلا لِماماً.. دعاوى المسِّ بالمحارم كثُرَت هذه الايام بشكلٍ مُلفت.. أخ يُجبر اخته على ممارسة الجنس وأبٌ يراودُ ابنتَه ويساومها على جسدِها مقابل اعطائها مبلغاً تشتري به ملابس كقريناتها من الفتيات.. أخ يراود أخاه وهما لم يصلا العشرين عاماً."
رأيتُ هاشم يقطب حاجبيه، ويزم شفتيه قبل أن يسألني: " ألهذا الحد تغيرت طباع الناس عندكم؟ هذه كارثة ! هذا هول ! "..
" المخدرات.. لعنةٌ لم تعرفُها المدينة من قبل.. وحتى وإنْ عرفت فمحدودة وعقابها صارم لا رحمة فيه."
اذكر جاراً لنا كيف تورَّط مرَّةً بالإتجارِ بالحشيشة وضبطوه فلم تنفع شتّى محاولات أهله في اطلاق سراحه أو تخفيف حكمِ اعدامٍ صدرَ بحقه.. أذكر كم دفعوا الرشى واقاموا الولائم لذوي العلاقة؛ لكنّها لم تشفع له؛ وفي اسابيع تسلَّم ذووه جثةَ رجلٍ مُدان."
كنت اريد أن احدثه عن أمر مهول جرى عصر اليوم وكنت قد خرجت لغرض شراء بعض الكتب التي تخص الترجمة اخبرني الرسام عن وصولها لمكتبته وانه رأى انها مهمة للاطلاع عليها واقتنائها كمترجم يخوض غمار الترجمة بموهبة فريدة ونشاط يتجاوز حدود التصور.
فرحتُ بعودتي ذلك المساء حاملاً ثلاثة كتب؛ الاول عن الادب المقارن والثاني عن براعة المترجم أمّا الثالث فكتاب مُترجم من الالمانية بعنوان " شوبنهاور مربياً " كتبه فردريك نيتشه بين العام 1873 و1876 وجدت من الضرورةِ اقتناءه للتعرّف على سياقاتِ الترجمة التي تتطلَّب في مضمار الفلسفة دقَّةَ المترجم وحذقه وانتباهه خشية الوقوع في حفرة ترجمة خاطئة تقلبُ مفهومَ الكاتبِ وتحرِف برؤيتَه.
22
صباحاً حثثتُ الخطى نحو المحكمة بعد شروق الشمس واقتراب حضور القُضاة والمحامين والموظفين وأصحاب الدعاوى وجمهرة المتطفلين الذين يعرضون قسمَهم بالله والقرآن المقدَّس شهادةً لمن يطلبها مقابل حفنة دنانير تبدأ مسيرتَها السرمدية في حلِّ نزاعاتٍ توالدت مع حضور قابيل وهابيل على أديم هذه الأرض حتى يومِنا هذا.
من يدخل تلك اللحظة الى الفناء الواسع سيرى على يمينه باباً مشرعة فوقها قطعة من الصاج كتب عليها بخطِّ نسخ جميل (محكمة الاحوال الشخصية). على مصاطب خشبية ثمّةَ سبعُ نسوةٍ يجلسن... إنَّهنَّ بانتظار البت بقضايا التفريق مع الازواج.. كنَّ حضرن بأوقات متفاوتة. كانت وجوهُهنَّ توشّحها صفرةٌ وشحوبٌ لا يمكن اخفاؤه.. في العيونِ قلقٌ، وفي القلوبِ حرقةٌ؛ والساعةُ تدنو من التاسعة.
في مكتبهِ، وقبل نصف ساعة من حضور النسوة، أدخلَ القاضي يدَه في جيبه. استخرج سلسلةَ مفاتيح. مرَّر احدها في قفل الدولاب الذي بعهدته. أخذ روب القضاء وارتداه ثم رفع مجموعة اضابير من الطبقة العليا للدولاب بينما كان الفرَّاش يقف عند الباب ينتظر امراً بإعداد القهوة المُرَّة التي يفضل القاضي تناولها بثلاث دفعات من الدلّة البرونزية التي جلبها معه من مكّة المكرمة في حجّه الثاني مقرونةً بفنجانين مذهبين احتفظ بواحد في الدولاب كبديل اجباري يوم يعلمه الفراش بنظرات خَجِلة انه سقط من يده وتهشَّم.. عليه اليوم تداول ثلاث قضايا من سبع وتأجيل أربع اوكلت اليه في دورته القضائية التي تستغرق ثلاثة اشهر قبل ان يتولى ادارة الجرائم الكبرى أو البداءة أو الدعاوى المدنية كتبادل روتيني متبّع أو عرف إداري يتنقل فيه القاضي، أيُّ قاضٍ، من مهمّة لأخرى.
من مكاني أبصر من بين الجالسات السبع امرأةً سمينة بوجه ممتلئ وعينين يطفح منهما ما يشبه الغضب. تجلس قريبةً من باب الممر المُطل على الفناء.. مرَّ شرطيان يقودان شاباً ملتحياً تقيد معصماه كلبشة وقد بدا مكتئباً كأنه لم ينَم ليلته السابقة صارفاً ساعاتها بقلق، متخيلاً مشهد المحاكمة: يُنادى على اسمه عالياً كمتَّهم أمام الناسِ فيدخل قاعةَ المحكمة مُقاداً بأحدِ الشرطيين اللذين جلباه: النظرةُ الباردة من القاضي والمدّعي العام والمحامين، السؤال والجواب، الاتهام بشواهد وحقائق سيبرزها محامي المشتكية ويحاول محاميه هو ردّها. ما الذي سيقول، وما سيجيب.. لم يتصوَّر انها ستقف لتشتكيه طالبةً الطلاق. زوجة لا يشعر انه قصَّر معها. كلُّ ما كان يطالبُها به هو أن لا يتدخَّل اهلُها في حياتها لأنها صارت بعهدته لا بعهدتهم، بينما ترى هي أنه لم يحسن الحفاظ على اواصر حياتهما الزوجية فاستمر بعادات ما قبل الزواج: انفلات، وتسيب ومخدرات وشتائم تمس والديها وأقاربها، ورميها بما ليس فيها، ثم في دورة خدر سببته حبوب " آرتين " صار يدفعها في جوفه طوال يومه طعن ظهرها بسكين تسبب برقودها عشرة أيامٍ في المستشفى.
تمتمت المرأةُ الزوجة الجالسة بجوار المرأة السمينة: هذا هو !.. هذا هو ! فاستدارت السمينة تسألها: هذا زوجك؟!.. أيا ابن الكلب، أراد قتلك وهو لا يساوي كعبَ حذائك." تهيأت لردٍّ قاس إن أظهرت الزوجة امتعاضاً على تعليقها.. وحين شاهدت نظراتِها محايدةً انطلقت: " تماماً مثل ابن الكلب زوجي.. يريدوننا للمتعة والخدمة."
جلس القاضي خلف مكتبه. انا امسك السجل لأدوّن اسئلة سيتوجه بها الى المشتكيات ومعها الاجابات.. القاضي يطالع محتويات ملفِّ القضية الأولى؛ تخص " انّوسة فاضل محمد " طالبة انفصال عن زوج. رآها عند دخوله تجلس مع امرأة تكبرها سناً عند حافة المصطبة المركونة في زاوية الممر البعيدة.
قبل أشهر كنتُ صباحَ كلِّ يومٍ أبصرُ أنّوسة تخرج من عكد السبوسة لتدخل شارع باتاً بملابس الزي المدرسي: القميصُ الأبيض والصدرية الزرقاء، الجوربُ الابيض والحذاء الأسود تبرح البيت مُبكرة؛ فرحةً بما هيأت لمعلماتها من واجب بيتي انجزته بيسر وأتمَّت جميع ما طلب منها. تحمل حقيبةً مليئةً بكتبِ مرحلة الثالث الابتدائي واقلام ملوَّنة ومماحي ودفتر رسم اثير لديها، وفطوراً صباحياً هو نصف رغيف وقطعة جبن أبيض صنعته أمُّها من حليب المعزى المربوطة في سطح الدار ستلتهمه بعد الحصة الثالثة بشهيةٍ بالغة.. تطرق باب زميلتين اختين بنفس عمرها يخرجان لها سريعاً. فتنطلق الثلاث جذلات يحثثن بخطى طفولة بريئة نحو المدرسة.
بعد عطلة نصف السنة لم أعُد اشاهد أنّوسة تخرج الى المدرسة؛ فقط التلميذتان الاختان يأخذان الرصيف ويمرّان من امام دكان ناطور المكي. يلقين تحية الاحترام بعبارة: شلونك جَدّي؟.. وناطور المكي جدهنّ لامّهنَّ يغدق عليهن تحية العطف: " كل الهلّة بالحبابات "؛ وقد ينده عليهن فيمنحهنّ الف دينار ليشترين من حانوت المدرسة ما يستعذبن من حلوى وسكاكر.
ولقد فوجئت بالأمس وأنا أهيئ ملفات القضايا التي سيتداولها القاضي في اليوم التالي بلمف يحمل اسم أنّوسه فاضل محمد.
تهتُ مع جملةِ اسئلةٍ كان اسم ووجه انوسه يترجرج امام عيني.. من تكون أنوسه هذه سيئة الحظ طالبة الافتراق والطلاق؟.. هل ثمّة أنّوسه اخرى غير التلميذة الصغيرة التي كنت اشاهدها يومياً تخرج كفراشة تحتفي بطفولتها صوب المدرسة؟.. الاسمان متشابهان والعمر حسب ما مثبت في الدعوى واحد.
يا الهي ! اهي أنّوسه التي أعرف وأرى؟!
اليوم تأكَّد لي انها هي !
حضرت مع امّها. لم تحضر لوحدِها. فهي ما زالت في عمر التاسعة وستة أشهر وخمسة ايام بتقويم هذا اليوم. أنّوسة لا تعرف كيف تضع العباءة على رأسها وتلفها حول الجسد. لا تعرف ما ستقول إنْ سألها القاضي اسئلة ستجدها لا تتوافق ومداركها. فكلُّ ما تعرفه هو انها سُحِبَت من المدرسة وسيقت على ايقاع الطبول والزغاريد الى جبّوري الذي يكبرها بست عشرة سنة. كان جبوري بعمر الخامسة والعشرين. وكان عاملاً أجيراً عند بائع خضروات. وجدَ ابوه فرضَ دخولهِ عشّ الزوجية ليكوِّن أسرةً. جبوري لم يرفض بل فرح للمقترح أو رضخ لما سمع من ابيه على ان الزواج واجبٌ؛ بل ونصف الدين.
بضعة ايام مرّت وجدت أنّوسة انها اصبحت زوجةً ومرَّت بمراسيم خطوبةٍ وعقدٍ وزواج. وألفت نفسها منفردةً بعدما دفعتها أمُّها الى غرفتها دفعاً بانتظار زوجها بالشرع والدين.. دخل عليها جبوري فوجدها منزوية تبكي خلف دولاب الملابس الجديدة التي اشتريت لها كجهاز عرس وقد كسا وجهَها شحوبٌ لا يرى إلا عندما يرتعب انسان في موقف مريع. وحين سحبها واراد خلع ملابسها لإثبات رجولته فُزِعَت، وأصابها هلعٌ شديد. شعرت بالعيبِ وهي ترى هذا المخلوق الغريب يمدُّ يدَه ليخلع ثوبَها. أما هو فراح بكلِّ ما فيه من شهوة الشباب يخلع ملابسها عنوةً.. وعندما فعل وهمَّ بسحبِ لباسها الداخلي اغمي عليها.
جعل القاضي المرافعة الاولى لقضية انّوسة. طلب من الشرطي المنتصب في الباب ان ينده عليها؛ فرفع الرجل صوته يردد اسمها الثلاثي. نهضت امرأة ودخلت على القاضي.
رفع القاضي عينيه عن ملفِّ القضية فتفاجأ بإمراه تقرب من الثلاثين. سألها:
" أنت أنّوسة فاضل محمد؟ "
" لا؛ انا امُّها."
" هل انت صاحبةُ القضية؟"
" لا، انها ابنتي."
رد بامتعاض:
" اذا كانت ابنتك فلماذا تدخلين أنتِ؟ "
توجّه بنظرةِ لومٍ للمحامي الذي يتولّى القضية.
المحامي وبارتباك قاد المرأة للخروج من الغرفة موجِّهاً عتباً على دخولها، طالباً دخول طالبة الطلاق بمفردها.
وكان ان دخلت انّوسة تتعثر بذيلِ عباءةٍ يبدو انها أُجبِرت على ارتدائها.
طالعها القاضي بنظرة فاحصة.. انه يرى طفلةً لا تفقه من شؤون القضاء والدعاوى والمحاكم شيئاً.. هذا ليس مكانَها؛ وهذه قضيةٌ يفترَض أنْ لا تكون طرفاً فيها.
الليلةُ الماضية، مُتابعاً برنامجاً تبثه قناة " دويج شفيليه DW" عن البرامج العلمية التي وضعتها المؤسسات التربوية الالمانية لتنمية قدرات الاطفال من الخامسة حتى العاشرة من العمر استذكرَ القاضي انّوسة التي سيتناول أمرَها في الغد؛ فقضى الليل ساهراً على ايقاع ألم ينغل كالسكين في خاصرة ضميره ويغور ليربك وعيه. لقد أجلَّ البتَّ في الدعوى مرتين.. وغداً سيحكم بقرار الانفصال بناء على مادة قانونية لا تقر بقاء الزوجة مع زوجها طالما لم تبلغ الرابعة عشرة من العمر بموافقة ابيها، ولم تدرك السنة الثامنة عشرة لتكون فتاة مدركة وواعية للاختيار.. غداً سيحكم لصالحها؛ لكنها كيف تتجاوز القرار الشرعي الذي سيكبح رغبتها في الطلاق التام والانفصال؟.. انين انساني ينفذ اليه من زوايا الغرفة وثنيات الفراش وشقوق الجدران؛ من خلف النافذة وعبر فتحات يسمح بها الباب. ينهال من السقف وينبثق من الارض.
طالع انّوسة والوجع يدور في دمِه، والأسى ثقيلٌ يطرق بابَ قلبه... طالعها كما طالع بالأمس ابنته التي بعمرها وهي تؤدي واجبها المدرسي البيتي كتلميذة في الثالث الابتدائي لتقف في الصباح تُسمع معلمتَها.
سألها عن اسمِها..
انكمشت داخلَ عباءتِها وارتعشت؛ غزا وجهَها الشحوبُ وجفَّت شفتاها.. التفتت تبحثُ عن امِّها لتلوذ بها أو توليها مهمةَ الرد.. قليلاً وأجابته بعيني قطّة مُحاصرة ولسانِ طفل خجول.
ربعٌ ساعةٍ انصرفت. انتهت بعدها المرافعة.
خرجت انّوسه ولكنْ ليست بمثلِ ما دخلت.
خرجت كعصفورٍ يفرُّ من قبضةِ يدٍ افلتته.
نظرَ القاضي اليَّ، وبتقاسيمٍ تنمُّ عن ألمٍ ممزوجٍ بسخريةٍ سألني: أترجمتَ يوماً من ثقافاتِ الامم مثل هكذا قضية؟
أدري أنه لم ينتظر الجواب. فللرجل قراءاته الدائمة واطلاعه الواسع على عادات الشعوب ومسلِكها الحضاري ما يغنيه بما وعمّا سأجيب.
أمرَ بالمناداةِ على القضيةِ التالية.
ومن طرفي تهيأتُ لتدوينِ المجرياتِ.
23
في احدى نزوات الترجمة السريعة أعجبتُ بقصة (شتاء المظلات) لكاتبٍ مجهول؛ إذ نشرت مؤسسة " توينتيث سنشري انكلش – شورت ستوريز " القصة، مشيرةً إلى جمالِها وروعتِها لغةً واسلوباً وصورةً ومعنىً ومدلولات.
القصة تحكي اهتمامَ امرأةٍ حدَّ العشقِ بالمظلات: بألوانها، بحجومها، بقبضاتها المتنوعة المتوزعة بين قبضة سيف، أو رأس قط أو عنق ريم.. صناعة القبضة من عاج ابيض، أو كرة زجاج بهيئة دمعة صافية، أو كتلة رخام اخضر يخضله لون عسلي، أو حجر عقيق ابيض صافٍ مشوب بما يشبه غيمة رمادية ناصعة توشك على التفكك.. قماشُ المظلات من المشمَّع طُبِعَت عليه صورةُ قلبٍ يليه سهمٌ يتَّجه نحو نقاطٍ بلورية تهطل من أعلى بلغةٍ يفهمُها الجميع على أنها " احبك "، وهي تقصدُ المطر.. فيترجمُها المارَّةُ المتطلعون اليها وقد رسموا ابتسامة تدغدغ مشاعرَهم وتجعلهم يرددون كلُاًّ بلغتِه. فالإنكليزي يتمتم وقد غرز اسنانَه العلوية بشفته السفلى " آي لاف يو I love you "؛ والفرنسي كما البلبل يغرد " je t'aime "؛ والألماني يهمسُ بوشوشةٍ " إش ليبه دِش Ich Liebe Dich؛ والاسباني نهرٌ يتدفّق " Te amo "؛ والدنماركي يفغرُ فمَه كأنه يتعجب " ياي ألسكه داي Jej elesker dig "؛ والتركي " seni seviyorum؛ والايطالي ti amo والكوري Sarang Heyo..
كانت القصة من السهل الممتنع الخالي من التعقيد، تماماً كما هي قصص آرنست همنغواي. لقد ترجمت قصةً لهمنغواي عنوانها (قصة قصيرة جداً) كتبها العام 1925 تحكي حالة جريح في مستشفى ميداني خلف خطوط النار يعشق ممرضةً اسمها لُوز كانت هذه الفتاة قد تناوبت ليلاً على علاجِه والجرحى لثلاثة اشهر. بعد شفائه عادَ إلى الجبهة على أمل أن يلتقي لُوز ويتزوجا، هذا ما جاء عبر رسائل كانا يتبادلانها.. بعد الهدنة عاد الى امريكا وتوجَّهت هي الى ايطاليا وكانت تنتظر أن يعلمها بالحصولِ على عملٍ لتأتي الى امريكا ويتزوجا. في ايطاليا افتتحت مستشفى تديره وكانت تنتظر لكنْ لم يجيء منه جواب.
لاحظتُ أنَّ القصة التي تحتوي حوالي 1200 كلمة لم ترد كافُ التشبيه الا مرتين فقط. وكانت الجمل التي اترجمها قصيرة والكلمات معدودة ومعبِّرة. على عكس ما كنت الاقيه من ترجمة جملٍ مركَّبة ومعقَّدة وطويلة تتخلُّلها الفوارز وحروف الاستدراك وخطوط التقاطع وعلامات التعجب كما هي عند وليم فولكنر؛ حيث استطعت تحديد هذه الجملة الطويلة المعقدة من قصة (انتصار) التي ترجمتها، وهي نموذج لعديد الجمل من هكذا النوع ((لكن يبدو أنَّ الرجلَ لاحظَ ذلك، وسرعان ما راحتا تتكلمان بصوتٍ خفيضٍ، شاخصتين بعيونٍ فضوليةٍ مستنفرة نحو قامتِه المشدودة الصارمة وهي تميل قليلاً إلى الأمام على العكاز، وتنظر من النافذة المتَّسخة من دون أن يكون هنالك ما يستحق المشاهدة، سوى بعض الطرقات المهشمة وجدعات الاشجار المتناثرة التي لم يعد يتجاوز طول الواحدة منها قامة الإنسان، وقد برزت نافرةً فوقَ الارضِ المحروثةِ عشوائياً في جزرٍ متباعدةٍ من الارضِ تدلُّ اليها يافطات حمراء، وتمتد فوقَ الخرابِ الذي يحتويه)).
الترجمةُ علَّمتني اساليبَ الكتابة لدى الكتّاب مثلما تعرَّفتُ على اللغةِ التي يكتبون بها كوسيلةِ تعبير.. فمنهم مَن يرى في الجملةِ القصيرة الخالية من حروف التشبيه والمكثفة من خلال التخلّي أو التقليل من الوصف والاسهاب تفي بالمعنى وتَّتسِم بالعذوبة؛ ومنهم مَن يكتب بتراكيب تطول وتقصر تتجلّى عنده اللغةُ مطواعةً ومستعدةً للاستطالة، ومتهيئة للتشكّل من أجل جملةٍ تختزنُ داخلَها الصورَ والشفرات.. وحسبي أنَّ القرّاء يتفاوتون في رؤاهم تجاه اساليب الكِتّاب. فمنهم مَن يقف مع الاول على حساب الثاني؛ ومنهم من يرى أنَّ الثاني خيرُ مُعبِّرٍ عن ذاته إذ هو يفصح وبشكلٍ تفصيلي على عكسِ الاول المُختَصِر المُكَثِّف... انهما يقدِّمان تراكيبَ لغوية تستحيل صوراً وتعابير قصداً في إحداث المتعة وخلق اللذاذة المحببة.
24
أمس عندما فتحتُ بريدي الالكتروني وجدتُ رسالةً فلمية بعثها هاشم. اعتقدتُ أنها فيلم سينمائي بطله مايكل دوكلَص الذي أحبه منذ مشاهدته في فيلم " اللعبة " فصار يتتبع أفلامه الأخرى ويشاهدها بمتعة ولذاذة؛ أو أنه فيلم يعرض مفارقات أو مفاجآت أو حوارات يجدها تزيد من ثقافتنا عن العالم الغربي الذي ما زال في زواياه كم متراكم من الخفايا رغم ثورة الاتصالات والفضائيات التي لم تترك، كما نظن، شيئاً لم تصوره وتتناوله وتعلِّق عليه سواء ريبورتاجات أو ندوات تتساجل فيها نخب المفكرين والمثقفين.. فضلت تركه إلى المساء حيث أكون أمام فسحة من الاسترخاء بعد جهد العمل الوظيفي ومشوار الترجمة. سحبته إلى سطح مكتب اللاب توب.
عصر ذلك اليوم قضيتُ أسوح على الفصل الثالث من رواية خاتم الأمير العبد. وكان يضم العناوين: " ألكوستا جوزفين"، و" فيفت اسبانيا "،و" كاباليتو دِل ديابلو"،و"نيو بوتو"، و" جزيرة"، و" كارين ني ميلي ". وكلها تتعلق بتوم اوكنور وتطلعه لتغيير الحال والبحث عن عالم يشبع رغباته ويخلصه من واقع لا يرى فيه غير تحرك آلي يصرف عبره ساعات النهار ثم يؤوب الى مهجعه متعباً ومرهقاً وقد نال ما نال من التعامل الفض من عديد الزبائن الثقيلين؛ من نظرة أخته غير الشقيقة وهي تكايده وتعيب عليه اصله الايرلندي؛ من نظرات السنيور لوبيز، وهو يدعوه الى بذل الجهد وتقبل ما يسمع طالما ان صميم العمل يقتضي تقديم الخدمات وخلق الراحة والجو المثالي لزبائن يأتون طلباً لها، وسعياً لحصاد هناءة يأتي بها نبيذ يجمع الاقران ليمارسوا فعل المحادثة، صانعة الألفة ومبددة وطأة الارهاق. واجهتني جملة طويلة تقول " It's at time like this ,a lonely boy from Nevis must try to combat his superstition, hismelancoly , and his homesickness.".
وفيها الفعل "combat "يحتمل اربعة معاني: يصارع، يقاوم، يقاتل، يقارع.. فمَن مِن الاربعة يفي بالغرض مع انها جميعاً تتقارب بالمعنى؟ هل أترجمها " يصارع، أم يقارع، أم الافضل يقاوم أو يقاتل؟!
في الترجمة تواجُهُك مُهمة أنْ تُترجم بفَهمٍ وترسم صورةً مُثلى كي يستمتع القارىء فيخرجُ بحصيلةِ استمتاعٍ مقرونٍ بالهدف الذي بمثابةِ حكمةٍ أو مجموعة أمثال يُراد لكلِّ من يقرأ روايةً الاطلاع عليها وابرازها كمدلولات تستحقُّ الاشادة بها. إذ لا هدف يتمكّن القارىء من ادراكه دونَ ارتشافِ اللذاذةِ وحيازة قيم المدلولات... وفي الترجمة يجدُّ المترجمُ في اختيار الكلمة الأكثر وقعاً كبديل عن أخرى استنفذت معناها وموسيقاها. فقد واجهتني كلمة (hope) وترجمَتُها أمل. ولأن الكلمة أُكثِر تداولها حتى اصبحت ككلمةِ لُعبٍ عند الاطفال فقد ارتأيتُ استبدالها بمفردة (تَطلُّع) مُنطلِقاً من أنَّها تشمل ارسال النظر الى نقطةِ البلوغ وحيازة تلك النقطة بينما تدلُّ كلمةُ أمل على الحيازة بغض النظر على المراحل المُستنفَذة من أجلِ بلوغها.. لذلك وجدت نفسي اختار (يقارع) كعملٍ فيه مزيجٌ من المواجهةِ والتحمِّل في المعنى (وتغاضيت عن استخدام واحدة من المرادفات الثلاث الأخرى).. فمفردة يقارع تشير إلى عملٌ يجدُ فيه المرءُ نفسَه مُجبراً على المواجهة بالتصميم، مقروناً باستخدامِ العقل، خروجاً من واقعٍ جاثمٍ لا افق لانتهائه.
***
غادرتُ البيت وفي النفسِ مرحٌ وفي القلبِ جذل.. إنَّ القلب ليهنأ اذا طابت النَّفس. والنفسُ اذا طابت غنّت. لذا قطعتُ الطريق سعيداً.. سعادة تنخلق من الداخل وإن بدا الخارج سلبياً.. إنَّ الترجمةَ التي سلكتها طريقاً منذ اعلنت الروح رغبتها في تتبع حيوات اناس في اصقاع متنوعة من العالم جعلت منّي مخلوقاً يُحسن التعامل مع الزمن، واعتبرتها سلوكاً للمداواة والعلاج الانجح للتخلص من فراغٍ يعاني منه الكثيرون من أقراني الذين ابصرهم يتخذون المقاهي امكنةً لصرف الوقت. لذا صرتُ اشعر أنَّ قيس ابن الملوح اسعفني بهتافه " ولا انشدُ الاشعار إلا تداويا.".. صار فعلُ الترجمة عِقاراً للتداوي من ثقل الوقت الجبلي الذي يجثم على عاتق الآخرين ويخلق لهم حياةً ينتفي فيها الأمل، ويخلو من المشاريع المُنتِجة والمفيدة.
نعم؛ في النفس مرحٌ، وفي القلبِ جذل.. بالإمكان حصادُ بهجةِ البشري من ايقاع خطواته، من نظراته وهي تطوف عمّا حولها، من التحيات التي يلقيها على من يلتقيهم في الطريق أو من الرد على تحيات تتفجَّر من افواه الاصدقاء والمعارف وهم يعلنون بهجتهم للقائه.. ها أنا اشعر انني أسير وقد تركت ورائي على المنضدة انتاجاً يصب بمحصلته النهائية في نهر اشباع ظمأ قرائي لمعرفة جزئيات حيوات كينونات انسانية: كيف تعيش، وبماذا تفكر، وأي سلوك تسلك في تعاملها اليومي.. إنَّ الانسان لتوّاقٍ الى المعرفة، وإنَّ الصانع الأمهر ليهنأ إذ يجد أنه يَخدم لينفع، ويُقدِّم ليُسعِد.
مع مرح النفس وجذل القلب ارتفع أذان المغرب من الجامع الكبير ودوَّت السماعات الثمان من هامة المنارة الشاهقة تملأ الفضاء بكلمات " الله اكبر" اربع مرات فيما عديد الناس في أوج انشغالهم يطالعون السلع المعروضة وعديد منهم منهمك في شراء الخضار والفواكه؛ وباعة العملة الصعبة وراء معارضهم الزجاجية الصغيرة وسط السوق المسقف، حيث يمكن مشاهدَتَهم من فمِ السوق، منهمكين بالتعامل مع أناس يفكرون بالسفر خارج البلاد فيبتاعون العملة المرادة وإن دفعوا الكثير مقابل ذلك (لقد تناسلت تلك المعارض الزجاجية الصغيرة ومعها مكاتب عديدة فتحت وبشكلٍ مُلفِت للانتباه لبيعِ العملة كشبكةٍ تديرُها ايادٍ خفية تتلاعب بعملةِ البلاد حسب نهمِها لحبِّ المال دون الاهتمام لعافيةِ الاقتصاد أو مرضه)... سيارات التاكسي تخترق الشارع بصعوبة لكثرة الزحام الآتي جُلُّه من احتلال الباعة للأرصفة واضطرار السابلة للنزول الى الشارع بكثافة (لا محاسبة لمن يخترق القانون، ولا تثقيف كواجب يرشد الناس الى ضرورة احترامه من اجل سير الحياة بطريقة اسهل وافضل. القانون منزوي).. ومع أنَّ الأذان انتهى وردَّدَ المؤذن بعض الادعية إلا أنَّ الزحام لم يهدأ، والمعارض ببهرجة الانارة والمعروضات استمرت تستقبل عيون الباحثين عن مرادهم. زحام يمكن توصيفه بحركة نحل دائبة، لا لبناء خلايا كي تُملأ بالعسلِ بل تسوقٌّ عشوائي من بابِ اشباعِ حاجةٍ وارضاءِ نزوع لا ضرورة لهما إنْ حُكِّمَ العقل واستُعين بالتدبير.
الفصل الخامس
الارهابُ.. يدُ القتل.. الكراهيةُ السوداء
كلُ عالمٍ ضيقٍ اليوم هو عالمٌ ثانوي. كلُّ ثانوي هامش
لا شأن له، ولا فعل، لا حاجة كيانيّة له.. كلُّ لا حاجة
كيانية له مُهدَّدٌ بالانقراض.
أدونيس
الكتاب، الخطاب، الحجاب
26
في العاشرة مساء وضعتُ سهم الفارة على المادة المرسلة وضغطتها مرتين فإذا بهاشم يكلمني. لم يكن هناك مايكل دوكلاص ولا كانت ندوة سجالية. بل كان هاشم جالساً عند النافذة في شقته.. رجل يقاربني العمر لكن الفرق بيننا شتّان.. هو ما زال يتمتع بحيوية وألق؛ يرتدي الملابس الزاهية تخلقها بيئةٌ حيّة وحيوية يعيش تفاصيلها بينما أنا الاشيب المتغضن الرقبة الحسير العينين، الذي اذا رغبتُ بشراء ملابس جديدة فلابد ان تكون ملابس رجل يعيش الشيخوخة ويفرض من خلالها وقاره واتزانه وكبريائه... أمامه لابتوب تعرض شاشتُه نصبَ الجندي المجهول الذي صممه المعمار رفعت الجادرجي. تصميمٌ يعرض بشكلٍ رمزي أمّاً تنحني لائبةً جزِعة على ولدِها الشهيد. فأدركتُ أنَّ هاشم بوضعه الصورة واجهة انّما هو تعبير عن الحنين لفترة شبابه يوم كان هذا النصب قريناً لنصب الحرية الذي أبدعه جواد سليم وصمم جداريته الجادرجي ايضاً كلافتةٍ يتوزَّع عليها نضالُ الشعب العراقي من أجل الحياة والحرية.
قال يخاطبني وقد ارتدى بلوفراً صوفياً قهوياً ظهرت حواف ياقة قميصه بيضاء:
" صديقي حمزة.. العالم يتابع أخباركم بقلق. يتأسى عليكم، ويرى أنكم تخوضون في عماء.. الإرهاب يضرب كلَّ شيء عندكم فلا يترككم تلتقطون الأنفاس. يوم يغيب العقل تستيقظ الوحوش. هذا ما قرأته عن الفنان التشكيلي الاسباني فرانشيسكو دي غويا؛ وهو كلام لا يجانب الحقيقة في جوهره.. الناس هنا يتساءلون لماذا يحدث كلُّ هذا الهول عندكم؛ وماذا انتم فاعلون؟!
عندما تعم الفوضى تغيب القيم؛ وعندما يتفشى الفساد يتقهقر العدل والتربية تتراجع. الفاسدون هم من يخلقون هذه الفوضى ويصنعون اللانظام سعياً لتمرير مخططاتهم في جني ثمارِ الفساد مالاً مُهرَّباً وجاهاً مُعظَّماً وسيادةً كبرى على الضعفاء والفقراء والمهضومين.
تتغير صورةُ اللاب توب اوتوماتيكياً فيظهر مشهدٌ صوَّرته عينُ الكاميرا عند مدخل شارع الرشيد، وبالضبط من تحت عمارة فارس مُظهرةً ثلاث نسوة بغداديات يعبرن بعباءاتهن السود الشارع كأنهن يتجهن للكاميرا وقد بدت خلفهنًّ، على البعد، جدارية جواد سليم وباصات مصلحة نقل الركاب الحمراء ذات الطابقين وخلفها يساراً وبمسافة مائتي متر خزان الماء الإسمنتي الكبير في ساحة الطيران فيما عدد من المشاة يعبرون على مهلٍ لخلو الشارع من السيارات باتجاه شارع الجمهورية.. الصورةُ تعبِّر عن اعتزازِ هاشم بالعاصمة بغداد واهلِها كحنين دائم للوطن واصرار على عدم نسيانه او التخلي عنه رغم العمران الباذخ الذي يتجلى في مدينة أودنسا التي يقطنها، رغم الرفل الجميل لنسائها وزهو اطفالها واعتداد رجالها، رغم التطيّر الذي غمره والدهشة التي اعترته وهو يعود الى بغداد بعد سقوط صدام فيراها عليلةً ومتهالكةً وبائسة، ويجد العراقيين اهلاً ومعارف واصدقاء ومواطنين يعيشون حالة التردي بعدما انهكَ الحصارُ وقسوةُ النظام الجسدَ الوطني وأربكَ منظومته وجعلَ من الروحِ العراقية قصيدةً للاسى ولوحةً للوعة.
أبصرُ هاشمَ يرتشف جرعةً من نبيذ احمر بقدح كريستالي ثم يزفر كأنه يتوجع:
((الحياةُ تتغير هنا.. الشعوبُ نفسُها تصنع التغيير.. الفرقُ شاسع وكبير بينهم وبين شعوبنا العربية.. هم شعوبٌ علمانية تعمل؛ مدركةً أنَّ العمل، في فضاء علماني يتساوى فيه الجميع بمختلف افكارهم وعقائدهم، يصنعُ السعادة ويقلل من شقاءِ العمر المحدد بمعدلاتِ سني المخلوقِ البشري. أما نحنُ فنراه جُهداً من أجلِ متعة ذاتية يومية (يهز رأسه تململاً). نحن لا يهمّنا المستقبل ولا ننظر لأحفادِنا وما ينتظرونه منّا بينما هم يجدّون ويجتهدون من أجل أجيالهم؛ نعم يفكرون بماذا سيستقبل منهم أجيالُهم القادمة (يضرب على الطاولة جزعاً). هم يعملون بفكرِهم فيشحذونه بالمخترعات والاكتشافات أما نحن فنعيش ببطوننا وشهواتنا... اذكر مثلاً اغريقياً يقول " كما تفكرون، تكونون "؛ وهي اشارةٌ إلى اهميةِ الفكرِ في بنائنا البناء الامثل او تحطيمنا بقسوةٍ حتى لنغدو كيانا بشرياً مُهشَّماً، نحن، يا حمزة اسرى لما مرَّ؛ باقون نعيش على إرثٍ متراكم؛ لا نفكِّر بما نريد للآتي ولا نصبو لبناءِ حياةٍ يحدوها التفاؤل والعزم على البقاء والاستمرار كشعوبٍ لها قابلية تبادل الرؤى والمصالح مع شعوب الارض الاخرى.. واذا كنا نردد قول زهير بن ابي سلمى " واعلمُ علمَ اليوم والامس قبلَهُ // ولكنني عن علمِ ما في غدٍ عميُ " وقد رسم صورة العرب قديماً وبقيت الصورة تعيش حتى اليوم. اقول اذا ظل احدنا يردد هذا التصوّر فانسَ أنْ سيأتي يومٌ يعيش العرب حياةَ الغرب فيسعدون ويستمتعون ويهنأون ويحتفلون ويغنون ويرقصون ويوظفون الزمن لما يخلق سرورهم ويبني كيانهم السوي.. انسَ أنْ سَيمر يومٌ على العرب لا يتشاجرون فيه او لا يسفكون دماءَ بعضِهم بعضاً.. انسَ أنْ سيبني العرب صرحاً معرفياً وحضارياً تفتخر به البشرية جمعاء فيقال كان لهم دورٌ فاعل في بناء تاريخ الانسانية السعيد.. لن يهنأ العرب طالما تمثلوا بسيزيف واستمروا يحملون صخرة الماضي على ظهورهم ويعاندون قوانين الحياة في ارتقاء جبل الحضارة بلوغاً إلى ذروته غير مدركين انهم إنما يتباهون بصخرة ميتة.. (يتحسر) لن تستمر حياة العرب وستكون قصيدة نزار قباني " متى يعلنون موت العرب " كألفية ابن مالك مادة منهجية تحفظها الاجيال العربية المتشرذمة القادمة.. لن تسمع يوماً تلاميذَ المدارس يفتتحون فصولَهم الدراسية صباحاً بنشيد " بلاد العرب اوطاني "..))
أضع سهم الفارة على إشارة الإيقاف فيتوقف كلام هاشم وتثبت صورته على شفتين مزمومتين وعينين نصف مفتوحتين. أنهض لأعمل فنجان قهوة.. أحب عمل القهوة بنفسي، استمتع بمسك الدلة البرونزية المصنوعة في الصين من قبضتها (كل بضائعنا المعروضة في الأسواق صينية.. لقد دُمِّرت الصناعة عندنا والمصانع حُوِّلت إلى خردة وبيعت لمافيات مجهولة). وقفتُ أمام الطباخ الصيني؛ أشعله بالقداحة الصينية؛ أسكب قليل من الماء في الدلّة الصينية، ثم أتناول العلبة الزجاجية من أعلى الرف المصنَّع في الصين. آخذ بالملعقة الصينية الصغيرة ثلاث حفنات من القهوة المستوردة من الصين وامزجها منتظراً تسخينها ومنتبهاً لئلا تفور وتطفح وتندلق على الطباخ وعندها أتلقى لوم زوجتي وتذمرها: " متى ما أردت قهوة انده عليَّ فأعملها بيدي وأنت المرتاح، يا رجل ".
المهم أنّني صنعت القهوة بلا خسائر ولا توقّع تأنيب. وضعت الفنجان على المنضدة. أمسكتُ بالفارة وعدتُ أوجّه السهم إلى مؤشر التشغيل. ضغطتُ فعاد هاشم إلى الحياة.. قال:
((فرِحت بائعةُ الورد وبدت مرحةً كفراشةٍ تبتهج بطبيعة انفتحت لها ورياض قالت لها استمتعي عندما اهديتُها تخطيط بالقلم الرصاص لوجهِها وهي تبتسم والى جانبِها سلةُ الورد.. ضحكت بفرحٍ مكتوم فضحته عيناها الزرقاوان، وراحت تنقرُ بسبابتِها: هذه جبهتي، هاتان عيناي، هذا شعري وتسريحتي، هاتان شفتاي.. يااااااه، هذه رقبتي وهذا الصليب الفضي، والسلسلة، يا لبراعتك ! كيف رسمتَ السلسلةَ بهذا الاتقان.. ثم انطلقت تردد بلهجةِ ارستقراطيِّ كوبنهاكن العاصمة: " آي فو أدن أوو ترولي فلوت.... كَم هي حلوة لا تُصدَّق.".. سحرُ التخطيطِ وجمالُ الصورةِ دفعتاها الى الشرود. رأيتُها ترحل طويلاً ثم تعود بعينين تطفحان شغَفاً لقولِ ما تكرَّسَ في الاعماق.. قالت:" سيدي، لي أمٌّ أجمل منّي.. كم اتمنى لو تكرَّمت ورسمتها.. هل آتيك بها أم بصورةٍ لها؟... ضحكتُ وقلت: اتركي ذلك لوقت آخر.. يوم تحين الفرصة سأعلمك ونتَّفق على تحديدِ موعدٍ لذلك.. شكرتني بالنظرات قبل انطلاق فمِها بالكلمات.. اتراها استعذبت رسمي فتمنَّته لامِّها كذلك؟!)
يتوقف عن الكلام ويرهف السمع.. يحدق في عين الكاميرا، ويدري انه يكلمني.." أسمع نقرات على الباب.. دقيقة وأعود " يدير عين الكاميرا قليلاً فتكشف جداراً علقت عليه لوحة مستنسخة للتشكيلي النمساوي غوستاف كليمت عنوانها " القبلة ". لوحةٌ كانت مخزونةً في أقبيةِ المخابرات السوفيتية صادرتها القوات الروسية مع مجموعةٍ كبيرةٍ من اللوحات النفيسة بعد دخولِها برلين ابان سقوط الرايخ الثالث وانتحار هتلر واستيلائها على كنوزٍ فنية ومقتنياتٍ لا تقدَّر بثمن. في اللوحة يظهر رجلٌ يطبع قبلةً على خدِّ فتاةٍ مُغمَضة العينين تستعذبُ هذا الفعل الخرافي الجميل فتذوب في نشوةٍ غامرةٍ. لا تبغي الصحو، ولا تريد لسحابةِ السَّحر اللذيذ أنْ تجافيها. تفشي اللوحةُ تأثّرَ الفنانِ بالموزائيك البيزنطي والزخرفة التي قضى زمناً يحترفها كمهنةٍ بعدما تعلَّمها من أبيه العامل في هذا الحقل.. سُعدتُ لأنَّ هاشم يحتفي بها. لكأن ذوقينا متشابهان. فهذه اللوحة أدهشتني كثيراً عندما اشتريت قبل أربعة أعوام كتاباً ملوَّناً بالورقِ الصقيل والغلافِ السميك عنوانه " حياةُ وأعمال غوستاف كليمت" ضمن سلسلة " حياة واعمال عظماء الرسامين "؛ وهي سلسلة تولَّت مؤسسة باراغِن على عاتقها طباعة ونشر مقدمة قصيرة وسيرة ذاتية مختصرة للفنان، مسلطين الضوء على خلفية العمل وملامح تأثيره في تاريخ الحركة الفنية وموقع العمل مقارنة مع الاعمال الفنية للفنانين التشكيليين... يومَها دفعتُ ضعفَ ثمنه المحتمل وكنتُ مستعدِّاً لدفع أضعافِ سعرِه للبائع الذي فرش بضاعته من الكتب على قطعةِ قماشٍ طويلة وشاء الحظ أن أكون أولَّ من وقعَ عيني على الكتاب ومؤلفته الانكليزية " ناثانيل هاريس" المتخصصة في الفنون وتاريخ الثقافات. ففي ذلك اليوم ترجمتُ منه عدّة صفحات؛ نشرتها في صحيفة الصباح العراقية.
تدخلُ مريم للمرة الثالثة فتجدني أشاهد وأنصت؛ وهاشم غارقٌ في الحديث كأنّه يدرك انَّني استمع إليه وأهزُّ رأسي متفقاً مع ما يقول. دخولها هذه المرة يختلف عن المرتين السابقتين.. هذه المرة لمحتُ حاجبيها يرتفعان وشفتيها تنكمشان.. قلتُ: " لم يبق شيء يا حبيبتي، الحديث على وشك الانتهاء.".. قلتُ ذلك ولم أرفع راسي وأنظر إليها متابعاً ما يقوله هاشم ويؤكد عليه. وما يقوله يتعلق بحالة الفوضى الدائرة في وطننا بعد دخول داعش المدن وشروعها بالعبث وتحطيم آثار ارض البلاد الثمينة. شكراً للسماء ! " رددها ثلاث مرات قبل أن تحمر عيناه ويردد بضجر: " إنَّ الكثير من آثارنا يحتفظ بها الغرب ويجني منها ثروة خرافية يفترض أن نجنيها نحن بعرضها في متاحفنا.".. لم تعلِّق زوجتي بشيء. فقط خرجت وسمعتها في المطبخ تفتح صنبور الماء فيأتيني هسيسه بينما هاشم يقول:
" متى ينتهي الارهاب اللعين؟"
27
الليلة - 2 تموز 2015 - كانت الفضائيات تنقل خبرَ ارهابٍ يضرب قريةَ خان بني سعد بشاحنة تقل ثلاثة اطنان رُكِنت في منعطفٍ وسط السوق الرئيسي.. ارهابي موتور، ومشحون بغلٍّ يرسم تفجِّر الدماء، وتناثر الاجساد، وتهاوي الابنية، وارتفاع النيران لوحةً تجعله القاتل المتباهي بموهبتهِ الوحشية. تتناقل فضائيات الامم ودول العالم هذا الفعل الهمجي وتقدِّم المكانَ في خارطةِ غوغل تتسع رويداً رويداً فيرى المشاهد خارطة تعرض اقطار العرب ثم تدخل العراق، ثم محافظة ديالى، ثم تخيم على نقطة صغيرة للقرية. ومنها تبدأ صورة الابنية البسيطة المُدمرة والسيارات المحترقة والجثث المتناثرة مقطعة ومبتورة ومرمية بعبثيةٍ ومُنقذين يحاولون وسط ذهول عميم انقاذَ ما يقدرون وعيونُهم تمسح المكانَ باحثة عن الأحياء من وسط الهول.
بعد أقل من ساعتين تأتيني رسالة أخرى من هاشم تحتشد بالنقمَةِ والغضب يقول فيها:
((انتم في كارثةٍ.. قلبي لما يحدث لوطني يعتصرُ أسى؛ وجُرحي يتسع نزفه عليه؛ وأنّي لكم لمتألم وحزين... العالمُ يتفرجُ علينا.. يا أمَّةً ضحِكت من جهلِها الأممُ. هل كان المتنبي على حق أم على خطأ بتعنيفه لنا بالمرارة الباعثة على الغثيان؟.. اصبحنا مثارَ سخرية. اصبحت البشرية تتفرَّج بشيءٍ من عدم التصديق تارةً وبشيءٍ من التشفّي تارات لعدم اعتمادنا المسلك الانساني الحضاري العقلاني. يتساءلون واسمعهم، كثيراً انصت اليهم هذه الايام يتحاورون بموضوعنا المهول، ما لهم المجانين يتصارعون ويتقاتلون، والى ايِّ هدفٍ يريدون الوصول.. يذبح احدهم الآخر، فلا عُرفٌ يردَعهم ولا شعورٌ انساني يوقظ فيهم المروءةَ والعقل.. لماذا هُم بهذه الوحشية في زمنٍ خلَّفت شعوبُ العالم عقودَ التقاتل وقرونَ الهمجية. ثم أقرأ في صحفهم وتعليقاتِهم الالكترونية عُظمَ دهشتِهم وهم يتساءلون: لماذا يسخِّرون هؤلاء الذين يعيشون خارج التاريخ ثروات جاءتهم بالصدفة ووهبتهم الارض مالاً من جوفِها واحشائها للنزاعاتِ والتفنّنِ في صناعة الموت بطرقٍ ومسالكَ مرعبةٍ.. النحرُ بتبجُّحٍ، قطعُ الرؤوس جماعياً، تعليقُ الجثثِ بمباهاة؟!
أين أنتم؟.. والى اين سائرون؟!
أوجدوا لكم داعش لتهدَّ كيانكم.. ويوم ستنتهي داعش سيخلقون لكم ما هو اعتى من داعش وأمَر إنْ لم تعودوا إلى رشدِكم، وتفقهوا أمراً يبدو انكم ارتضيتم ثقله ووطأته... خدعوكم فتقبلتم الخديعة.. انطلى عليكم ما لا ينطلي على اغبى جنسٍ بشري.))
يستمرُّ في حديثه الموتور:
((أمس زرتُ صديقاً عربياً وقف حفيده الذي بعمرِ عامٍ ونصف على خارطةِ الوطن العربي التي فرشها الصديق على البساط ليشرح لأولاده موقع بلدنا وما يحيط به من بلدان. أخرج الصغير عضوه الذي بحجم حبة فاصوليا وسط انهماك الجَّدِّ وانفعالِه في الشرحِ والتوضيحِ والإجابةِ على الأسئلةِ ووسطِ تحديقِ أولادِه في التضاريس والجغرافية رشَّ بولَهُ على خارطةِ الوطن وهو يُطلق كركرات طفولية بريئة. ضحك الابُّ الذي تربّى في الدنمارك واخوانه وأعمامه بينما بهتَ الجدُّ.. نظر لي فالتقت نظراتُنا وغاصت في رمالِ الاسى.))
***
شارع باتا مزدحم هذا اليوم.. سيارات الأجرة بالكاد تدخل من شارع الجسر. ومن يُسمَح لسائقها بالدخول هي السيارات التي تُقلُّ مرضى يصاحبهم افرادُ اسرِهم لمراجعة الأطباء. في الشارع تتزاحمُ عيادات الأطباء ومعها صيدلياتٌ تعجُّ بحاملي الروشيتات، ومقاهٍ يجلس فيها ذوو المرضى المنتظرون دَور دخولِ مرضاهم ليفحصهم الأطباء. لا يفوت أحدٌّ منظرَ النفايات المُبعثرة وأكثرها تلك التي يرميها أصحابُ المحلات وأخرى يساهم فيها المارة: عُلب كارتونية، حاويات بلاستيكية، عُلب سجائر فارغة، عُلب معدنية لمشروبات غازية، عُلب نقالات خلوية فيها كتلوكات بلغات اجنبية، مناديل ورقية، مُلصقات لمرشَّحين سياسيين لانتخابات سابقة مزَّقها صبيةٌ من اعمدة الكونكريت ورموها أرضاً، روشيتّات طبية ممزقة أو مطويّة احتوت أسماءَ أدوية ].. هناك بصاقٌ اصفر لمدخِّنين تجشئوا وقذفوا ما في صدورهم وعيونهم جاحظة يطالعون السجائر المشتعلة بين أصابعهم كأنَّهم يصبّون عليها اللعنة، وهناك لعابٌ احمر وقريبةٌ منه قطعةُ قطنٍ متشبعة بالدم قريباً من عيادة طبيب أسنان. الذين يخرجون من مَحل باتا يتركون على الرصيف صناديقَ كارتونية لأحذيةٍ أو أخفاف جلدية ابتاعوها ورأوا أنْ لا حاجة لها. كذلك باعةٌ يحتلون الأرصفة ويجعلون المارَّة ينزلون إلى الشارع اضطراراً فيما سائقو العربات يرمون من وراء المقود أعقابَ سجائرهم إلى الخارج بلا اكتراث. قِططٌ تخطو تتشمم ما في الأرض وبعض الأحيان تحدِّق في وجوه المارة علَّ احدهم يرمي إليها بما تشتهيه.
بائعو العملات ومنها الدولار خصوصاً يتوزعون على امتداد السوق المسقوف المنفتح على الشارع وأمامهم جمبراتهم المزججة تظهر نماذجَ من العملات الورقية للدول المجاورة سعودية وايرانية وتركية وأردنية يتقدَّمهم الدولار المتوزِّع بفئاته المائة، والخمسيين، والعشرين، والعملة الصغيرة من فئة الخمسة دولارات؛ وحتى الدولار الواحد، وهناك الحاسبات الصغيرة او الموبايلات المُعدَّة لغرض أداء العمليات الحسابية الاربع.. الدولار يرتفع هذه الأيام فيُضعِف قوة الدينار العراقي. الدينار يضعف أمام الكفِّ السوداء التي تسحب العملة الصعبة من السوق وتجعل البنك المركزي يَعجز عن مواجهتها. الكفُّ السوداء غيرُ آبهةٍ باللافتات السود التي عادت ترتفع على واجهة السوق المسقوف فتذكِّر بفيلم الحرب العراقية الإيرانية الذي غطى ثمانية أعوام من الموتِ المُستمِر الذي لم يهدأ لحظة.
تحدث أمامي مَشادة بين صبيين نزقين لفظتهما أزقة شارع باتا الراتعة في خثرة رطوبة تأكل معظم حيطان البيوت الضيقة التي بالكاد تترحَّم عليها الشمس. الصبي الاول؛ يلبس بنطلون رصاصي وحذاء رياضي من الكتان وقميص فريق برشلونه، مرَّ بدراجته من بين المارّة عندما صرخ الصبي الآخر؛ وكان نحيفاً يرتدي ثوباً ازرق مخططاً بخطوط عمودية وقدماه تلتصقان بشبشب بلاستيكي قذر ويرتدي قميص ريال مدريد: " مسّي قُندرة.".. الصبي الذي تفوَّه بذلك كان يجلس جوار دكان ناطور المكي (وناطور رأفة بوالد الصبي الذي ترجّاه ان يسمح لابنه ان يعمل بائع سجائر عطفاً عليه؛ مُتعهِداً أن يكون ابنه مثالاً للخلق القويم فلا يتسبب او يصنع مشاكل يلام عليها أمام جيرانه أصحاب المحلات).. لابد أنَّ مُرتدي قميص برشلونه سمع الكلام وإلّا ما استدار بدراجته واتَّجه مسرعاً باتجاه صبي الريال.. رمى الدراجة واندفع إليه كالثور الهائج وهو يصرخ: ابن الكلب، مسّي قندرة لو رونالدو القندرة؟! ".. هذا الكلام جعل صبي الريال ينهض مُحتقناً فيشتبكُ الاثنان.. ومع اشتباكِ الاثنين دارت مَعركة ساهم فيها كلُّ مَن مرَّ من الصبية آنذاك وسمعوا اللعنات تنصب على مريديهم من اللاعبين الأثيرين "مسّي " و" ورنالدو ".
خبر المعركة والتضارب انتقل الى عائلتي المتقاتلين، وعائلات الذين ساهموا معهم. فجاءوا كالمجانين من الازقة الموبوءة والمتهالكة.. همهمات الرجال الآباء والاعمام والاخوال المتصارعين والمتلاكمين بالقبضات والرؤوس والعصي، وحتى بالأحذية والشباشب تُسمع وتشاهد.. الشتائم البذيئة وكلمات العهر السوقية تنهال كالأحجار فوق الرؤوس، الصرخات والصيحات الحادَّة من افواه الأمهات والخالات والعمّات تساهم في تأجيج المعركة... ولم تستطع الشرطة المتواجدة في المكان من السيطرة على الموقف فاتصلوا عبرَ اجهزتم اللاسلكية وهواتفهم النقالة بقيادتهم يطلبون النجدة.
وكان إنْ سمع من بعيد احدهم يتذمّر: " طاح حظ الفُكِر.. لو زناكين ما تعاركتو.. أي والله طاح حظ الفُكِر ".
بعد انفضاضِ الحشدِ وتفرّق الناس وعودةِ اصحاب الدكاكين الى داخلِها متخذين كراس تعودوا الجلوس عليها بانتظار من يشتري حاجة معروضة او يسأل عن سلعة قدم لغرض شرائها شاهدتُ جوادين عن بعد. خُيّل لي أنّه نهض من كرسي بجوار ارزوقي مصلح الساعات وابتعد. هل كان يجلس حقاً أم اوهمتني عيني لحظة رفعت راسي فوقعَ عليه نظري؟.. عبرتُ الشارع سعياً للاستفسار. " نعم، نعم كان جالس معي.. هذا شاب مثقف." قالها ارزوقي وهو يرفع عن عينه اليمنى العدسةَ المُكبِّرة لأجهزة الساعة اليدوية.
يضع ارزوقي صندوقاً خشبياً بمثابة معرض بعلو متر ونصف على يمين دكان غريب النوري. فمن يأتي لشراء ساعة يجده، فيضع في ذهنه أن سيصلح تلك الساعة اذا توقفت. قسَّم ارزوقي صندوقه فجعل القسم الاعلى مزججّاً. خلف الزجاج تتدلى من سلكِ معدني متوتر عرضياً ساعات يدوية جيء بها للتصليح وتنتظر دورَها او ساعات صُلِّحت سيأتي اصحابها لاستلامها..
بحكم قرابته من النوري استطاع ارزوقي كسبَ ودِّه فسمح له بوضع معرضه هذا عند جانب الجامخانه مثلما سمح له إذ ينهي عمله يحمله ويركنه في زاوية من زوايا الدكان. مهنة لا يبغي منها عيشاً في بحبوبة لكن جمع ما يعينه على شراء بُطل عرق مسيَّح يومياً مع " حبشكلاته" خيار ولبن وحَب مالح مثلما يحقِّق اتقاءَ انظار من يَخشونه سياسياً ويتفاداهم رُغم مرور عشرين عاماً على اطلاق سراحه وتركه العمل السياسي في اوطان استنتج بحكم المعايشة اليومية ان حكوماتها تستعين بالعنف وسيلة للتخلص من اصحاب الفكر أو مَن تراهم منافين لها في ادارة هذه الاوطان.
اكتشف النوري مرَّة أن ارزوقي يأتي ببطل عرق ويكرع منه بين وقت ووقت؛ اكتشف ذلك من الرائحة التي تسللت الى انفه مرةً، فقرَّر طرده، لكنه تراجع في لحظة عطف وشعور برمي قريبه إلى هوّة البطالة والتشرذم انْ فعلَ ذلك، فصبرَ على فعلته... تلك الفعلة التي لولاها لكان النوري قبراً لا شاهدة له من بين عشرات الالوف من القبور الجماعية التي اكتشفت بعد سقوط صدام.
عرف عن ارزوقي أنه شاعر شعبي كتب اغان أدَّاها ياس خضر وحسين نعمة وستار جبار ونيسه، وصلت اليهم عن طريقِ صديقٍ يعشق شعره. اعلنوا دهشتَهم لمفردات وصور انتجتها موهبتُه فحثّوا الصديق على التعرّف عليه والتنسيق معه لكتابةِ اغانٍ سيتبادلون الرأيَ في مواضيعها.
كان الشِّعرُ لدى ارزوقي بوحاً لروح متأجِّجة، وتعبيراً عن فكرٍ يساري اعتنقه بصدقٍ وتعلِّقٍ فنال منه ما نال من عَسَفٍ وسجنٍ وتعذيب؛ اشهرها اعوام ثلاثة قضاها في نقرة السلمان مع سجناء سياسيين كانوا يجاهرون بإيمانهم بالأفكار اليسارية ويرون الاتحاد السوفيتي نموذجاً لنظام عدالة وفرصاً متحققة بتساوٍ.. نظام يعيش فيه الانسان مَصوناً؛ له حقوقٌ لا تُسرَق وواجبات يؤدّيها باندفاعٍ انساني بينما يدينون النظام الرأسمالي لخَلقه تفاوتاً طبقياً مَقيتاً؛ يبغضون اضطهادَه للعامل والفلاح مُفصَلَي عجلة التطوّر بنظرهم... وعندما خرج من السجن واكتشف أنْ لا طائل من النضال في واقعٍ عربي فيه انظمةٌ تتشبث بالماضي ولا ترغب في رفع راسها لتقارن وجودَها مع وجودِ الآخرين الذي خلفوا الماضي وراءهم وحثوا الخطى للوصول الى شمس المستقبل النيّر؛ اقول لما اكتشف ذلك سلكَ طريق السِّكْر لقطع دابر دواخله ساعات تحتدم لمشاهدة الواقع يُسحَق ويُمحق بلا طائل، وآن يقارن وجودَه كمواطن مع مواطني دولٍ تحضَّرت فاستقرت فاستمتعت يدفع بأقداح الخمر الى جوفه ويهز رأسَه تململاً، وهو يردد: لا فائدة تُرتجى.. لا.. لا فائدة.
28
وهي تضع الغداء على المنضدة وتطالع بعين الماسح اكتمال الأكل المُقدَّم والملاعق وقناني الماء ابدت مريم تذمرها من العمل في منظمات المجتمع المدني لأول مرَّة بعدما كانت شكاواها تأتي من باب أنَّ العمل في هكذا منظمات يتطلب الصبر وسعة البال والثقافة العالية لرصد الظواهر وتحليلها والغور في جذورها لمعرفة مسبباتها كي توضَع الخططُ اللازمة لتقليل معاناة الطبقات الاجتماعية المسحوقة وتبدد الكثير من المشاكل العالقة التي يجلبها المستوى الثقافي والعلمي الضعيف، وفي بعض الاحيان المعدوم. فقد تسبَّب الحصار الذي تجاوز العشرة اعوام في نشرِ الأميّة، وتراجعَ عددُ المتعلمين، وتسربَ الطلبةُ وخصوصاً في المراحل الدراسية الاولى.
" مصارحتك هذي المرة فيها غضبٍ وتذمر، اشوفها بعيونك.. تريدين تتخذين قرار ترك المهمَّة؟! "
" فعلا، أًوشكُ على اتخاذِ قرارٍ بهذا الصدد. مَن تتوجّه لخدمته لا يفهم مهامَّك، ومن تسعى لمساعدته من الجهات الحكومية ينظرون لك بريبةٍ ويرمون المساميرَ بطريقك قصداً."
" ما زلنا كبلدان نامية نتحسس من نشاط هكذا منظمات انسانية. الانظمةُ السابقةُ جعلتنا نرتاب من أيِّ فعلٍ انساني لا تتولاه الحكومة. زرعوا الشك بالنفوس بحيث صار المواطن يتهرَّب من المساعدة حتى لو شرحتَ له واقسمت بالمقدَّسات انك تعمل لصالحه !".
" أنا معكِ، افهم ذلك.".. قلتُ اعاضدُها.
" ولا تنسَ "، راحت تقول، " إنَّ احزابنا تشيعُ وبالنبرة الدفينة عُقمَ هذه المنظمات واعلان انّها منظمات مشبوهة مدعومة من الغرب؛ والغرب لا يدعم ما لم تكن من وراءِ دعمِه فائدةٌ له تفوق الفوائد المطلوبة للشعوب."
كانت في حمّى انفعالها وتذمّرِها عندما دقَّ جرس الباب وأطل ولدُنا ميمون مع زوجته.
تبدَّلت سحنةُ مريم من الغضب إلى السماحة وراحت تلقي كلمات الترحيب وتدعوهما للجلوس فقد جهِز الطعام، وهو يكفي للأربعة ويزيد.. سَعُد ميمون بما قالته أمّه. فكثيراً ما حنَّ لتناول وجبة أكلٍ من يدِها وذوقها المُستَحَب، وكثيراً ما تجاوز في حنينه إلى أخذ ما تطهيه من وجبةِ طعامٍ إلى بيته داعياً إيّاها، بضحكِ ولطافةِ الابن مع أمّهِ، إلى طهي وجبةٍ جديدة لها ولأبيه. وزادت سعادته عندما اعلمته أنَّها اعدَّت قبلَ ساعةٍ بسبوسة مُحلات بالعسلِ الطبيعي فترجّاها أنْ يكون نصفُها من حصتِه وزوجته، يأخذانها معهما الى البيت لتكون تحلية لوجبة العشاء.
تمنَّت مريم لو كان حارث وزوجته معنا تلك اللحظة، فاقترحت تحديد يوم من الاسبوع القادم لتناول وجبة الغداء سوياً في البيت ثم قضاء وقت ما بعد الغروب في " متنزه الوردة " المطل على الفرات، وتناول عشاءً خفيفاً على أحد مصاطبها استمتاعاً مع جموع العائلات الهاربة من ضغوطات البيوت وتنفس هواءً يبعدها عن الأخبار المؤلمة تأتي بها الفضائيات مقرونةً بصور الانفجارات والدماء والعويل والتذمّر وسلسة عنف لا تشي بخاتمةٍ قريبةٍ له.
الفصل السادس
الارتماء في العبث.. الهجرة المرَّة
نظر بيدرو بارامو كيف رحلَ الرجال وشعرَ أنَّه يستعرض
امامَه خببَ خيولٍ غامقة اللون امتزجت بسوادِ الليل وشعر
بالعرقِ والغبارِ ورعشةِ الارض. واذ ذاك شاهدَ حشرات اليراع
تتقاطع بضيائها مرَّةً اخرى.. انتبه إلى أنَّ كل الرجال قد رحلوا
وبقي هو وحده مثل جذعِ شجرةٍ قوية ابتدأت بالذبول من داخلها.
بيدرو بارامو..
خوان رولفو
29
بعد جهدِ عملٍ كثيف وقضايا متتالية صباحاً، وبعد مراجعةٍ اخذت منّي ما يربو على الساعة والنصف بعد الظهر ارتأيتُ الخروج والذهاب لمطالعة الجديد في مكتبة كنوز التراث.. دخلت شارع العيادة الشعبية فألفيته يضجّ بالشباب الذين استقبلوا ما يخترعه صُنّاع الطرازات الحديثة ومعارض الأزياء وتقليعات الشعر التي بات الشباب الذكور ينافسون الاناث على تقبِّلها وتقليدِها فصار بإمكان السائر عبر هذا الشارع مشاهدة المراهقين وهم يرتدون الملابس الضيِّقة من بنطلونات جينز وبلوفرات أو بدلات يُطلقون عليها مصطلح كلاسيك. يُطيلون شعورَهم. وبعضهم يصبغونها بحيث يغدو ليس باليسر معرفة إنْ كان من تواجهه أو تنظر اليه من الخلف ذكراً أم انثى... مررتُ على محلات افتتحت حديثاً تخصَّصَ اغلبُّها ببيعِ الهواتف النقالة وتصليحها أو استبدالها. إنَّ أجيالاً جديدة ومتطورة تُغري الشباب، ومن هم دخلوا حلبة الولع والوله بهكذا صناعات لا تستقر على منتَجٍ حتى يُعلَن عن منتَجٍ أكثرَ حداثةٍ وبمواصفاتٍ تفوق في خدمتها سابقتها.. أجيالٌ جديدة من التصنيع تطرحها شركات آبل وسامسونك التي تغلبتا على شركة نوكيا واسعة الانتشار خصوصاً في العشرة اعوام الاولى من القرن الواحد والعشرين الا أنها تراجعت في بدايات العقد الثاني.. مررتُ من أمام شركاتِ نقلٍ ووكالاتِ سفرٍ تبهرجت واجهاتُها ودواخلُها بالأثاث الفخم وبملصقاتِ شركاتِ طيرانٍ وخطوطِ جويّة تدعو للسفر الى ايران واوكرانيا؛ وهناك ملصقات تشجّع للذهاب الى اذربيجان وأخرى تبشِّر باستخراجٍ سريع للتأشيرة الى الهند، كذلك اعلانات مُغرية تحدِّد مبلغاً زهيداً لا يتعدى 300 ألف دينار تقدّمها شركات كردستان السياحية تدعو لزيارةِ كردستان لأربعةِ أيام حيث النزولُ في أفخر الفنادق ومعها برامج سفراتٍ جماعيةٍ فيما تتعالى في فضاءِ نهايةِ الشارعِ قريباً من مدخل الكورنيش رائحةُ المشويّات والشاورما وانواع المَقليات مِن شاكلة الفلافل وشرائح البطاطا والباذنجان، ومعها رائحة الطرشي والمخللات المتنوعة.
احاول التحرّك خارجاً من زحمةِ الشباب المارّين وسط الشارع او المجتمعين على الارصفة وهُم يتبادلون التعليقات في ما بينهم؛ حتى اذا صرفتُ وقتاً لا يستهان به وجدتُ نفسي اقف أمام واجهة المكتبة، فابصر روّاداً فرادى يطالعون عناوين الكتب المرصوفة على الرفوف أو التي على الارض وقد زاحمت الداخلين لكثرتها فلم تترك لهم غيرَ ممرٍّ ضيّقٍ يلجونه للشراء أو للتساؤل عن كتاب يفتقدونه.
بعد السلام والتحية على باسم الرسام، والجلوس على كرسي بجانب منضدة البيع، اسأله عن جوادين إنْ كان مرَّ عليه خلال الايام الفائتة:
" كان هنا قبلَ نصفِ ساعة من حضورِك.. صرفَ ساعة، ساحت انظارُه على الرفوف والعناوين، وحمل ثمانية كتبٍ دفع ثمنها وخرج.".
أفشت عينا باسم بأسىً؛ مُظهِراً حزناً وتعاطفاً وأسفاً قبل أن يقول:
" رأيته اليوم مُكتئِباً، وصامتاً.. أخاف تؤثِّر عليه الكتب التي اشتراها، فجميعها لا تُشعِل شمعة انَّما تلبِّد العقل وتُربك الذهن خصوصاً لأصحاب الحساسية المفرِطة امثاله."
توقَّف قليلاً يُلبّي طلبَ قارئ استلَّ كتاباً مِن أحدِ الرفوف وسأله عن سعره، ثم نقَّده قيمته:
" هل الذي يقرأ بودلير سيتغنى بالصباح؟ " قالها باسم بألمٍ " وهل الذي يستمتع بقراءة كافكا يعيش حياة متفائلة؟.. هل مَن يدخل الى غابات نيتشه وهيدجر الفلسفية يخرج متوازناً ومستقرَّ الدواخل، ثابت الذات؟.. هذه اغلب قراءات جوادين واهتماماته."
" مؤلفات هؤلاء اشتراها منك؟ "
" نعم؛ ومعها اشترى روايتي الطاعون لسارتر والموت السعيد لكامو.. كذلك سأل عن مؤلفات كولن ولسن، وطلب مجاميع حسين مردان الشعرية."
وحين لم اعلِّق طالعني بنظرةٍ طويلة كأنَّه يبغي اعلان اكتشافٍ مهم.
ها.. خير.. اراك تحتفظ بشيء تريد تقوله.. قل ! "؛ سألته. "
" الدهشة في ما اريد ان اقول، والعجب مما يحصل "
" ايُّ دهشةٍ؛ وأيُّ عجب؟"
" " لاحظتُ شدّة الاقبال على كتب كولن ولسن والبير كاموا وسارتر هذه الايام.. شباب المدينة يتهافتون على اقتنائها؛ كأننا في ستينات القرن الماضي." دمدَم بشيءٍ من الغضب.
" لماذا؟! أهو شعور بالضياع أم هي حالةُ رفض الواقع؟"
" لا ادري؛ نفذت عندي طلبيتين بعثوها من بيروت.
تعود بي ذكرى موجة العبث والتمرد اللتين تفشَّتا في أوربا اثر شعور المفكِّرين والمثقفين والادباء وخصوصاً الفرنسيين منهم بلا جدوى الحياة طالما أنَّ جموعَ البشرية تُقاد الى الهلاك وتُقتَل حرقاً وتمزقاً وتبعثراً. توأد احلام، وتُخنَق آمال ورغبات جرّاء نزوة قائد ارعن كما هو هتلر في برلين تشبَّع بفايروسات العظمة، وقيادة مجنونة كالتي يقودها موسوليني في روما ظنَّت أنَّ العظمة في القتال والدم واحتلال البلدان واخضاع الشعوب قسراً لهوجِها هو تغيير في التاريخ وتحقيق المجد. والمجدُ في نظرِهما لا يبنى إلا بالحروب والمعارك.. زهوٌ وخيلاء، أنفةٌ وكبرياء؛ مارش عسكري مدوِّم وخطابات نارية تثير الحماسة وتشعل فضاءات النفوس بغض النظر عن آلام الجموع، وتفجر الدماء، وتعالي اصوات الأنين، وتناسل الموت المجّاني بنزوعٍ مستلٍّ من قلب الجنون والهوج.. لهذا انبرى تيارٌ رافض من المتمردين الذين اتخذوا طريق العبث تعبيراً عن الواقع البائس بوصفه لا واقعاً كان منهم جون بول سارتر والبير كامو وكولن ولسن ومسرحيون كصاموئيل بيكيت ويوجين يونسكو وجان جينيت فتشكَّل بفعل اعلانِهم التمرّد مسرحٌ بمثابة مدرسة فكرية ادبية ناقمة عُرِفت بمسرح العبث أو مسرح اللامعقول.. إنهم النخبة المثقفة التي حاربتها النازية والفاشية بأدواتِ عنفِها وقسوتِها المُدمِّرة فاضطر الكثيرُ منهم الى تركِ بلدانهم ليعلنوا الرفض والاحتجاج، منادين بالسلم ومناهضين للكراهية.
استرجعُ غضب هاشم وهو يكتب مفردات يتداولها العراقيون يومياً وتفصيلياً من مثل " انفجار، دم، سيارة مفخخة، عملية انتحارية، قتلى، جرحى، احتراق، شظايا، رائحة شواء، مَشرحة، ثلاجات الموتى، هلع، رعب، خوف، ارهاب، روافض، نواصب، داعش، قاعدة، عصابات، ميليشيات، سيطرات وهمية، كتل كونكريتية، تهدم بيوت، اشتعال محلات، حذر، حيطة، غزوة، جنّة، هلاك، جهنم.. ناسين أو مفتقدين الكلمات النيرة التي تفتح النفس على البهجة مثل: فرح، سعادة، استقرار، حدائق، رياض، رازقي، قرنفل، حبَق، آمال عريضة، مستقبل زاهر، سماء زرقاء صافية، شوارع معبدة نيّرة، حشود ورود وجيوش فراشات، صباحات رائقة كالعسل ومساءات جذلة كالياسمين؛ جولات ونزهات، سفرات ولقاءات... ويروح يردد مأخوذاً بالحسرة ووجع القلب: " تتقاتلون فتُقَتلون، وتتصارعون فتُصرَعون.. ثرواتُكم نَهبٌ واموالُكم بدَدٌ.. رابحُكم خاسرٌ وخاسرُكًم لا يؤسَفُ عليه.. شيبُكُم يرحلون باكون، كَمِدون،متحسِّرون. وشبابكم يغادرون ذبيحين من الوريد الى الوريد ولم ينهلوا من عسلِ الحياة، ولا أكلوا من فاكهة السرور."
كلام باسم زرع في رأسي بذرةَ الشَّك في عدم اتزان جوادين وخصوصاً في الفترة الاخيرة إذ اكتشفته يقلل لقاءاته معي مثلما يقلل خروجه من البيت.. يعيش فقط مع ما يقرأ ويطالع؛ فقط مع ما يكتب. يتعامل مع الورقة والقلم كمادتين محببتين... كان ذلك دافع خشية ومصدر قلق عليه مثلما مبعث فرح لولادة كاتب سيكون له مستقبل باهر في الساحة الثقافية العراقية.
الخشية والفرح ظلتا معي كلّما توقفت اطالع جوادين.. هل أنا على خطأ؟! هل أنا في وهمٍ؟! أهو تدهورٌ في سلوكِه أم رصانةُ حالٍ واتزان، على اعتبار أنَّ المرءَ كلما قرأ اتسعت رؤاه فيسلك بذلك سلوكَ الحكماء الذين يُفضِّلون التواري، ويقللون من التماس مع العامة؟!
30
ما قرأتُه لجوادين من لغةٍ ثرّة في نصَّين كانت فيهما الفلسفةُ طاغية جعلني أقترب منه اكثر.. صرتُ أميل الى لقائه والتحدّث معه رغمَ تراجعه في الظهور وتفضيله البقاء في البيت كالمعتكفين حين يكرِّسون الزمنَ لمشاريعِهم فلا يفضِّلون التفريط به؛ ذلك أنَّ رأسّه خزينُ معرفةٍ واسعة وثقافةٍ قافزةٍ على واقعِ المدينةِ الثقافي البائس.
قبل أن أدخل الحمَّام لآخذ دوش بارد فضَّلت الاتصال به.. أشرت على رقمه في الهاتف الخلوي وضغطت على نابض الاتصال، وانتظرت... لم يكن هناك رد.. عاودت الاتصال فانفتح من أول رنين.
القيت التحية واقترحتُ ان نلتقي.. لم يعتذر؛ بل سعُدَ للاقتراح.
**
وجدته ينتظرني عندَ معرض احذية باتا.. كان قد اشبع النظر بمعروضاتٍ جميعها مستوردة. وقبل انْ اتبادل معه التحية قال متمتماً: احذية صينية مستوردة. بيزاري؛ شهر وتستحيل من شيئيات القمامة.
ضحكت لكلمة شيئيات.. وجدت فيها مُفردة من منظومة الكتابة الادبية.
قلتُ محاولاً استدراجه عبرها وأنا امسكُ بيدِه فندخل السوق المسقَّف:
" لابدَّ انكَ تعيش اجواءَ نصٍّ جديد تكتبه، وما كلمة شيئيات الا بُنية هاربة من بستان النص."
بشيءٍ من المبالاة رد:
" حياتنا نص طويل، وما حولنا شيئيات له.. مفردة شيئيات اجدها التوصيف الأكثر دقّة لما حولنا."
قلتُ في رغبة ابداء الرأي بما قرأت:
" النص الذي قرأته لكَ اسقطني في واقعِ هولٍ عظيم من الدهشة."
" هل قولك هذا يعني انك استمتعت به.. هل أثَّر فيك؟
"جداً !.. وجعلني اضربُ على الطاولة بقبضة يدي واهتفُ كما هتف نيوتن يوماً وسط غيمة دهشته واكتشافه، ولكن بكلمة حذفت منها التاء؛ فصرت اردد: وجدَها !.. وجدها !.. واقصِدُك انتَ."
ضحك وسط زهو امطرته عيناه:
" وجدتُ ماذا أنا؟"
" تفاحة شفاء الاميرة.. لؤلؤة الرجاء.. انتراكتيكا القارة الضائعة.. النص الذي يفتح باب الشهرة واسعاً... ما اتصف به نصُّك من عمقٍ رؤيوي ولغة مكتنزة يجعل ذاكرةَ المتلقي ترتوي برحيق لن يتلاشى في فضائها.. نص مُستفِز ومُثير يدفع مَن يطالعه يعود اليه بشوقٍ مرة اخرى.. ومرة اخرى لا يرتوي فيعاود المطالعة ثالثة ورابعة."
باعتدادٍ، وكَمَن أُعجِبَ للرؤية قال:
" النصُّ الذي لا يحفر اثراً في الذاكرة غيرُ جديرٍ في اعادةِ مطالعته، ومن الأولى ركنه في خانة الاهمال.. هناك نصوص كثيرة لكتاب يُعدّون كباراً استحالت وصمةَ طعنٍ في مسارِهم الابداعي."
" لا اعتقد أنَّ كاتباً كبيراً ينتج نصَّاً يوصف بالوصمة بعد نيله الشهرة.. بعد الشهرة يمتلك الكاتب الكبير ادواته ويتقن حرفة الكتابة ووسائل اسقاط المتلقي في حبائله. بعدَ كل هذا يُقدِّم نص يتيح للآخرين وصفَه بالوصمة؟
" ليش لا؟!.. يحدث هذا حين ينضب خزين الكاتب أو يستهين بقارئه على اعتبارِ كل ما يقوله سيكون مبعث فتنةٍ. لا يضع في حسابه أن ذائقة ذلك القارئ لا تحتفي بالاسم انما بحسن اعداد وليمة المادة المُقدَّمة وامتلائِها بالمفيد. "
" دنوتَ من الفلسفة "، قلت وانا اضحك واستشرف ما سيرد.. لكنه صمت.. فقط الزهو ما بقي يترقرق في حدقتيه.
" سأسافر لعدة ايام إلى بغداد.. سأغيب ابحث عن مصير. البطالة قاتلة، ولا أمل لعمل هنا."
لم أفاجأ بما قال؛ فمن حقِّه البحث عن عمل. ومن حقّه سلوك طرق البحث لا البقاء يجتر ما في بطون الكتب من معرفة ويراوح في مكانه.. صحيح انه مشروع لكاتب كبير تدخل الفلسفة نسيج نتاجاته لكن ما نفع الكلماتِ وجمالِ سبكها إنْ تبارى الجوع في اضطهاده وهوى الفقر بمطرقته على رأس رغبته في حياة حرّة كريمة يعتمد بها على نفسه لا على ما يدره راتب ابيه التقاعدي؟.. ما الذي يجنيه من مواضيع يكتبها وقد اكتشفته ينشر بين طيات اسطرها دم كرامته المراق بفعل واقع سحقه كطاقة علمية وادبية؟
قال:
" سأغيب لأيام.. وغداً سأزورك في المحكمة لتحتفظ لي بأمانة، إذا حدث لي ما يأتي به القدر من مفاجآت يمكنك ان تطَّلع عليها."
31
تخلصاً من الارهاق؛ ومن عشرين صفحة ترجمتها اتجهت الى هاشم عبر النت فاستمتعت بما صوَّر وبعث. كانت الكاميرا تمسحُ جانباً من غرفته ثم تتحرك نحوَ نافذة الصالة.. النافذة أطلعتني على ليل (أودنسا) وأرتني نوافذ لشقق بنايةٍ في الجانب الثاني من الطريق.. بعضُ النوافذِ مسحوبةُ الستائر. احدها تُظهر زوجين يجلسان يتابعان التلفاز باسترخاء. كؤوس الشمبانيا ترتفع بين وقت ووقت من منضدة عرضت قارورة الشمبانيا ورقائق جبس احتواها صحن عريض.. يضحكان.. يتبادلان القبل... (هي) تضع راسَها على صدره كأنّها تبغي غفوةً جنائنية أو استرخاء لا ينتهي بينما (هو) يحرّك رأسه كي يستند على حافةِ الأريكة ليمنحها بسخاءٍ استرخاءً يغدق عليها حميمية زوج يعيش معها العشق الابدي. أتركهما لمشاهدة نافذة اخرى تطلعني على رجل خمسيني بلحية شقراء تهدل من ذقنه ونظارتين دائريتين على انف دقيق وبلوفر أزرق، يجلس وراء منضدة وامامه لاب توب ومجموعة كتب خُيّل لي انه منهمك في إعداد بحث؛ وهناك كلب ضخم يتكوَّر على اريكة خضراء داكنة. عيناه تراقبان الرجل الذي يوظف اصابعه للضرب على احرف اللاب توب ويدير راسه يطالع بعض صفحات الكتب. الكلب يترك مكانه ليقفز على المنضدة يلعق جانباً من وجه الرجل؛ والرجل يحاول تفاديه بأن يدغدغ رقبته ويمر رؤوس اصابعه في فروة رأسه ثم ينزله من المنضدة فيعود الى الأريكة متخذاً الوضع الذي كان فيه.
عندما اتصلتُ به للمرة الثانية وجدته حاضراً. يجلس مسترخياً يطالع برنامجاً عن طبيعة احراش امريكا اللاتينية، عن احيائها واشجارها والطقس الشائع خلال فصولها؛ وبين لحظة وأخرى يرتشف من كأس شفاف امتلأ بسائل الويسكي الذهبي. فرحتُ لدخولي عليه. رسمت شاشة اللاب توب عنده تقاسيم وجه تُفشي سرَّ سعادةِ التواصل. ابتسم عندما قلت له " شكراً لما تركت لي من فيض الكاميرا ".. كلمة الشكر اوسعت بسمته وجعَلَته يرفع الكأس ويشرع باحتساء جرعة تركها الى النصف.
قلت:
" ما اطلعني عليه شريطك المصوَّر كلبٌ ضخم في احدى الشقق المقابلة قفز الى منضدة رجل كان منهمكاً في كتابة بحث أو مقالة تحتاج لمصادر. ظننته سيمزق وجَهَ الرجل لكنَّه على عكس ما ظننت راح يلعق وجهه ويتشمّمه. "
ملأت قهقهتُه السِّمّاعة:
" الكلاب هنا ودودة، يا حمزة. لها خصال انسانية خالصة قد تفوق في ودادها أرق مخلوق بشري. ليست ككلابنا العراقية التي نجعلها عدوانية بنهرِها وطردِها واعتبارها مبعث نجاسة.. صورة الكلب عندهم كصورةِ الصديق. وكلمةُ الكلب عندما نطلقها في وطننا بوجهٍ شخصٍ نحتقره تعني شفرة الوفاء هنا.. أما هذا الرجل فهو البروفيسور هاين غيرهارت، يعيش وحيداً في شقته ويعمل مهندساً معمارياً. صمم المكتبة الرئيسية في أودنسا، وقبلها النافورات الباهرة في مدن " فن "، و"سورو"، و"سيالاند" تلك التي خلبت لبَّ الدنماركيين وسياح مروا بها أو نزلوا في فنادقها.. والكلب الذي رأيته رفيقه وانيسه."
يحتسي جرعة أخرى من الكأس ويبتسم ابتسامة تخفي شيئاً من رثاء دفين قبل أنْ يفوه:
" الانسان هنا يُعمِّر.. يعيش الطفولةَ بعنايةٍ فائقة، وتفتح مرحلةُ الشباب ذراعيها فتحتضنه وتسقيه عسل الانطلاق شاباً تقول له اهنأ واستمتع؛ ثم تأخذه الرجولة فتمهد له تحقيق المطامح؛ وفي الكهولة يعيش بحياة مَن حقَّقَ وانجز، وعاش فانتشى. وحين يدخل ميدان الشيخوخة يكون الاهتمام الخرافي بانتظاره فيقابَل بكلِّ صكوكِ الانسانية السمِحة ويُجازى بالخدمة الفائقة في دارِ المسنين.. أمّا نحن فإنسانُنا يموت بعمر الشباب. قليلٌ من يتعدّى الى الرجولة والكهولة.. اتعرف لماذا؟.. لأنَّ الحروب عندنا تتوالى. تنّورها هادرٌ على الدوام؛ يُرمى فيها شبابُنا حَطباً كي يدوم أوارها.. انساننا العراقي لا يبلغ الرجولة، يا حمزة. انه بعمر الحمار الوحشي الذي لا يتجاوز العشرين عاماً؛ أو بعمر طائر الكناري الذي يرسو على العام الرابع والعشرين... قلّةٌ اولئك الذين يفلتون من شِباك القدر فيبلغون بأعمارهم عمر النعام الافريقي فيدركون الخمسين.؛ ومن الاستحالة بقاء العراقي يعمِّر كما السلحفاة المائية فيقضي 123 عاماً من تتبع الاحداث وتواليها."
رفع الكأس وافرغه في جوفه. رمى حبَّةَ لوز في فمه وراح يقضمها بصوت مسموع كأنه يعلن غضباً شرع يندلق من شرفتي عينيه.
كان موشِكاً على مواصلة الحديث واعلان حنقه ومرارته، لكنَّه تراجَع كما يبدو. وعاد بحركة لا ارادية إلى رفع الكأس بغية افراغه مع أنَّ الكأسَ كان فارغاً أصلاً.
32
الليلة انتهيت من ترجمة أغلب صفحات الفصل الثالث من الرواية.. الفصل مُجزّأ لستة عناوين تحمل اسماء شخوص باستثناء عنوان جاء باسم (جزيرة) الذي يتناول عودة توم اوكونور إلى جزيرته مع الفتى العبد الذي جلبه معه. عاد شوقاً لوالدته واخته. عاد إلى المكان الذي برحه وظنَّ أنْ برحلةِ البحث عمّا يشبع رغبته بالتخلص من واقعهِ يصل سدرةَ المنتهى. عاد وقد وجد أنَّ العيشَ بكنف اسرته خير له من البحث عن شمس لا تغدق عليه النور وتضيء حياته بالمال والجاه.
وبانتهاء هذا الفصل يستطيع القارئ الاستمتاع برواية مشوِّقة واستشراف الاحداث القادمة، وما ستؤول اليه الخاتمة.
الخاتمة مثَّلَها الجزءُ الرابع وهو الأخير الذي أفصح عن عدمِ استقرارِ توم اكونور؛ فعاد الى المغامرة والرحيل، ولكن لجغرافية اخرى وواقع آخر يتمثل بفكرةِ الاستفادة من الفتى العبد الذي قيل له أنّه أمير، ابن ملك؛ وأنَّ ايصاله الى بلدِه بعدما ضربت العاصفة سفينته ومن معه من خدمٍ ومقتنيات نفيسة سوف يدرُّ عليه بالمال الذي سيغير مسارَ حياته ويصنع له الأمل الذي رسمه في رأسه بأنْ يصبح رجلاً غنياً يدير امورَه بنفسه، لا أنْ يبقى عاملاً في حانةٍ يقضي حياته يخدم ويرى أمَّه واخته يخدمان دون أنْ يحقِّقا حلماً بالعيش الميسور.
33
اطلق طير الكناري صوته المنغم بتواتر جميل فأعلمتني العين السحرية للباب الرئيسي عن جوادين يقف في الشارع أدنى الرصيف مطالعاً صف مزهريات الصنوبر على جانبي باب الدار وبيده مظروف اسمر كبير.. فتحت الباب ودعوته للدخول.
في الصالة، جوار اللابتوب المركون على طاولة يزاحم صحون وجبات الاكل جلسنا. سألني إن كنتُ مستعدِّاً للخروج والذهاب في جولةٍ فالجوُّ، كما قال في محاولةٍ لحثّي واغرائي، جميلٌ. وسينصرف جميلاً أكثر بالمحادثةِ والتحاور، اعتذرتُ مع اتفاقي بما قال وما حاول.. اعتذرتُ لأني كنتُ منتظراً ولدي ميمون، فقد هاتفني صباحاً وطلب مصاحبته لمكتب أحد الاحزاب المتنفِّذة كي يمنحوه تزكيةَ ترشيح لدورة تطوير خارج البلاد كان راغباً في تفعيل مهاراته بعلم الحاسوب.
" اتمنى الاحتفاظ بهذا المظروف لديك ".. جاءت كلمات جوادين راجية.
" ماذا به؟"
" مجموعة اوراق لنصوص مكتملة واخرى رؤوس اقلام لرؤى وافكار لم اكتبها.. سأستعيده عند الحاجة."
أبعدتُ طرح اسئلة قد يحسبها من باب الفضول المستفِز فلم أقل: ولماذا تطلب منّي ذلك مع ان الاولى الاحتفاظ بها عندك؟.. أو " ما أنت عازم عليه حتى تقدم على هذا الرجاء؟ "، أو " اعندك شيء ولا ترغب كشفه امامي؟".. أسئلة وأسئلة تواردت في رأسي، لكني نهضت. فتحت جارور المنضدة واخفيت المظروف.
نهض ممتنّاً، صافحني وخرج.
كان يمكن ان استخرج المظروف واطلع على محتوياته، فبي شوقٌ لقراءة ما كَتب.. بي رغبة عارمة لاكتشاف مفاتيحَ اسرارِ كتابته الفلسفية ورؤاه التنويرية مثلما التعرف على بؤر ومنابت تشاؤميته وتكدّره.
" الليلُ حزني، والسَّحر شجني " كان يقول.. " ما نرى هو من طبيعة وجودنا الملغَّز.. نحن نعيش على وهم نيلنا الحقيقة دون ان نعلم سرمدية المجهول.".. كذلك كان يؤكِّد:" المرآة (هذا الكائن السحري الذي يتطيَّر منه الكثير من الفقهاء حتى ليحسبوها مصدر شؤم ووبال فيعلنون كراهيتهم لها ويفتون بحرمان الوقوف أمامها والتطلع فيها) ترينا ما لم نره. تكشف لنا المكنونات وتجعلنا نراجع زمننا الحاضر لنقارنه بالزمن الذي مضى. فما احوجنا للمرآة !، وما حري بنا ان نجعل لكل منا مرآته يتطلع بها يومياً ليجري حساب الضمير، ويؤدي فعل المقارنة على الدوام لأنَّ الكثيرين منّا يسلكون درب التمادي فيصنعون ما يشاءون، حتى اذا تهافت الزمن وتكدس ورفع اولئك الابصار الى المرآة اعلمتهم ببؤسهم ومحاولة اعلام ندمهم؛ ولات ساعة مندم.
يستميحني عذراً بالتدخين ثم يحتسي نصف فنجان القهوة دفعة واحدة، ويروح يمضغ حبيباتها بتلذذ قبل أن يهم بكلام كثير يبغي كما يبدو البوح به.
يحدثني عن عبثية وجوده عنصراً غير فاعل بينما هو مشحون طاقة ورغبة في الانجاز والابداع في مجال عمله كمهندس يفترض به قد عُيّن منذ سنوات وقدَّم مشاريع تضاهي طموحاً مشاريع زها حديد المعمارية التي يتعالى صيتها وتتبارى المؤسسات الحضرية العالمية من أجلِ نيلِ ابداعِها بمنشأ يثير الدهشة ويصنع الاعجاب.
ارتفع انفعاله.. اهتزت السيجارة بين سبابته والوسطى فرفعها وامتص قدراً كبيراً من الدخان؛ مرت غيوم جموحه هادرة غلبت على هدوءٍ كنت اعهده فيه، ورباطة جأش تحلّى بها..اندفع يسألُني: أما ترى !.. بطالة قاهرة، وطاقة عظمى.
نعم أرى: أرى جموع الخريجين ينتهون من جامعاتهم وقد حملوا الشهادات التي تقر بأحقيتهم بالعيش مُكرَّمين في الوطن، ومنتجين في مواقع العمل.. أرى الكوادر الوسطى وقد خرجتهم المعاهد والمؤسسات الحكومية لكنهم يكتشفون انهم مرميون بعبث الى شوارع البطالة والضياع، تحتويهم مقاهي الاراجيل وحلقات الحشيشة والمخدرات.. أرى الفتاة تكمل دراستها وبين اجفانها حلم العمل والسير مع اقرانها من الخريجين في مؤسسات منتجة تُعلي هامةَ الوطن وتباهيه بهم امام الاوطان الاخرى لكنها تُكبَح فتصبح اسيرة جدران البيت والتسكع في مواقع الانترنيت التافهة او التي تصنع التوافه وتطيح بهيبة الانسان وسعيه للكمال.. أرى المصانع وقد هدمت وتوارت والصناعات الوطنية لا وجود لها ولا أثر.. أرى الزراعة تتراجع، والمزارع يبيع ارضه كي تكون سكناً ضارباً القوانين التي لا تجيز له التحكم بالأرض الا لزراعتها وتقديم انتاجها.
34
اليوم انتهيت من ترجمة الفصل الثالث كاملاً؛ وقد عزمت على اتمام الفصل الرابع ثم الصفحات الاخيرة لتكون الترجمة ناجزة وأكون قد تهيأت لتقديمه لدار المأمون التابعة لوزارة الثقافة كي أراه مطبوعاً باللغة العربية فارسل خمس نسخٍ منه الى مؤلفه بيارن رويتر وثلاث نسخ لهاشم المسافر كي يحتفظ بواحدة ويهدي نسختين الى مكتبة أودنسا لتكون ضمن كتب بعثتها اليه واهداها للمكتبة... لابد ان بيارن سيسعد لمشاهدة روايته مترجمة وغلافها يحمل صورة ابتدعتها انا كمترجم او اختارتها دار النشر.. ستَسرُّ مدينة اودنسا لرؤيةِ نتاجِ احدِ كتابها مُترجماً للغة اخرى.. لم يبق غير الفصل الرابع الذي يضم سبعة عناوين فرعية سيلتهم حاسوبي الصفحات التهاماً من اجل انهائه.. ستنتهي رحلة الترجمة التي صاحبتُ بها توم اوكونور وطموحه اللامحدود في بناء حياة تجمعه وامه واخته فيودورا غير الشقيقة وتحررهما من ربقة السيد لوبيز ونزواته وعنجهيته واستكباره عليهم.
إن انجاز أي عمل ما واتمامه على احسن وجه يمنح المُنجِز اعتداداً ويُشعره انه اضاف لحياته قيمةً من خلال تينك العمل، وانه لم يعش العمر بهامشيةٍ، متجاوزاً تلك المقولة التي تؤكِّد " إنْ حضرَ لا يُعَد وإنْ غابَ لا يُفتقَد ". فالحضور لابدَّ له من تأثير؛ وفي الغياب ثّمة الافتقاد.. كان البارودي يهتف على رؤوس الاشهاد " إذا انا لم أعطِ المكارمَ حقَّها // فلا عزَّني خالٌ ولا ضمَّني أبُ ". وهو بذلك يؤكد احقيته في الفخار لأنه يريد لوجوده حضوراً فاعلاً لا لغيابه انتفاءَ تأثير.. قرأتُ مرَّةً روايةً مستلذَةً من مدرسة الواقعية الاشتراكية عن ذلك الشاب السوفيتي الذي عاد معطوباً جراء معركة حامية ابان الحرب العالمية الثانية إلى قريته وقد اصيب بالصمم فلم يعد يسمع ولا ينطق كما كان اهل القرية يسمعونه، إنما بتمتمة من عِداد غغغغغغي..غغغغغغو.. وفي حادثة غرق عربة الزيل التي تخدم القرية في بحيرة يختلط فيه الماء بالثلج يندفع الشاب ليلقي بنفسه في الماء ويوظف جهده الخرافي من اجل اخراجها. وفي لحظة سحرية يستطيع جرَّ العربة ومن ثم يذهب ليجلس امام نافذة غرفته في البيت يرتشف الشاي الساخن لطرد البرد عن جسده ليتفاجأ بطنين نحلة على زجاج النافذة ويقين أنَّ السمع عاد اليه.. يُعلِم الابَ بالأمرِ فيدعوه الاب بدافع الأبوة والخشية عليه الى الصمت لئلا يُعاد الى جبهات القتال فيُقتَل كما قتل العديد من شباب القرية؛ لكنَّ الابنَّ وفي صحوةِ ضميرِه وتعنيفه، وشعوره بالانخذال إنْ بقيَ يخفي عودةَ السمعِ والنُّطقِ اليه يغادر القريةَ عائداً الى جبهةِ القتال حيث اقرانه يقاتلون العدَّو النازيَّ مدفوعاً بنكرانِ الذات، واثبات احقيته في الزهو، واعلان الشجاعة بديلةً عن التخاذل والانكفاء.
من هذا الشعور والتقييم يغدو الانجازُ صفةَ العنصرِ البشريّ الفاعل بينما المتقاعس يدخل فورة الاندثار ثم الهمود فيستحيل حكايةً سلبيةً تتناولُها الالسنُ قذفاً وتقريعاً.
35
بالأمس أخذتني الخطى فدخلتُ الشارع المتَّجه الى الكورنيش حيث متنزه الوردة. ثمّة بهرجة ابنية مشيدة توّاً: " معرض البسة النصر"، و "البيت التركي للالبسة الجاهزة "، وواجهات عديدة لمعرض ومحلات مغلفة واجهاتها بـ" الكوبون " وهي صفائح معدنية مطلية بالألوان وحسب الرغبات؛ مطاعم فاخرة ومعارض سيارات حديثة؛ مكاتب لشركات عالمية، مكاتب لأعمال تجارية. لفت انتباهي عدد من سيارات البرادو الفخمة تقف وراء واجهة زجاجية عريضة تتوزع على جانبٍ منها مناضد تشغلها موظفات فتيات يرتدين آخر مودة تعلن عنها اعلانات فضائيات التلفزة.. إنه مكتب شاهين لاستيراد وبيع السيارات اليابانية الحديثة.. لا وجود لشاهين في المكتب.. شاهين يتنقل من مطار لمطار، ومن بلد لبلد. هنا فقط اسمه. وفي المدينة لا تراه شخصياً؛ فقط تتلمس تأثير فعله اللامرئي يطيح بأعصاب الشباب ويرميهم الى الضياع.. هنا المدينة تعج بالمقاهي، والمقاهي تعج بالشباب، والشباب يحتفون بما يلج دواخلهم من قطارات الخيال تقلهم الى جزر التحليق بأجنحة من دخان.
مررتُ من أمام مطعم كنتاكي عندما ابصرتُ على الجانب الآخر من الشارع جوادين يطالع الباب البرونزي العريض الموارب لمقهى يحتل الطابق الاول من بناية حديثة، ثم يدخل ويغيب.
المقهى واحدٌ من مقاهٍ فارهة انتشرت هذه الايام تحاكي صالونات البلدان الغربية.. السوشيَل ميديا والانستكرام والفايبر عبر اجهزة الآيباد والآيفون باتت وسائل تأخذ وقتاً من الشباب العاطلين.. تلك الصالونات تتحول ليلاً الى مراقص تضج بالموسيقى والراقصين؛ لكن الفرق هنا في مدينتنا لا موسيقى ولا راقصين.. شيء من الدهشة اعتراني مقرون بسؤال عن سبب دخول جوادين لهكذا مَكان لم يحدثني يوماً عنه؛ بل هو يستغرب وجود مثل هكذا تحول يراه طفيلياً ويتساءل بما يمسُّ الثقافة: ماذا لو كانت هذه المقاهي السائبة منتديات للثقافة والمعرفة؟ ماذا لو كان مكانها فضاءً للتحاور وتبادل الآراء ووضع برامج تنقل الشاب من الضجر إلى الاهتمام بالحياة، من الأسر تحت طائلة الضياع إلى الانطلاق في عالم الخلق الجميل؟
توجهتُ الى الباب.. ارتقيت سلماً مُضاءً بمصابيح ثلجية الضياء ومغطى بموكيت اخضر يقرب للمخيلة ارضية ملاعب كرة القدم العالمية.
الباب العريض الذي انتهيت عنده أراني صالة عريضة أرضيتها من بلاط البورسلين اللماع.. ارائك ملوكية فخمة وطاولات زجاجية متوزعة بذوق فنّي مثير وقد انتصبت الاراجيل الجميلة بقواريرها الزجاجية الملآى بالماء وهو يترجرج، وبتبغها المعسل وهو يشيع رائحةً عذبة ومثيرة هي مزيج من رائحة التفاح والفانيلا الشهية بينما الدخان الابيض يعلو مندفعاً من صدور جلاس وفيرين، تنفثه بجذل لا يمكن وصفه إلا بأنه يأتي من نفوس سعيدة لمدخنين لم يتعدوا مرحلة الشباب يتباهون بالغنى والترف.. دخان يرتفع فيمتزج بطبقة كثيفة تلامس السقف الثانوي صانعةً غشاوة على مصابيحه الصفراء والزئبقية.. هناك رواد يبعثون بأنظارهم نحو السقف في حاله من الرغبة في التيه والرحيل بعيداً فيما آخرون يبحلقون بعدد من شاشات فضائيات متنوعة معلقة على الجدران الملونة؛ كلُّ ضلعٍ منه بلون يختلف عن الآخر: أصفر فاتح وبرتقالي فاتح واخضر حشيشي ووردي داكن.
طفتُ بنظري على الارائك بحثاً عن جوادين، وراحت عيني تُطالع الوجوه وجهاً فوجه، حتى رست على اريكةٍ منزوية وقد جلس عليها جوادين بمواجهة شابٍّ ملتحٍ يسترخي على ظهر كرسي بمسندين. كانت شفتا الشاب الملتحي تتحركان دون مطالعة جوادين، تماماً كمَن يحاول ايصال كلام لا يريد احداً سماعه.. وكان جوادين اذناً صاغية وانتباه لافت؛ يبغي التقاط كل كلمة تخرج من الفم الذي خيل لي أنَّ كلماته تصدر همساً.
أهناك علاقة بوجود جوادين في المقهى مع ما يجري من استعدادات حثيثة لهجرة جماعية للشباب؟. سؤال انبثق في رأسي بغتةً.. أترى جوادين يفكر بما فكر غيره ممن ركنوا الشهادات ووجدوا انفسهم ضائعين يتسكعون؛ تصادقهم مصاطب الارصفة ويبتلعهم ليل الهموم فراحوا يبحثون عمّا يكسر قيد الزمن الثقيل؟
لقد سرى بين الشباب، قبل اسابيع، خبر السفر والهجرة؛ ابتدأ في المقاهي ونوقش اثناء جولات التسكّع.. الخبرُ مُغرٍ، والخيال متأجج يبحث عمن يُحيله واقعاً.. هناك مافيات تنشط في المدن توصلك إلى البلدان الاوربية مقابل ألف دولار، اقل او اكثر بقليل. الوصول سهل ومريح بلا اخطار ولا معوقات.. دول أوربا تعتمد قوانين تستقبل المهاجرين ذوي المناطق الساخنة المبتلات بالحروب والتقاتل.. دول أوربا تحتضن القادم فتعامله بإنسانية خرافية. تفتح امامك ابواب العمل، فتكسب الحاضر المستقر وتضمن المستقبل الباهر.
إذاً جوادين يفكر بالهجرة ويتفق مع من يرشده.. دلل ذلك انقطاعه عني لفترة تتجاوز الاسبوعين. انه يتفادى لقائي لئلاً اثنيه عن رأيٍّ تداوله مع نفسه ولا يبغي التراجع، ومن جانبي ما ارتأيت الحديث معه في هذا الامر مع اني تشممت رائحة رغبة في مبارحة المكان؛ سواء كان المكان انتقالاً الى مدينة اخرى او سفر الى بلد ما.
36
بغضونِ ايامٍ غابَ جوادين.. لم أسمع عنه ما يطمئنني. غاب كما غابَ هاشم المسافر يوماً دون أنْ يُعلِمُني.
فهمت أنّه كان يجمع المال فلساً، فلساً مُنتهِزاً حيان فرصة رحيل، وتحقيق ضمانة أكيدة في السلامة والوصول. لذا انطلقَ مُعتمداً على ذاته، مُجافياً نصيحةً تأتيه مني أو من غيري.. أغلبُ الظن انّه طارَ الى تونس؛ ومن تونس سيدخل ليبيا عبرَ الحدود البرية لتفادي الاستفسارات والاستفهامات من قبل سلطات مطار مْعَتيقة الليبية التي ستعيده إنْ لم تقتنع بمبررات دخوله.. ويوم يصل طرابلس العاصمة كما هو عهد المهاجرين هذه الايام بجعل ليبيا مَحطة ابحار الى أوربا سيتفق مع المهربين بالصعود مع مئاتِ الافريقيين والسوريين في أحد زوارق المغامرة غير المحمودة العواقب صوبَ ايطاليا أو أيِّ شاطئ اوربي يبعده عن ميدانِ الدمِ والذبح والقتل العشوائي المتفشي في البلاد.. تذكَّرتُه وهو يطيل النظر الى الفرات، مُردداً بحسرةٍ وألم: لو أني أعرفُ السباحة ! لو أني تعلمتُ كيفَ أسبح. "
37
أغرقُ في يمِّ الحزنِ حين اشاهدُ عبرَ شاشات الفضائيات الاجساد الطافية على زرقةِ أمواه البحر المتوسط؛ أُشاهد الامواج المجنونة تتلاعب بها وتقاذفها بغير اكتراث بينما توارى السماسرة واختفت مافيات التهجير... وفوق، فوق ابصرُ السماءَ رماديةً داكنة ومحتشدةً بغيوم تتكاثف وتزدحم ثم تتنفس شيئاً من اللون الرصاصي الفاتح وثمّة وميضٌ بعيد وصواعقٌ تضرب الاماكن الصخرية المرتفعة التي تشكل الافق البعيد.. ابصرُ جموعاً من النوارس تُطلِقُ صرخاتِها وتعول؛ تنخفض كأنها تسعى لالتقاط جثث طافية ثم ترتفع مُعلنةً بزعيق اكثر حدّةٍ فشلها او تصميمها على اعادة المحاولة.
أتوجّه إلى بيت جوادين قلِقاً، مكتئباً، حزيناً؛ والصور التشاؤمية تتسارع امام عيني.. لم يلفت انتباهي صفاءُ الجو وتراجع بردٍ ضرب البلاد بموجةٍ ثلجية ابتدأت في تركيا ووصلت الينا ذيولُها، ولا استلطفتُ نهاراً كانت فيه الشمس مُحببة لمن آذاه البرد ووجد في ارتفاع الحرارة نسبياً فألاً جميلاً ليوم ينسلخ من جسد الشتاء وزمهريره.
كثيرون ممن ظنوا انهم بتركهم البلاد ورحيلهم مهاجرين وطلبهم اللجوء الانساني يجدون فضاء الحرية الناجزة والعمل الوفير في بلدان الشمال.. وكثيرون حلموا بعيش يكونون فيه كالغيوم المحلقة في الأعالي لا تعكِّر مزاجَها تياراتُ العَسَف المتهافتة ولا تفتتّها جيوشُ الصهد الحارقة.
فعديدُ مَن التقيتهم وقد قُبِلوا كلاجئين وصرفوا الاعوام التي تجاوزت العقدين افضوا برغبة العودة الى احضان الوطن لو توفَّر الأمان. العيش، يقولون، وسط شعوب لها عادات واساليب حياة خاصة وسلوك تربَّت عليه لمن الصعوبة والعسر التآلف معها والاندماج فيها. ناهيك عن الضيق الذي يتعرضون له مُذ فجَّر اتباع بن لادن برجَي التجارة العالمي في نيويورك، ومُذ انتقلت العمليات الانتحارية من الجغرافية العربية الى بلدانهم الاوربية وشعروا بهمجية المنتحرين وسعيهم لإشاعة الارهاب في مدنهم الآمنة حيث صار المهاجر مَبعثَ شكٍّ وريبة وخوف، وانتشرت لافتات الكراهية ضد المهاجرين واللاجئين من البلدان العربية والاسلامية.
نعم، الهجرةُ سلوكُ دربِ الاهوال والسيرُ في طريق المجهول.
نعم، الهجرةُ هي المفردةُ المرادفة لكلمةِ ضياع لاسيما والهادف لها سيتعامل مع مافيات لا يهمها سوى الربح الوفير وجني الاموال الحرام.... ولكن حتى لو طرح جوادين عليَّ طلب المشورة فسأكون في حيرة من أمري.. صحيح لا أحبِّذ له الهجرة، لكنَّ الصحيح ايضاً اريد ان لا يبقى على حال البطالة وقتل الوقت في اجترار حالة الضياع.. قد تكون الهجرةُ حالةً طارئة لكنَّها قرارٌ يُتَّخذ بتصميم.. قد يكون الوطنُ ميدانَ ذاكرةٍ وقمراً مُقدساً لكنَّ الكفرَ به يأتي من انغلاق الابواب وشيوع فعل الضجر.. نحن لا نكره حبيباً لكننا نملّه في كثير من الاحيان لجموديته كما الطوطم وتحنّطه كما المومياء؛ وها هو الوطن حبيبٌ عاجزٌ عن احتواءِ مواطنيه، وصاغرُ وهو يراهم يتبعثرون.
في البيت أعلمتني أمّه بقلقٍ انه كان يعدّ حقيبةَ ملابسِهِ قصدَ السفر، كما قال، الى بغداد ثلاثة او اربعة ايام.. لكنَّ الايامَ تجاوزت الاسبوعين.. تجاوزت ولم يعودوا يسمعون منه ما يطمئنهم.
كلامُها زرعَ في قلبي يقين ان جوادين سلك مع من سلكوا طريق الهجرة، وانه جعل الأمر سرّا فعلاً.. وبقدر ما حزنت أمُّه على بعده والخشية من أن تكون مغامرته غالية يكون ثمنها حياته فقد تبارى داخل رأسي أنا حالةُ الحياد؛ تاركاً الامر إلى الاقدار ترسم مستقبله.
38
قصاصات من محتوى الظرف
وأنا أجلسُ لاحتساء فنجان قهوة واعادة قراءةِ آخر ما ترجمتُ لفتَ انتباهي الظرفَ الأسمر الكبير نائماً على الدولاب وقد بان جزءٌ منه في الحافة.. نهضتُ ورفعته.. كان كأن حركةً تمورُ داخله. لكأنَّ ما فيه كانَ يصرخ ويولول وينادي عليَّ وأنا غافل عنه.
سبعةُ اوراقٍ جمعها دبّوس حاد تشكَّلت فيها اسطرٌ وكلماتٌ بالحبر الازرق.. اسطرٌ تشذُّ في بعضها عن السير مع الاسطر فتهبط قليلاً ُمُغيرةً على الاسطر الدنيا فيبدو حدث الكتابة كأنما جرى تحت وقعِ السرعة في التدوين لئلا تهرب الفكرةُ من ذاكرةِ الكاتب.. نعم كثيراً ما يحدث هذا لدى الكتّاب حين تداهمُهم فكرةٌ أو جملةٌ أو عبارة فيهرعون الى تدوينها على قصاصةِ ورقٍ أو على علبةِ سجائر أو قطعة كارتون مرمية في الدرب حتى لو كانت متربةً أو ملوثة.. كانت الاوراقُ السبعةُ تحمل عنوان (نائماً أسيرُ بلا هوى)... قرأتُ الأسطرَ الأولى:
" نحيلةٌ هذه النسمات القادمةُ من بساتين الضجر.. والفتاة التي أريد لها الانثناء بفعلِها ناعسة؛ افتقدَت الميسَ فانثنت. هجرها السَّمَق، ونأت عنها الخيلاء.. عليلةٌ فتاتي، والنسمات لا تفي بقصيدةٍ يتبارى لها شاعرٌ لتكون مُعلَّقتَه الاثيرة عند القراء.. السأمُ في كلِّ مكان: في الشوارعِ، في الازقّة، في الدكاكين؛ على جباهِ الرجال وارتعاشِ اصابعِهم والسجائر التي يمتصون سمِّها على مضض؛ على رموشِ النسوة، في الاوشحةِ التي تطوق وجوههن، في الجواريب السود التي تخفي جمال سيقانهن، في الكفوف الفحمية التي تغلّف اكفَّهنَّ، فأكفُّهنَّ عورةٌ تجذب شهوةَ الرجال... سأم، سأم، سأم."
أقرأ تأثير بودلير عليه وهو يسأم من باريس؛ المدينة التي تراها العين الأخرى أيقونةً للجمال، ولافتةً للفتنةِ والسّحر.
ثم انتقلتُ إلى ورقتين جمعهما دبّوس آخر كانت كلمةُ (اقتباس) كبيرةَ الحجمِ وتقصَّد أن تكون بخطٍّ ثخين. هذا يعني انه التقطَ ورودَ المقولات والحِكَم والأفكار خلال قراءاته وحسبِها تنفعه يوماً ليستعين بها في دعمِ فكرةٍ يتناولها مُجسَّدة على الورق.. هناك اقتباسات من بورخس، وآينشتاين؛ من ارسطو وسقراط؛ من أدونيس والماغوط، من افلاطون وهيجل، من ابن عربي والتوحيدي، من ماركيز وسان جون بيرس، من ريستوس وستندال، من سارتر ويونسكو... ثم هناك ثلاثةُ اوراقٍ لنصٍّ بعنوان بدا لي غريباً كتبه بقلم سوفت لون حبره اخضر حوى بعض المفردات المشطوبة، وأخرى موضوعة بين قوسين كاحتمال لتغييرها حسب مشيئته طبقاً لتأثيرها وموسيقاها:
أمكنةٌ أتزوجُها أمّاً
المقاهي
كتابي الذي أقرأ فيه مراثي الوجوه.
آهات الحالمين بغدٍ بعيد
يراوغهم ويموت.
أقرأها كتاباً يأتي بالحكايات
لاهثةً تجيء على ألسنة الندم
وسرف الحرمان.
المقهى
أمٌّ تنثر على جسد ذاكرتها
موسيقى غيوم الألم.
التقيهم عندها، يبكون بالأصابع المرتعشة
ويتحدثون بلغة العيون المطفأة.
يطأطئون الأماني يأساً
على أيامٍ طعنت نهديها العارمين خناجرُ اللصوص.
وجثمَ على صباحِها العليل تاريخُ الأسلاف الأسود.
المقاهي
ترسمُ سجالَ الصمت
أو تقتفي خطى الباكين تهافتاً على مطرٍ
لن يأتي.
صاحبتُ مقهى
وتزوَّجتُ أريكةً
عاقرتُ الاراجيل
وقارعتُ اقداحَ الشاي
فلم أفُز إلا بهويةِ
رجلٍ باكٍ؛ كتابُه الثرثرة.
الشوارع
ساحاتُنا؛ سماؤنا، ونهرُنا الذي نخوض.
أمهاتٌ تسعد لحضورنا؛ تحزن إنْ نحنُ تغيبنا
فالغيابُ قاموسُ الوحشةِ وأبجديةُ الضياع.
الشوارعُ
تبكي إنْ لم تسمع وقعَ أقدامنا؛ لذا تُصيخُ، وتُرهفُ السمعَ
ثم لا تعدو تستدعي الريح.. تعولُ معه عبرَ أسلاك الكهرباء
تكتبُ حكايةَ عابرينَ غابوا.. وتواروا عن العيون
لكنَّها كانت تَضنّهم من عِداد القادمين
لا محال.
قالت لنا الشوارع؛ واظنُّها بكَت: كنتم خيرَ صُحبَةٍ، ولافتةَ حالمين
زرعتم راحات اكفِّكم بالياسمين، ونثرتم الزعفرانَ صنواً للحبَق.
ما كان اللهُ محبةً الا بكم..
ولا تقدَّست البلادُ إلا بفيضِ عرقِ جبينكم.
انتم حدائقُ النقاء،
وازَّقةُ المدينةِ ذاكرتَكُم الملتهبة.
المقابر
بساتينُ الموتى العِجاف
وحكاياتٌ كالغيمِ تمطرُ مرارةً.
الراحلونَ أشجارُها ونخيلُها
نطالعها من خلفِ اسيجةِ الهواء
تفرد ذراعيها لنا ترحاباً، لكننا نهربُ من شوقها
فالأسى ترحيبُها؛
وشوقُها مصير.
وفي قصاصة ذيَّلَها بتوقيعِه وحرفي " ج، ف " اختصاراً لاسمه واسم أبيه بدا فيها حانقاً، وفي ذروة تذمره.. صبَّ غضباً على واقعٍ لخَّصه بأسطرَ قليلة كأنّه يختتم رؤيته ويجعلها نهائية لا تراجع عنها:
(إن كلمة " العرب"، بوصفها دالاً، تشير اليوم، على العكس، إلى الشهوة للسلطةِ والمال، وإلى الصراع من اجلهما. وفي هذه الشهوة، تُباد الطاقةُ العربية الخلاّقة ابادةً منظمة، كل يوم في أيّما مكان.. كلمةُ العرب تنسحبُ من لافتة الاستنارة والتنوير إلى دَركِ القتلِ والفتكِ والدمارِ والموتِ بلا مواعيد.. كلمةُ عربي صارت تَعني ارهابي... صارت مَعنىً للخوفِ واثارةِ الرعب.. صار الإقدامُ على التغيير واعتماد حتميةِ التاريخ، كمعادلٍ للإيجاب، رؤيةً فاشلة، تموت حالما تُعلَن.. صرنا آثاماً تُثقِل كاهلَ الانسانية، وقراداً يمتصُّ دمَ الحياة الزاهية فيتركها تعيش العللَّ والتهالكات.. لذا أجد أنَّ من الأفضل والأجدى أنْ أرحل.)
39
الرحيلُ... الرحيل !
عادت بي الذاكرةُ إلى رحيل هاشم في بداية السبعينات.
عادت رسائلُه المتواصلةُ تخبرني بوجودِه مستقِّراً بعد اجتيازِ عَقباتٍ وتجاوزِ معوِّقات. يعلمني انه آثر العيش في وسطٍ سلامٍ، وأمنٍ، وحرية.
تذكرتُ تلك الايام قبل ما يربو على الاربعين عاماً... ايام كانت حمّى السفر شمالاً تتعالى في المدينة وسريان رعشةِ حبِّ تركِ البلاد والبحث عن مستقبل اجمل تسري في قلوب الشباب.
وكانت وسائل الانفضاض والرحيل تتَّخِذ شتّى المناحي، وصولاً إلى الخلاص كما يجاهرون.
بعضٌ فضَّل الانضمام للحزب الشيوعي من أجل الهجرة وضمان وسيلة عيش آمنة في بلد من البلدان الاشتراكية سيحتضنه وينعم عليه بالطمأنة والحصول على عملٍ ثابت. وعبر ذلك العمل سيسعى لتحقيق مآربه ونجازة أهدافه فيما فضَّل بعضٌ آخر الرحيل الى بلدان أوربا الغربية بعد الحصول على تأشيرةِ دخولٍ أو دعوة توجهها اليه مؤسسةٌ ثقافيةٌ أو علمية فيختار فرنسا أو بريطانيا. ومَن يجد لديه الحظ الاوفر فسيدخل ألمانيا. لذا صرنا مع توالي الايام نسمع بسفر مَن كان يسبقنا بمرحلتين دراسيتين او اكثر وقد بلغ العشرين من العمر إلى تلك البلدان سفراً لا عودة منه.. وإذا كان البسطاء من ابناء مدينتنا اتخذوا من الكويت وجهة للعمل وجمع المال -على قلته - فإنَّ المُتعلمين والشباب الطامحين فضّلوا عبور البحار واجتياز الفيافي وصولاً إلى جزر الحلم الوافرة الهناء.
كان هاشم يأتيني بخبر سفر هذا، وغياب ذاك.. صورة لهذا يقف مزدهياً تحت برج ايفل في باريس، وصورة لذاك يقف مع فان كوخ بشعر رأسه ولحيته الحمراوين في متحف الشمع بلندن. صورة لآخر يقف ضمن طابور في قاعة عرض جثمان لينين في موسكو لإلقاء نظرة على مفجِّر الثورة البلشفية، وآخر بصورة يظهر فيها يمشي على رصيف تنتصب اشجار الجوز الوارفة مخترقاً بوابة رندنبيرغ في برلين... لم ألحظ على هاشم علامات سفر ولا فاهَ يوماً برغبة الرحيل. وحسبي أنَّ هجرتَه واستقرارَه في الدنمارك ما جاء إلا بسبب طعنةِ شهلاء له في حبّه.. لا ادري، حين وصلتني رسالة وصوله الدنمارك مارّاً عبر المانيا، إنْ كان اعتمد على أحدٍ يقطن ذلك البلد؛ راسله مثلاً واستعان به على الوصول أم أنَّ ذهابَه جرى بلا تخطيط.
الهجرةُ رغبةٌ تفرض وجودها عندما لا تجد النفس مُتَّسعاً للعيش كما يشتهي وحسبما يخطط.
الهجرةُ صورةٌ تبرِّرُ ملامحَها وتكرِّس حيثياتِها وتظهر جلية في أزمنة الجور والعسف، في عهودِ الاضطهاد وتزايد أعداد السجون؛ يلتجئ اليها الفرد في احايين كثيرة مُضطرّاً.. لنا من التاريخِ شواهدٌ؛ ومن العِبر اسماء.. فالرسول محمد هاجر من مكة الى المدينة إجباراً لا تحبُّباً؛ هروباً لا رغبةً.. وكان على اتباعه ممن واجهوا بغض قريش وعداءهم عبور البحر والأرخبيل وقطع الصحراء وتجاوز الهضاب دخولاً على حاكم عادل يأويهم ويبعدهم عن الانتقام والتشفّي.
من الأدباء مَن تلبَّس بهم اسم الهجرة فأطلق عليهم ادباء المهجر..
من المفكرين من هاجر إلى بلدانٍ بعيدة وقد اهدرت دماؤهم في بلدانهم بسبب الرأي..
من الخلاقين مَن رحلَ الى دواخله فعاش مُهاجراً متوارياً عن الناس وحيداً بذاته يقطع فيافي الاعوام نأياً عن شرورِ الاعين.. وما النسبة العظمى مِمَّن تتشكِّل المدن بحضورهم إلا مهاجرون من أماكن ولادتهم إلى حيث الاغراء الاقتصادي يتحكَّم بجغرافية استقرارهم.. وما حضور ذلك الرجل المهندم صاحب السيارة موريس القادم من البصرة عام 1961 ودخوله شارع باتا واستقباله من قبل ناطور المكي بغية افتتاح فرع لشركةٍ الا ظاهرة رحيل وفعل حركةٍ لإحداث تغيير.. هجرةٌ من باب الايجاب لا السلب. وما هجرةُ هاشم الا ابتغاء طمأنينة بعيداً عن ثقل المؤثر الذي يتبارى وجوده يومياً.
40
الاخبار اليوم نقلت انَّ موجةَ هجرةٍ واسعة ليست كما تصورتُها تبدأ من الشواطئ الليبية وتجتاز البحر المتوسطة وأخطاره العديدة المحتملة وصولاً إلى السواحل الايطالية بل بدأت من تركيا بعبورِ ممرَّاتٍ مائيةٍ وارخبيلاتٍ وتجاوزِ جزرٍ غير مأهولة إلا من نقاط مَحدودة لخفر سواحل دخولاً إلى اليونان ثم مقدونيا فصربيا والمجر، أو سلوك طريق آخر يؤدي بهم الى النمسا؛ ومن هناك إلى المانيا الاكثر تسامحاً للقادمين، والأرحب استقبالاً للمهاجرين.
الاخبار تنقل أنَّ اسطنبول ومنذ أشهر تعجُّ بالمسافرين من البلدان العربية المتضررة بالإرهاب والملتهبة بالحروب الاهلية؛ يضاف لهم مهاجرون من افغانستان وباكستان وافارقة تحمَّلوا مشاق التنقل من البلدان الافريقية الضاربة في البعد مفضِّلين الوصول الى اسطنبول على وجهة الشواطئ الليبية التي كثرت فيها المافيات الجشعة والقاسية إذ يكدِّسونهم في زوارق مطاطية بأعداد هائلة، رامينَ بهم في غياهب لجج البحر المتوسط ومتاهاته.
السلطات التركية تغض البصر عن الاعداد الكبيرة بضمنها عائلات بكامل افرادها واناس فرادى اغلبهم شباب، مثلما تغيب النظر عن شباب ملتحين اغلبهم بعمر العشرين يرتادون الجوامع وينأون عن اماكن وسائل الترفيه... كان كل ذلك يصل الى مسامع الناس عندنا فتُثار الغرابة. لكن الكلام الذي بدأ همساً تفجر الى اصوات ومقالات وادانات تصم السلطات التركية بتوفيرها المسالك اليسيرة ووسائط النقل السهلة لنقل هؤلاء الى الحدود الجنوبية ودفعهم للتسلل الى سوريا حيث حمام الدم والعرب والمسلمون يتقاتلون ويتذابحون على ايقاع البغض والكراهية والانتقام والجشع والسادية بلا أهداف ولا نتائج تنتهي بما يفتح الافق على مستقبل مضاء بالأفكار الانسانية الحقّةِ، النيرةِ، السمحةِ.
41
وكالات الانباء ووسائل الميديا المتنوعة، صفحات التواصل الاجتماعي؛ المراسلون والمصورون؛ الكاميرات المنصوبة على قواعدها أو المحمولة على الاكتاف جميعاً في حالة من الحركة الدؤوبة والسريعة سعياً لتحقيق سبق اعلامي وصحفي وتوخياً لنقل الحقائق وعرض معاناة البشرية المبتلات بلدانها بالصراعات والقتل الهمجي.
الحكوماتُ الأوربية واحزابُها في حالةٍ من الانعقاد المستمر والتداول. يعقبها موجات متوالية من التصريحات لحدث لم يحسبوا له حساباً. واذا كانوا قد حسبوا فلبضعة مئات يمكن استيعابهم بتخطيط واقعي وموضوعي؛ لكن عيون الكاميرات والتقارير المصورة فاجأت تلك الحكومات عندما افصحت عن عشرات الالوف، وقد تكون الملايين، متدافعة عبر جزر وارخبيلات لم تطالها عيون الكاميرات من قبل.
حمى الرحيل والهجرة استمرت وتعالت مع مرور الايام، تثيرها التقارير المصورة وتؤججها التصريحات التي يفوح منها عطرُ الانسانية والرحمة تطلقها افواه القادة الاوربيين.. ميركل ترحب وتدعو سلطاتها للاستقبال الامثل، وتتعدى في رحمتها الى بلدان النمسا وهنغاريا ومقدونيا واليونان وتركيا ومطالبتهم بتسهيل الوصول وفتح الحدود.. الحدود التي انتشرت عندها مئات الشرطة في محاولة منع المتدفقين، أو على الاقل جعلهم يتأنون لحين اصدار القرارات ومجيء الاوامر. والقرارات في بلدان يحكمها القانون وتخطط التخطيط العقلاني المتزن والمتوازن لا العاطفة والارتجال.. قرارات يسبقها التداول والنقاش، الاحتمالات والتوقعات، التوجه بما لا يربك المجتمع ولا يطيح بهيبة الدولة ومسلكها الانساني.
محطة تلفزيون CNN، و FOX الامريكيتين وبخط احمر ثخين وكلمة " عاجل " كتبتا في شريطهما الاخباري" الصبتايتل " المتحرك أسفل الشاشة ثلاث مرات متتالية كلمة CRISES، أزمة غير محسوبة، وقد شبَّهتا الحالة بإعصار مفاجئ بينما كتبت وكالة بي بي سي الانكليزية، وانتر فاكس كلمة DISASTER اشارة لكارثة تقع ستلحقها عواقب وخيمة على الاقتصاد الاوربي المثقل أصلاً بالكساد والازمات المحيِّرة.
محطات تلفزيون فرانس 24 تنقل بخبر عاجل غير مسبوق العلم غرق زورق قريباً من الشواطئ التركية يتكدس بـ 250 راكباً بينما حجم حمولته لا تتعدى وزن خمسين فرداً.. يتبعه خبر عاجل ثانٍ يرثي غرق معظم الركاب.
هاجس تطيّر وهلع ورعب طرق باب خشيتي. هرعت الى موقع المحطة فتحته بقلب مرتعش فاذا بالذهول ينتصب ازائي، واذا بقوائم اسماء الغرقى وبلدانهم ملصقة على لوحة اعلانات مركز خفر السواحل التركي. تتوجّه اليها عين الكاميرا وتمر ببط. تلتقط عيني اسمَ جوادين في القائمة الثانية وترسم مخيلتي جوادين بقميصه الاخضر الذي يشبه اعشاب البحر وبنطلونه الجينز وحذاء الترينشوز يستلقي بظهره على سطح البحر الذي هدأ من جنونه وعربدته. يستلقي مفتوح العينين وقد استقرت في حدقتيهما زرقة السماء وبؤرة نور كانت تفرد ذراعين ملائكيين لاحتضانه.
آه... لقد ماتَ جوادين.
الفصل السابع
المرآة.. الرحيل.. التشبّث
إنَّ عالمَ الحلمِ يومئ لنا بالإغواء
غاستون باشلار
42
بعد اسبوعٍ من الحزنِ، وتفادي إخبارِ اسرته بما رأيتُ وقرأت، وردتني رسالة الكترونية من هاشم: " وصلَ جوادين إلى ألمانيا بسلام؛ وها نحنُ سويةً نلتقي. حضرتُ اليه من الدنمارك فكفلتَه. انه بانتظار اكمالِ تدوين المعلومات.. نصحتُه باختيار الدنمارك بينما هو يفضّل المانيا."
لم أصدِّق ما كتب؛ ووجدتني اوجّه الفارةَ الى الفيلم المُرفَق وافتحه.
كان جوادين مبتسماً وقد توهَّجت عيناه بما يشبه الأمل. ذهبت الدكنةُ المطوِّقة لعينيه. زالت الزّرقةُ من شفتيه ولم المح ذلك التقشّر فيهما وكنت أعزوه لاضطرابٍ دائمٍ يعيشه.. يرتدي بنطلوناً قصيراً أدنى الركبتين وتي شيرت كانت فيه صورةُ انجلينا ميركل تذرف دموعاً على مَن غرقوا وهم يبحثون عن الخلاص؛ يقف الى جانبِ هاشم الذي وضع ذراعَه على كتفه كما لو كان أباً يحتضن ولده.. جيلان متعاقبان هكذا بديا لي.. جيلان من الهجرة.
هاشم المسافر عاشَ واستقر.. استقرارُه اثبت للأنظمة الاوربية صحةَ افكارهم في تحقيقِ الاندماج وجعلِ المهاجرِ يتكيَّف، ويتآلف، ويعي الحياة اليومية كمواطنٍ يُقسِم على الاخلاصِ للوطن الجديد الذي أفردَ له الذراعين واحتضنه وآواه وقدَّم له سيلَ الطمأنينة بهيئة قوانين تضمن حقوقَه كما حقوق المواطن الأصيل.. إنَّ رهانَ تلك الانظمة يُثبت نجاحها ويتأصل على اساس تفكير علمي وموضوعي يُقر أنَّ الاغتراب يتلاشى لأيِّ انسانِ يوم يجد متطلبات عيشه وظروف شعوره بالأمان مهيأة ومتوفرة ومتحققة على أرض الواقع. وظنّي أنَّ جوادين سيعيش الألفة، وسيجد العالم الذي تخيله والبيئة المُعدَّة لأنْ يكون عنصراً فاعلاً، وأنَّ مبدأ الأنسنة التي كانت مفرداتها تتخلل كتاباته قد تحقَّقَ واقعاً، والعلمانية التي دافع عنها تجسَّدت له فتاة تفرد الذراعين وتحتضنه حبيباً... ستصلني رسالة منه يوماً ما وهو يُعلن انتصاره على الوحشةِ والغربة والبُعد. وسيبعث لي صوراً وافلام قصيرة تعرض لي حياته في شقّة صغيرة ومنضدة تتكومُ فوقها اوراقُ نصوص ودراسات ومعجزة حققها؛ هو الذي كان يردد على الدوام أنُّ في الانسان طاقةً لو استغلها ووظَّفها صنع المعجزات. وما الذين صنعوا المعجزات إلا أولئكَ الذين فجروا طاقاتهم فاستحقوا الخلود.
لقد خلا شارع باتا اليوم من أقدام جوادين وخطوه كما خلا يوماً من أقدام هاشم وثلّة من الشباب المتحفِّز للقفز الى عالم متغيِّرٍ وحياةٍ جديدة.
ظلَّ شارع باتا رغم ذلك يعجُّ بالمارّة والباعة والمتسوقين.. ظلَّ شارع اللافتات والاعلانات والسقائف التي تصنع الظل المحبب تفادياً لشمس النهار الحارقة صيفاً، وتهطل منها ليلاً أنوار مصابيح لا عدَّ لها صانعةً بهرجة مُحببة تجذب الصبية من الأزقة المتفرعة منه ليلعبوا كرة القدم ويمارسوا هواياتهم في ركوب الدراجات والتنافس في ما بينهم على الفوز وهم يشرعون من نقطة يجعلونها مثابةً للانطلاق نحو نقطةٍ حددّوها نهايةً مُتَّفق عليها... ظلَّ شارع المواكب الحسينية تمرُّ خلاله الكراديسُ المؤمنة وهي تضرب على الصدور بالأكف حزناً، أو تنهال على الظهور بالسلاسل الحديدية أو تمارس عادةً جديدة ظهرت هذه الايام ولم يألفها مَن عاش قبلاً من الاجيال تتمثل بتخضيب الجسد من الرأس حتى القدمين بالطين اشارة لحزن دفين وعميق وراسخ تعبيراً عن وقوف الناس مع مصيبة الحسين بن علي، حفيد الرسول الاعظم، ومعاناته وهو يواجه وأهله ومَن صاحبه من المدينة المنورة الموت وقوفاً، واشارةً لتفاهة الحياة وبؤسها طالما ذهب عنها الحسين مظلوماً مغدوراً وهو يستقبل سيوف الاعداء منهالةً عليه تقطعه ارباً، اربا؛ مردداً جملته الايمانية الشهيرة " إن لم يستقِم دينُ محمدٍ إلا بقتلي فيا سيوفُ خذيني."... ظل شارعَ المناسبات الوطنية والتظاهرات المناهضة للحكومة أو المطالبة بحقوقٍ يراها المواطن مهضومة ويراد لها ان تستعاد مقرونةً بالكرامةِ وحرية احترامِ الذات والوطن.
لقد ندم ناطورُ المكي وهو يدوِّن وفيات اهالي السماوة في دفتره الذي امتلأ وتناسل الى دفاتر، ندمَ على عدم تكريس دفتر يدوِّن فيه اسماء مَن هاجروا من شارع باتا أو من المدينة برمتها. فهم ليسوا بالعدد القليل، وليس من اليسر تفادي غيابهم وعدم تأرخته. فقد انتُزِع الكثيرون من رحمِ الارض وقذفت بها تطلعاتُهم الى الاصقاع النائية خصوصاً ما حدث بعد حرب عودة الكويت الى الكويتيين عام 1991 وحصول معارضةٍ مُسلحةٍ جرى فيها القتلُ والعداوةُ والتشفّي ثم عودة النظام القهري من جديد ليحقّق الانتقام المقرون بالقسوةِ والوحشيةِ فتضطر الاعدادُ الهائلة من المعارضين أو الخائفين من الانتقام العشوائي للالتجاء الى السعودية او ايران، وحتى إلى الاردن واقليم كردستان.
ندم ناطور المكّي وهو يحادث غريب النوري لحظة كانا يقفان في مقدّمة دكانه، يحتسيان شاياً سكبه بائع شاي متجوِّل، على عدم تسجيل مَن هاجرَ وتركَ البلاد.
تكتكاتُ حركةِ عقارب الساعات المعروضة تصل مسمعيهما موحيةً لهما بفعلِ الزمن مَقرونةً بتهافت الاعوام، وتغيّر حال المدينة، وتوالي حركةِ الاجيال... تُصور رحيلاً ابدياً لوجوه كانت هنا، وقدوم وجوهٍ جديدة من شباب يرون الحياة ضاحكة لهم. لم يضعوا في خلدهم ما سيجري، أو هُم يتركون البحث والنقاش في ذلك مندفعين للنهل من منهل الحياة. فلهم منها حصةٌ للتمتع، ولهم فيها باعٌ من الانطلاق صوب محطات الهناء.
ندم ناطور المكي بينما ظل سجّاد منشد يتسقَّط الاخبار ويتابع الراحلين والمهاجرين فيجعل هاته الاخبار حديثاً له في المقهى، وربطاً لاحاديث سابقة تناولت ولده باقر وبطولته في عبور بحر المانش واجراء صحيفة اللوموند حواراً مطولاً معه تحدَّث في بعضٍ منه عن مدينة السماوة وشارع باتا الذي تربّى وصحابه على اديمه ونهضوا على ايقاع حبِّهم للفرات وتعلمهم السباحة وعشقهم للتنافس من أجل حصد الجوائز في مسابقات السباحة مع المدن المجاورة.. ظل يتحدث عن مونتغمري وهزيمته لرومل ثعلب الصحراء في معركة العَلمين ذائعة الصيت والشهرة كما لو كان قد شاركَ فيها وشهدَ احداثَها وتلظّى بلظى الرمال الحارقة وهي تُمعِن في شواء اجساد القتلى وتتوعَّد الاجيال القادمة بمئات آلاف الالغام التي زرعها المتحاربان اللدودان.
43
أقف امام المرآة وانا استعد للخروج الى العمل.. تتقاطر كلماتُ جوادين الفلسفية على حائط الذاكرة محفورةً بإزميل لا يمكن لي محوها وازالتها:
" المرآة ترينا ما لم نره " انّها تُرثي حماقاتنا، وتُعيب علينا عقلاً لم نوظّفه في مسارات البناء وتقييم الحال باستمرار. تُدين ما ليس جديراً بالتفادي. تكشف سرمديةَ نزعاتِنا البدوية ورؤانا المتشبثة بماضٍ مات وتحنَّط وغدا رقيماً وشيئيات مُتحفية ركَنها غيرُنا بين الجدران لتكون ذكرى تطالعُها الاجيال ومسار حياة لأناس عاشوا في زمنٍ بعيد أمّا نحن فنعدُّها ضرباً من التقديس."
" المرآة، في أحدِ أوجِهها - كما يجاهر جوادين - تُفصِح عن حياتنا الدفينة في الاعماق؛ تَظهر تفاصيلُها ساعة أردنا المراجعة. كثيراً ما نلتجئ للمرآة استعانةً بما تهبنا من صورة آنية فنطلب المساعدة في أمرٍ علينا اتخاذه في حلٍّ لمشكلةٍ أو مواجهةِ معضلةٍ نتوقع انبثاقها كما عملاق يشقُّ الارض لينتقم.. هي ليست الظاهر من حياتنا فحسب، بل والمدفوع بحكمِ تهافت الاحداث والمواقف (وما اكثرها عندنا !).. المرآة لا تكمُن في السطح المستوي المطلي بمادة الزئبق حيث تعكس ما يقف إزاءها؛ هناك مرايا عيون الآخرين نرى فيها دواخلهم مثلما نرى رؤيتهم لنا من خلالها.. المرآةُ أنا المعكوسة.. أنا الراسمةُ تعابير الوجه لحظة الاحساس بشيء ما؛ أنا التي كيفما أريد أكون.. "
كلماتُ جوادين قرأتُها كما لو كانت حِكَماً يُطلقها حكيمٌ صرفَ الاعوام في البحثِ والتمحيص قصدَ الاستنارة.. بدت كلماتُه تضاهي ما يقوله ارسطو في الفلسفة وآنشتاين في الرياضيات.. بدا كالرازي وابن حيان ورؤيتهما الى طبيعةِ الناس تجاه العلم والمعرفة ومناهضتهما للجهل؛ فالجهلُ بغيضٌ عندهما لكنّه واقعٌ.. ما زلتُ اذكرُ دعوةَ اساتذتنا الى ضرورة تنوير الناس بما لدى الناس من غير قوميتهم ولسانهم بما يفكّرون ويشعرون ويعبّرون؛ وإلى دعوتهم التحلّي بالصبر تجاه رفضِ الآخر لما يُتَرجَم، وتأكيدهم على قولِ التوحيدي " الناسُ اعداءُ ما جهلوا " فلا يجب تلقّي الصدمة بالأسفِ للجهدِ المبذول أو الشعور بالخذلان والنكوص.
تراني مريم حزيناً فتندهش:
" خير؟ ماذا بك؟!.. ماذا حصل؟!.. ما الذي جرى؟!... كُل هذا نور الصبح، كلُّ هذا الفيض الرباني، كُل هذي الانغام الجميلة من فمِ فيروز واغنية على جسر اللوزية المحببة لك، كلُّ التفاؤل اللي تبر عنّه كركرة عصافير شجرة حديقة الجيران ما تخلق سرور بنفسك؟ "
لا أُريد الافصاح عمّا آمَنَ به جوادين !
ستدينني بالتأكيد؛ وتعيب عليَّ تأثري بشابٍّ يمتلك جزءً من خبرتي، وله نصف عمري.. ستقول إنَّ فترةَ الشباب مطامح ومغامرات واندفاعات اغلبها غيرُ مدروسة التفاصيل، غيرُ محمودة العواقب بينما الشيوخ تأنّي ودراسة، حوارٌ وسجال؛ ثم خبرةٌ متراكمة وحِكمٌ تلو حِكم... ترى عهد الشباب كتاباً غزيراً بالصور والاحداث، يُغذّي عديمي التجارب او ناقصي الخبرات بما ينفعهم ويعزز خطاهم.. كتابٌ كدليلٍ يُرشِدُهم إلى طريقِ صوابٍ فصيحِ النهايات ومحمودِ النتائج.
" تعال يا عَم حمزة.. هاجر والتحق بنا.. تربح.. تعال " يرددها جوادين؛ ومعه هاشم يهزُّ رأسَه توافقاً؛ ويُكمل " أنتَ آخرُ من بَقيَ مِن رعيل شارع باتا الذين فكروا بالرحيل، ورحلوا."
دعوتُه تمثلت خِنجراً طعنَ قلبي.
هاجمني الأسى وأنا اسمعه ولأكثر من مرَّة يردِّد هاجر.. هاجر.
لم أشأ تعنيفه.. ولم أبغِ اطفاءَ جذوةِ سعادةٍ احتضنها بكفِّ شوقه. لهذا تركتُ الاصابعَ تكتب اليه / اليهما:
" لا.. لا.. أنا هنا على قِمّة التل أقفُ محتضناً وطني.
وطني هذا مرَّ عليه الغزاة والبرابرة والمحتلون.. طربوا ورقصوا وغنوا ودربكوا على صدره؛ لكنَّهم في النهاية ذهبوا ولم يبقَ إلا هو. "
وأنا انتهي من كتابة هذه الكلمات، متذكِّراً آمال ورغبات وخطط توم اوكونور الفاشلة في الهجرة وتغيير الحال دقَّ جرسُ البابِ الخارجي.. قليلاً ودخل عليَّ ميمون... لم يكن قد زارنا منذ شهر.
بعد الترحيب وتلقّي التحيّة رأيتُ أنَّ في رأسِه شيئاً يمور.. عيناه وشتا بذلك. بعد لحظةٍ ولحظات فجَّر ما جاء من أجلهِ بتصميمٍ وحماسة:
" أبي.. أفكّر بالهجرة مع المهاجرين.. هُم ليسوا بأفضل منّي ".
وبعد ساعةٍ؛ ساعة لا غير دقَّ جرسُ الباب من جديد.. أسمعُ صوتَ ولدي الأكبر حارث يدخل.. يلقي التحيةَ على أمّه ويسألُ عنّي.. وأسمعهُ يكلِّمها قائلاً:
" أمّي، إنني أفكّر بالـهـ............. "
السماوة
10/8/2016