يرسم الكاتب العراقي في قصته معالم السلوك البشري في مدن المحطات الحدودية، حيث يتصيد الأطفال النصابون السواح، فيدخل السارد في سلسلة من الكمائن التي نصبها له صبيّ يخبرنا عنها واصفاً وسابراً أغوار ذلك المحيط الغريب والمتحرك والساحر.

تمثال بقدم واحدة

سـلام صـادق

 

في المدينة الغريبة التي تباع فيها نظارات زهيدة جداً ، لم اجد ما يناسب عينيّ او استطالة وجهي ، وللتخفيف من حدة خيبتي فكرت باقتناء شيء أخر ، ربما سأكون في حاجة اليه وان لم يكن نظارات ولهذا فان اؤلئك الصبية الذين افترشوا عتبة الدكان اغروني بشراء زوج من الاحذية على انه جيد ومستورد عندئذ كان لابد لمرء مثلي من استخدام النقود التي معه وان كانت لاتصلح في بلد حدودي غريب ، فقمت بدفع ما يعادل الثمن غير ان الصبية لم يعيدوا لي الباقي بحجة ان ليس لديهم ما يشبه النقود التي امتلكها واختفى فجاة الصبي الذي تسلمها وراء نقطة الحدود ، وبينما كنت منهمكا بالحديث الى بائع النظارات عن خبث هؤلاء الصبية وعن اصراري على استعادة المتبقي من المبلغ ، بادرت ام الصبي واخواته باعطاء المبررات وتذرعن بان ليس لديهن القدرة على تعنيفه او اجباره او السيطرة عليه ،لان ما يكسبه يشكل المصدر الوحيد لقوت العائلة وحين ابديت استغرابي مما يقال انبرت احدى اخواته للقول بانه ربما يكون الصبي الان قد عبر الحدود ولاجدوى من انتظاري

غير انني لم أأبه لما قيل وفهمت من التورية في حديثهن الى بعضهن بانه موجود ولا حاجة للتدليل على ذلك فاكدتُ لهن اصراري على استعادة المتبقي من المبلغ ، حاولت الاخوات التقليل من خيبتي ،فدعونني الى فسحة امامية في بيتهم مكتظة بالاشجار التي تبدو وكانها نابتة في اسمنت الارضية ، للانتظار هناك لعل الصبي يغير رايه فيعود ومعه النقود ،او يتعبه الانتظار فيستسلم .

هنا بدا سبب بقائي ينحى منحى اخر فقد ثبتُ الى رشدي بعد وقت قصير ،وتبخر من ذاكرتي ما يجب ان يسترجع من نقود ، حين اكتشفت بانني محاط بثلة من الفتيات الجميلات في بيت منفرد على الحدود وهن يتجولن حولي في باحة البيت بتنوراتهن القصيرة جيئة وذهابا دون الافصاح عن شيء ،وكانهن يعرفن بانها الحالة المفضلة لدي ،فانني رجل يصمت امام الجمال لكي يرشفه بهدوء دون استفزاز احد وكن يسقينني بماء بين الفينة والاخرى ويتناوبن على ذلك ،ويلقي بعضهن على مسمعي كلمة او كلمتين بلغة لا افهمها قبل ان يختفين داخل الدار.
ولانني ذكرت بان اهداف بقائي اختلفت ، فتجدر بي الاشارة الى انني لم اوفق في النهاية في اقامة علاقة عاطفية مع احدى الفتيات ،وبهذا لم اصل هدفي الجديد والذي شغلني تماما وانساني القصد الاساسي من انتظاري ،وكذلك المتبقي من حقوقي الاخرى ولهذا فكرت نهائيا بالمغادرة ، فجمعت النقود المتبقية معي من امامي من الطاولة الحديدية وبعثرتها في حقيبة ملابسي لاعلى التعيين تشفيا بالذي كان السبب في فقداني اليوم الاول من رحلتي ،والذي سيكون بدون شك من اسعد ايامها بالنسبة لمرء مثلي لم يستطع ان يكشف اشكالات ومثالب العوالم الجديدة التي يحل فيها بالسرعة المطلوبة .

وحين هممت بوضع حذائي الذي خلعته عند العتبة قبل دخولي وكما اعتادوا ان يفعلوا كان قد غادر مكانه الى جهة مجهولة وقد تبرعت احدى الفتيات لمساعدتي في البحث عنه فذهبت اول ماذهبت لتبحث عنه تحت سرير واسع كان يطفو على حشد كبير من احذية مختلفة الاحجام والالوان وبينما هي كذلك كاشفة لي عن طرف عجيزتها البيضاء المكتنزة ،فكرت نهائيا بالمغادرة ،لاسيما وان الفتاة كانت توغل تحت السرير ويبين اكثر فاكثر لحم مؤخرتها الناصعة ،حتى ان اعضاء جسدي كانت تهم جميعها بالانتصاب والتوتر ، كانها مقدمة على مقاتلة عدو شرس وهذا ما اخجلني ذلك لانني لم المس امراة طيلة السنوات العشر التي انقضت على بلوغي سن الرشد او يوم رحيلي .

ولذلك فانني اتذكر الآن بالضبط كيف غادرتُ مهموماً محتذيا حذاءً جديد باهض الثمن كنت قد ابتعتهُ من أخيها المتمرس في اجتياز نقاط الحدود .

وفي طريقي الى الخارج سحبتُ الأخ الاصغر من يده ليدلني على الطريق الى المحطة التي كنت قد غادرتها للمطالبة بما تبقى لي من حقوق لم انلها ، وكان الثلج قد بدأ يذوب ، بفعل هواء حار متأتٍ من الجنوب وكان لابد من ان ننقل خطواتنا بحذر ، سيما وانني مازلت اجهل خصائص ومزايا وامكانيات حذائي الجديد ، ثم ان عدم اطمئناني التام اليه نابع من انه أُلصق بي نتيجة لخديعة دفعت ثمنها باهضاً .

ورغم كل هذا الفهم المسبق وما يستوجبه من حذر ، فقد تعثرت بكتلة صلبة مغطاة بنثار ثلج خفيف ، فوضعت حقيبتي جانباً ورحت ازيح عن هذه الكتلة المغطاة ما علق بها او سترها من ثلج ، فبان لي جزء من جسدٍ لتمثال برونزي صغير مفكك الاوصال ، فسارعت النبش لجمع هذه الاوصال قبل ان تمتد الى بعضها يد الاخ الاصغر الذي يرافقني ، فيبطل مفعول جميع الاجزاء الاخرى التي في حوزتي ، اضافة الى ان حيرتي تكمن في انه لا يمكنني مطالبته بالجزء الذي معه ، اذ انه سوف يعرض عن ارشادي الى المحطة .

ورغم استخدامي سرعتي القصوى لانجاز هذه المهمة ، كانت يد الاخ الاصغر قد اتت على احدى قدميّ التمثال قبل ان اتمكن من حشر جميع الاجزاء في حقيبتي التي رحت انوء بحملها ما تبقى من رحلتي ، جرّاء تضاعف وزنها بشكل لايصدق .

داخلَ السرور نفسي حين لاحت لي بناية المحطة من بعيد ، وقررت انتهاز الفرصة لكي ازيد الموقف وضوحاً في ذهن الاخ الصغير ، او اثارة اي اشكال ما معه يكون مدخلاً لتناول موضوعة القدم التي معه والتي يريد الاحتفاظ بها لنفسه ، والتي تنقص التمثال الذي معي .

قررت الخوض في هذا من دون ان اظهر له بان الموضوع على جانب كبير من الاهمية بالنسبة لي ، اذ بذلك سوف يزداد عنادا بالتاكيد واصرارا على الاحتفاظ بها .

بادرته بالقول بان هناك فرق شاسع بين الدُمى وبين التماثيل البرونزية الصغيرة ، فتظاهر بعدم سماع ما اقول ، وحين اضفت بانني احب اقتناء تماثيل من هذا النوع فهي احدى هوايات الكبار ، قال وانا احبها كذلك فهي تشبه الدمى ، واشاح بوجهه عني مظهرا قدرا كبيرا من عدم الاكتراث لما اقول ومؤكدا اصراره على الاحتفاظ بقدم التمثال ..

وبينما انا مشغول بانتظار القطار الذي سيقلني لمواصلة رحلتي ، لم يكن في ودي ان اشكره ، او اطلب منه العودة الى البيت بعد ان انجز مهمته في ارشادي الى المحطة ، فقد راهنت على ابقائه معي حتى اللحظة الاخيرة التي تسبق صعودي الى القطار ، وكان في ذهني بانه ربما سيعدل عن رايه في اللحظة الاخيرة ويتنازل لي عن قدم التمثال .

ولما لم يجدِ كل ذلك نفعاً ، وبدأت اضواء المفاصل الحديدية تومض مؤذنةً بوصول القطار ، حاولت ان احسم الامر معه لصالحي وذلك بان اتنازل له عما تبقى من نقود مقابل تنازله عن قدم التمثال ، الا انه اعرض عن ذلك متسائلا بلغة يعجز الكبار عن الاتيان بها : اذن لماذا انتظرت طويلاً حتى فاتك القطار من اجل قطعة نقدية رفض ان يعيدها لك اخي ؟

واذا كنت مولعاً بالتماثيل البرونزية الصغيرة فلماذا ابتعت حذاء جلدياً ؟

واذا كنت مولعا بالتماثيل الممشوقة القوام والعارية هكذا ، فلماذا اشحتَ بضعفٍ عن النظر الى مؤخرة اختي المطلقة ؟

وامام هذه السلسلة الحامية من الاسئلة في تلك الاجواء القارصة ، والتي لم اجد لها من اجابة مناسبة سوى في ان ارمي بنفسي وحقيبتي داخل القطار الذي راح يدب كأنما نحو المجهول رغم وضوح الجهة التي اقصدها .

ارتميت منهكاً على مقعد مزدوج فارغ عكس سير القطار ، وفرغت نهائيا من التفكير باول عمل سأقوم به بمجرد ان تطأ اقدامي الارض ، وهو في ان اقوم باستبدال نظارتي ..

وحين زعق القطار كالمعتاد في آخر نقاط الحدود ، أجهشتُ بالبكاء ، فقد أدركتُ وبحدّة بانني سأنزل ارضاً غريبة بحقيبة هائلة وحذاء جديد ، وتمثال لجسد نسوي ممشوق تنقصهُ قدم .